القفز فوق التاريخ
آخر تحديث:الجمعة ,06/08/2010
ماهر سقا أميني
يرى محمد عابد الجابري أن القبيلة والغنيمة والعقيدة محددات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي الماضي وما زالت تحكمه، وبعد أن احتككنا بالحضارة المعاصرة وظهرت الأيديولوجيات النهضوية من سلفية وعلمانية وليبرالية وقومية واشتراكية . . تعرضت تلك المحددات إلى نوع من القمع والإبعاد فشكلت المكبوت، وبعدما تعرضنا له من نكسات وإحباطات فتح الباب على مصراعيه لعودة المكبوت، وأن المطلوب هو تجديد مهام الفكر العربي اليوم بتجديد العقل السياسي، ويتمثل في رأيه في ما يلي:
تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنياً وسياسياً واجتماعياً .
تحويل الغنيمة إلى اقتصاد (ضريبة) أو اقتصاد منتج .
تحويل العقيدة إلى مجرد رأي . . ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي ونقدي .
وهكذا ينسف الجابري تاريخاً إسلامياً وعربياً كبيراً يمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، توحد فيه المسلمون تحت لواء عقيدة واحدة لم تصادر حق الآخر في التفكير، وأن هذه الوحدة شهدت تنظيمات اقتصادية - لا تقف عند حدود الغنائم فقط وإنما تمتد إلى الخراج والوقف وغيره من الترتيبات الاقتصادية - واكبت الفتوحات والاطلاع على تجارب الآخرين مع الحفاظ على الهوية الإسلامية .
والذي يؤكد فقدان الذاكرة الكامل عند الجابري وقفزه فوق تاريخ طويل للأمة الإسلامية، استطاعت فيه أن تكون (دولة) بكل ما تعني الكلمة وما تقتضيه من تنظيم، تفسيره الغرائبي والمتعسف لحرب العراق على الكويت: “إن خلاف العقيدة (العراق) مع (الغنيمة) الكويت وضع عربي متسلسل عن صراع التكوينات العربية والاشتراكية في الستينات مع التقليدية والأمبريالية . وهذه التكوينات انكمشت في الماضي زمن تطاول الاشتراكية، ثم تجاسرت على الخروج، فكان الصدام الذي جعل البترول الكويتي غنيمة يستحقها العراق نتيجة خوضه الحروب القومية!! فأدى تراكم الديون إلى بحثه عن حقه في الغنيمة” . . (مجلة اليوم السابع) .
والتطور المطلوب حسب الجابري يمر بمراحل هي الانتقال إلى المجتمع المدني(الذي تستبعد فيه الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع) .
والانتقال من اقتصاد الغنائم إلى الاقتصاد المنتج، وفي هذا غمز في الفتوحات الإسلامية التي ملأت الدنيا بالحق والعدل، وتجاهل في الوقت نفسه لحقيقة أن الغنيمة أمر قد فات عليه زمن طويل وأنها كانت تنسجم مع منطق الحروب في الفترة التي كانت فيها، وأن حروباً كونية تشن اليوم من أجل الغنائم النفطية، وأن مايعيق وجود اقتصاد منتج في العالم العربي ليس (عقلية القبيلة والغنيمة) وإنما هي مجموعة عوامل متشابكة منها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، مما لا يتسع مقال في صحيفة للحديث فيه .
أما تحويل العقيدة إلى مجرد رأي، واعتماد المنهج النقدي والاجتهادي، فإن الماضي والحاضر يشهدان بأن الأمم لا تقوم على مجرد الآراء، بل لا بد من عقيدة راسخة ينشأ الإنسان عليها ليقدر على التضحية بكل شيئ من أجل أمته .ووجود عقيدة لا يلغي الاجتهاد فيما لا نص فيه، وهو كثير، ولا يلغي العقل النقدي الذي يتعلمه المسلم أول ما يتعلمه من القرآن الكريم، إلا إن كان الاجتهاد والنقد كما هما عند الجابري لا يعترفان بمقدس فوق تاريخي، بل يعصفان بكل ثوابت العقيدة والتشريع الإسلاميين بحجة التاريخانية وتغير الظروف والأحوال . ومع أن الجابري صاحب مشروع ضخم في دراسة العقل العربي، إلا أنه من الواضح أنه رغب في قولبة الحقائق كما يريد ويشتهي لا كما هي على حقيقتها، فهو يقسسم العلوم العربية حسب آلياتها الداخلية إلى علوم البيان وهي الفقه وأصوله ثم علم الكلام وعلوم اللغة، وهو يرى أن منطق هذه العلوم حسب الشافعي: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير . . وعن الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشكّلاً بذلك مدرسة البيانيين .فهو لا يرى في علم أصول الفقه وعلم الكلام أي نشاط عقلي برهاني حسب تعبيره إنما هو اتباع باتباع مع هامش ضئيل من القياس على النص نفسه، والحق هو أن الإمام الشافعي، في أصول الفقه، وأبا الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين والإبانة، وابن جني في اللغة يمثلون نظرية معرفية كاملة لا تعتمد البيان واتباع النصوص فقط، وإنما تكشف عن (عقل إسلامي أصيل) لا يروق للجابري الذي يرى البرهان في ما تركه الكندي والفارابي من تلاميذ أرسطوفقط .
آخر تحديث:الجمعة ,06/08/2010
ماهر سقا أميني
يرى محمد عابد الجابري أن القبيلة والغنيمة والعقيدة محددات ثلاثة حكمت العقل السياسي العربي الماضي وما زالت تحكمه، وبعد أن احتككنا بالحضارة المعاصرة وظهرت الأيديولوجيات النهضوية من سلفية وعلمانية وليبرالية وقومية واشتراكية . . تعرضت تلك المحددات إلى نوع من القمع والإبعاد فشكلت المكبوت، وبعدما تعرضنا له من نكسات وإحباطات فتح الباب على مصراعيه لعودة المكبوت، وأن المطلوب هو تجديد مهام الفكر العربي اليوم بتجديد العقل السياسي، ويتمثل في رأيه في ما يلي:
تحويل القبيلة إلى مجتمع منظم مدنياً وسياسياً واجتماعياً .
تحويل الغنيمة إلى اقتصاد (ضريبة) أو اقتصاد منتج .
تحويل العقيدة إلى مجرد رأي . . ومن ثم التعامل بعقل اجتهادي ونقدي .
وهكذا ينسف الجابري تاريخاً إسلامياً وعربياً كبيراً يمتد إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، توحد فيه المسلمون تحت لواء عقيدة واحدة لم تصادر حق الآخر في التفكير، وأن هذه الوحدة شهدت تنظيمات اقتصادية - لا تقف عند حدود الغنائم فقط وإنما تمتد إلى الخراج والوقف وغيره من الترتيبات الاقتصادية - واكبت الفتوحات والاطلاع على تجارب الآخرين مع الحفاظ على الهوية الإسلامية .
والذي يؤكد فقدان الذاكرة الكامل عند الجابري وقفزه فوق تاريخ طويل للأمة الإسلامية، استطاعت فيه أن تكون (دولة) بكل ما تعني الكلمة وما تقتضيه من تنظيم، تفسيره الغرائبي والمتعسف لحرب العراق على الكويت: “إن خلاف العقيدة (العراق) مع (الغنيمة) الكويت وضع عربي متسلسل عن صراع التكوينات العربية والاشتراكية في الستينات مع التقليدية والأمبريالية . وهذه التكوينات انكمشت في الماضي زمن تطاول الاشتراكية، ثم تجاسرت على الخروج، فكان الصدام الذي جعل البترول الكويتي غنيمة يستحقها العراق نتيجة خوضه الحروب القومية!! فأدى تراكم الديون إلى بحثه عن حقه في الغنيمة” . . (مجلة اليوم السابع) .
والتطور المطلوب حسب الجابري يمر بمراحل هي الانتقال إلى المجتمع المدني(الذي تستبعد فيه الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع) .
والانتقال من اقتصاد الغنائم إلى الاقتصاد المنتج، وفي هذا غمز في الفتوحات الإسلامية التي ملأت الدنيا بالحق والعدل، وتجاهل في الوقت نفسه لحقيقة أن الغنيمة أمر قد فات عليه زمن طويل وأنها كانت تنسجم مع منطق الحروب في الفترة التي كانت فيها، وأن حروباً كونية تشن اليوم من أجل الغنائم النفطية، وأن مايعيق وجود اقتصاد منتج في العالم العربي ليس (عقلية القبيلة والغنيمة) وإنما هي مجموعة عوامل متشابكة منها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، مما لا يتسع مقال في صحيفة للحديث فيه .
أما تحويل العقيدة إلى مجرد رأي، واعتماد المنهج النقدي والاجتهادي، فإن الماضي والحاضر يشهدان بأن الأمم لا تقوم على مجرد الآراء، بل لا بد من عقيدة راسخة ينشأ الإنسان عليها ليقدر على التضحية بكل شيئ من أجل أمته .ووجود عقيدة لا يلغي الاجتهاد فيما لا نص فيه، وهو كثير، ولا يلغي العقل النقدي الذي يتعلمه المسلم أول ما يتعلمه من القرآن الكريم، إلا إن كان الاجتهاد والنقد كما هما عند الجابري لا يعترفان بمقدس فوق تاريخي، بل يعصفان بكل ثوابت العقيدة والتشريع الإسلاميين بحجة التاريخانية وتغير الظروف والأحوال . ومع أن الجابري صاحب مشروع ضخم في دراسة العقل العربي، إلا أنه من الواضح أنه رغب في قولبة الحقائق كما يريد ويشتهي لا كما هي على حقيقتها، فهو يقسسم العلوم العربية حسب آلياتها الداخلية إلى علوم البيان وهي الفقه وأصوله ثم علم الكلام وعلوم اللغة، وهو يرى أن منطق هذه العلوم حسب الشافعي: النص (من كتاب أو سنة أو إجماع) أو القياس (الذي هو إلحاق فرع بأصل لاتحادهما في العلة) فقياس التمثيل إذن هو الآلية المفضلة عند الفقهاء، وهو الأسلوب الذي يحكم منهجهم في التفكير . . وعن الفقهاء انتقل المنهج إلى المتكلمين وعلوم النحو والبلاغة مُشكّلاً بذلك مدرسة البيانيين .فهو لا يرى في علم أصول الفقه وعلم الكلام أي نشاط عقلي برهاني حسب تعبيره إنما هو اتباع باتباع مع هامش ضئيل من القياس على النص نفسه، والحق هو أن الإمام الشافعي، في أصول الفقه، وأبا الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين والإبانة، وابن جني في اللغة يمثلون نظرية معرفية كاملة لا تعتمد البيان واتباع النصوص فقط، وإنما تكشف عن (عقل إسلامي أصيل) لا يروق للجابري الذي يرى البرهان في ما تركه الكندي والفارابي من تلاميذ أرسطوفقط .