تركيا، المبادئ والمصالح !
د. عادل محمد عايش الأسطل
منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، لجأت الدولة التركيّة إلى إنشاء علاقات ثنائية مع الدولة الصهيونية الوليدة وقتذاك، على الرغم من أن مشروعها كان استيطانياً، طالما رفضته الخلافة العثمانية في مراحل سابقة، لكن كانت هناك قواسم مشتركة عززت من نشوء تلك العلاقة وساهمت في تسريع عملية نسجها كما لو كانت خيالية، وعلى رأسها أن إسرائيل تريد تثبيت نفسها من خلال الاعتراف بها من قِبل الدول وخاصة تركيا الإسلامية وغير عربية، وبالنسبة لتركيا التي كانت ممتعضة بشدة من السلوك العربي الذي ساهم في هزائم تركيا أمام قوات التحالف الغربي الأوروبي، وحالتها المزرية العزلة والضعف في ذلك الحين. حيث سابقت غيرها من الدول في نسج العلاقة معها، لتشمل كافّة المستويات، وعلى رأسها ما يتعلق بالمجالات الأمنية والعسكرية، حيث التعاون والتنسيق الأمني جنباً إلى جنب مع جهاز الموساد الإسرائيلي الذي ساهم في نشأة وتدريب جهاز التانس التركي، بهدف التعاون في جمع وتبادل المعلومات. وشمل التعاون في المجال العسكري كافّة أنواع التدريبات وإجراء المناورات العسكرية وفي كل ما يتعلق بالصناعات العسكرية وتبادل التقنينات.
كانت العلاقات ممتدّة ومتنامية ومتطورة كلما مر الوقت، إلى أن صعد إلى سدة الحكم حزب التنمية والعدالة عام 2002، والذي يتزعمّه وإلى الآن رئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" الذي لم يكن مسروراً كثيراً لما وصلت إليه علاقات بلاده مع إسرائيل، ولكن بالنظر إلى الارتباطات المعقدة وفي جميع مستوياتها، بالإضافة إلى القوّة التي يتمتع بها الجيش تمنع من التلاعب خاصةً في العلاقات مع إسرائيل، والذي في نفس الوقت يكره أن يصل الإسلاميين إلى السلطة باعتباره الحارس الأمين لاستمرار وتأكيد المنهج العلماني للدولة، إضافةً إلى مسألة عضوية البلاد في حلف الناتو الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ويمكن إضافة مراعاته لمسألة السعي الدؤوب للفوز بعضوية في مجموعة دول الاتحاد الأوروبي، هذه جميعها حالت دون أن يستطيع الحزب أو "أردوغان" نفسه من إحداث أية تغييرات مهمّة بهذا الصدد، ولذلك بقيت العلاقات وطيدة والأجهزة والمؤسسات المختلفة في البلدين تمارس أنشطتها وتعمل كالمعتاد.
كان "أردوغان" يحاول السعي إلى عرقلة الخطوات المتسارعة بين البلدين وتعنيفها أحياناً من خلال لجوئه في كل مناسبة إلى انتقاد إسرائيل وتوجيه اللوم إليها في كل مرة، وخاصّةً في شأن ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين وأراضيهم ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية، وكان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي "داني أيالون" قد استدعى السفير التركي للاحتجاج على موقف بلاده من السياسات الإسرائيلية وعرض فيلم (وادي الذئاب) الذي اعتبرته إسرائيل معادياً للسامية، وكان ذلك بحضور علم إسرائيلي فقط على الطاولة وتعمّد أن أجلسه على مقعد منخفض، الأمر الذي أغضب الحكومة التركية والشعب التركي بشكلٍ عام وصلت إلى حد استدعاء السعي للتشاور. تواصلت الانتقادات التركية لإسرائيل، في كل سياساتها العدوانية في كل الشأن وتصاعدت بشكلٍ أكثر حدّة، في أعقاب العدوان الإسرائيلي على القطاع أواخر عام 2008، عندما قام "أردوغان" بتوجيه الغضب التركي على السلوك الإسرائيلي أثناء العدوان، ووصفه إسرائيل أمام رئيسها "شمعون بيرس" أثناء انعقاد مؤتمر دافوس - سويسرا- أواخر يناير/كانون ثاني عام 2009، حيث اتهم إسرائيل بأنها متخصصة في سفك الدماء.
حادثة سفينة مرمرة التركية التي قامت قوات الكوماندوز الإسرائيلية بمهاجمتها في عرض البحر وهي في طريقها صمن أسطول الحرية لكسر الحصار عن القطاع، وأقدمت على متنها على قتل تسعة أفراد متضامنين أتراك، حيث كانت نقطة فاصلة في توتير العلاقات بين البلدين، وساهمت في تعظيم الغضبة الشعبية الهائلة ضد إسرائيل، إضافةً إلى درجة الليونة التي أبداها الجيش إلى جانب الشعب التركي ورئيس وزرائه "أردوغان" والتي أدّت في نهاية المطاف إلى عرقلة كل العلاقات من أن تمضي قُدماً. حيث نشأت حالة صاخبة من التجاذبات السياسية والاتهامات بأن الآخر مسؤول عن الحادثة، حيث طالبت تركيا باعتراف إسرائيلي رسمي بالمسؤولية وتقديم اعتذار، وبالمقابل طالبت إسرائيل تأن تكف تركياً عن إرسال أرهابيين.
إسرائيل لم تهتم بالأمر وعاندت في شأن اعترافها أو بشأن تقديم اعتذار، على الرغم من قيام تركيا بشطب جُل البرامج العسكرية والأمنية بين الجانبين، وأهمها النشاطات المخابراتية وإلغاء مشاركة سلاح الجو الإسرائيلي في تدريبات لحلف شمال الأطلسي في أراضيها، وكانت تطالب فقط بعودة العلاقات إلى طبيعتها بدون شروط مسبّقةـ
خلال زيارة الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل في مارس/أذار من العام الجاري كان له الفضل في تليين الطرف الإسرائيلي بشأن تحمله المسؤولية وتقديم اعتذار، نظراً لتطورات الأحداث الدولية والإقليمية ومتطلبات المرحلة، وبأن إسرائيل عليها عدم عرقلة أيّة عملية سياسية ومصلحية في الشرق الأوسط بسبب سوء العلاقة مع تركيا الحليف المهم في المنطقة. حيث قبلت تركيا الاعتذار وانتقلت إلى المرحلة التالية وهي بدء المفاوضات في مسألة تقديم التعويضات والتي كانت شهدت مماطلة إسرائيلية وتشددات أخرى غير محتملة.
لم تكن إسرائيل مهتمّة كثيراً بمسألة الاعتذار ولا التعويضات وإن بلغت ملايين الدولارات. ولكن الأنفة الإسرائيلية هي التي كانت تحول دون تقديمها، لا سيما وأن هناك العديد من القادة الإسرائيليون يمتنعون عن أية خطوة في هذا الاتجاه، بسبب حرارة (الأنا) اليهودية الزائدة، والتي تمنع تقديم أية اعتذارات أو أيّة إشارات توحي إلى الأسف. وكان هناك متشددون وعلى اختلافهم سواء في اليمين أو اليسار، وعلى رأسهم زعيم حزب إسرائيل بيتنا "أفيغدور ليبرمان" الذي خطّأ وعنّف كل من ساهم في الخطوة الإسرائيلية باتجاه تقديم الاعتذار إلى تركيا بمن فيهم "أوباما" نفسه" مؤكّداً بخطئها وبأن لا يمكن قبولها.
تركيا بدورها في شأن موقفها، فقد وجدت نفسها بين السيّار والباب بشأن استمرار تدهور علاقاتها مع إسرائيل. صحيح، وعلى الرغم من أن لديها الحق في سياستها، لكن هناك موانع ضخمة تحول دون استمرارها في معاداة إسرائيل، فهناك مصالح وهناك مخاوف أيضاً، فهي وإن استطاعت الاستغناء عن المنافع، فهي غير قادرة على درء المخاطر التي تكالبت عليها بشدة وجعلتها ترزح تحت مشكلات لا تقل في الكم والحجم والنوع عن تلك الحاصل في محيطها العربي.
تعلم تركيا بأن سوء علاقاتها مع إسرائيل هي آنيّة وليست إلى ما لا نهاية، وتعلم أيضاً أنها في يومٍ ما ستعود كما كانت، بسبب أن المصالح هي المتحكّمة في تلك العلاقات. ومن المؤكّد أن تركيا تنظر إلى إسرائيل بأنها إن لم تكن نافعة فإنها ستكون كافية لشرورها سواء في الداخل التركي أو في المنطقة بشكلٍ عام، والتي تمس على كل حال المصالح التركية، فبغض النظر عن الأزمة السورية فإن إسرائيل نافعة بالنسبة لها من حيث تعاونها التكنولوجي وإمداداتها بالتقنيات الحديثة وتساهم علاقاتها معها باحتمالية قبولها في الاتحاد الأوروبي، والأهم في كل ما هو متعلق بالمجالات المخابراتية وتبادل المعلومات الأمنية، إضافةً إلى الجوانب الاقتصادية والمالية الأخرى.
كما تأتي الخشية التركية من أن إسرائيل يمكنها زلزلة المنطقة إلى أكثر ممّا هو حاصلٌ لها الآن وخاصةٍ في الداخل التركي كما حصل في أحداث (ميدان تقسيم) أواخر مايو/أيار من العام الجاري وما يحدث في هذه الأثناء من اضطرابات وعدم استقرار، أو بالنسبة للمساهمة في دعم الأكراد ضدها، لا سيما وأن كانت إسرائيل محل اتهامات تركيّة في العديد من الحوادث التي نفّذت على أيدي الأكراد، كما أن إسرائيل سارعت إلى تعويض خسارتها التركية من أعداءها نفسها وخاصة اليونان التي قامت إلى تطوير علاقاتها معها بشكلٍ جيد جداً وفي أزمان قياسية، وشملت جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما قامت برسم حدودها البحرية بالاتفاق مع الجزيرة القبرصية دون الحاجة إلى الطرف التركي لا سيما في وجود الغاز هناك. وهذه كان لا بد أن تساهم كثيراً في أن تغض تركيا طرفها أكثر بشأن تصفية ما بقي من شوائب كانت سبباً في تدهور الوضع التركي إلى أسوأ مما كان.
ولما سبق، فليس هناك من غرابة في أن نستمع خلال أيّة لحظة، إلى عودة العلاقات الثنائية من بين البلدين من جديد، خاصّةً بعد سماعنا إلى نبأ التوصل إلى اتفاق بشأن التعويضات المطلوبة، ولا غرابة أيضاً في لجوء تركيا إلى تخفيض المبالغ المطلوبة للانتهاء من الملف.
ولكن تبقى أسئلة مهمّة تفرض نفسها رغماً، وعلى رأسها، فيما إذا عادت العلاقات بين البلدين، فهل تُقدِم تركيّة "أردوغان" - الذي وجد فرصاً كثيرة - إلى تحجيم هذه العلاقات وإبقاءها في حدود نافعة لبلاده وبما لا تضر المصالح العربية؟ وهل يعتبر "أردوغان" نفسه منتصراً؟ وكيف ستتمكن تركيا بقيادته من التوفيق بين سياساتها المتجهة نحو كلٍ من إسرائيل وحركات فلسطينية مقاوٍمة والتي تُظاهر في دعمها، وبالذات حركة حماس؟
خانيونس/فلسطين
25/12/2013
د. عادل محمد عايش الأسطل
منذ أوائل خمسينات القرن الماضي، لجأت الدولة التركيّة إلى إنشاء علاقات ثنائية مع الدولة الصهيونية الوليدة وقتذاك، على الرغم من أن مشروعها كان استيطانياً، طالما رفضته الخلافة العثمانية في مراحل سابقة، لكن كانت هناك قواسم مشتركة عززت من نشوء تلك العلاقة وساهمت في تسريع عملية نسجها كما لو كانت خيالية، وعلى رأسها أن إسرائيل تريد تثبيت نفسها من خلال الاعتراف بها من قِبل الدول وخاصة تركيا الإسلامية وغير عربية، وبالنسبة لتركيا التي كانت ممتعضة بشدة من السلوك العربي الذي ساهم في هزائم تركيا أمام قوات التحالف الغربي الأوروبي، وحالتها المزرية العزلة والضعف في ذلك الحين. حيث سابقت غيرها من الدول في نسج العلاقة معها، لتشمل كافّة المستويات، وعلى رأسها ما يتعلق بالمجالات الأمنية والعسكرية، حيث التعاون والتنسيق الأمني جنباً إلى جنب مع جهاز الموساد الإسرائيلي الذي ساهم في نشأة وتدريب جهاز التانس التركي، بهدف التعاون في جمع وتبادل المعلومات. وشمل التعاون في المجال العسكري كافّة أنواع التدريبات وإجراء المناورات العسكرية وفي كل ما يتعلق بالصناعات العسكرية وتبادل التقنينات.
كانت العلاقات ممتدّة ومتنامية ومتطورة كلما مر الوقت، إلى أن صعد إلى سدة الحكم حزب التنمية والعدالة عام 2002، والذي يتزعمّه وإلى الآن رئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" الذي لم يكن مسروراً كثيراً لما وصلت إليه علاقات بلاده مع إسرائيل، ولكن بالنظر إلى الارتباطات المعقدة وفي جميع مستوياتها، بالإضافة إلى القوّة التي يتمتع بها الجيش تمنع من التلاعب خاصةً في العلاقات مع إسرائيل، والذي في نفس الوقت يكره أن يصل الإسلاميين إلى السلطة باعتباره الحارس الأمين لاستمرار وتأكيد المنهج العلماني للدولة، إضافةً إلى مسألة عضوية البلاد في حلف الناتو الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ويمكن إضافة مراعاته لمسألة السعي الدؤوب للفوز بعضوية في مجموعة دول الاتحاد الأوروبي، هذه جميعها حالت دون أن يستطيع الحزب أو "أردوغان" نفسه من إحداث أية تغييرات مهمّة بهذا الصدد، ولذلك بقيت العلاقات وطيدة والأجهزة والمؤسسات المختلفة في البلدين تمارس أنشطتها وتعمل كالمعتاد.
كان "أردوغان" يحاول السعي إلى عرقلة الخطوات المتسارعة بين البلدين وتعنيفها أحياناً من خلال لجوئه في كل مناسبة إلى انتقاد إسرائيل وتوجيه اللوم إليها في كل مرة، وخاصّةً في شأن ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين وأراضيهم ومقدساتهم الإسلامية والمسيحية، وكان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي "داني أيالون" قد استدعى السفير التركي للاحتجاج على موقف بلاده من السياسات الإسرائيلية وعرض فيلم (وادي الذئاب) الذي اعتبرته إسرائيل معادياً للسامية، وكان ذلك بحضور علم إسرائيلي فقط على الطاولة وتعمّد أن أجلسه على مقعد منخفض، الأمر الذي أغضب الحكومة التركية والشعب التركي بشكلٍ عام وصلت إلى حد استدعاء السعي للتشاور. تواصلت الانتقادات التركية لإسرائيل، في كل سياساتها العدوانية في كل الشأن وتصاعدت بشكلٍ أكثر حدّة، في أعقاب العدوان الإسرائيلي على القطاع أواخر عام 2008، عندما قام "أردوغان" بتوجيه الغضب التركي على السلوك الإسرائيلي أثناء العدوان، ووصفه إسرائيل أمام رئيسها "شمعون بيرس" أثناء انعقاد مؤتمر دافوس - سويسرا- أواخر يناير/كانون ثاني عام 2009، حيث اتهم إسرائيل بأنها متخصصة في سفك الدماء.
حادثة سفينة مرمرة التركية التي قامت قوات الكوماندوز الإسرائيلية بمهاجمتها في عرض البحر وهي في طريقها صمن أسطول الحرية لكسر الحصار عن القطاع، وأقدمت على متنها على قتل تسعة أفراد متضامنين أتراك، حيث كانت نقطة فاصلة في توتير العلاقات بين البلدين، وساهمت في تعظيم الغضبة الشعبية الهائلة ضد إسرائيل، إضافةً إلى درجة الليونة التي أبداها الجيش إلى جانب الشعب التركي ورئيس وزرائه "أردوغان" والتي أدّت في نهاية المطاف إلى عرقلة كل العلاقات من أن تمضي قُدماً. حيث نشأت حالة صاخبة من التجاذبات السياسية والاتهامات بأن الآخر مسؤول عن الحادثة، حيث طالبت تركيا باعتراف إسرائيلي رسمي بالمسؤولية وتقديم اعتذار، وبالمقابل طالبت إسرائيل تأن تكف تركياً عن إرسال أرهابيين.
إسرائيل لم تهتم بالأمر وعاندت في شأن اعترافها أو بشأن تقديم اعتذار، على الرغم من قيام تركيا بشطب جُل البرامج العسكرية والأمنية بين الجانبين، وأهمها النشاطات المخابراتية وإلغاء مشاركة سلاح الجو الإسرائيلي في تدريبات لحلف شمال الأطلسي في أراضيها، وكانت تطالب فقط بعودة العلاقات إلى طبيعتها بدون شروط مسبّقةـ
خلال زيارة الرئيس الأمريكي إلى إسرائيل في مارس/أذار من العام الجاري كان له الفضل في تليين الطرف الإسرائيلي بشأن تحمله المسؤولية وتقديم اعتذار، نظراً لتطورات الأحداث الدولية والإقليمية ومتطلبات المرحلة، وبأن إسرائيل عليها عدم عرقلة أيّة عملية سياسية ومصلحية في الشرق الأوسط بسبب سوء العلاقة مع تركيا الحليف المهم في المنطقة. حيث قبلت تركيا الاعتذار وانتقلت إلى المرحلة التالية وهي بدء المفاوضات في مسألة تقديم التعويضات والتي كانت شهدت مماطلة إسرائيلية وتشددات أخرى غير محتملة.
لم تكن إسرائيل مهتمّة كثيراً بمسألة الاعتذار ولا التعويضات وإن بلغت ملايين الدولارات. ولكن الأنفة الإسرائيلية هي التي كانت تحول دون تقديمها، لا سيما وأن هناك العديد من القادة الإسرائيليون يمتنعون عن أية خطوة في هذا الاتجاه، بسبب حرارة (الأنا) اليهودية الزائدة، والتي تمنع تقديم أية اعتذارات أو أيّة إشارات توحي إلى الأسف. وكان هناك متشددون وعلى اختلافهم سواء في اليمين أو اليسار، وعلى رأسهم زعيم حزب إسرائيل بيتنا "أفيغدور ليبرمان" الذي خطّأ وعنّف كل من ساهم في الخطوة الإسرائيلية باتجاه تقديم الاعتذار إلى تركيا بمن فيهم "أوباما" نفسه" مؤكّداً بخطئها وبأن لا يمكن قبولها.
تركيا بدورها في شأن موقفها، فقد وجدت نفسها بين السيّار والباب بشأن استمرار تدهور علاقاتها مع إسرائيل. صحيح، وعلى الرغم من أن لديها الحق في سياستها، لكن هناك موانع ضخمة تحول دون استمرارها في معاداة إسرائيل، فهناك مصالح وهناك مخاوف أيضاً، فهي وإن استطاعت الاستغناء عن المنافع، فهي غير قادرة على درء المخاطر التي تكالبت عليها بشدة وجعلتها ترزح تحت مشكلات لا تقل في الكم والحجم والنوع عن تلك الحاصل في محيطها العربي.
تعلم تركيا بأن سوء علاقاتها مع إسرائيل هي آنيّة وليست إلى ما لا نهاية، وتعلم أيضاً أنها في يومٍ ما ستعود كما كانت، بسبب أن المصالح هي المتحكّمة في تلك العلاقات. ومن المؤكّد أن تركيا تنظر إلى إسرائيل بأنها إن لم تكن نافعة فإنها ستكون كافية لشرورها سواء في الداخل التركي أو في المنطقة بشكلٍ عام، والتي تمس على كل حال المصالح التركية، فبغض النظر عن الأزمة السورية فإن إسرائيل نافعة بالنسبة لها من حيث تعاونها التكنولوجي وإمداداتها بالتقنيات الحديثة وتساهم علاقاتها معها باحتمالية قبولها في الاتحاد الأوروبي، والأهم في كل ما هو متعلق بالمجالات المخابراتية وتبادل المعلومات الأمنية، إضافةً إلى الجوانب الاقتصادية والمالية الأخرى.
كما تأتي الخشية التركية من أن إسرائيل يمكنها زلزلة المنطقة إلى أكثر ممّا هو حاصلٌ لها الآن وخاصةٍ في الداخل التركي كما حصل في أحداث (ميدان تقسيم) أواخر مايو/أيار من العام الجاري وما يحدث في هذه الأثناء من اضطرابات وعدم استقرار، أو بالنسبة للمساهمة في دعم الأكراد ضدها، لا سيما وأن كانت إسرائيل محل اتهامات تركيّة في العديد من الحوادث التي نفّذت على أيدي الأكراد، كما أن إسرائيل سارعت إلى تعويض خسارتها التركية من أعداءها نفسها وخاصة اليونان التي قامت إلى تطوير علاقاتها معها بشكلٍ جيد جداً وفي أزمان قياسية، وشملت جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، كما قامت برسم حدودها البحرية بالاتفاق مع الجزيرة القبرصية دون الحاجة إلى الطرف التركي لا سيما في وجود الغاز هناك. وهذه كان لا بد أن تساهم كثيراً في أن تغض تركيا طرفها أكثر بشأن تصفية ما بقي من شوائب كانت سبباً في تدهور الوضع التركي إلى أسوأ مما كان.
ولما سبق، فليس هناك من غرابة في أن نستمع خلال أيّة لحظة، إلى عودة العلاقات الثنائية من بين البلدين من جديد، خاصّةً بعد سماعنا إلى نبأ التوصل إلى اتفاق بشأن التعويضات المطلوبة، ولا غرابة أيضاً في لجوء تركيا إلى تخفيض المبالغ المطلوبة للانتهاء من الملف.
ولكن تبقى أسئلة مهمّة تفرض نفسها رغماً، وعلى رأسها، فيما إذا عادت العلاقات بين البلدين، فهل تُقدِم تركيّة "أردوغان" - الذي وجد فرصاً كثيرة - إلى تحجيم هذه العلاقات وإبقاءها في حدود نافعة لبلاده وبما لا تضر المصالح العربية؟ وهل يعتبر "أردوغان" نفسه منتصراً؟ وكيف ستتمكن تركيا بقيادته من التوفيق بين سياساتها المتجهة نحو كلٍ من إسرائيل وحركات فلسطينية مقاوٍمة والتي تُظاهر في دعمها، وبالذات حركة حماس؟
خانيونس/فلسطين
25/12/2013