اللامبالاة_بقلم : د‏.‏ حازم الببلاوي

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 4026

    اللامبالاة_بقلم : د‏.‏ حازم الببلاوي


    تقيم الشعوب ـ كما الأفراد ـ بمدي اهتمامها بالمسائل العامة فنجد ـ مثلا ـ أن أفراد الشعب العاديين في معظم الدول الأوروبية‏،‏ يبدون اهتماما كبيرا بنظافة البلد أو باحترام قواعد المرور أو بالحرص علي راحة الجيران‏،‏ وعلي العكس نجد كثيرا من المجتمعات الأخري يغلب عليه اللامبالاة فالفرد يلقي بقاذوراته في الطريق العام وهو يخرج عن قواعد المرور بل وقد يعطل غيره من أجل أن يسبقه بعدة أمتار‏،‏

    وأما إزعاج الجيران برفع أصوات الراديو أو التليفزيون فحدث ولا حرج‏،‏ وحين يتعلق الأمر بحماية البيئة أو الحرص علي مظاهر الجمال فإن الإهمال قد يصل إلي ما يقرب من الجريمة‏.‏ وعادة لا يقتصر الأمر علي هذه العلاقات الاجتماعية بل كثيرا ما يمتد إلي القضايا القومية والأمور السياسية فحيث يزداد الاهتمام بالأمور العامة فإن الوعي السياسي يزداد أيضا‏،‏ وعندما يقل أو ينعدم هذا الوعي العام تغلب اللامبالاة السياسية‏،‏ فلا مشاركة في الانتخابات ولا متابعة للأحداث العامة‏.‏

    فلماذا هذا الاختلاف ؟ هل المسألة بيولوجية متعلقة بالجينات أم هي حضارية ثقافية أم هي راجعة للتنظيم الاجتماعي والسياسي للبلدان أم أن لها علاقة بدرجة التقدم الاقتصادي ؟ أم هي كل ذلك في نفس الوقت ؟

    هناك طبعا جانب الوعي والثقافة والتعليم‏.‏ وهذه مسألة متعلقة بالتربية المنزلية ومناهج التعليم في المدارس وبرامج الإعلام المرئية والمقروءة ودرجة ومستوي الثقافة العامة السائدة‏.‏ وهي أمور تشترك في المسئولية عنها الدولة والمؤسسات الاجتماعية من الأسرة إلي الجامع والكنيسة‏،‏ إلي المدرسة إلي المذياع والتليفزيون‏،‏ إلي أسلوب التعامل في المحلات العامة وفي مكاتب الحكومة‏.‏ ولكن هناك أيضا مستوي التقدم الإقتصادي ومدي توافر الإمكانيات المادية‏،‏

    فالاهتمام بالقضايا العامة ليس مجانا بلا تكلفة‏.‏ فالقضية واسعة ومتشعبة لها أبعاد متعددة لا يمكن الإحاطة بها من كاتب واحد أو في مقال واحد‏،‏ فضلا عن أنني لا أعتقد أنني مؤهل لتناول مثل هذه القضايا‏.‏

    وأود أن أتناول الموضوع من زاوية محددة‏،‏ وهي زاوية مدي اتصال اللامبالاة بالسلوك الرشيد‏.‏

    فالمسألة ترجع في غير قليل من الأحوال إلي أن هذا السلوك غير المبالي هو في الواقع السلوك الأكثر عقلانية في ظل الظروف السائدة‏.‏ فكثيرا ما نجد نفس الشخص والذي يعيش في دولة فقيرة مثل مصر ـ فإذا به وهو في بلده‏،‏ مرتفع الصوت‏،‏ يلقي أوراقه وربما قاذوراته من شباك سيارته وربما يبصق في الطريق العام وهو يزاحم المزاحمين‏،‏ وغالبا ما لا يقف في الطابور‏،‏ وعندما يقود سيارته فهو لا يتوقف عن الضغط علي الكلاكس وينحرف من حارة إلي أخري من الطريق حتي يتقدم علي السيارات علي الجانب الآخر‏،‏ وبطبيعة الأحوال فإنه لا يعترف بإشارات المرور‏،‏

    وإذا جاءه الشرطي منبها فإذا لم ينهره وبتعالي عليه فإنه يغمزة بخمسة جنيهات‏.‏

    هذا الشخص نفسه وهو غالبا متعلم وربما يشغل مراكز مرموقة ـ فإنه عندما يجد نفسه في عاصمة دولة أجنبية فإذا به شخص آخر‏.‏ يقف في الطابور انتظارا لدوره‏،‏ ويكرر كلمة شكرا عند كل خدمة يتلقاها‏،‏ وهو يتحدث في المقهي بصوت خفيض‏،‏ وغالبا ما يحتفظ بما لديه من مهملات حتي يجد أقرب سلة للمهملات‏،‏ وهكذا تتعدد تصرفاته وهو لا يكاد يختلف في سلوكه عنه في البلد الأجنبي‏.‏ هذا النموذج ليس حالة استثنائية بل أن له تطبيقات متعددة‏.‏ فلماذا نجد أن نفس الشخص يتصرف في موقعين متماثلين تصرفات مختلفة لمجرد اختلاف البيئة أو المكان؟

    فهو في بلده نموذج للفوضي وعدم المسئولية‏،‏ ولكنه في بلاد الغربة المتقدمة نموذج للسلوك المتحضر والتربية والتهذيب‏!‏

    الواقع أن الأمر ليس مجرد مسايرة للبيئة و اعمل في روما كما يعمل أهل روما‏،‏ بل إن الأمر يرجع إلي اختيار السلوك الرشيد الأكثر نفعا والأقل تكلفة كيف ؟ فانظر إلي هذا الشخص إذا أراد أن يقود سيارته في القاهرة كما يفعل الناس في جنيف أو لوزان في سويسرا مثلا‏،‏ فماذا يحدث له ؟

    إذا وقف عند الإشارة الحمراء ـ ومن باب أولي الإشارة الصفراء ـ‏(‏ هذا إذا كانت الإشارات تعمل ـ فإنه لن يفلت من لعنات السائقين من ورائه أو من حوله‏،‏ وبطبيعة الأحوال فإنه لن يستطيع أن يسير في حارة واحدة في الطريق‏،‏ ليس فقط لتداخل السيارات الأخري‏،‏ وإنما لأن الخطوط البيضاء علي أرض الشارع متقاطعة تظهر أحيانا وتختفي أحيانا أخري وعندما تعاود الكلام فلا صلة لها بما سبق‏.‏ أما إذا كان موظفا أو موظفة ويرغب أو ترغب في الوقوف أمام طابور الانتظار قبل ركوب الأتوبيس‏،‏ فإنه‏،‏ أو هي‏،‏ لن يجدا طابورا أصلا‏،‏

    وإذا احتل عقله أو عقلها وقررا الوقوف في الطابور وركوب الأتوبيس من الباب الذي كتب عليه ركوب

    فأغلب الظن أنهما سيقضيان بقية حياتهما واقفين علي المحطة‏.‏ وبالمثل‏.‏ فإذا أغلقت المذياع أو التليفزيون أو خفضت من صوته رعاية للجيران فإن هذا لن يمنع جيرانك من فتح التليفزيون بأعلي صوت بعد منتصب الليل‏،‏ وإذا رفضت أن تلقي قاذوراتك من الشباك الخلفي أو أن تتركها أمام الباب لنهب القطط فإن هذا هو بالضبط ما يفعله جارك في الشقة المقابلة أو في الدور العلوي‏.‏ وهكذا فإنه يبدو أنه من قبيل الحصافة ومن مظاهر السلوك الرشيد ألا يقلق الشخص باله بما يقال عن نظافة الطريق أو راحة الجيران‏،‏ فلن يناله من وراء ذلك إلا وجع الدماغ وارتفاع ضغط الدم إن لم يكن فتح باب السخرية والتريقة عليه من كل جانب وصوب‏.‏

    والأمر علي عكس هذا تماما في الدول الأكثر تقدما‏.‏ فاحترامك لنظافة الطريق أو المنزل ستجعلك أول المستفيدين من هذه النظافة‏،‏ وقل ذلك بالنسبة لاحترام قواعد المرور وفضلا عن هذا وذلك فإن شرطي المرور يقف لك دائما بالمرصاد‏،‏ وهو ليس علي استعداد لتجاهل القانون مقابل خمسة جنيهات بل أن محاولة رشوته قد تنهي بك الي الحبس أو السجن‏.‏ ولذلك فإن الانضباط والالتزام ليس مجرد أخلاق حميدة‏،‏ ولكن هناك تكلفة من وراء مخالفتها ومنافع عند احترامها‏.‏

    وإذا كان اللامبالاة في أمور السلوك العادي ترجع إلي منطق من العقلانية والسلوك الرشيد‏،‏ فإن الموقف من المشاركة في الحياة السياسية لايختلف كثيرا عن ذلك‏،‏ فإذا أدرك المواطن أن مشاركته السياسية في الانتخابات أو الأحزاب أو غير ذلك من مظاهر العمل السياسي عمل لا فائدة من ورائه‏،‏ فإنه من المنطقي أن يتجاوز ذلك تماما ويسقطها من حسابه‏.‏ المشاركة السياسية تتطلب ان يقتنع الفرد أن هذه المشاركة مؤثرة فإذا صوت في الانتخاب لمرشح دون أخر فإن هناك احتمالا بنجاح هذا المرشح‏،‏

    وبحيث يتغير شكل الحكومة ونوع السياسات‏،‏ وبالتالي يصبح لصوته معني أما اذا كانت الأمور سائرة في طريقها المعتاد سواء استخدم حقه الانتخابي أو لم يستخدمه‏،‏ وسواء منح هذا الصوت لزيد أو عبيد‏.‏ فما الفائدة من وراء العملية ؟ لاشيء‏.‏

    وقد صور الكاتب الإنجليزي جورج أورويل شيئا من ذلك في رواية مزرعة الحيوانات فهو يقص في هذه الرواية قصة حيوانات في مزرعة‏،‏ وقد أدركت ما يقع عليها من ظلم واستغلال من صاحب المزرعة الذي يمتص جهودهم وعرقها لمصلحته الخاصة دون أي اهتمام بأحوالها‏،‏ ولذلك فقد قررت القيام بالثورة عليه ـ بقيادة الخنازير ـ وطرده من المزرعة وإدارتها لمصلحة جميع الحيوانات بعيدا عن الإنسان‏(‏ المستغل‏)،‏ وبالفعل قامت الثورة وطرد صاحب المزرعة‏،‏ وأصبح الأمر خالصا للحيوانات‏،‏

    ومع الثورة والعهد الجديد ظهرت كل أنماط السلوك المتصورة في مثل هذه الأحوال‏.‏ فظهرت الشعارات الجديدة واندفعت جموع الحيوانات وراءها‏،‏ وكان أهم شعار هو جميع الحيوانات متساوية وكان هناك كذلك أنصار الثورة الجديدة والمتحمسون لها ولكن كان هناك أيضا المنافق أيضا من الحيوانات التي وجدت في العهد الجديد فرصة لها للترقي والتقدم‏،‏ وإلي جانب أولئك وهؤلاء كان هناك بالطبع أنصار العهد القديم الذين يروجون للإشاعات ويتمنون فشل الثورة وعودة صاحب المزرعة وفي هذا التنوع الكبير من المواقف بين مؤيد ومعارض وبين انتهازي وثوري‏،‏ فقد ظل واحد من الحيوانات بعيدا عن كل هذه الهوجة‏،‏

    فلم يصفق مع المصفقين ولكنه لم يعارض أو يهاجم أيضا‏،‏ بل استمر علي نمط حياته العادية دون أية أحقاد وعندما يسأل لماذا هذه اللامبالاة أمام هذه الأحداث الجسام كان يقول‏:‏ لقد عشت أكثر من أغلبكم ورأيت الكثير‏،‏ ولا شئ يتغير‏.‏ فالجديد كالقديم والشعارات الجديدة تظل حبرا علي ورق أو طحنا بلا عجين‏،‏ ولذلك فلا أمل من حماس الثوريين الجدد كما لا فائدة من معارضة للمحتجين والمخالفين‏.‏ فالحكم الجديد كالحكم القديم‏،‏ ولا فرق بين حكم صاحب المزرعة ـ من الأدميين ـ أو حكم الحيوانات لأنفسها تحت قيادة الخنازير‏،‏ فالكل خنازير‏،‏ وتستمر القصة ويتضح أن حكم الحيوانات لأنفسها ليس أفضل من حكم الإنسان‏،

    ‏ وأن شعار المساواة فارغ من المضمون‏،‏ وبالفعل يتم تعديل الشعار مع نوع من ثورة التصحيح ويصبح الشعار الجديد جميع الحيوانات متساوية ولكن بعضها أكثر مساواة من الآخرين ويكتشف الجميع أنهم بددوا جهودهم وراء سراب وان العاقل الوحيد كان ذلك الذي أدرك الحقيقة منذ البداية‏.‏ ولم يبال بشيء‏.‏
    اللامبالاه ليست عملا عفويا ولا هي دائما تصرف أخرق‏،‏ وإنما هي‏،‏ في كثير من الأحوال‏،‏ حصيلة حكمة ووليدة تجربة طويلة‏،‏ وهي أحيانا لا تخلو من عبقرية‏،‏ والله أعلم‏.‏
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

يعمل...