خلاصة في ضبط مصطلح العلمانية
[align=justify]إن هذه الخلاصة ترمي إلى ضبط مصطلح العلمانية في العربية كما يلي:
1. مصطلح العلمانية: البحث في الاشتقاق اللغوي له في العربية، أي ضبط اشتقاق مصطلح (العلمانية) في العربية كما جاء في المصادر اللغوية العربية؛
2. مصطلح العلمانية: البحث في المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية) في كما جاء/جاءت في المصادر اللغوية الغربية،
وأرجو أن يفهم أن الغرض من هذه المقالة هو التوثيق لمصطلح العلمانية ومفهومه الأصلي/ومفاهيمه الأصلية، وليس الحديث في العلمانية ذاتها، فهذا موضوع آخر. والفصل بين الموضوعين، موضوع مصطلح العلمانية وبين موضوع العلمانية ذاتها، مهم جدا كي لا نقع في الخطأ لأن عدم الفصل سيؤدي حتما إلى الوقوع في الخطأ. ولكي أكون صريحا فأنا مهتم بالموضوع الأول وغير مهتم بالموضوع الثاني رغم أهميته، لكني قد أتطرق له لاحقا لشرح ما أشرت إليه في بعض ردودي على الأستاذ حكيم عباس والزملاء وذلك للتمييز بين (العلمانية المتطرفة) وبين (العلمانية الأنسنية) كما هما عليه اليوم في الغرب، حيث نشأت العلمانية وتطورت.
وأستهل مقالتي بكلام في مصطلح (العلمانية) للدكتور عبدالوهاب المسيري، وما بين () من عندي:
"توجد في المعجم العربي ترجمات مختلفة لكلمة "سيكولار" و"لائيك" (= للمصطلحين الإنكليزي secularism والفرنسي laïcité):
1. "العِلمانية"( بكسر العين) نسبة إلى العِلم؛
2. "العَلمانية"( بفتح العين) نسبة إلى "العَلم" بمعنى "العالم"؛
3. "الدنيوية" أي الإيمان بأنها هي الحياة الدنيا ولا يوجد سواها؛
4. "الزمنية" بمعنى أن كل الظواهر مرتبطة بالزمان وبالدنيا ولا علاقة لها بأية ماورائيات؛
5. وتستخدم أحيانا كلمة "لائيك" ("لائيكي" و"لائيكية)، خصوصا في المغرب ولبنان، دون تغيير". (1)
إذن نحن هنا أمام مفهومين غربيين (secularism/laïcité) فسرا على أنهما مفهوم واحد ترجم إلى العربية بأربعة مرادفات ونقحر مرة ليصبح عدد المقابلات العربية له خمسة.. (2)
1. مصطلح (العلمانية) في العربية:
جاء في المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية في القاهرة (مادة علم، صفحة 624) ما نصه: (العَلماني: نسبة إلى العَلم أي العالم، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي). ا.ه.
إذن يقول المعجم الوسيط إن العلمانية منسوبة إلى (العَلم) ـ بفتح العين – وهو (العالم) بفتح اللام. وهذا يعني أن العلمانية ليست مشتقة من (العِلم) بكسر العين.
وقد أثار نطق العامة والخاصة كلمة (علمانية) نسبة إلى العلم بكسر العين جدلا كثيرا. والمتتبع لأصل المصطلح في اللغات الأجنبية يستنتج بسهولة مطلقة أن المقصود بالمصطلح العربي (العلمانية) إنما هو ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism) معا. وفي هذا السياق ينقل المسيري (3) قول الدكتور فؤاد زكريا التالي، وما بين () من عندي:
"ولا شك في أن الربط بين العلمانية وبين معنى "العالم" أدق من الربط بينها وبين معنى "العِلم". ولو شئنا الدقة الكاملة لقلنا إن الترجمة الصحيحة للكلمة هي "الزمانية"، لأن الكلمة التي تدل عليها في اللغات الأجنبية، أي secular في الإنكليزية مثلا (كذا والصواب: secularism) مشتقة من كلمة (لاتينية) تعني القرن saeculum. (4)
ولقد حسم قرار لمجمع اللغة العربية في القاهرة مسألة ضبط عين "علماني" كما يلي:
"تردد في العصر الحديث استعمال كلمة (علماني) على أقلام بعض الكتاب والمفكرين بفتح العين غالبا وبكسرها في النادر (فمن فتح العين أراد النسب إلى العلم بمعنى العالم) (ومن كسر العين أراد النسب إلى العلم) وقد انتهت اللجنة إلى أن ضبط الكلمة هو بفتح العين لأنها ترجمة للكلمتين(laïque, seculier) هما تدلان على الانتماء إلى العالم، أو إلى الأرض، دون الانتماء إلى الدين، أو العلم". (5) وكل المصادر اللغوية العربية على هذا القول فلا داعي إلى الاستفاضة فيه لوضوحه التام.
الخلاصة:
1. يستفاد مما تقدم أن مصطلح (العلمانية) مشتق في العربية من (العَلم) ـ بفتح العين ـ بمعنى "العالم"، وليس من العِلم بكسرها.
2. يُفهم مما تقدم أن مصطلح (العلمانية) ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism).
1.1. كلمة "عَلم"، بفتح العين:
إن كلمة عَلم ـ بفتح العين ـ التي اشتق منها مصطلح (العلمانية) كما تقدم ـ تعني "العالم" كما تقدم أيضا. ويستوقفنا في هذه الكلمة تعريف المعجم الوسيط لها، وخصوصا قوله: (نسبة إلى العَلم أي العالم)، وبالتحديد قوله (أي العالم) لتفسير كلمة (عَلم) بفتح العين. فالمعجم الوسيط ومعه مجمع اللغة العربية في القاهرة يريان أنه من الضروري شرح كلمة (العَلم) وتفسيرها للقراء بالجملة المضافة: (أي العالم). وضرورة الشرح والتفسير للقراء يعنيان أن الكلمة المراد شرحها وتفسيرها تستعجم على جمهور القراء. وأنا لاحظت استعجامها على الخاصة قبل العامة .. وهذا يجعلنا نتساءل:
هل كلمة (عَلم) ـ بمعنى العالم ـ عربية؟ وهل وردت (عَلم) ـ بمعنى العالم – في مصادر قديمة؟
الجواب لا! ليست كلمة (علم) بمعنى العالم عربية. وأرجح أنها لم ترد ـ حسب علمي ـ في مصادر عربية مكتوبة قبل سنة 1800. وأنا أزعم أنها مستعارة من الكلمة السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) لأن الكلمة العربية التي تدل على هذا المعنى هي (العالم). وألف المد في (عَلْما) هي أداة التعريف في السريانية لأن التعريف في السريانية، مثل التعريف في الحميرية (مثلا: ذهبن = الذهب)، يكون آخر الكلمة.
ومن الجدير بالذكر أن الجذر السامي /ع ل م/ يفيد في جميع اللغات السامية معاني "الدهر، الدينا، العالم، الزمن اللامتناهي"، إذ يجانس كلمة "العالم" عندنا كل من الكلمة العبرية: עולם: /عُولَم [وأصلها فيها: عالم]/ والكلمة الحبشية: /عالَم/.
فالكلمة السامية المشتركة التي تدل على العالم هي (عالم) بفتح اللام كما وردت في العربية والعبرية والحبشية وكما تقدم أعلاه. أما (عَلما) فليست موروثا ساميا مشتركا بل هي كلمة سريانية دخلت العبرية كما يقر بذلك صاحب المعجم العبري التأثيلي بصريح العبارة (6). كما أنها دخت العربية أيضا ــ أو بالأحرى ــ وُظفت في العربية بعد 1800 لنحت كلمة العلمانية منها كما سيتضح لاحقا. والدليل الحاسم على ذلك هو أن (عَلم) بفتح العين ـ أي بمعنى العالم ـ لا تستعمل في العربية لوحدها واستعمالها في العربية مقصور على كونها جذرا اشتق منه مصطلح (العلمانية) فقط.
وهذا بيان آخر للمتخصصين في اللغات السامية وفقهها: لو كانت السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك لكان مقابلها العبري من ذوات السيغول (حركة عبرية ممالة نحو الكسر)، ذلك أن كل كلمة سريانية على وزن /فَعلا/ يجانسها تأثيليا في العبرية /فِعِل/ بإمالة الفاء والعين نحو الكسر، ويجانسها في العربية /فعل/ على وزن كلب (قارن العربية /كلب/ والسريانية /كلبا/ والعبرية كِلِب). وهذا دليل صرفي وتأثيلي على عدم كينونة الكلمة السريانية (ܥܠܡܐ: عَلْما) من الموروث السامي المشترك وأنها أي (عَلم) في العربية دخيلة من السريانية. ومنعا لأي لبس: الحديث يتعلق، في هذه المرحلة، باقتراض كلمة (علما) من السريانية وليس باشتقاق كلمة (العلمانية). وسأعود إلى ترجمة العلمانية المستعارة عن السريانية بعد الحديث في المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية) في كما جاء ذلك في المصادر اللغوية الغربية.
2. المفهوم الأصلي/المفاهيم الأصلية لمصطلح (العلمانية):
يُفهم من مصطلح (العلمانية) في العربية أنه ترجمة للمصطلحين الفرنسي (laïcité) والإنكليزي (secularism). ومن الضروري أن نعي جيدا أن هذين المصطلحين ليسا مرادفين. بكلام آخر: إن المصطلح الفرنسي laïcité ليس مرادفا للمصطلح الإنكليزي secularism. فهذان مصطلحان مختلفان من حيث الدلالة. فالأول يشير إلى الإيديولوجية العلمانية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية. والثاني يشير إلى "الدنيوية/ الزمانية" أي "الدهرية".
إلى جانب ذلك ثمة مصلح فرنسي ثالث هو laïcisme ويعني، والترجمة لي: "عَوْمَنة" أي "جعل الشيء عاميا"، بعكس الكهنوتي. وهذا المعنى قديم قدم النصرانية، أو بالأحرى، قدم الكنيسة فيها، فقد كان بهذا المعنى أولا في اليونانية (laikos) ثم في اللاتينية (laicus) ثم في سائر لغات الغرب. بكلام آخر: إن هذا المعنى نشأ مع نشوء الكهنوت النصراني بعد تنصر قسطنطين واعتبار النصرانية دين الإمبراطورية البيزنطية لأن الحاجة إلى التمييز بين الكهنة وعامة الشعب أصبحت ضرورية لأسباب مخصوصة بالديانة النصرانية ومؤسساتها الدينية. ويقابل المصطلح الفرنسي هذا في الإنكليزية المصطلح laicism وليس secularism لأن المعنى مختلف كما تقدم. ومنه الفعل laicize في الإنكليزية أي إخراج كاهن ما من طبقة الكهنة إلى طبقة العامة يعني طرده من الكهنوت. وهذا الطرد مثل الحرمان الكنسي. فهذا الفعل لا يعني "علمَن" أي "جعله علمانيا" بالمفهوم الإيديولوجي للعلمانية التي نشأت بعد الثورة الفرنسية، ولا "جعله دنيويا" حسب المفهوم الإنكليزي "الزمانية/الدنيوية" (= secularism)، بل "عَومَن" أي أخرجه من طبقة الكهنة إلى طبقة العامة. من ثمة تسميتهم الشخص العامي في الإنكليزية laic أو layman وكذا laity ضد الكهنوتي (= cleric)، وفي الفرنسية laïque. وهذه المعاني في اللغات الغربية قديمة قدم المؤسسات النصرانية وليست مستحدثة. ويرد المعجم الإنكليزي التأثيلي مفهوم layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في الإنكليزية إلى سنة 1432، أي إلى ما قبل نشوء الثورة الفرنسية (1789-1799) وما قبل George Holyoake صاحب المصطلح الإنكليزي secularism "الزمانية/الدنيوية" بقرون كما يتضح بجلاء. (7) ويرد المعجم ذاته المفهوم الإنكليزي layman بمعنى الشخص العامي غير الكهنوتي في الإنكليزية إلى الفرنسية القديمة التي تكون فيها هذا المفهوم سنة 1330 كما يشير المصدر ذاته. وهذا كله يعود إلى اللاتيني laicus المأخوذ بدوره عن اليونانية laikos (λαικός) نسبة إلى λαός "شعب".
إذن يعود هذا المعنى، معنى "العومنة" أي "جعل الشيء عاميا" بعكس الكهنوتي، إلى بداية الحقبة النصرانية كما تقدم، ويعود اشتقاق الإنكليزية Laicism والفرنسية laïcisme إلى الكلمة اليونانية Λαός (laos) التي تعني "شعب"، "عامة"، أي عكس الكهنة. من ثمة صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية "الدنيوية"، بعكس الكهنوتية "الدينية". وقد اشتق من الكلمة اليونانية Λαός (laos) المصطلحُ اليوناني (λαϊκισμός) أو laikismos "علمانية"، وكذلك (λαικός) أو laikos "علماني" الذي هو ضد الكهنوتي (κληρικός) أو klyrikos. ونرجح نشوء هذا المصطلح في بيزنطة بعدما نادى قسطنطين بالنصرانية ديانة للدولة البيزنطية في القرن الرابع للميلاد، وهو القرن الذي عرف حضورا قويا للبطارقة والكنيسة في الحياة السياسية والاجتماعية للدولة البيزنطية.
إنه هذا المعنى الثالث للعلمانية هو التي ترجم إلى العربية قبل ظهور العلمانية الفرنسية بعقود! و"أول معجم ثنائي اللغة قدم ترجمة صحيحة للكلمة هو قاموس "عربي فرنسي" أنجزه لويس بقطر المصري عام 1828 م وهو من الجيل الذي ينتمي إلى الحملة الفرنسية، وقد كان متعاونا مع الفرنسيين ورحل معهم إلى باريس وعـاش هناك وكانت ترجمته لكلمة sécularité = عالماني [اقرأ: عالمانية] و séculier = علـماني، عالمـاني. وميـزة هذه الترجمة أنهـا أول وأقـدم ترجمة صحيحـة للكلمة تـدحض آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم، لأنه نسبها إلى العالَم". (8) ومما يزيد هذا المعنى بيانا كون ضد séculier "العَلماني" بمعنى الشخص العامي اللاكهنوتي، هو كلمة régulier التي يراد بها "راهب الدير"، وكذلك العضو في منظمة دينية نصرانية كاليسوعية وغيرها. وأول معجم عربي عربي قدم تعريفا للكلمة هو معجم محيط المحيط لبطرس البستاني (صدر سنة 1870) حيث ورد ما نصه: "العلماني: العامي الذي ليس بإكليريكي". (9) وهذا تعريف مهم جدا لأنه يدحض أيضا آراء الذين يعتبرون العَلمانية من العِلم بكسر العين، لأنه من الواضح جليا أن البستاني لا يقصد بحده هذا الإيديولوجية العلمانية الفرنسية التي تبلورت في نهاية القرن التاسع عشر أي بعد إصدار معجم البستاني بأكثر من عقدين تقريبا ـ فضلا عن العِلم! ـ بل المفهوم الأقدم للمصطلح كما تقدم وصفه، أي (العومنة) أو جعل الشيء عاميا.
ويتضح من هذين المعجمبين اللذين أوردا مصطلح العلمانية لأول مرة واللذين أنجزهما كاتبان نصرانيان هما لويس بقطر وبطرس البستاني أنهما يريدان بـ "عالمية" بفتح العين واللام (لويس بقطر) و(عَلمانية) بفتح العين (بطرس البستاني) ترجمة المفهوم الـقديمlaicism/laïcisme جعل الشيء عاميا) وليس مفهوم الـ (secularism) ولا مفهوم الـ (laïcité) اللاحقين.
يتضح مما سبق:
1. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة")، مفهوم قديم قدم المؤسسات الدينية النصرانية. وقد وُضع مصطلح "العلمانية" في العربية للدلالة على هذا المفهوم بالضبط وليس على غيره.
2. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى "الدنيوية" (secularism) نشأ في إنكلترا في القرن التاسع عشر (1846)، وأن الترجمة العربية الدقيقة له هي "الزمانية"، "الدهرية" وليس "العلمانية".
3. أن مفهوم (العلمانية) بمعنى (laïcité) هو إيديولوجية نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية (حوالي 1880) وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة"!
وعليه فإننا نستنتج أن التدليل على هذه المفاهيم الثلاثة بالعربية بمصطلح "العلمانية" وحده حالة شاذة تؤدي بالمثقفين العرب غير العارفين باللغات الأصلية وغير المطلعين على التاريخ الغربي اطلاعا كافيا، إلى الوقوع في أخطاء جسيمة تجعلهم ينتهون إلى نتائج خاطئة أيضا. ويتزامن هذا الجهل بالمصطلحات والمفاهيم الأصلية مع الأحكام المسبقة لدى الكثيرين من العلمانيين العرب أحاديي التفكير والنظر الذين لا يرون من هذا المصطلح إلا الإيديولوجية العلمانية الفرنسية المتطرفة التي نشأت بعد الثورة الفرنسية، والتي لا تزال تحول ـ على سبيل المثال ـ دون نشوء أحزاب مسيحية تحكم البلاد مثلما هي الحال عليه في بلجيكا وألمانيا وهولندة وغيرها من دول الغرب "العلماني"، ودون تمويل دور عبادة الديانات المعترف بها ومؤسساتها الأخرى. (10) فهذه بلجيكا، على سبيل المثال لا الحصر، يحكمها الحزب المسيحي الديمواقراطي منذ أكثر من نصف قرن! وهذا محال في فرنسا التي تأخذ من محاربة الدين عقيدة لها يدين به أكثر العلمانيين العرب إن لم يكن جلهم .. ولكن هذا موضوع الحديث في التمييز بين العلمانيتين العلمانية المتطرفة (العلمانية الشاملة عند عبدالوهاب المسيري) والعلمانية الانسنية (العلمانية الجزئية عند عبدالوهاب المسيري)، وليس موضوع المصطلح فحسب.
علاقة مصطلحنا بالسريانية:
إن السريان نصارى كان لهم (ولا يزال) كهنوت ولاهوت معقد، وفرقهم الدينية من أكثر فرق النصرانية جدلا .. وأهم بطريقين لهما في هذا السياق هما نسطور (القرن الخامس) الذي كان من بطارقة البيزنطيين، ويعقوب البرادعي (القرن السادس). وقد اتهم نسطور بالهرطقة وطرد من الكنيسة نتيجة لاحتدام الجدل آنذاك في طبيعة عيسى بن مريم وطبيعة أمه، عليهما السلام. وكان نسطور قد ذهب إلى أن المسيح مكون من طبيعتين واحدة ناسوتية وأخرى لاهوتية، لم تتحدا لتصبحا طبيعة واحدة على الرغم من بقائها في جسد واحد بل بقيتا منفصلتين عن بعضهما بعضا مثلما يبقى الماء والزيت الموجودين في وعاء واحد مفصلين عن بعضهما البعض .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم غير مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي. أما يعقوب فكان يرى أن لعيسى طبيعتين ناسوتية ولاهوتية اتحدتا فيه اتحادا نهائيا وأصبحتا طبيعة واحدة وذلك مثل اتحاد الماء والخمر اللذين لا ينفصلان عن بعضهما بعضا إلا بعملية كيميائية .. وينتج عن هذا الاعتقاد أن مريم مقدسة لأنها أم عيسى الناسوتي واللاهوتي أي "أم الله" كما توصف في الديانة النصرانية وفي أكبر فرقها أي الكاثوليكية وغيرها.
كان السريان نقلة المعارف اليونانية في العصور الوسطى، وهم أقدم سابقة من العرب في الترجمة من اليونانية بقرون. وبما أنهم نصارى لهم رهبان وكهنة ووثيقي الصلة باليونان، فقد انتقل مفهوم (العلمانية) بمعنى جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة") إليهم من اليونانية مثلما انتقل إلى غيرهم من الأمم النصرانية ومنهم الفرنسيين (سنة 1330) والإنكليز (سنة 1432) كما ذكر المعجم الإنكليزي التأثيلي (النظر الحاشية رقم 7).
ومن السريان انتقل هذا المعنى إلى العرب عن طريق الكتاب العرب النصارى الذين يتقنون السريانية مثل بطرس البستاني وغيره. والدليل القاطع على ذلك استعارة العرب كلمة (علم) بمعنى (العالم) من السريانية كما تقدم أعلاه هو أن هذه الكلمة لم ترد في مصادر عربية مكتوبة قبل سنة 1800 ولا تستعمل في العربية – حتى يومنا هذا - خارج سياق كونها جذرا اشتق منه مصطلح (العلمانية) كما تقدم .. ثم اشتقوا كلمة (علمانية) منها على السماع لا على القياس لأن القياس اللغوي يقتضي نحت (عَلمية) ـ بفتح العين – وليس (علمانية) بإضافة الألف والنون.
نستنتج مما تقدم أن مصطلح (علمانية) اشتق للدلالة على:
1. مفهوم (العلمانية) القديم أي جعل الشيء عاميا بعكس الكهنوتي (= "عَوْمَنة").
ثم حُمّل مصطلح (العلمانية) في العربية:
2. مفهوم "الدنيوية"/"الزمانية"/"الدهرية" (secularism) الذي نشأ في إنكلترا في القرن التاسع.
3. ومفهوم "الإيديولوجة العلمانية" (laïcité)، وهي الإيديولوجية التي نشأت في فرنسا بعد الثورة الفرنسية بقرن تقريبا (في نهاية القرن التاسع عشر) وتأخذ من عداء الأديان عقيدة لها .. وأدق وصف لها هو "إيديولوجية فصل الدين عن الدولة" كما تقدم.
والسبب الرئيسي للخلط الحاصل في أذهان بعض الناس هو عدم التمييز بين المعاني الرئيسية الثلاثة التي اجتمعت في المصطلح العربي (علمانية) الذي اشتق من كلمة دخيلة من السريانية اقترضت لنحت المصطلح العربي (علمانية). ولا أشك في أن البحث في المجلات التي كانت تصدر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مثل المقتطف والمقطم وغيرهما سيلقي أضواء كثيرة على هذا المصطلح وقت إدخاله في العربية .. وهذا موضوع دكتوراه بامتياز وحبذا لو شمر باحث شاب على ساعديه للقيام به! في أثناء ذلك نقترح تمييز المفاهيم الثلاثة المجتمعة في كلمتنا (علمانية) بثلاثة مصطلحات مختلفة كما يلي:
1. قصر استعمال مصطلح (العلمانية) للدلالة على المفهوم الـقديمlaicism/laïcisme الذي يعني "جعل الشيء عاميا" فقط (ويرادفه: مصطلح "عَومنة" الذي اخترعناه لشرح المفهوم الأصلي)؛
2. استعمال مصطلح "الدنيوية" للدلالة على مفهوم الـ secularism الذي نادى به جورج هوليوك سنة 1846 (كما تطور لاحقا). (ويرادفه: مصطلحا "الزمانية" و"الدهرية")؛
3. استعمال اللفظ المنقحر "لائيكية" للدلالة على "الإيديولوجة العلمانية" الفرنسية laïcité كما تطورت منذ 1880 (ويرادفه: "اللادينية").
وأنا لا أشك في أن خلط هذه المفاهيم كلها في كلمة (علمانية) ثم نقطها بكسر العين للإيحاء بأنها من العلم ثم تسويقها على أنها منهج علمي، إنما هو خلط مشبوه وتدليس بهدف ترسيخ مصطلح لا تستسيغه البيئة العربية الإسلامية وبأساليب ملتوية .. وإن كل من يمارسه وينطق هذه الكلمة بالكسر هو إما جاهل بحقيقة هذا المصطلح أو عالم به لكنه يمارس التدليس على قومه ..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي:
(1) الدكتور عبدالوهاب المسيري (1423/2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق. المجلد الأول الصفحة 61.
(2) وهذه الظاهرة، ظاهرة وجود مرادفات مصطلحية عربية متعددة إزاء مفهوم غربي واحد، من معضلات الثقافة العربية المعاصرة العويصة، وهي السبب في تشتت جهد الدارسين وكذلك في الكثير من الخلافات بين المثقفين. من ثمة الدعوة المتكررة إلى ضرورة ضبط المصطلح قبل الحديث في مدلولاته.
(3) الدكتور عبدالوهاب المسيري (1423/2002). العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة. دار الشروق. المجلد الأول الصفحة 61.
(4) يتضح من كلام الدكتور فؤاد زكريا أنه يعتمد في اقتراحه اعتماد مصطلح "الزمانية" بدلا من العلمانية على المصطلح الإنكليزي اللاتيني الأصل secularism وليس على المصطلح الفرنسي اليوناني الأصل laïcité، ذلك لأن "الزمان" ليس من معاني هذا الأخير. وهذا المعنى يقترب كثيرا من معنى (الدهرية) نسبة إلى الدهر.
(5) المصدر: د. فاروق مواسي على الرابط التالي: http://www.atinternational.org/forum...ead.php?t=6922
(6)Klein E. (1987). A Comprehensive Etymological Dictionary of The Hebrew Language ... New York/London 1987 صفحة 473 – مادة עלם/ עלםא.
(7) انظر: http://www.etymonline.com/index.php?term=lay.
(8) د. أحمد إدريس الطعان، العَلمانية والعِلمانية. المصدر: http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2637. وانظر سيرة لويس بقطر في الأعلام للزركلي.
(9) بطرس البستاني (1977). محيط المحيط. مادة علم. وقد وردت كلمة (عَلم) بمعنى العالم أيضا في معجم كازيميرسكي الصادر في باريس سنة 1860 لكن كلمة (العلمانية) لم ترد فيه وهذا يعني أنه لم تكن حينه موطنة في العربية على الرغم في ورودها في معجم لويس بقطر المصري عام 1828. انظر: كازيميرسكي دي بيبرشتاين/Kazimirski A. De Biberstein (1860). قاموس اللغتين العربية والفرانساوية. باريس. مادة (علم).
(10) ينتهك الأنموذج العلماني الفرنسي، في حقيقة الأمر، حقوق الانسان انتهاكا صارخا لأن فرنسا ترفض تمويل دور عبادات الأديان المعترف بها بينما تجبي الضرائب من أتباعها دون أن تأخذ احتياجاتهم الدينية والروحية بعين الاعتبار. وينطبق هذا القول على الإسلام في فرنسا أكثر منه على النصرانية واليهودية .. وفرنسا هي الدولة الغربية الوحيدة التي تفعل ذلك وبتطرف غير طبيعي بحجة ظلم الكنيسية إبان النظام القديم.
[/align]
تعليق