يقرأ المرء عن عالمنا هذا في العصور الوسطى، وكيف بلغ العرب بعلومهم عنان السماء، في الوقت الذي كان فيه الغربيون في غيهم يعمهون، وفي الجهالة يسبحون ويغوصون، وما أن ينهضوا من كبوة جهل حتى يسقطوا في حفرة تفسخ، فيضطرب موجهم ويتلاطم، وتتكدس فوق رؤوسهم الظلمات بعد أن امتلأت قلوبهم وأرواحهم بأدران الحماقة بما كسبت أيديهم، وقصرت عقولهم. ولم يكن يبدو في الأفق مخرج لقرون طويلة؛ ذلك أن الجهل الضاربة جذوره في أعماق التاريخ والنفس كان قد ترسخ في تلك المجتمعات على جميع المستويات علمياً وفكرياً وأخلاقياً ودينياً ... إلخ. وتبدت مظاهر ذلك الغي والعيّ في صور كثيرة لا تخطؤها العين. ولم تعد هناك فضيلة تذكر، ولا حرمة تراعى، ولا ناه عن منكر، ولا آمر بمعروف، ولا علم يدرس، ولا متعلم يطلب الدرس. ظلمات بعضها فوق بعض. واستمر هذا إلى أن قيض الله للغرب أن يتحول في تاريخ الإنسانية من النقيض إلى النقيض وخاصة في مجال العلوم التجريبية بعد انفصال الدولة عن الكنيسة.
وكنتُ كلما قرأت عن العصور الوسطى في كتابات الغربيين أكاد لا أصدق أن الحياة في أي مكان من أرض الله يمكن أن تصل إلى مثل ذلك الحضيض. ولكنها الحقيقة. ولا يجد الغربيون في العصور الحديثة حرجاً من الحديث عن قرونهم الغابرة وما كان يدور فيها من أمور تشيب لهولها الولدان. وفي الحقيقة أولئك الوالدان كانت عظامهم تتكسر حين كانوا يستخدمونهم في تنظيف مداخن البيوت. فقد كانوا يأتون بالأطفال من صغار البنية ويُسْقِطونهم من أعلى المدخنة لينظفوا المداخن بأجسادهم بينما هم في طريقم إلى حتفهم، فيصطدمون بالأرض بعد أن يكون السخام قد ملأ رئاهم، وأعمى عيونهم، وتوقفوا عن التنفس، بل وربما اختنقوا قبل أن تمس أجسادهم الأرض. وهؤلاء هم المحظوظون منهم. أما غير المحظوظين فكانوا ينجون من الموت اختناقاً داخل المدخنة، ليسقطوا على الأرض من ارتفاع 8 أو 10 أمتار فتتكسر عظامهم، وتنسلخ عنهم جلودهم، ويكون الموت ساعتها أحب إليهم من الحياة. ولو أن الجهل شخص يتكلم لقال إنه يستحي من أولئك الأقوام.
ويفخر الغربيون بتلك النقلة التي انتقلوها علمياً وفكرياً، بل وأخلاقياً بغض النظر عن نظرتنا نحن المسلمين إلى ما يعد رقياً في الأخلاق والدين أو تدنياً فيهما؛ فمعايير الفكر الغربي مختلفة، وليس هذا مجال الحديث عنها. ومبعث الفخر أنهم يقارنون بين ما كانوا عليه، وما أصبحوا عليه. فالفرق بين الحالين كما يقال في الإنجليزية هو كالفرق بين الجبن والطباشير، أي بين السماء والأرض.
وكما أسلفتُ، كانت تحيرني أمور كثيرة لا يجد عقلي لها تفسيراً سوى أن الجهل ضرب على وجوه القوم فأعمى عيونهم، وطبع على قلوبهم، وختم على آذانهم. ولا يوجد تفسير آخر لكثير من تلك الممارسات البغيضة التي اشتهرت عن العصور الوسطى في الغرب، وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم. ومع هذا ظل الأمر يؤرقني من الناحية الفكرية؛ لأنه لم يعدم أي عصر من وجود عقول تميِّز، وعيون تبصر، وقلوب تعي. واستقر في روعي أخيراً أن السبب في انعدام تأثير تلك العقول والعيون والقلوب التي يُظَن بها "خيراً" أنها لم تكن بالصفات التي ذكرتها حقاً، بل لم يتعد الأمر أن يكون قشراً جميلاً لقلب نخره السوس، أو غطاءً ذهبياً لقطعة من معدن خسيس. وشرح هذا يطول.
ودافعي لهذه المقدمة، وهذا الموضوع هو أننا في العالم العربي لسنا بعيدين أو مختلفين في أوضاعنا عما كان يدور في العصور الوسطى في الغرب. صحيح هناك بعض الاختلافات ولكنها تابعة للفروق الزمنية والمكانية لا غير. أما نتيجة الممارسات فواحدة. فنحن في عالمنا العربي -على المستوى الفكري- نتجه بسرعة الصاروخ إلى قلب عصور وسطى جديدة هي أشد وحلاً وظلاماً من قرينتها في غابر الزمان. وما يحدث حولنا الآن إنما هو مقدمات وإرهاصات، وستأتي الكوارث الحقة، والفتن الأشد في المستقبل القريب.
من الناحية العقدية الدينية انقسم المسلمون إلى فرق وشيع وطوائف وجماعات وطرق أغلبها ما أنزل الله بها من سلطان. ونحن نحكم بذلك لأننا لا نزال -والحمد لله- نرى بعض الطريق، ولم تندثر بعد كلمة الله وسنة رسوله بالكلية. وبين ظهرانينا متعالمون يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحله، وينصرون الظالم ويباركونه، ويخذلون المظلوم ويعينون على إذلاله أكثر وأكثر. وطغت المصالح الشخصية على كل شيء حتى أصبح الدين تجارة لا تبور لمن يدفع أكثر، مالاً أو سلطاناً أو شهوة.
من الناحية الفكرية طغت علينا الذاتية، والمصلحة الفردية، وأصبحت الغاية هي الدنيا. وروَّج أدعياء الفكر أفكاراً بدا منها أن مفاتِح المغاليق إنما هي بأيديهم دون سواهم، وتعالَوْا بأنفسهم فاحتقروا من دونهم، ورسخوا الجهل في نفوس الجهلاء لينظروا إليهم على أنهم هامات عالية يكون دون الارتقاء إليها خرط القتاد؛ فأشاعوا في الناس فكراً ضالاً، وعقائد هي أقرب للمسخ منها إلى أي شيء آخر، وضللوا عقولهم بدعاوى خبيثة في ثياب قشيبة كحرية الفكر، والسباحة في أغوار العقل، والتحليق في فضاء الكون، وكسر قيود الفكر المحدود للوصول إلى اللامحدود الباقي الأبدي السرمدي، وكأن ذاك العقل الذي يقودهم ليس قاصراً ولا محدوداً. أرادوا أن يجعلوا من العقل إلهاً ونسوا انطلاقتهم من حضيض المادة. وانخدع بهم كثيرون، ولم تطل أعمار الحمقى ليروا في حياتهم عاقبة أمر قادتهم وحُداتِهم. فسارتر نفسه يطلب حضور قسيس وهو على فراش الموت لأنه لم يرض أن يخدع نفسه، وقد أوشكت روحه أن تبلغ الحلقوم. وأمثال هذا كثيرون في عالمنا العربي الإسلامي، ولا أذكر أحداً بالاسم حتى لا أفتح المجال للعاهات الفكرية ليُلَبسوا على الناس أفكارهم أكثر وأكثر.
من الناحية الأدبية نجد كتاباً وشعراء، وجوقة مصفقين. ومن الكتاب والشعراء عظماء، ولكنهم قلة، ولا تخدعهم تلك الجوقة التي عقدت عصابتها على رأسها، وشدت مِأزرها لتصفق لهؤلاء حتى يقال إن ذائقتها تقدِّر الدُّر، وتميِّز الدسم.
وهذه الجوقة نفسها تصفق لأفرادها أيضاً متوهمة أن التصفيق يرفع الدرجات، ويفتح الأبواب المغلقة، بل ولا أكون مبالغاً إن قلت باعتقادها أن التصفيق يوسع مداركها، ويجعل من أفرادها علماء ومفكرين وكتاب وشعراء من كل لون. وكلما زاد التصفيق زاد تصديقها للوهم الذي نسجته بأيديها. ومن هنا نجد أَرْبَاعَ كُتَّابٍ يكتبون فيما لا يفهمون، ويحللون ما يستعصي على عقولهم إدراك كنهه، ويفسرون ما استُغلِق عليهم هم أنفسهم فهمه فيأتون بعجائب وغرائب، ويرون في أنفسهم أنهم أهل استحقاق للفضل. فهم يقفزون قبل أن يتعلموا الحبو، ويريدون أكل الثريد قبل سنين من فطامهم.
وهذه الفئة الأخيرة هي أخطر الفرق، وهي مطيتنا -شئنا أم أبينا- إلى غياهب العصور الوسطى؛ فهم الكثرة الكاثرة، يعلو صوتهم فلا يعلو عليه شيء، ويزيغ عقلهم فلا تقف له على حد، كلما سقط واحد منهم في هوة انفلت منها لينفض في وجهك غبارها، وامتدت إليه الأيادي الممسوخة لتنتشله من وحل دُونِيٍّ لتضعه في وحل فَوْقِيٍّ، وكأن مكان الوحل يغير طبيعته.
نقرأ لهؤلاء سخفاً وعتهاً وبلاهةً، ونجد منهم ضحالة في الفكر، وجهالة في اللغة، وضآلة في المنطق، وسقطاً في التحليل، وقبل أن نفيق من صدمتنا نجد أفراد الجوقة -التي يزداد عدد أفرادها كل ثانية- يصفقون، ويهللون، ويباركون، ويمدحون، ويثنون، ويتحزبون، ويطبلون، ويرقصون كأنهم في طريقهم إلى عكا ليفتحوها، أو بيت المقدس ليحرروه. وتراهم يجادلون المعترض عليهم ويجالدون عن خطئهم، ويبرورن بما لا مسوغ له، ويتخطون رقاب اللغة، ويلوون عنق الفكر. ولا يملك العاقل معهم إلا أن يجر أذياله، ويحمل متاعه، ويرتحل عن دارهم، ليعتصم في صومعته والألم يعتصره، وقد فقد الأمل في الإصلاح؛ ذلك أن جدال الجاهل من المعضلات، وأصحاب العقل -في زمننا هذا- لا صبر لهم، ولا رغبة عندهم في محاورة تلك الجوقة.
ويعني استمرار هذا الوضع الوصول -لا محالة- إلى مرحلة هي حلقة مفرغة، ندور فيها جميعاً، ولا نصل إلى نهايتها، بل في كل مرة نعود من حيث أتينا. ولأنها حلقة كبيرة يسقط البعض منا في طريقه قبل أن يصل إلى النقطة نفسها التي بدأ منها، فلا يدرك على امتداد عمره أنه قد أسهم في اعوجاج بوصلتها، وأنه تسنم ظهر بعير فيها. أما تلك الجوقة الْمُنْبَتَّة فهي في الأصل في غيبوبة من العقل، وتفاهة في العلم، فلا فرق عندها إن لم تقطع أرضاً أو لم تُبْقِ ظهراً. وإن كان الغرب قد شَقِي في عصوره الوسطى لغياب مشعل النور، فنحن نهيل التراب على ما تبقَّى من مشاعلنا في زمننا الحاضر لنعانق بكل شوق ولهفة عصوراً مؤلمة عبرنا فوهتها، وها نحن نقترب من مركز الخطر فيها، ولن تكون هناك عيون تبكينا، أو يد تنتشلنا وقد اقتربنا من نهاية الزمان.
وكنتُ كلما قرأت عن العصور الوسطى في كتابات الغربيين أكاد لا أصدق أن الحياة في أي مكان من أرض الله يمكن أن تصل إلى مثل ذلك الحضيض. ولكنها الحقيقة. ولا يجد الغربيون في العصور الحديثة حرجاً من الحديث عن قرونهم الغابرة وما كان يدور فيها من أمور تشيب لهولها الولدان. وفي الحقيقة أولئك الوالدان كانت عظامهم تتكسر حين كانوا يستخدمونهم في تنظيف مداخن البيوت. فقد كانوا يأتون بالأطفال من صغار البنية ويُسْقِطونهم من أعلى المدخنة لينظفوا المداخن بأجسادهم بينما هم في طريقم إلى حتفهم، فيصطدمون بالأرض بعد أن يكون السخام قد ملأ رئاهم، وأعمى عيونهم، وتوقفوا عن التنفس، بل وربما اختنقوا قبل أن تمس أجسادهم الأرض. وهؤلاء هم المحظوظون منهم. أما غير المحظوظين فكانوا ينجون من الموت اختناقاً داخل المدخنة، ليسقطوا على الأرض من ارتفاع 8 أو 10 أمتار فتتكسر عظامهم، وتنسلخ عنهم جلودهم، ويكون الموت ساعتها أحب إليهم من الحياة. ولو أن الجهل شخص يتكلم لقال إنه يستحي من أولئك الأقوام.
ويفخر الغربيون بتلك النقلة التي انتقلوها علمياً وفكرياً، بل وأخلاقياً بغض النظر عن نظرتنا نحن المسلمين إلى ما يعد رقياً في الأخلاق والدين أو تدنياً فيهما؛ فمعايير الفكر الغربي مختلفة، وليس هذا مجال الحديث عنها. ومبعث الفخر أنهم يقارنون بين ما كانوا عليه، وما أصبحوا عليه. فالفرق بين الحالين كما يقال في الإنجليزية هو كالفرق بين الجبن والطباشير، أي بين السماء والأرض.
وكما أسلفتُ، كانت تحيرني أمور كثيرة لا يجد عقلي لها تفسيراً سوى أن الجهل ضرب على وجوه القوم فأعمى عيونهم، وطبع على قلوبهم، وختم على آذانهم. ولا يوجد تفسير آخر لكثير من تلك الممارسات البغيضة التي اشتهرت عن العصور الوسطى في الغرب، وانتشرت فيها انتشار النار في الهشيم. ومع هذا ظل الأمر يؤرقني من الناحية الفكرية؛ لأنه لم يعدم أي عصر من وجود عقول تميِّز، وعيون تبصر، وقلوب تعي. واستقر في روعي أخيراً أن السبب في انعدام تأثير تلك العقول والعيون والقلوب التي يُظَن بها "خيراً" أنها لم تكن بالصفات التي ذكرتها حقاً، بل لم يتعد الأمر أن يكون قشراً جميلاً لقلب نخره السوس، أو غطاءً ذهبياً لقطعة من معدن خسيس. وشرح هذا يطول.
ودافعي لهذه المقدمة، وهذا الموضوع هو أننا في العالم العربي لسنا بعيدين أو مختلفين في أوضاعنا عما كان يدور في العصور الوسطى في الغرب. صحيح هناك بعض الاختلافات ولكنها تابعة للفروق الزمنية والمكانية لا غير. أما نتيجة الممارسات فواحدة. فنحن في عالمنا العربي -على المستوى الفكري- نتجه بسرعة الصاروخ إلى قلب عصور وسطى جديدة هي أشد وحلاً وظلاماً من قرينتها في غابر الزمان. وما يحدث حولنا الآن إنما هو مقدمات وإرهاصات، وستأتي الكوارث الحقة، والفتن الأشد في المستقبل القريب.
من الناحية العقدية الدينية انقسم المسلمون إلى فرق وشيع وطوائف وجماعات وطرق أغلبها ما أنزل الله بها من سلطان. ونحن نحكم بذلك لأننا لا نزال -والحمد لله- نرى بعض الطريق، ولم تندثر بعد كلمة الله وسنة رسوله بالكلية. وبين ظهرانينا متعالمون يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحله، وينصرون الظالم ويباركونه، ويخذلون المظلوم ويعينون على إذلاله أكثر وأكثر. وطغت المصالح الشخصية على كل شيء حتى أصبح الدين تجارة لا تبور لمن يدفع أكثر، مالاً أو سلطاناً أو شهوة.
من الناحية الفكرية طغت علينا الذاتية، والمصلحة الفردية، وأصبحت الغاية هي الدنيا. وروَّج أدعياء الفكر أفكاراً بدا منها أن مفاتِح المغاليق إنما هي بأيديهم دون سواهم، وتعالَوْا بأنفسهم فاحتقروا من دونهم، ورسخوا الجهل في نفوس الجهلاء لينظروا إليهم على أنهم هامات عالية يكون دون الارتقاء إليها خرط القتاد؛ فأشاعوا في الناس فكراً ضالاً، وعقائد هي أقرب للمسخ منها إلى أي شيء آخر، وضللوا عقولهم بدعاوى خبيثة في ثياب قشيبة كحرية الفكر، والسباحة في أغوار العقل، والتحليق في فضاء الكون، وكسر قيود الفكر المحدود للوصول إلى اللامحدود الباقي الأبدي السرمدي، وكأن ذاك العقل الذي يقودهم ليس قاصراً ولا محدوداً. أرادوا أن يجعلوا من العقل إلهاً ونسوا انطلاقتهم من حضيض المادة. وانخدع بهم كثيرون، ولم تطل أعمار الحمقى ليروا في حياتهم عاقبة أمر قادتهم وحُداتِهم. فسارتر نفسه يطلب حضور قسيس وهو على فراش الموت لأنه لم يرض أن يخدع نفسه، وقد أوشكت روحه أن تبلغ الحلقوم. وأمثال هذا كثيرون في عالمنا العربي الإسلامي، ولا أذكر أحداً بالاسم حتى لا أفتح المجال للعاهات الفكرية ليُلَبسوا على الناس أفكارهم أكثر وأكثر.
من الناحية الأدبية نجد كتاباً وشعراء، وجوقة مصفقين. ومن الكتاب والشعراء عظماء، ولكنهم قلة، ولا تخدعهم تلك الجوقة التي عقدت عصابتها على رأسها، وشدت مِأزرها لتصفق لهؤلاء حتى يقال إن ذائقتها تقدِّر الدُّر، وتميِّز الدسم.
وهذه الجوقة نفسها تصفق لأفرادها أيضاً متوهمة أن التصفيق يرفع الدرجات، ويفتح الأبواب المغلقة، بل ولا أكون مبالغاً إن قلت باعتقادها أن التصفيق يوسع مداركها، ويجعل من أفرادها علماء ومفكرين وكتاب وشعراء من كل لون. وكلما زاد التصفيق زاد تصديقها للوهم الذي نسجته بأيديها. ومن هنا نجد أَرْبَاعَ كُتَّابٍ يكتبون فيما لا يفهمون، ويحللون ما يستعصي على عقولهم إدراك كنهه، ويفسرون ما استُغلِق عليهم هم أنفسهم فهمه فيأتون بعجائب وغرائب، ويرون في أنفسهم أنهم أهل استحقاق للفضل. فهم يقفزون قبل أن يتعلموا الحبو، ويريدون أكل الثريد قبل سنين من فطامهم.
وهذه الفئة الأخيرة هي أخطر الفرق، وهي مطيتنا -شئنا أم أبينا- إلى غياهب العصور الوسطى؛ فهم الكثرة الكاثرة، يعلو صوتهم فلا يعلو عليه شيء، ويزيغ عقلهم فلا تقف له على حد، كلما سقط واحد منهم في هوة انفلت منها لينفض في وجهك غبارها، وامتدت إليه الأيادي الممسوخة لتنتشله من وحل دُونِيٍّ لتضعه في وحل فَوْقِيٍّ، وكأن مكان الوحل يغير طبيعته.
نقرأ لهؤلاء سخفاً وعتهاً وبلاهةً، ونجد منهم ضحالة في الفكر، وجهالة في اللغة، وضآلة في المنطق، وسقطاً في التحليل، وقبل أن نفيق من صدمتنا نجد أفراد الجوقة -التي يزداد عدد أفرادها كل ثانية- يصفقون، ويهللون، ويباركون، ويمدحون، ويثنون، ويتحزبون، ويطبلون، ويرقصون كأنهم في طريقهم إلى عكا ليفتحوها، أو بيت المقدس ليحرروه. وتراهم يجادلون المعترض عليهم ويجالدون عن خطئهم، ويبرورن بما لا مسوغ له، ويتخطون رقاب اللغة، ويلوون عنق الفكر. ولا يملك العاقل معهم إلا أن يجر أذياله، ويحمل متاعه، ويرتحل عن دارهم، ليعتصم في صومعته والألم يعتصره، وقد فقد الأمل في الإصلاح؛ ذلك أن جدال الجاهل من المعضلات، وأصحاب العقل -في زمننا هذا- لا صبر لهم، ولا رغبة عندهم في محاورة تلك الجوقة.
ويعني استمرار هذا الوضع الوصول -لا محالة- إلى مرحلة هي حلقة مفرغة، ندور فيها جميعاً، ولا نصل إلى نهايتها، بل في كل مرة نعود من حيث أتينا. ولأنها حلقة كبيرة يسقط البعض منا في طريقه قبل أن يصل إلى النقطة نفسها التي بدأ منها، فلا يدرك على امتداد عمره أنه قد أسهم في اعوجاج بوصلتها، وأنه تسنم ظهر بعير فيها. أما تلك الجوقة الْمُنْبَتَّة فهي في الأصل في غيبوبة من العقل، وتفاهة في العلم، فلا فرق عندها إن لم تقطع أرضاً أو لم تُبْقِ ظهراً. وإن كان الغرب قد شَقِي في عصوره الوسطى لغياب مشعل النور، فنحن نهيل التراب على ما تبقَّى من مشاعلنا في زمننا الحاضر لنعانق بكل شوق ولهفة عصوراً مؤلمة عبرنا فوهتها، وها نحن نقترب من مركز الخطر فيها، ولن تكون هناك عيون تبكينا، أو يد تنتشلنا وقد اقتربنا من نهاية الزمان.