شذرات من حوار مع ترجمان- موضوع من الموقع القديم

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • RaedHabash
    عضو رسمي
    • May 2006
    • 280

    شذرات من حوار مع ترجمان- موضوع من الموقع القديم

    عبد القادر الغنامي


    سويسرا
    المشاركات - 192
    نُشر في - 08/01/2004 : 18:41:49
    --------------------------------------------------------------------------------


    شذرات من حوار مع ترجمان






    إنجاز محمد طواع

    “L’homme est un poème que l'être

    a commencé" Heidegger


    السائل:

    كيف تفهمون العمل الذي تمارسونه بوصفه فعلا ترجميا، هل هو ممارسة ابستمولوجية للكتابة تفترض كمبدأ لها أن الكتابة نشاط خاص للمعرفة؟

    الترجمان:

    أفهم الممارسة التي أقوم بها، والتي تجعل مني مترجما أو ترجمانا كما تحب، بأنها فعل نقل لتجربة في التفكير من نظام لساني إلى نظام لساني آخر، أو قل من لغة مصدر إلى لغة تتحول بفعل الترجمة إلى لغة هدف، على اعتبار أن ما نروم ترجمته، أي نقله، يوجد خلف القول. وما يوجد في الخلف هو الذي يهاجر مع الفعل الترجمي.

    السائل:

    ولكن، أليس من الأليق أن نتحدث عن أعمال ترجمية عوض الحديث عن "الترجمة" بالمفرد؟

    الترجمان:

    نعم، غير أن ما تعتبره أعمالا متعددة للترجمة ومتنوعة، هي في النهاية تدخل تحت الخانة المطلق عليها لفظ "الترجمة".

    السائل:

    لكي يكون قصد سؤالي قريبا منكم، أقول ألا تلاحظون أن الاشتغال بالترجمة على نصوص مجتزأة يتم بشروط ومقتضيات أخرى ليست هي نفسها، لما يتعلق الأمر بنص متكامل كعمل واحد لمؤلف واحد؟ وأنتم، ولا شك، تتفقون معي على أن معاناة ترجمة النص المجتزأ، من حيث شروط اجتزائه عن النص-الأب، ومن حيث قصدية الاجتزاء التي قد تفترض في كثير من الأحيان فعل الإقصاء والبشر لكلمات أو حتى لجمل بكاملها، ليست هي نفسا ما نكابده لما نكون بصدد ترجمة العمل المتكامل، ناهيك لما يتعلق الأمر بما يسمى عادة بالترجمة العلمية أو بالترجمة التقنية أو بالترجمة الفورية أو ترجمة عقود الزواج أو عقود العمل والدبلومات. تعدد هذه الأنواع من العمل الترجمي يسمح بأن نقول إننا أمام ترجمات وليس أمام ممارسة ترجمية متمثالة مع ذاتها يختزلها اسم "الترجمة".

    الترجمان:

    إنك ياصاح، بهذه الإشارات تريد منا أن نخوض غمار فلسفة الترجمة أو إبستمولوجيتها لكي لا أقول سياستها أو استراتيجياتها. نعم، الترجمة ترجمات.

    السائل:

    اسمحوا لي، أن ننقل الحديث عن الترجمة بالوقوف على بعض الألفاظ التي يتكلم بها معجم المترجمين، وأخص بالذكر لفظ الخيانة: كيف تعيشون تجربتكم في مراوغة اللغة لكي تنفلتون من مسألة الخيانة هاته؟ وأريد منكم ألا تشيروا إلى الإيحاء الأخلاقي لهذا اللفظ، وإنما تفكرون معي في الخيانة كعلاقة تتواشج معها ارتباكات وتفاعلات متعددة بين المترجم وبين النص، وخاصة إذا كان هذا الأخير من صنف النصوص اليتيمة التي تفصلكم عنها مسافة فضاء الزمان والثقافة والعصر.

    الترجمان:

    مسألة الخيانة تهمس في أذن المترجم، على الدوام، بما يتعلق بمستوى التفاوض الذي يخوضه المترجم مع النص ولغته، من أجل أن يكون كل شيء "موزونا": الفهم، الكلمات، الصيغ التعبيرية… الخ، خاصة وأن الفعل الترجمي يتجاوز كونه مجرد فعل لغوي أو لسني فحسب، إلى كونه يتعلق بمسألة الخطاب الذي نريد نقله، ليتخذ نظاما لغويا مأوى له وملاذا لهجرته. خاصة وأن ما نريد تهجيره أي نقله ليس اللغة وإنما الفكر. وبالجملة مسألة الخيانة هي مسألة الأمانة.

    السائل:

    عجيب أمر هذا الفصل الذي تقيمونه بين اللغة والفكر. غير أن مرد ذلك يعود إلى كونكم تعتبرون مسألة الترجمة هي مجرد عبور تكون اللغة جسره. كما تكون هذه الأخيرة، ومعها الكلام والكتابة أشياء بؤرتها هي الذات، بحيث يكون الكلام مجرد سلوك والكتابة أشياء بؤرتها هي الذات، بحيث يكون الكلام مجرد سلوك مضاد للصمت أي أنه مجرد تلفظ والكتابة ممارسة تالية له أو ملحقة بفعل الكلام وصوت النفس المفكرة. أما اللغة، والحالة هذه، ستغدو الأداة التي يتم بواسطتها البيان والتحبير. وكما تلاحظون أن كلامنا معكم يقودنا إلى القول إن مسألة الترجمة تطرح معها مسألة اللغة والكلام والفكر بشكل متعالق. فكيف تعيشون تجربتكم في الترجمة من داخل هذا التعالق؟

    الترجمان:

    إلى حدود ما قلته الآن، إني أجد نفسي في بيتي وقدماي على أرض هذا البيت ثابتة.

    السائل:

    ما لاحظته إلى حدود الآن هو أنكم تتعاملون مع اللغة وقضايا الترجمة بكامل الشجاعة وكأن عالم الكلمات عالم بديهي وأن الذات هي سيدة البيت. غير أنه إذا سمحت لي بمناقشتك، عوض أن أسألك فقط، سأقول إن اعتبار الترجمة مجرد مسألة عبور لفكر من نظام لساني إلى آخر، واعتبار اللغة مجرد وسيلة لذلك، اعتبار مسكون بالأفلاطونية. ذلك أن هذه الأخيرة هي التي وضعت شروط اعتبار الفكر شيئا يعبر عنه بالصوت اللغوي ونظمه على شكل خطاب دال. إذ يغدو الخطاب، بموجب ذلك، مجرد تلفظ إخباري أو مجرد كلام خبري حملي. أكثر من هذا، إن فهم الخطاب بهذا المعنى يعتقد أن مسألة الفكر هي مسألة خطاب النفس الذي ينهض على نوع من الحوار، حوار صامت بين النفس وذاتها أو هو مونولوج صامت تأتي اللغة أولا والكتابة فيما بعد لتعبر عنه أو لتمنحه وجودا ماديا.

    الترجمان:

    إنك بهذا التوضيح الملغز، تجعلنا ننتقل من الحديث عن مسألة الترجمة إلى قضايا الفكر والخطاب واللغة، وهي كلها قضايا تثار عادة في مجال الفلسفة، وخاصة فلسفة اللغة. غير أن ما يحرجني هنا هو كونك تكشف لي أو، على الأقل، تريد أن تهمس في أذني أن أفلاطون ما زال يسكن علاقتنا باللغة وفهمنا للفكر، ومن ثمة مشكلتنا مع الترجمة.

    السائل:

    لقد قلت إن في كلامكم عن الترجمة وتعالقها بقضايا اللغة والفكر والكلام والكتابة حضورا لـ صدى الأفلاطونية الذي يتحكم ليس في قاموس المترجمين كما تكشف في كلامكم معي في هذا الحوار فقط، وإنما يتحكم أيضا في نظرتنا إلى الحقيقة والعلاقة بالموجود: عادة ما يختزل فعل الترجمة إلى فعل نقل أو عبور، إذ أنهم بذلك يعتبرون التلفظ، عبر مخارج أصوات الحروف بالاعتماد على الفم والشفتين واللسان ومجموع مكونات الجهاز الفيزيولوجي للنطق، خطابا أو كلاما ممتلئا بالفكر. إنه بهذا الاعتبار يصبح التلفظ أداة نقل لحوار النفس وصوتها وإشراقاتها التي ارتسمت فيها. ومن داخل الصدى نفسه، أي صدى الأفلاطونية، يمكن أن نشير لماذا ارتبطت مسألة الخيانة بمسألة الترجمة. ذلك لأن من يثيرها في بعدها الأخلاقي لهو يعتقد أن المترجم يجد نفسه على الدوام بين نص أصل، وهو "صوت النفس" الذي تخونه الكتابة مرتين: مرة لما يتحول إلى "خطاب" يرتبط باسم مؤلف، أما المرة الثانية للخيانة لما يتحول إلى خطاب مترجم. بهذا المعنى، ومن داخل الصدى نفسه، تكون الخيانة مضاعفة، قد تكون الترجمة الخائنة الأولى مع المؤلف هي صورة قريبة جدا إلى صوت النفس بوصفه أصلا، والترجمة الثانية، وهي التي نحن بصدد الحديث عنها وعن قضاياها، تكون خيانة من الدرجة الثانية؛ ومن ثمة فهي مجرد نسخة رديئة. من هنا يتعين أن نفهم لماذا يتحدث الدارسون عن "ترجمة رديئة" وأخرى تحريفية"… الخ. أما مرد الخيانة هنا فيعود إلى مفهوم الإنسان الذي تم نحته مع الأفلاطونية بوصفه الحيوان الناطق لغة ومنطقا، وهو الكائن صاحب القدرات الذهنية والسيكلوجية التي تمكنه من الكلام ومن التفكير. أما مشكل مسافة القرب أو البعد عن الأصل فهو بؤرة التفاوض بين الخيانة والأمانة.

    اسمحوا لي بعد هذا التوضيح، مرة أخرى، أن أسألكم، لو افترضنا أن كلام المتكلم شيء مهموس له به من طرف اللغة وليس من طرف صوت النفس.

    الترجمان:

    هنا يتعلق الأمر بمفهومكم للغة وللكلام. وهي المناسبة التي كنت أنتظرها طيلة هذا الحوار لكي أطلب منك أن نغير المواقع لكي أتحول أنا بدوري إلى سائل تكونت لديه، بمناسبة هذا الحوار حدوس، يتعين أن أبلورها في شكل أسئلة أوجهها إليك. أهما: ما اللغة؟ وبأي معنى أن لها سلطة على المتكلم؟ ومن ثمة كيف تفهمون عملية الترجمة؟

    السائل:

    أريد منك أن تفكر معي بصدد اللغة ليس في معناها المتداول اليومي، وإنما اللغة بوصفها مقطن الوجود ومأواه على حد قول المفكر مارتن هيدجر: اللغة باعتبارها كذلك يأتي معها نداء حقيقة الوجود صوب الإنسان من أجل أن يحقق انفتاحه على الموجود، ولكي يتكشف هذا الأخير أمامه مع الكلمات وقوتها في التسمية التي تخرج معها الموجودات من سديميتها.

    الترجمان:

    هاأنت قد فتحت مسارا آخر للتفكير في اللغة والترجمة، ولا يسعني أمامه إلا أن أتابع الإنصات مستفيدا من حقي في التناوب على موقع السؤال بوصفه الموقع الأكثر خطورة، إذ بدونه لا تنفتح دروب التفكير.

    السائل:

    أستسمحك بأن أحتمي بالفكر الذي افتتنت به إلى حد التورط، إنه الفكر الذي يتحدث عن اللغة باعتبارها لغة الوجود حيث كل شيء فيها يتكلم بدءا من الخدش والنقش وفن العمارة وصناعة القناديل إلى الأنهار وجريان الكواكب في السماء وسقايات الماء وحذاء فان جوج…الخ، كل هذه الأشياء كلمات تتكلم، ومن ثمة فهي لغة يأتي نداء الحقيقة صوبنا معها كالضياء يلمح ليشد انتباهنا فيخترق كياننا لنكابد فعل التفكير بوصفه إنصاتا إلى العالم من حيث هو إمبراطورية للكلمات تعني الكائن الفاني بامتياز وتضعه داخل المنفتح.

    مع هذا الفكر تصبح الحقيقة تكشفا متعدد الينابيع، تكشفا لا ندري منحدره، المهم هو أنه يخترقنا كاللمح محدثا فينا ارتعاشة تقتلع الذات من الداخل لتتهيأ لاستجابة من أجل ترك الحقيقة تتكلم في كلامنا. على هذا الأساس، اللغة تتكلم هي أيضا وليس الإنسان فقط.

    أمام هذا الفكر نجد أنفسنا أمام لسانين، لسان لغة الوجود ولسان المفكر المستجيب للنداء، والمترجم له على مستوى الفكر والكتابة. إن الترجمة القائمة على الإنصات هي التي جعلت، مع كل من بارمنيد وهيراقليط، الفكر يعيش تجربته الشعرية، أي يكون فكرا شعريا وليس فكرا يتقوم بمطالب قواعد نظرية النحو وآليات المنطق.

    التجربة مع هذا الفكر الذي احتمي به، تمكن من فهم الترجمة باعتبارها تأويلا وليست فقط مجرد نقل ولعب لسني بين لغتين.

    فالفكر بوصفه إنصاتا للغة الوجود هو تأويل أي ترجمة، الشيء الذي يجعل مفهوم الفكر يكون منضغما مع مفهوم الإنصات والتأويل والترجمة. هذا التعالق ينبغي أن نتساءل بصدده حتى وإن كنا بصدد ترجمة كلام مفكر كتب باللغة الأم. لأجل ذلك نقول إن أمر الترجمة يقوم على تأويل معين، هذا حتى وإن كنا داخل اللغة الواحدة. ومن ثمة تصبح الترجمة إنصاتا، مثلها مثل الفكر، إلى الكلمة في لغتها. يقول هيدجر: "ينبغي أن نترجم من أجل أن ننصت -ومن ثمة لكي نفهم- وأن ننصت لكي نترجم. هذا من دون أن ننشغل بأيهما يبدأ هو الأول هل الترجمة أم الإنصات"(1). وذلك لأننا أمام الشيء نفسه.

    الترجمان:

    هل الإنصات والترجمة سيرورتان متميزتان؟

    السائل:

    لقد قلت، الترجمة أو الإنصات أو التفكير أو التأويل، هي شيء واحد، ذلك أنه سيان أن نقول: الفكر أو الإنصات أو الترجمة، ذلك لأن منحدر المعنى سوف لا يستنفد، فكيف بنا أن نقول بإمكانية نقله من … إلى… صحون السقائين تنقل الماء من دون أن تنقل النبع أو أن تستنفذه، كذلك الشأن بالنسبة للمعنى فمنحدره ما يفتأ ينسحب ويتوارى، أما المعنى فيأتي صوبنا كالضياء يصعب المسك به وحصره، ومن ثمة فكيف تكون إمكانية نقله. لذلك فلا يسعنا أمامه سوى الإنصات إلى unsprung أي الأصل وهو "لا يظهر إلا من خلال" ما يتكشف ضياءا بلوريا. نحن لا نرى سوى إنسياب ماء الحنفية أو النهر ومعه يصلنا صدى النبع الذي منه يأتي الماء، أما النبع فمنه يأتي كل شيء وهو لا يأتي، إنه ما يفتأ يتكشف من دون أن يكون له ظهور مطلق.

    لكي أخرجك من هذا المتاهة، حيث شعرت، بأنك تهت معي وعيناك تبدوان جاحظتين، وفي التيه نوع من الإنصات، كيف يمكنكم أن تفكروا معي في أمر الترجمة أمام تجربة التفكير بوصفه إنصاتا إلى لغة الوجود؟ ألا ترى بأن الحديث قد انزاح بنا من الحديث عن مسألة الترجمة واللغة إلى الحديث عن الإنصات وعن مسألة الحقيقة وعلاقتها بمسألة الوجود؟

    أمام هذا التحول الذي حصل على درب التفكير في مسألة الترجمة هل يمكن أن نقول إن مقطن ما نترجمه هو فقط على مستوى العبارة أو الحكم؟ وهل انشغالات المترجم تنحصر فقط على مستوى الملفوظ ومطابقته مع ذاته؟

    الترجمان:

    إذا كان جوابي بالإيجاب سوف لا أشعر بأنني قد غادرت ارض الأفلاطونية التي نضجت تربتها مع أرسطو الذي تم تحديد الحقيقة معه بوصفها تطابقا، أو أنها صحة التصور المعبر عنه بالقول. صدى الأفلاطونية، كما أوضحت، نلفيه حاضرا حتى مع اللحظة الديكارتية التي اختزلت مقطن الحقيقة على مستوى ما تحدسه الذات أو مع كانط الذي رأى أن البحث عن الحقيقة والعلاقة بالموجود يتعين أن يكون على مستوى القاعدة المنطقية التي تؤسس قدرة الإنسان على التفكير بوصفها تمثلا تقوم به الفاهمة المولدة للموضوع ذهنيا كرؤية أو كتصور.

    السائل:

    أريد منك أن تفكر معي في مسألة الحقيقة ومسألة الفكر من حيث هو إنصات إليها بنفس الكيفية التي قربها لنا هيراقليط وبارمنيد بلفظ الأليثيا أو اللوجوس أو الفيسوس. يعني هذا أنه يتعين أن نفكر في أمر الحقيقة والفكر مع اللحظة التي لم يكن قد انقلب فيها الفكر بعد إلى فلسفة أو إلى ميتافيزيقا تقيم مسائل اللغة والقول والكلام على أساس ما تمليه قواعد النحو وآليات المنطق ليغدو "صدق الملفوظ" هو في مدى تطابق موضوعه مع هذه القواعد وتلك الآليات التقنية الحسابية.

    إن لغة الوجود هي "الفضاء" أين يقيم المتكلم، إنها تخترقه وتحضنه لكي يتمكن من استجماع رؤيته للأشياء متكشفة كموجودات مجاورة له، ذات معنى بالنسبة ‘ليه، يسمع أصواتها ويرى ألوانها، ومن ثمة يتمكن من الكلام.

    أمام هذه اللغة التي تجعل مني كائنا يمحي كحيوان ناطق ليستيقظ ككائن فان يعيش موته أمام لغة الوجود من أجل أن يتكلم ويغدو قصيدة(2)، فكيف يمكنني أن أتخذ من هذا الذي يحضنني ويسكنني ويجعلني منغرسا في أحضان تربة الوجود، أن أحوله إلى موضوع قابل للحد والحصر والدراسة التي تريد أن تتشبه بالعلم الناهض على النزعة الموضوعية؟ أو بصيغة أخرى في السؤال، أقول، كيف يمكنني أن أتخذ من هذا الذي تتحقق معه وبه تجربتي في الكلام، موضوعا أسيطر عليه وأمارس عليه إرادة قوتي التي يمنحها إياي تكويني العلمي-التقني متمثلا في إلمامي بمناهج علوم اللسان أو بمقتضيات المنطق وفلسفات اللغة أو حتى بقواعد نظرية التوليد الدلالي البنائية وفرضياتها؟

    يقودنا هذا الحديث عن اللغة بوصفها لغة الوجود، ويوصفها التربة التي ينغرس فيها المتكلم -لكي لا أقول المترجم- إلى اعتبار لسان الإنسان لسانين، لسان لغة الوجود ولسان المتكلم. غير أن اللسان الثاني ليس باللسان إلا في تعالقه بنداء اللسان الأول والإنصات له من أجل أن يتخذ كلامه صفة الكلام على الحقيقة، ويرتفع عن كونه مجرد هذر أو لغو، وذلك لأن اللغو هو أدنى درجات الكلام. أو نقول، إنه استنادا إلى فكر الوجود، يجد الإنسان نفسه غير متكلم بالفعل إلا بالقدر الذي يكون "كلامه مهموسا له"، وأن ما يتلفظ به هو "فعل ترك" لكلام اللغة لكي يقال. أو قل إن الكلام هو فعل ترجمي، ولا يسعه هو والفكر إلا أن يكون سوى ترجمة. ومن ثمة فكل ترجمة هي ترجمة لترجمة أو هي ترجمة من الدرجة الثانية. من هنا تتشابك العلاقة وتتواشج بين علاقة الإنسان وكلامه وبين اللغة في معناها الأنطولوجي أي باعتبارها مأوى الوجود.

    هكذا تلاحظ، يا صاح، أنه لكي يكون كلامنا كلاما، لا بد له من الإنصات إلى نداء لغة الوجود، وأن هذه الأخيرة لا تقتصر على اللغة الطبيعية وحدها. غير أنها لكي تهمس كلامها لا بد هي في حاجة إلى الكلام الإنساني. ومن ثمة فهي لكي تتكلم لا بد لها من أن تخترق جسدنا ككل وتجعله يرتعش ويكابد هذا الاستدعاء أو هذا النداء من أجل تركه يقال أي يترجم كلاما أو كتابة ويتأرخ في الزمان. ولكي أكتفي بالإشارة فقط، أقول إن تجربة الإنصات هذه نلمسها مع المفكرين الشعراء كبارمنيد وهيراقليط أو في شعرية الأسطورة وكذا مع تجربة الشعراء كهولدرلين وتراكل أو مع تجربة الفن مع فان جوج مثلا. أما من أفلاطون إلى هيجل ومرورا بجميع أسماء الفلاسفة الذين تم التأريخ لهم ولأعمالهم بوصفهم فلاسفة فهم فكروا على النهج الأفلاطوني ومن ثمة فهم ميتافيزيقيون كان هاجسهم هو منطق المعنى والبحث عن الحقيقة على أساس المنطق وقضاياه… وبالجملة مرة أخرى أقول: شتان بين ما تسميه كلمة épos وكلمة logos بالنسبة لليونان.

    يقودنا هذا إلى القول إن فكر الوجود يرى أن الإنسان لا يأخذ خاصيته الإنسانية-الكلامية من المنطق، وإنما من تجربة الإنصات الذي يمكنه من الانفتاح من أجل التعالق مع لغة الوجود التي هي "البيت" الذي نقطنه بوصفه النسيج الدلالي أو قل السيميلوجي الذي يحيط بنا، يحتوينا في مختلف دقائق حياتنا ويمكننا من الكلام. كل شيء في هذه اللغة، أشياء الأرض وأشياء السماء، أشياء المقدس وما يصنعه الإنسان من خدش ونقش وعمارة وفن… الخ، كل هذه الأشياء كلمات تتكلم، فهي إذن لغة، وعليها يتعين أن نفهم كلام الإنسان ولغته.

    اللغة بهذا المعنى ليست هي نفسها التي يتحدث عنها اللساني أو عالم الدلالة أو الأثنولوجي أو حتى فيلسوف اللغة. لغة الوجود هي أفق كله كلام، كل شيء فيه يكشف عما هو أساسي، عما يعني الإنسان بوصفه الكائن الغائي بامتياز لأنه الوحيد الذي يعيش موته وامحاءه أمام هذه اللغة من أجل أن يتكلم. لذلك كان الكلام هو أخطر قنية وهبت للإنسان، لأن به ينغرس الإنسان في هذا الأفق -التربة الأنطلوجية التي تعتبر مقطنا لحقيقة الوجود ومأوى ندائه الذي ينادينا باللمح لكي يحقق كلامنا استعارته وكنايته وبلاغته، ويتحول الإنسان بموجب ذلك إلى قصيدة أو إلى Le Monstre.

    بهذا الانغراس في هذه التربة والارتواء من ينابيع الضياء يحقق الإنسان حريته بامحائه أمام النداء فيتقرر مصيره ليس باتجاهه نحو تنقيح حيوانيته العاقلة، وإنما بوصفه قصيدة كل شيء يبدو معه شعرا، ومن ثمة تغدو الإقامة شعرية، وينزلق عالم الميتافيزيقا في العدم.

    ننقاد مع هذا الفكر إلى مجاوزة ذلك التحديد الذي يختزل اللغة إلى مجرد نظام من العلامات، ينحل في النهاية، بفضل التمفصل المزدوج، إلى وحدة صوتية تنطق وتسمع فتسمى دالا، وإلى وحدة مفهومية يتم إدراكها معنى فتسمى مدلولا. كما ننقاد مع الفكر ذاته إلى مجاوزة ذلك التعامل الذي يختزل الكلمة إلى مجرد دليل، يمكن أن يتخذ كموضوع قابل للحد والدراسة بشكل علمي -موضوعي. مع الكلمة يتكشف الموجود، ويلقى بنا داخل المنفتح لتغذو الإرادة في مأزق، إذ لم يعد أمامنا سوى الاتباع لشيء يتمنع عن الحصر أو المسك به.

    مجاوزة هذا التناول للغة المحكوم بظلال الأفلاطونية، هو ما يمكننا من مجاوزة مفهوم الترجمة الذي يختزلها إلى مجرد نقل للفكرة من الرأس إلى رأس آخر، أو نقل "لمضامين فكرية" مدركة، من نظام لغوي إلى نظام لغوي آخر. وهو "النقل" الذي يكفي فيه تعلم تقنيات الفعل الترجمي وفنيته المهارية، كما يكفي فيه إتقان قواعد نظرية النحو وبناء العبارة. وبتكثيف شديد أقول هنا أيضا: شتان بين من يعتبر الحقيقة هي منحدر الكلام وبين من يعتبرها غايته.

    مع فكر الوجود، الإنسان كله استعارة وكناية بله قصيدة، ومن ثمة فهو في صميمه مترجم فيما هو يفكر أي ينصت ويتكلم ويكتب. وكل هذا يعود إلى هذا الذي يشكل أفق الإنفتاح على الموجود ويمنح إمكانية الكلام ويهبه، ولأجل ذلك يمحي الإنسان ويعيش موته الرمزي، ومن ثمة فهو الكائن الفاني المحدود بامتياز يؤثت إقامته بشكل شعري. إنه le monstre.

    إن من يختزل فعل الكلام إلى مجرد تلفظ يعبر عن صوت النفس ex-pression واللغة مجرد نظام من العلامات، والمتكلم هو ذاك الحيوان الناطق المعتد بقدراته المنطقية وبنيته الذهنية المقولية ذات البناء المنطقي، لهو يعمل على قطع جذور الإنسان من التربة-الأم أو من بيت الإقامة الأصل ذلك الذي يهبنا القدرة على الكلام في أبلغ صوره، ويجعل منا قصيدة القصائد بامتياز كل شيء فيها إيحاء ورسم لصور. أو ليس هذا هو ما جعل هولدرلين يورطنا في السؤال: كيف يمكنك أن تعيش كشاعر في وطنك؟ وكأنه بهذا السؤال يريد من عالم الميتافيزيقا أن يعدم صرحه.

    أما أنت يا صاحبي الترجمان، فاسمح لي بأن أطرح عليك، قبل أن أختم، السؤال الآتي، لكن ليس من أجل أن ترد عليه وتقدم الجواب، وإنما من أجل أن تكابد مطلوبه وتعانيه في كل مرة تقدم فيها على فعل ترجمي، كما تحب أنت أن تقول: أمام فهم اللغة بالمعنى الذي حاولنا الاقتراب منه مع فكر الوجود، كيف يمكن للترجمان أن يتخذ من "شيء" يمثل أفق انفتاحي على الموجود، يمنحني قدرتي على الكلام(3)، يجعل مني الكائن الفاني بامتياز فوق الأرض، يجعل مني قصيدة القصائد؛ موضوعا ينظر إليه وفيه من الخارج من أجل ترجمته بشكل تقني تحول معه اللغة إلى مجرد أداة تبليغ رسالة أو أداة لنقل معلومة؟ أو لنفكر في الترجمة من داخل تجربة الإمحاء أما هذا الذي ينسحب باستمرار ولا يقول انسحابه إلا من خلال آثار trace/traces يحيل على غيابه وتواريه. هنا تكمن تجربة le monstre(4) في التفكير من حيث هو مكابد وقلق من شدة سر هذا الانجذاب الذي يفتننا ويشغلنا باستمرار، ولا يسعنا معه سوى الإنصات كملاحقة لا نهائية للأثر الذي من خلاله il nous fait signe(5). وكأننا قد أصبنا بمس وألم بنا مرض التسآل بصدد هذا الذي يمكنني من الكلام ويسكن كياني ومفاصل جسدي بصوته الصامت الذي يتكشف في كلامي. هذا الذي أخاطر بالحديث عنه قد أصبح منسيا مع الميتافيزيقا بوصفها تاريخ خنق الكلمة وتدجين لـle monstre، وحماية رصانة الذات لكي لا تنشغل بهذا الذي ينادي من أجل الاستجابة والإنصات، أي بهذا الذي تقربنا منه لغة اليونان من خلال كلمتي الفيسوس أو الأليثيا. لذلك نقول مع هيدجر إن الإنسان لا يحقق إنسانيته إلا في انجذابه صوب هذا الذي يتوارى عن الحس السليم أو عن المنطق.

    لنفكر إذن في الترجمة من "خارج" التجربة الفكرية التي تختنق معها اللغة من خلال ضبط الكلمة وحصر العبارة بشكل حسابي داخل مشجرات وجداول كل شيء فيها محسوب ومتمكن منه إحصائيا. أو لم تلاحظ معي أن الشعر نفسه، مع الميتافيزيقا، تحول إلى مجرد حساب كلمات، واللوحة الفنية إلى مجرد بضاعة تقوم بسعر في السوق الذي تعرض فيه التحف القديمة للبيع.

    أختم في النهاية بما يلي: كيف يمكن أن تترجم الكلمة ليس من حيث هي أداة من أدوات البيان كما يفهم الجاحظ كلمة البيان، وإنما باعتبار قدرتها على إقامة علاقة ما بالشيء لتمنحه إمكانية ظهوره وحضوره؟

    وأستسمحكم في الأخير إن كنت قد خنت أدب الحوار كما كنتم تريدونه أن يكون في بعض الأحيان…


    المراجع:


    1 - Heidegger (M), qu'appelle -t-on penser?; (PUF), 1992, p.3.

    2 - Heidegger (M), l'expérience de la pensée, in questions III, nrf, Gallimard, 1966, p.21.

    3 - Heidegger (M), Acheminement vers la parole, tel Gallimard, 1976, p.126.

    4 - Heidegger (M), qu'appelle-t-on penser?, (PUF), 1992, p.28.

    5 - Heidegger (M), Acheminement vers la parole, tel Gallimard, 1976, p.130/



    المصدر: http://www.fikrwanakd.aljabriabed.com/n10_09tawaa.htm

    مهندس/ رائد حبش
    mobile: 0021374323046 Algeria
يعمل...