أخبار الحمقى والمغفلين في ملتقى المبدعين
الحلقـة الثـانيـة
الحلقـة الثـانيـة
امتدت يد أبي العُريف إلى فنجان قهوته، وارتشف منه رشفتين، ثم دلك بطنه بكلتا يديه راجياً أن يخفف هذا آلام الانتفاخ الذي يعاني منه منذ الصباح. ولمَّا لم يجد نتيجة، صاح في امرأته: "هل عليَّ أن أموت أولاً قبل أن تأتي لي بكوب من الشيح؟ يا امرأة، بطني يتمزق. وهذه القصيدة رفعت من غازاتي، أقصد ضغطى. فاذهبي –لا أذهبَ الله لك مرضاً- وآتيني بالشيح". نهضت امرأته وهي تمصمص شفتيها، وتندب حظها بكلام غير مفهوم. وعاد أبو العريف ليطالع قصيدة "شجن على ورقة عنب".
أحببتك كالمطر في عتمة جيل لم يولد بعد
حبي كسراب يمشي بين شراعين
أَمُدُّ يديَّ فينبش الزمن قبري
يخرج منه المارد بلله الغيم
وبلغة العشق اللامتناهي
أتماهى في حرفه مسرعة
وأمامي كل فراغ الكون
بقع سوداء مُصْفَرَّة
أخرى حمراء ظهرت فجأة
والحكة في القلب تحاول
أن تلحق نبضاته بدبيب الوقت.
حبي كسراب يمشي بين شراعين
أَمُدُّ يديَّ فينبش الزمن قبري
يخرج منه المارد بلله الغيم
وبلغة العشق اللامتناهي
أتماهى في حرفه مسرعة
وأمامي كل فراغ الكون
بقع سوداء مُصْفَرَّة
أخرى حمراء ظهرت فجأة
والحكة في القلب تحاول
أن تلحق نبضاته بدبيب الوقت.
ضرب أبو العريف أخماساً في أسداس، وأحس ببوصلة عقله تدور بزاوية قدرها 360 درجة، لتعود من حيث بدأت دون أن يبدو في أفق مخه أي استيعاب للقصيدة. ولكن هذا لم يكن ليثبط همته، فلم يحدث من قبل أن حال عدم الفهم بينه وبين شيء. إذن، فالأمر سهل ميسور.
كل ما عليك هو أن تُعْمِل نباهتك المعهودة لتخرج من بين أصابعك درر التحليل. ثم ما الذي يمكن أن تقوله بحيث يعارضك فيه أحد؟ لن يجرؤ قارئ أو ناقد على أن يوجه إليك سهامه، فأنت أبو العريف، فارس العُرْب والعجم، وصاحب السيف والقلم، أو بالأحرى الكيبورد. توكل، يا رجل، توكل، على بركة الله ...
ضغط أبو العريف أيقونة الرد، وهو لا يزال يصارع ما ألمَّ به من مغص، وشرع يكتب: "شاعرتنا المبجلة، لا يسعني إلا أن أنحني إجلالاً أمام لوحتك السريالية البريالية عالية التكثيف الدلالي؛ فهي نسيج محكم. وأراني أسمع صمت الصراخ المدويّ، لتنفطر معه جوانح نفسي المتعبة من ارتشاف رحيق الأزل وسط ضجيج هامس، حيث أجد نفسي سابحاً في بحر العتمة الدامي، ذاك التيه الذي ضلت فيه سحابات العشق المتلونة، ضمختها تماهيات الوجد.
ووجدتك هنا -كما عودتنا- تغوصين في أعماق متسربلة بورقة عنب طحن الشجن كبدها فذابت حباً وعشقاً بين توابيت الحياة الصاخبة. ومع أن هذه القصيدة مفتوحة على تأويلات متعددة إلا أنني ألمح فيها حكمة القدماء تغلفها رمزية يصعب الولوج إلى جوهرها ومكنوها على من لا دراية لهم بمفاهيم التعبير الميتافيزيقي، ولا قدرة لهم على سبر أغوار النفس البشرية حين تتجاوز بشفافيتها حواجز اللامكان، لتصل إلى نقطة معينة لا تبرحها في اللازمان، فهي مفترق طرق، وفي الوقت نفسه نقطة التقاء، وبوتقة تنصهر فيها المعاني الخفية، التي تتسرب إليها الأرواح السارية "كسراب يمشي بين شراعين". فالحب هنا رمز لكل تعقيدات الحياة في لحظة العدم الكائنة بين زمانين، ظاهر وخفي، ملموس ومعنوي. ورغم أن المارد ذو سطوة إلا أن الغيم أضفى عليه عياءً جعله صريعاً ذاهلاً لم يستطع أن يتبين طريقه وسط خرائط الضباب، فبدا وقد غطت البقع جلد شقائه، بينما يعتصر الألم قلبه تحت وطأة "دبيب الوقت".
وهذا المزج الساحر بين المحب والمارد يضفي على جو القصيدة بعداً سادساً، لا يدرك كنهه إلى الفاقهون. فالعماء متجدد، والحيرة في بحر لجي.
لا أملك إلا أن أقول: سلمت يداك على هذه التحفة. ولي عودة لأرتشف من هذا الرحيق المفعم بالخزامى والزنابق.
لكِ النرجس كله على شفافية البوح.
(انشر الرد) (ضغط)
وفي الأثناء جاءت أم العريف له بكوب الشيح، فرأت على وجه ابتسامة صفراء، وعيناه تلمعان في عته بادٍ، وقد ارتخى فوق كرسيه العتيق. فقالت: "هاهو الشيح يا أبا العريف، لعله أن يخفف عنا ما تعانيه من غازات، خفف الله عقلك". فنظر إليها أبو العريف وقد طالت الابتسامة على وجهه حتى بلغ فمه أذنيه، وقال في خبث واضح: "لا عليك يا امرأة. فقد ذهب عني الانتفاخ، نفخ الرعد في أذنيك".
وكالعادة ضغط أبو العريف زر إعادة التحميل ليجد رداً من الشاعرة يقول: "أستاذي الناقد الفذ أبو العريف. لا أعرف كيف أشكرك على تحليلك الرائع، ونظرتك الثاقبة التي اخترقت جنبات النص لتغوص في أعماقه مبددة ذاك الخواء المليئ بالشجن العاصف، حيث لا ملاذ لورقة العنب سوى الانسحاب إلى عمق المارد العاشق لتفرز فيه قلق الموقف، وتبدد فراغ المستحيل. إنك لم تترك بصمتك في متصفحي فقط، بل طبعتها على عقلي ووجداني أيضاً. لك مني حزمة من الرياحين في زمان لم يمر به طائر الفينيق".
اتسعت الابتسامة على وجه أبي العريف على بلغت قفاه. وعاد ليقرأ الرد مرة بعد مرة، وقد قرر أن يشرب الشيح تحسباً لانتفاخ جديد.
كل ما عليك هو أن تُعْمِل نباهتك المعهودة لتخرج من بين أصابعك درر التحليل. ثم ما الذي يمكن أن تقوله بحيث يعارضك فيه أحد؟ لن يجرؤ قارئ أو ناقد على أن يوجه إليك سهامه، فأنت أبو العريف، فارس العُرْب والعجم، وصاحب السيف والقلم، أو بالأحرى الكيبورد. توكل، يا رجل، توكل، على بركة الله ...
ضغط أبو العريف أيقونة الرد، وهو لا يزال يصارع ما ألمَّ به من مغص، وشرع يكتب: "شاعرتنا المبجلة، لا يسعني إلا أن أنحني إجلالاً أمام لوحتك السريالية البريالية عالية التكثيف الدلالي؛ فهي نسيج محكم. وأراني أسمع صمت الصراخ المدويّ، لتنفطر معه جوانح نفسي المتعبة من ارتشاف رحيق الأزل وسط ضجيج هامس، حيث أجد نفسي سابحاً في بحر العتمة الدامي، ذاك التيه الذي ضلت فيه سحابات العشق المتلونة، ضمختها تماهيات الوجد.
ووجدتك هنا -كما عودتنا- تغوصين في أعماق متسربلة بورقة عنب طحن الشجن كبدها فذابت حباً وعشقاً بين توابيت الحياة الصاخبة. ومع أن هذه القصيدة مفتوحة على تأويلات متعددة إلا أنني ألمح فيها حكمة القدماء تغلفها رمزية يصعب الولوج إلى جوهرها ومكنوها على من لا دراية لهم بمفاهيم التعبير الميتافيزيقي، ولا قدرة لهم على سبر أغوار النفس البشرية حين تتجاوز بشفافيتها حواجز اللامكان، لتصل إلى نقطة معينة لا تبرحها في اللازمان، فهي مفترق طرق، وفي الوقت نفسه نقطة التقاء، وبوتقة تنصهر فيها المعاني الخفية، التي تتسرب إليها الأرواح السارية "كسراب يمشي بين شراعين". فالحب هنا رمز لكل تعقيدات الحياة في لحظة العدم الكائنة بين زمانين، ظاهر وخفي، ملموس ومعنوي. ورغم أن المارد ذو سطوة إلا أن الغيم أضفى عليه عياءً جعله صريعاً ذاهلاً لم يستطع أن يتبين طريقه وسط خرائط الضباب، فبدا وقد غطت البقع جلد شقائه، بينما يعتصر الألم قلبه تحت وطأة "دبيب الوقت".
وهذا المزج الساحر بين المحب والمارد يضفي على جو القصيدة بعداً سادساً، لا يدرك كنهه إلى الفاقهون. فالعماء متجدد، والحيرة في بحر لجي.
لا أملك إلا أن أقول: سلمت يداك على هذه التحفة. ولي عودة لأرتشف من هذا الرحيق المفعم بالخزامى والزنابق.
لكِ النرجس كله على شفافية البوح.
(انشر الرد) (ضغط)
وفي الأثناء جاءت أم العريف له بكوب الشيح، فرأت على وجه ابتسامة صفراء، وعيناه تلمعان في عته بادٍ، وقد ارتخى فوق كرسيه العتيق. فقالت: "هاهو الشيح يا أبا العريف، لعله أن يخفف عنا ما تعانيه من غازات، خفف الله عقلك". فنظر إليها أبو العريف وقد طالت الابتسامة على وجهه حتى بلغ فمه أذنيه، وقال في خبث واضح: "لا عليك يا امرأة. فقد ذهب عني الانتفاخ، نفخ الرعد في أذنيك".
وكالعادة ضغط أبو العريف زر إعادة التحميل ليجد رداً من الشاعرة يقول: "أستاذي الناقد الفذ أبو العريف. لا أعرف كيف أشكرك على تحليلك الرائع، ونظرتك الثاقبة التي اخترقت جنبات النص لتغوص في أعماقه مبددة ذاك الخواء المليئ بالشجن العاصف، حيث لا ملاذ لورقة العنب سوى الانسحاب إلى عمق المارد العاشق لتفرز فيه قلق الموقف، وتبدد فراغ المستحيل. إنك لم تترك بصمتك في متصفحي فقط، بل طبعتها على عقلي ووجداني أيضاً. لك مني حزمة من الرياحين في زمان لم يمر به طائر الفينيق".
اتسعت الابتسامة على وجه أبي العريف على بلغت قفاه. وعاد ليقرأ الرد مرة بعد مرة، وقد قرر أن يشرب الشيح تحسباً لانتفاخ جديد.
<!-- / message --><!-- sig -->
تعليق