تجدد القلق الإيراني إزاء سياسات بشار
هو وأبوه. كلاهما مولع بالكلام. كان الأب مولعا بالتاريخ. حفظ، عن ظهر قلب، بديهيات عفلق العروبية. ظل حافظ الأسد يحدث زواره، عربا وأجانب، عن العروبة، ووراءه جدارية لصلاح الدين يدخل القدس محررا. الابن مولع بالحاضر. ليس ذلك غريبا. فالحاضر إطلالة على المستقبل.
عندما صمت الأب. رحل، خشيت على الابن من الإسهاب في الكلام. هل نحن العرب ظاهرة صوتية حقا؟ في نظام مطلق، بديهي أن يتكلم الرئيس ويتكلم. كل من في الداخل عليه واجب السمع والطاعة. ولكن عندما حاضر بشار قمة العرب البيروتية، وهو بعد رئيس شاب وجديد، خشيت على الكبار الآخرين من الملل أو الاعتراض.
مع الوقت، خَفَّفَ بشار من الإنشاء. لكن تمسك بالإسهاب. عتب على فضائية أميركية. تحدث أمامها ساعات. فاختصرته في خمس دقائق. عندما تحدث إلى فضائية «حزب الله» الإيرانية (المنار) أسهب. لكن من دون إنشاء. كان حديثه أنجح وأبدع أحاديثه. كلام كثير. لكن في المليان. خطف بشار من القمة الأضواء. لم يتبدد الكلام في الفراغ.
مع خروج سورية من زجاجة العزلة، يبدو بشار أكثر راحة نفسيا. أشد ثقة بالنفس. ازداد سمنة. لكن ما زال متدفقا. متوقد الذهن. اختارت إيران لمحاورته سائلا ومحاورا ذكيا. يسأل ليمتحن. يُحرج ليختبر. يستفز لكن بأدب. ذكاء السائل لم يكن كافيا لتغطية قلق إيران. نعم، الحوار كشف قلق إيران وشكوكها إزاء سياسات بشار. كأن على الرئيس السوري أن يقدم تأكيدا يوميا لنجاد أنه ما زال معه ومع حسن حزب الله في «مجلس الحرب» الثلاثي.
امتحنه السائل التلفزيوني: لماذا لا تخوض حربا تحريرية؟ كان الجواب «دشّا» باردا على اللحى في إيران ولبنان: نحن نراهن على سلام «هو أبغض الحلال». لكن «الحرب هي الأسوأ». «نسعى إلى السلام طالما أن هناك أملا». كلام بشار سيمفونية عذبة في آذان هيلاري وأوباما العالقين مع نيتنياهو.
جاء الرد الإيراني على بشار من غزة. مهرجان «جهادي. حماس» ينادي بانتفاضة. يطالب القمة العربية بسحب مبادرة السلام السعودية. سذاجة سياسية إيرانية تمنح إسرائيل ذريعة عربية للمضي في الاستيطان. إنقاذا لها من الورطة مع أميركا.
العرب، إذن، هم الذين يعطلون حرب سورية التحريرية! يبادر السائل بشار. الجواب السوري فوري. حاسم: «نحن مع التنسيق العربي». جواب لرئيس دولة يقدر المسؤولية: «لا بد من أن تحسب حساب الأرباح والخسائر». صحيح. الحق مع بشار. السياسة حرب بوسائل أخرى. يذكِّر بشار «مندوب» نجاد: «هناك طرق كثيرة لتصل إلى أهدافك. ليس بالضرورة عبر الحرب».
حوار ممتع لذيذ. سؤال إيراني محرج. جواب سوري سريع مقنع. لماذا الرهان السوري على أميركا؟ يسأل وكيل إيران. بشار: «الدور الأميركي هو الأساس» حتى في اللحظات السورية الصعبة مع «قوة كبرى» كأميركا.
يطفح الكيل بالسائل التلفزيوني: لا أصدِّق. كيف تقف سورية في منتصف الطريق بين سلطة عباس ومقاومة حماس والجهاد؟! يسخر بشار منه: «لا أريد منك أن تصدِّق... نعم، نحن في الوسط فعلا. سورية مع المصالحة. الحل فلسطيني...»
هنا، يعتقد المحاور أنه عثر على ثغرة: لماذا لا تقتنع مصر بذلك؟ هنا أيضا، يعبّر بشار عن فتور العلاقة مع مصر: لا أعرف كيف تفكر مصر. عندما سئل، لم يكن بشار قد اتصل مع مبارك ليطمئن على الصحة. إنما الدلائل توحي بالتفاؤل بمصالحة قريبة.
إذا كانت سورية مع السلام والمفاوضات، فلماذا تراهن على المقاومة؟ إيران تجد هنا «تناقضا» سوريا. يرد بشار بفذلكة طويلة عن المقاومة. لعلها كانت زلّة اللسان الوحيدة في الامتحان الشفهي التلفزيوني: «المقاومة مفهوم شعبي... عندما لا تكون هناك دولة تعمل من أجل تحرير الأرض».
الحوار يكشف عن غيرة إيران من علاقة تركيا مع سورية. لماذا الوسيط التركي؟ ألا يبدو إردوغان ضعيفا وهو يواجه خطر انقلاب عسكري؟ وكأن نجاد مارد قوي في الشارع الإيراني. يطمئن بشار نجاد، ليزيد من نار غيرته: علاقة سورية بتركيا متينة مع كل المؤسسات، بما في ذلك المؤسسات العلمانية (المعارضة التركية). هناك «إجماع تركي» على علاقة وثيقة مع سورية.
الامتحان الإيراني الأخير لبشار، عن العروبة؟ هل سورية دولة عربية أم إسلامية؟ الجواب فيه مرونة التخلص السوري: «الفكرة القومية هي الملجأ الوحيد لنا كدول عربية. لا استقرار بلا عروبة». إضافة جديدة. سورية «دولة قومية مجتمعها علماني... نحن دولة مسلمة عندما نتحدث مع دول إسلامية».
تبلغ المرونة السورية أقصى حدودها لضمان عدم «تزعيل» إيران تلفزيونيا: «نحن بحاجة إلى علاقة جيدة مع إيران، سواء اتفقنا في بعض التفاصيل أو اختلفنا». في العراق، بشار مع مَنْ: مع المالكي (الإيراني) أم مع علاوي (العروبي)؟ الجواب المتهرب: «نحن لا نرى العراق بهذه الطريقة». الواقع أن بشار لا يريد خامنه ئي ونجاد جارين مستقرين في العراق على حدود سورية.
مقابلة تلفزيونية مسلِّية. لكنها مفيدة. ذات مغزى سياسي. السؤال إيراني «بالفارسية». الجواب السوري «بالعربي» الفصيح. الشق اللبناني من المقابلة لا يقل أهمية عن الشق العربي والإقليمي. قراءتي وتفسيري لبشار «السوري/اللبناني» أتركها إلى الثلاثاء المقبل في حديث عن لبنان.
أكتفي الآن بالقول، عموما، أن إعلان الأسد عن عدم رغبته في التورط بالتفاصيل (المشاكل والصراعات الداخلية) اللبنانية، هو بمثابة انسحاب سياسي آخر من لبنان، لا يقل أهمية - إِنْ تمّ - عن الانسحاب العسكري، بعد مقتل الحريري الأب (2005). الانسحاب لا يعني الغياب. يظل لبنان حاضرا في ذهن وبال أي نظام سوري. استغرقت التفاصيل اللبنانية وقت وعمر وصحة الأسد الأب. عندما استعان بنجله الثاني، كانت نصيحة بشار لأبيه، منذ الثمانينات، بالانسحاب من التفاصيل. التورط السوري كان يحسب في لبنان انحيازا سوريا لهذا الطرف ضد ذاك.
لكن هل الانسحاب السوري سيكون من مصلحة إيران؟ هل إلغاء الطائفية السياسية يندرج في إطار دولة المعاصرة ومجتمع الحداثة؟ أم هو تمهيد للمشروع الشيعي في لبنان؟ لمشروع دولة الطائفة، كبديل لدولة الطوائف؟ المحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة في الثلاثاء المقبل.
غسان الامام
الشرق الاوسط
هو وأبوه. كلاهما مولع بالكلام. كان الأب مولعا بالتاريخ. حفظ، عن ظهر قلب، بديهيات عفلق العروبية. ظل حافظ الأسد يحدث زواره، عربا وأجانب، عن العروبة، ووراءه جدارية لصلاح الدين يدخل القدس محررا. الابن مولع بالحاضر. ليس ذلك غريبا. فالحاضر إطلالة على المستقبل.
عندما صمت الأب. رحل، خشيت على الابن من الإسهاب في الكلام. هل نحن العرب ظاهرة صوتية حقا؟ في نظام مطلق، بديهي أن يتكلم الرئيس ويتكلم. كل من في الداخل عليه واجب السمع والطاعة. ولكن عندما حاضر بشار قمة العرب البيروتية، وهو بعد رئيس شاب وجديد، خشيت على الكبار الآخرين من الملل أو الاعتراض.
مع الوقت، خَفَّفَ بشار من الإنشاء. لكن تمسك بالإسهاب. عتب على فضائية أميركية. تحدث أمامها ساعات. فاختصرته في خمس دقائق. عندما تحدث إلى فضائية «حزب الله» الإيرانية (المنار) أسهب. لكن من دون إنشاء. كان حديثه أنجح وأبدع أحاديثه. كلام كثير. لكن في المليان. خطف بشار من القمة الأضواء. لم يتبدد الكلام في الفراغ.
مع خروج سورية من زجاجة العزلة، يبدو بشار أكثر راحة نفسيا. أشد ثقة بالنفس. ازداد سمنة. لكن ما زال متدفقا. متوقد الذهن. اختارت إيران لمحاورته سائلا ومحاورا ذكيا. يسأل ليمتحن. يُحرج ليختبر. يستفز لكن بأدب. ذكاء السائل لم يكن كافيا لتغطية قلق إيران. نعم، الحوار كشف قلق إيران وشكوكها إزاء سياسات بشار. كأن على الرئيس السوري أن يقدم تأكيدا يوميا لنجاد أنه ما زال معه ومع حسن حزب الله في «مجلس الحرب» الثلاثي.
امتحنه السائل التلفزيوني: لماذا لا تخوض حربا تحريرية؟ كان الجواب «دشّا» باردا على اللحى في إيران ولبنان: نحن نراهن على سلام «هو أبغض الحلال». لكن «الحرب هي الأسوأ». «نسعى إلى السلام طالما أن هناك أملا». كلام بشار سيمفونية عذبة في آذان هيلاري وأوباما العالقين مع نيتنياهو.
جاء الرد الإيراني على بشار من غزة. مهرجان «جهادي. حماس» ينادي بانتفاضة. يطالب القمة العربية بسحب مبادرة السلام السعودية. سذاجة سياسية إيرانية تمنح إسرائيل ذريعة عربية للمضي في الاستيطان. إنقاذا لها من الورطة مع أميركا.
العرب، إذن، هم الذين يعطلون حرب سورية التحريرية! يبادر السائل بشار. الجواب السوري فوري. حاسم: «نحن مع التنسيق العربي». جواب لرئيس دولة يقدر المسؤولية: «لا بد من أن تحسب حساب الأرباح والخسائر». صحيح. الحق مع بشار. السياسة حرب بوسائل أخرى. يذكِّر بشار «مندوب» نجاد: «هناك طرق كثيرة لتصل إلى أهدافك. ليس بالضرورة عبر الحرب».
حوار ممتع لذيذ. سؤال إيراني محرج. جواب سوري سريع مقنع. لماذا الرهان السوري على أميركا؟ يسأل وكيل إيران. بشار: «الدور الأميركي هو الأساس» حتى في اللحظات السورية الصعبة مع «قوة كبرى» كأميركا.
يطفح الكيل بالسائل التلفزيوني: لا أصدِّق. كيف تقف سورية في منتصف الطريق بين سلطة عباس ومقاومة حماس والجهاد؟! يسخر بشار منه: «لا أريد منك أن تصدِّق... نعم، نحن في الوسط فعلا. سورية مع المصالحة. الحل فلسطيني...»
هنا، يعتقد المحاور أنه عثر على ثغرة: لماذا لا تقتنع مصر بذلك؟ هنا أيضا، يعبّر بشار عن فتور العلاقة مع مصر: لا أعرف كيف تفكر مصر. عندما سئل، لم يكن بشار قد اتصل مع مبارك ليطمئن على الصحة. إنما الدلائل توحي بالتفاؤل بمصالحة قريبة.
إذا كانت سورية مع السلام والمفاوضات، فلماذا تراهن على المقاومة؟ إيران تجد هنا «تناقضا» سوريا. يرد بشار بفذلكة طويلة عن المقاومة. لعلها كانت زلّة اللسان الوحيدة في الامتحان الشفهي التلفزيوني: «المقاومة مفهوم شعبي... عندما لا تكون هناك دولة تعمل من أجل تحرير الأرض».
الحوار يكشف عن غيرة إيران من علاقة تركيا مع سورية. لماذا الوسيط التركي؟ ألا يبدو إردوغان ضعيفا وهو يواجه خطر انقلاب عسكري؟ وكأن نجاد مارد قوي في الشارع الإيراني. يطمئن بشار نجاد، ليزيد من نار غيرته: علاقة سورية بتركيا متينة مع كل المؤسسات، بما في ذلك المؤسسات العلمانية (المعارضة التركية). هناك «إجماع تركي» على علاقة وثيقة مع سورية.
الامتحان الإيراني الأخير لبشار، عن العروبة؟ هل سورية دولة عربية أم إسلامية؟ الجواب فيه مرونة التخلص السوري: «الفكرة القومية هي الملجأ الوحيد لنا كدول عربية. لا استقرار بلا عروبة». إضافة جديدة. سورية «دولة قومية مجتمعها علماني... نحن دولة مسلمة عندما نتحدث مع دول إسلامية».
تبلغ المرونة السورية أقصى حدودها لضمان عدم «تزعيل» إيران تلفزيونيا: «نحن بحاجة إلى علاقة جيدة مع إيران، سواء اتفقنا في بعض التفاصيل أو اختلفنا». في العراق، بشار مع مَنْ: مع المالكي (الإيراني) أم مع علاوي (العروبي)؟ الجواب المتهرب: «نحن لا نرى العراق بهذه الطريقة». الواقع أن بشار لا يريد خامنه ئي ونجاد جارين مستقرين في العراق على حدود سورية.
مقابلة تلفزيونية مسلِّية. لكنها مفيدة. ذات مغزى سياسي. السؤال إيراني «بالفارسية». الجواب السوري «بالعربي» الفصيح. الشق اللبناني من المقابلة لا يقل أهمية عن الشق العربي والإقليمي. قراءتي وتفسيري لبشار «السوري/اللبناني» أتركها إلى الثلاثاء المقبل في حديث عن لبنان.
أكتفي الآن بالقول، عموما، أن إعلان الأسد عن عدم رغبته في التورط بالتفاصيل (المشاكل والصراعات الداخلية) اللبنانية، هو بمثابة انسحاب سياسي آخر من لبنان، لا يقل أهمية - إِنْ تمّ - عن الانسحاب العسكري، بعد مقتل الحريري الأب (2005). الانسحاب لا يعني الغياب. يظل لبنان حاضرا في ذهن وبال أي نظام سوري. استغرقت التفاصيل اللبنانية وقت وعمر وصحة الأسد الأب. عندما استعان بنجله الثاني، كانت نصيحة بشار لأبيه، منذ الثمانينات، بالانسحاب من التفاصيل. التورط السوري كان يحسب في لبنان انحيازا سوريا لهذا الطرف ضد ذاك.
لكن هل الانسحاب السوري سيكون من مصلحة إيران؟ هل إلغاء الطائفية السياسية يندرج في إطار دولة المعاصرة ومجتمع الحداثة؟ أم هو تمهيد للمشروع الشيعي في لبنان؟ لمشروع دولة الطائفة، كبديل لدولة الطوائف؟ المحاولة للإجابة عن هذه الأسئلة الصعبة في الثلاثاء المقبل.
غسان الامام
الشرق الاوسط