طوق هيلانة لنبيل الأظن
مسرحية للمركز الثقافي بدمشق-2002-
دراسة نقدية
إعداد ودراسة: محمد زعل السلوم
· لماذا مسرحية " طوق هيلانة " ملحمية ؟
طرحت هذه المسرحية علاقة الإنسان بالعالم,بالأشياء,بالحياة برمتها ,ومدى تعلقه بها حيث هيلانة التي تبحث عن حبات اللؤلؤ الضائعة لتكتشفها حبة حبة من خلال لقائها لكل شخصية تشكل أو تعبر عن حبة لؤلؤ ضائعة في طوقها ,كما أنها تعرض الواقع كما هو من دمار و إعادة اعمار و عزلة. كذلك فان الحكاية بالنهاية تبدو سيرة للشخصية كما تعتمد شكل التقطيع إلى لوحات ,وكل لوحة تشكل موقف,أو نموذج ما ضمن الامتداد الزمني,والامتداد الزمني يسمح بتبيان التحول لدى الشخصية عندما رفضت هيلانة شراء طوق جديد كطوقها السابق أو حتى طوقها الضائع ذاته ,والذي وجدته أخيرا فهو لم يعد يناسبها.
كذلك لا توجد بنية تصاعدية فالعقدة فيها تغيب ,ولا توجد ذروة للحدث ,كما أن الصراع فيها لا يطرح كصراع معلن ,ومباشر بين الإنسان والإنسان,أو الإنسان والعالم,إنما يقوم المتفرج باستنتاجه استنتاجا, وكذلك استبدل المخرج الصراع بمبدأ التناقض بين السلوك والكلام , والتناقض بالتصرفات لما حدث مع هيلانة التي قالت للأب الفلسطيني إن طوقها هذا يذكرها بحبيبها الذي مات بمأساوية بين ذراعيها ثم ذكرت أنها تكيف كلامها كما تريد لتبرره حسب الظرف ,وكذلك الأم الثكلى أو المرأة ثم تقول لها انسي ما حدث ولا تصدقيه...
وبالتالي فان المخرج نبيل الأظن يغيّب المأساوية بمحاولة فهم ومعالجة الظرف الموضوعي الذي يؤدي لهما لأنه يعتبر أن الإنسان لا يتصارع مع القوى الغيبية,وإنما يتفاعل مع الظرف الذي يوجد فيه كما هيلانة مع كل شخصية ونموذج تلتقيه وكذلك الخاتمة ليست كاملة ومغلقة وإنما مفتوحة ,وللمتفرج تصور تتمة الحدث بعد انتهاء المسرحية حين قالت هيلانة : " لم نعد نستطيع العيش هكذا " ليبقى التساؤل كيف سيكون شكل هذا الرفض بإعادة الاعمار واللحمة الوطنية أم بالثورة...؟ّ!
أما الخشبة فكانت فارغة يغيب عنها الديكور التقليدي ,وهكذا استخدم المخرج نبيل الأظن,والسينوغراف أخذ شكل القضبان وعرض الصور والعرض السينمائي ليعلن عن المكان ومجريات الحدث وكذلك فان الشخصيات ضمن فراغ المكان تصبح علامة تدل على الزمان والمكان مثلها مثل أي غرض من أغراض العرض . وكذلك لا يوجد جدار رابع والستارة ملغية والإضاءة ثابتة,يرى المتفرج مصدرها كما جعل الخشبة تعلن أنها خشبة مسرح من خلال عناصر تبرز المسرحة "كعرض الصور والإيماء..."
كما تحولت الخشبة إلى منبر للمحاكمة والنقد "من شكل القضبان والدخول عبرها تبرز وكأنك بمحكمة وضمن قفص الاتهام " وكذلك فان عمل المتفرج يبدأ حين ينتهي العرض, وبالتالي فان المخرج نبيل الأظن أجاد أسلوب بريخت تماما كما هو...
وهنا يجب أن أذكر خصائص وسمات المسرح الملحمي والتي تنطبق هنا على مسرحية "طوق هيلانة" وهي :
1-يعرض العالم كما يصير أو يتحول ( لبنان نموذج مصغر عن العالم العربي والعالم أجمع حيث انفرط عقده لفترة طويلة من الزمن امتدت لحوالي 17 عامل من الحرب الأهلية).
2- الإنسان فيه متغير و قيد التحول ( كشخصية هيلانة التي بحثت طويلا عن الطوق ثم لترفضه بالنهاية ,وكذلك رئيس العمال الذي هدم منزل أولاده ثم أعاد اعماره لجمع أولاده تحت سقف واحد ,وأيضا المرأة التي فقدت ابنها والآن هي بانتظار جيل جديد وأملها مستمر,والأب الذي فقد الكثير من حياته ,ويأمل بحياة كريمة لأولاده ,وسائق التاكسي الذي بات الخيط الذي يجمع حبات اللؤلؤ.).
3-الإنسان فيه موضع بحث (حيث تبحث هيلانة بالإنسان والمكان أكثر من أي شئ آخر وماذا أثرت فيه تلك الحرب الفظيعة لأنه هو وحده من سيعيد بناء وطنه وإعادة وحدته ورص صفوفه).
4-الإنسان يتحكم بالفكر:مثل هيلانة التي أقنعتنا وأعملت تفكيرنا.
5-يعاد تركيب الحدث الماضي من خلال الرواية السردية:كهيلانة والأم الثكلى.
6- مجرى الأحداث يتم فيه على شكل تركيب واعتقد هنا أنه رسم خطا ملتويا حيث يجسد سائق التاكسي الخيط الذي يلتف حول عنق هيلانة ليجمع الحبات المنفرطة.
7- المشهد فيه مستقل بذاته :كمشهد الآثار والبائع غير المشروع والأب رجل المخيمات والمرأة الثكلى ورئيس العمال.
8- الاهتمام ينصب على مجرى الأحداث : حيث البحث في جمع هذه اللوحات والنماذج وما هو طوق هيلانة وإلام السبيل..؟!
9- المسرح يؤثر من خلال الحجج,وأيضا استطيع أن أضيف الإيماء حيث أمسك "تيسير إدريس" بالكاميرا ورفعها وكأنه يرفع هيلانة...
10- يتوجه إلى العقل ويستخرج منه أحكاما.
11- يستحث النشاط الذهني للمتفرج ويجعل منه مراقبا ناقدا .
12- المتفرج خارج الحدث.
* ما هي قصة وأحداث مسرحية" طوق هيلانة " ؟
لا أعلم كيف يجب أن أبدأ الحديث عن مسرحية ملحمية رائعة مثل "طوق هيلانة" ,والتي إن حاولت البحث عن اسم آخر لها بعناوين رنانة ومعبرة فلن أجد أفضل من عنوانها"طوق هيلانة" ,وهو عقد اللؤلؤ المفقود ذو الحبات الكبيرة ,والذي يحمل ذكريات جميلة وتعيسة بذات الوقت لهيلانة تلك الذكريات التي بدأت تفقدها اثر اكتشافها شيئا فشيئا هول الحرب الطائفية ونتائجها الفظيعة,ومع ذلك تستمر بالبحث عن هذا الأمل المفقود وهو الطوق العزيز والغالي كثيرا عليها رغم أنه بخس ورخيص فهو مصنوع من البلاستيك,ليرافقها سائق التاكسي في رحلتها الرهيبة بحثا عن مفقودها,لتذهب أولا حيث الاعمار والبناء علها تجد بين الأنقاض والحفر طوقها وبتلك الموسيقى التسجيلية المرافقة والمرعبة وعلى شاشة السينما بعمق الخشبة لتبدو إحدى الآليات ,وهي ترفع الحجارة ,وكأنها وحش يلتهم كل شئ كشبح الحرب الرهيبة التي ولتبقى آثارها ولتلقي بظلالها مبتلعة الأرض والحجر, ومن وسط الركام وعلى مسطحات الاسمنت تلتقي هيلانة برئيس العمال "فادي إبراهيم" الذي تقدم نحوها مستغربا بحثها ,وهي تسأله عن الطوق ليحدثها عن بيته الذي دمرته الحرب والقنابل وكيف فقد بيته وهو يعمل الآن على بناء بيت جديد لأولاده لجمعهم فيه ساخرا من فقدها لطوق ,ثم أرشدها إلى صائغ من أقاربه ,ليفاجأ بأن طوقها الذي تبحث عنه إنما هو بلاستيكي غير ذي قيمة, ولكنه يحمل ذكريات جميلة ,مستغربا إصرارها العجيب للبحث عنه في الوقت الذي ضاع فيه وطن بأكمله,فمزقته الحروب في حين يتمتع وطن هيلانة بالتماسك وبالأجزاء المتماسكة وهو دافع كافي للطمأنينة ,وعدم التشتت أو الضياع أو حتى الشعور بالفقدان لأن فيه ما يعوض عن الخوف والهلع ,بالدفء والهدوء,وبعد ذلك يعود سائق التاكسي لتحدثه عن حزنها الشديد وامتعاضها وهي تائهة وضائعة وسط ازدحام المدينة والشوارع بالناس والسيارات وفوضى التي تعم الطرقات لتعبر عن امتعاضها فجأة حين فتحت نافذة السيارة كما تقول لتهاجم رجل عجوز يبيع الصحف قائلة لم تنظر إلي هكذا؟ ثم تحدثنا عن توجهها لأماكن أخرى بذات المدينة فنرى على شاشة السينما مناظر أخرى لبيروت وهي مدمرة,ثم تحدثنا هيلانة عن دخولها حارات ضيقة لترى الصور والملصقات و عمائم وأشياء أخرى تعبر عن طقوس شرقية, بل المشرق العربي بالتحديد ,وتلك الحارات الضيقة والبيوت المتعانقة لتحمل طابعا حميميا ,فالناس تعرف بعضها البعض جيدا ,وروائح القهوة والبخور والمقاهي والنراجيل ,وصولا إلى بيت فسيح دخلته هيلانة وفيه باحة ثم تجولت حتى وجدت امرأة ,لتسألها تلك المرأة عن كرة حمراء لابنها الصغير,فتؤكد هيلانة بأنها لم تر الكرة وأنها تبحث عن طوقها الضائع,فتأخذها المرأة بيدها "كما عبرت" لتبحث معها ,فالاثنتان تبحثان عن شئ مفقود لكليهما, هيلانة تبحث عن طوقها والمرأة تبحث عن كرة ابنها الحمراء,ولتعيد إلينا هيلانة مشاهد الحارات المشرقية الجميلة مجددا فتصفها وتعبر عنها وعن الورود على شرفات المنازل وكيف كلمت المرأة رجلان أمام مقهى ونرجيلتهما وهما ينظران إلى هيلانة ,لتسحبها من يدها مجددا, وباليمين والشمال "هيلانة هائمة على وجهها وضائعة كما تعبر عن ذلك ببراعة " .
ثم وصلتا إلى مبنى من أربع طبقات "ليظهر المشهد أو ليدخل المشهد السينمائي مجددا ويشارك بالعرض" فنرى أدراج وصعود هذه الأدراج في مبنى يبدو مهجورا كما تصفه هيلانة ولكن بالطابق الثاني تسمع صراخ المرأة على ابنها أو زوجها ...,وهكذا وصولا إلى السطح ,وفجأة يقفن على الحافة"حسب المنظر السينمائي" ,وينظرن إلى المكان من أعلى فتبتعد هيلانة إلى عمق الخشبة خوفا من حافة المبنى بحركة رشيقة لتغير فجأة إلى البطء بالحركة ,ولتتحدث المرأة عن كرة ابنها بأنها كانت ذات يوم اثنين تطبخ الفاصوليا وفيما ولدها ذاهب إلى اللعب مع أصدقائه وهو طفل ومعه كرته الحمراء ,ولكنه عاد إليها قتيلا ,والدم يغطي وجهه,فرفضت أن يكون هذا ابنها ,وان كان يلبس ذات الثياب,ولم تصدق أنه قتل لتتدحرج كرته الحمراء ,وهي تخرج كل اثنين تبحث عنها ,ثم لترى شابا عمره 17 عاما "عمر الحرب الأهلية في لبنان" ومعه كرة حمراء قد يكون ابنها !..,فتحاول إخفاء تجاعيدها ليتعرف عليها,وتناديه بصوتها العالي ,ولكنه لا يلتفت إليها كما تعبر عن ذلك "بشكل متميز وجميل" فيال هول ومصيبة تلك الأم الثكلى والرؤوم "وبأسلوب شاعري ومؤثر وبالغ التعبير" ,فيما تحاول هيلانة التخفيف عنها ,لتعود شاشة السينما وتشارك بالعرض حيث تتدحرج الكرة الحمراء من أعلى الأدراج في البناية إلى أن تخرج من مدخلها وتنضم إلى كومة النفايات لتستقر بين مخلفات الحرب ,ثم تترك المرأة هيلانة وحيدة ليعود سائق التاكسي الذي يؤكد لها أنه لم يكن بعيدا عنها بعد أن شعرت هيلانة بأنها فقدته أيضا, مؤكدا لها أنه كان قريبا منها فهي قطعت مسافة قصيرة من أحياء المدينة ,ثم تطلب هيلانة من سائق التاكسي التوجه بها نحو البحر لمشاهدة أحد الأماكن "يظهر على الشاشة السينمائية مخيم للاجئين" ,فتدخل المخيم بتلك المدينة ,وهنا تسأل رجلا "تيسير إدريس" ,فتدعي أنها تعرفه ,وأنه باعها طوقا فهي دخلت هذا المكان قبلا ,فيؤكد لها أنه لا يعرفها وأنه هو نفسه مفقود وفاقد لوطنه,كما أنه مهمش اقتصاديا واجتماعيا وحتى سياسيا فهو لا يستطيع مساعدة أولاده الذين لا يعملون ,حتى وأنه غير قادر على التعبير لأنه فقد صوته ,وهو عبارة عن هامش ليطلب منها الصراخ عنه ,معلما إياها عبارة ترفض هذا الواقع, وهو واقع الحرب الأهلية ,ونتائجها المدمرة على بنية المجتمع وهي:
"on ne peut plus vivre comme ca"
أي "لم نعد نستطيع العيش هكذا" ويحاول تحريكها وحملها على رفع صوتها أكثر وأكثر لأن صوتها يسمع فهي من بلد يهطل فيه الثلج بكثافة ,وتعيش فيه بسلام وكرامة,إنها من عالم الشمال .
بعد ذلك تخرج مجددا مع سائق التاكسي لتبتعد عن حدود مخيم اللاجئين,لتسأل السائق عن اسمه فيقول انه يدعى نبيل رغم أنه لا يفهم لغتها تماما وهي كذلك,فإنها تعبر له عن خلجاتها وكأنه منجيها, ولكن السائق لا يهتم إلا بالتاكسي رغم اهتمامه بحالها ,وهي تبحث عن طوقها طالبة إيصالها للبحر حيث الاتساع والحرية المطلقة, وهناك تمر بآثار تعبر عن حضارة هذا البلد العظيمة , فترى هيلانة
أعمدة لا زالت كاملة وأخرى مكسورة ومجموعة من فوضى عارمة للآثار ,ولكنها عظيمة وشامخة "ترافقها مشاهد على شاشة
السينما",وتعبر هيلانة التي تسير داخلها- كما توحي لذلك-عن جمال هذه الآثار وتناثرها وتبعثرها وروعتها بذات الوقت معبرة عن الاستمرارية والخلود منذ الأزل.
ثم يظهر بائع متجول أو جوال "أدهم مرشد" وبحركات كوميدية مفتعلة يعرض عليها طوقا قديما كما يقول منذ القرن الثاني أو الرابع
قبل الميلاد,وقد وجده بالبحر وبمائة دولار فقط,وانه يناسب عنقها فتضعه على عنقها ,وهي سعيدة ولكنها ترفضه فجأة لأنها وجدته ثقيلا مليئا بالتعاسة "لبنان بعد حربه الأهلية"بينما الطوق الأساسي ملئ بالخفة والسعادة والحياة ويشعرها بالقوة "أي وطنها " لتعده
إليه وترفض شراءه رغم التخفيضات المغرية وصولا إلى 50 دولار,ثم تحاول أن تعبر عن خلجاتها لسائق التاكسي الذي لا يفهم لغتها ولكنه يبدو أنه يتفهم مشاعرها تماما من ضياع وفقدان ,وحتى الشعور بالوحدة لتعانقه "وكانت قد حدثته قبل ذلك أنها ليست هيلانة طروادة التي أشعلت حرب طروادة الشهيرة" ,وكأنها بعناقها تريد القول بأننا نريد العيش ضمن عالم واحد يعمه السلام والمحبة والتسامح والاحترام المتبادل لتختتم المسرحية بعبارة :
" on ne peut plus vivre comme ca "
وهي صرخة الألم والأمل الوحيدة في هذا العالم ...وكأنها رسولة سلام ..أو قديسة بتلك التعبيرية الرائعة والشاعرية الرقيقة وبذلك الأسلوب الرفيع والدقيق لمرور وعبور الشخصيات المتنوعة والمختلفة بل والمتناقضة فيما بينها ,فمن رئيس العمال الذي يعيد بناء منزله الذي دمرته القنابل إلى الأم الثكلى التي فقدت ابنها برصاص قناصة وهو الطفل البرئ الذي يحب الحياة واللعب مع أصدقائه مرورا بالأب العاجز والغير قادر على تأمين حياة كريمة لأولاده,ولا يستطيع التعبير عن ذلك, وصولا إلى البائع الجوال الذي يحاول بيع هيلانة عقدا جديدا ,وطوقا آخر ثم لتذهب مع سائق التاكسي ,وتكمل رحلتها إلى البحر ,وأمواجه حيث لا أهمية للأشياء أمام مسألة وجود الإنسان وحقوقه وعيشه بسلام وطمأنينة.
الديكور كان بسيطا وجميلا ومتناسقا ,حيث يوجد بعمق الخشبة شاشة سينما متوسطة ,وعلى اليمين شاشة طويلة تسمح للكاميرا الصغيرة بالتصوير عبرها لإعطاء عمق وحركة أكثر على الخشبة, وكذلك شاشة طويلة على اليسار للترجمة وهي ترجمة جيدة جدا,فضلا عن ذلك كله يوجد قضبان طويلة على الجانبين و كأنهما جدارين ليلتقيا بشاشة السينما بالعمق و كأنه فضاء متسع ليضيق بالعمق أو حتى سجن يحيط بالمدينة كمخيم اللاجئين أو يعبر هذا الديكور عن شبح الحرب التي مازالت آثارها وصولا إلى الهلع والرعب والأجواء الغرائبية التي تعبر عن قسوة الحرب ,وفظاعتها وبشاعتها بلغة إنسانية واحدة وبرمزية أكثر وضوحا وشفافية.
أما أدوات العرض فكما ذكرت عبارة عن شاشة سينمائية وشاشة أخرى لكاميرا متحركة بين وسط وعمق المسرح لتدفع الحركة البطيئة على الخشبة أصلا ولتعطيها دفعا قويا نحو الحركة باتجاه وهدف لتبدو المسرحية متماسكة الأجزاء والأحداث والمعطيات.
أيضا تبدو المسرحية أو العرض , وكأنه حلم بحد ذاته وهذا الحلم أو الكابوس قد بات حقيقة وواقع على الأرض بحيث لا يمكن الهروب منه إلا بالأمل والرفض والعمل على تغييره وهذا الكابوس يجب الاستيقاظ منه ذات يوم.
أيضا بقيت هيلانة بفضاء العرض أو بحيز اللعب طوال العرض لتحافظ على استمرارية الجو ولإقناع المتفرج بالضغط عليه ,والتأكيد على مأساوية الحدث ,وفعلا فقد أثرت على حيز الفرجة فكان أداءها مقنعا ومثيرا.
ما اعتقده هو أن مسرحها ملحميا من الدرجة الأولى وهي تذكرنا بمسرحية " الأم الشجاعة" لبريخت والتي فقدت ابناها بالحرب مع ذلك أصرت على استمرارها بالبيع والسير بعربتها ,فهيلانة تتوجه إلى الجمهور وتحدثهم وتعبر عن عالمها الخاص هي ذاتها,كما تعبر عن الدمار والخراب وأركان الموت والحياة اللذان خلفتهما الحرب.
كذلك الموسيقى المرافقة فقط لكل عرض سينمائي خير مقنع ومعبر مع أن الموسيقى في هذه المسرحية ليست حية لكنها ضرورية , كذلك الشاشة السينمائية التي استعملت 6أو7مرات عبرت عن تنقلات هيلانة والأماكن التي زارتها بالمدينة المدمرة تلك, ونوعية وفوضوية وتناقضات هذا الدمار وصولا إلى الآثار بمعنى استمرار الحضارة والمعالم المتبقية والمعبرة عن عمق تلك الحضارة وديمومتها واستمراريتها رغم كل تحطيم...أيضا تخلي هيلانة عن طوقها بالنهاية حين رفضت شراء طوق جديد كطوقها السابق فهو لا شيء أمام فقدان أم لطفلها لتتبنى بالنهاية قضية الإنسان وليس قضية الشيء, فيجب الالتفات الى البائسين والتفكير ببؤسهم وأسباب هذا البؤس والدفاع عنهم.
أيضا عبرت هيلانة عن الإنسانية الفظيعة فهي في بلد غريب عنها , وينهض من أنقاض الحروب الطاحنة التي عاشها لمدة طويلة مخلفة الدمار الإنساني ونتائج وخيمة نظرا لبشاعتها ,كذلك وجدت هيلانة لغة غير لغتها وحضارة غير حضارتها,فضلا عن طقوسها " حين ذكرت الله أكبر معبرة عن إنسان المساجد" ,وكذلك تقاليد المشرق العربي الجميلة والساحرة رغم كل المآسي واستمراريتها "المقاهي والنراجيل والحارات الضيقة والحميمية ", والعلاقات العائلية المتماسكة رغم الحروب الطائفية والنزاعات والتفكك الخطير ليلتحم الناس مجددا.
كان أداء هيلانة أغلب الوقت وسط الخشبة, ولكنها تنتقل نحو العمق إذا ما التقت أية شخصية فتغير حركتها لتتعايش مع الشخصية التي تصادفها ولتتبنى وجهة نظرها,أيضا الشخصيات التي التقتها هيلانة كانت عبارة عن نماذج وأبطال هذا العمل للتعبير عن ضحايا الحرب من خلال الأداء الرائع جدا لفادي إبراهيم بدور رئيس العمال ونبرته القوية والذي يزيح الأنقاض دوما حيث الأشياء المدمرة والذكريات التي عاشتها عائلات بأكملها مع أغراض منازلهم وبيوتهم المدمرة ليعودوا باحثين عن بقاياهم وأشلاءهم بذات المكان الذي يبنيه أي لبنان"وطنهم" ثم يقنعنا بدوره بأنه أب لأولاده يعمل على بناء منزل لهم يؤويهم بعد فقدهم لمنزلهم ولنقل لوطنهم الذي يعاد ترميمه والتركيز على موضوع الفقدان والضياع ولملمة الأجزاء المتبقية, والتي هي عبارة عن أنقاض وطن في حين موطن هيلانة ذو أجزاء متماسكة كما ذكرت سابقا , ثم دور "رندة أسمر"وهي المرأة أو الأم الثكلى بمعنى أدق ,لتعبر عن هول مصيبتها وكان أداؤها مقنعا ولتعبر أيضا عن الوطن الأم الذي فقد خيرة أبنائه وخيرة شبابه وأطفاله الذين كادوا أن يصبحوا شبابا يغيروا وطنهم للأفضل ذات يوم ,كما أن حركتها تناسب دورها تماما ,وإيقاعها مقنع ومعبر عن حال تلك الأم التي وصلت إلى الهاوية والجنون ثم لتتعافى وتتماثل للشفاء حين تركت هيلانة وقد أجادت بالتعبير عن التوتر والحزن الشديد واللا استقرار رغم مظهرها المعبر عن استقرار عاطفي وكيف هي جريحة من أعناقها ومسألة الانتظار تبدو هنا بولادة وطن جديد أو طفل جديد يكبر شابا ليعيد الأمل الذي تعيشه الأم ,وأن الكرة الحمراء باتت من مخلفات الحرب ليبدأ يوم جديد حين تترك هيلانة وتقول لها انسي كل ما قلته ولا تصدقيه ,وكأنها تخاطب الجمهور " وهو أسلوب المسرح الملحمي ".
أيضا " تيسير إدريس " وأداءه الجميل والرائع جدا كما أن إيقاعه الداخلي والخارجي يعبر عن أب فلسطيني عانى الأمرّين من نتائج الحرب وآثارها المدمرة والتي نتج عنها تهميش فظيع للاجئين, وحصار اقتصادي غير مسبوق عبر التاريخ فضلا عن شعور الدونية واللا مساواة بالحقوق والمواطنة اثر حرب غير عادلة ليطلق عبارته الثورية والبائسة بذات الوقت "لم نعد نستطيع العيش هكذا " فهو غير قادر على الاستمرار بذات الظروف وغير راض عنها وهو يرى أبناءه لا يأخذون فرصتهم بالحياة لخلق عالم أفضل وأكثر حرية ويشمل الجميع.
أيضا " أدهم مرشد " بدور الجوال أو البائع المتجول ويمكن أن أضيف السمسار أو سارق الآثار وبائعها فهو يتبجح ببيع لآثار بلاده أو يختلق آثار لبيعها بأبخس الأسعار, وبحفنة دولارات يبيع وطنه وتاريخه وتراثه وحضارته أجمع... وكان أداءه مقنعا تماما وجميلا بكوميدياته الظريفة فهو لا يفقه شيئا من تاريخ الأشياء التي يبيعها ولا يعرف قيمتها الحقيقية حتى ,مما يدفع هيلانة على رفض الطوق وتعيده اليه ليبقى مكانه وفي بلاده فتطرحه بوجهه, وقد أتقن " أدهم مرشد " دوره أيضا كباقي الممثلين.
أما سائق التاكسي فكان يجسد نموذجا آخر, ويناقض الآخرين جميعا فهو مرافق هيلانة والمتواجد معها مع كل فاصل و تنقل معها , فما يهمه أكثر من أي شيء هو التاكسي ,ولكنه بالنهاية يألف هيلانة ويعبر عن حبه لها رغم عدم الفهم المتبادل لكليهما, فهما يشتركان بالإنسانية والتآخي رغم العزلة البالغة الوضوح, فان هيلانة تكسر طوق العزلة أخيرا ,وتعلن فهمها لمعاناة الناس بهذا الوطن,نعم إنها فهمت أحاسيسه وحياته من خلال عناقها للسائق ,وأنه أكل همها " بالعامية" فضلا عن ملازمته لها طوال الرحلة وأينما ذهبت وتوجهت فهو منجيها ليحصل نوع من التآلف بينهما رغم وحشة الأمكنة التي زارتها والتي تلف أرجاء المدينة ,وكأني أرى بهيلانة " دون كيخوته دي لا مانتشا " وسائق التاكسي هو " بانشو" رفيق دون كيخوته بشكل أو بآخر, فهيلانة حالمة وكما يبدو أنها فارسة من زمن آخر , وتحارب طواحين الهواء فيما بانشو أو سائق التاكسي فهو ابن البلد وأعرف ببلده من هيلانة وكان أداؤه مقنعا وجميلا فقد تغير من بداية المسرحية إلى نهايتها .
هذه المسرحية تدخل بإطار المسرح الملحمي كما ذكرت بكل المعايير من ناحية الموضوع الذي طرحته وكذلك لا يوجد جدار رابع أو ستارة بالمسرحية فهما ملغيتان والمسرحية متواصلة دون تقسيم إلى فصول ,كذلك التوجه المباشر في مخاطبة الجمهور,عدا عن أدوات العرض حيث كانت اللغة أو النص هي أكثر الأدوات سينوغرافية وتعبيرا لتثير الخيال لدى المتفرج وتقنعه وكذلك عرض الصور عبر الكاميرا المتحركة زادت دور السينوغرافيا عمقا , وكانت أداة فاعلة بالعرض كتيسير إدريس حين فتح فاه على وسع شدقيه وانه لا يستطيع الصراخ لأن حريته مسلوبة فهو محاصر ضمن حدود المخيم الذي يقطنه ,وكذلك حين رفع هيلانة بقوة ,وبأسلوب رمزي أقنعنا كما هي أقنعتنا , كما أدهشانا بأدائهما بذات الوقت, أما الإضاءة فكانت ثابتة تماما فهي لا تعبر عن الليل ولا النهار بقدر ما ركزت على الممثل ورافقت حركته وأداءه فكان وقتها واحدا ,وكأن الإضاءة تقول أن الشيء المضيء المتبقي و الموجود وغير المفقود هو الإنسان المجرد من أشلاء ذكرياته الأليمة لتتركز الإضاءة عليه دوما .فضلا عن مساحة كبيرة مظلمة من الخشبة في أغلب الأحيان لتعبر عن العزلة وسوداوية الحياة تفكك أوصالها بعد حرب طاحنة , ولكن شغل هيلانة لكافة أجزاء الخشبة وإضاءتها لها عبرت عن إضاءتها لكافة القضايا التي قد لا يعرفها المتفرج وكافة الجوانب المظلمة التي لا يهتم بها الإعلام الغربي لتتبناها هيلانة بنهاية المسرحية.
أخيرا شكرا لهذا البروشور البسيط واللطيف , وشكرا لمخرج العمل نبيل الأظن و لكارول فريشيت لتأليفها عملا نوعيا وأصيلا كهذا , شكرا ل"آن بونوا " أو هيلانة بالعمل ,وكافة الممثلين لأدائهم الرائد والمتقدم, وللمركز الثقافي الفرنسي بدمشق والذي بعروضه النوعية والمتميزة والثقافية الراقية ذات الطاقات الإبداعية العالمية والمفاهيم الإنسانية الرفيعة التي تغني وتثري الساحة الثقافية العريقة أصلا بدمشق " استمر العرض حوالي ساعة وعشر دقائق " وشكرا للترجمة الجيدة.
· استنتاجات إضافية :
1 عقد أو طوق هيلانة يتألف من أطراف متنازعة أو منعزلة في التاريخ والفكر والحضارة من تجار و سائق التاكسي وأمهات وأبناء وآباء و رؤساء عمال ...انه لبنان ...لبنان هيلانة ..ليس هيلانة طروادة ولا نيرون .هيلانة التعايش والسلام ...كذلك يمكن تعميم حالة لبنان على مستوى العالم العربي الذي يعاني الحروب والاحتلالات المتكررة عبر تاريخه الطويل والحصار الدائم والأبدي والتجويع ,فضلا عن الصراعات الداخلية والخارجية وغيرها الكثير الكثير من المعاناة والتدهور...
2- الصور والنماذج أو الشخصيات الرئيسية هي: 1-رئيس العمال-2-المرأة الأم-3-الأب رجل المخيمات-4-الآثار-5-البائع غير الشرعي-6-البحر.أما هيلانة فهي صلة الوصل ومعها سائق التاكسي.
3- الخط الرئيسي أو الشخصية التي تقود الأحداث وتصفها: هيلانة كما ذكرت ومرافقها سائق التاكسي أو الدليل...
4- من السينوغراف الذي استخدم: الحجر الذي قدمه السائق بنهاية العرض تقريبا لهيلانة لتحتفظ به كذكرى وكأنه على هيلانة إبقاءه لديها أبدا فهو يشكل ذاكرة المكان والتاريخ أو حجر الزاوية الذي لا ينسى أو النتيجة...
5- هل السائق عبارة عن الخيط الذي يصل بين جميع أطراف النزاع أو أبناء الوطن الواحد الذين يمثلون حبات اللؤلؤ المنفرطة...؟!
6 عرض الصور لرئيس العمال حين دخل من عمق الخشبة وظهر بين القضبان وكأنه متهم واستدعي للتحقيق حيث كانت له صورة ثابتة على الشاشة اليمنى ثم دخوله واتجاهه نحو أقصى اليمين حيث الكاميرا قادما من أقصى اليسار "بالنسبة للمتفرج" , وقد عبر القضبان أو قفص الاتهام لتحقق معه هيلانة وهي تبحث عن الطوق.
7- مرت هيلانة على الآثار قبل مرورها بالبحر وليس العكس لترمز كما يبدو لانطلاق الحضارة من هذه البقعة إلى العالم عن طريق البحر.
8- كانت هناك إضاءة حمراء مع الأم سارة أو المرأة لترمز للدموية وإضاءة زرقاء لتعبر عن امتداد البحر.
9- يمكن تقسيم هيلانة هنا الى 3 عبر التاريخ :
الأولى :هيلانة طروادة الشهيرة التي سببت حرب طروادة والتي استمرت 20 عاما "قريبة من حرب لبنان 17 عاما"
الثانية : هيلانة نيرون والتي بأسلحتها الأنثوية دفعت نيرون لحرق روما.
الثالثة : هيلانة جدة اليونانيين ومن ثم الحضارة الهلنيستية حيث حوار الحضارات , واتحاد العالمين المشرقي والغربي وصولا لعالم أفضل في تمازج وتزاوج الحضارات. محمد زعل السلوم – سوريا – دمشق