"ليلة في حياة كاتب": المثقف والمجتمع "رؤية سردية" بقلم / خالد جودة أحمد

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مجدي جعفر
    عضو منتسب
    • Jun 2021
    • 32

    "ليلة في حياة كاتب": المثقف والمجتمع "رؤية سردية" بقلم / خالد جودة أحمد

    "ليلة في حياة كاتب": المثقف والمجتمع
    "رؤية سردية"
    بقلم / خالد جودة أحمد

    قضية "المثقف والمجتمع" من القضايا الثقافية الرئيسة في الحياة الفكرية للمجتمعات، وهي قضية يثار دائما حولها الحجاج، فهي قصية قديمة جديدة علي الدوام، ويمكن لوصفها استعارة تعبير الكاتب "حلمى سلام" في "سفر أمل دنقل" عندما تحدث عن قضية الغموض والوضوح في الشعر خاصة أنها من لون قضايا السبعة أرواح لا يهدأ حولها النقاش، ولا تتواري حتى يجرى بعثها من جديد.
    كان الاختيار الإبداعي للروائي "مجدي محمود جعفر"، في سفره الروائي "ليلة في حياة كاتب" أن يمحص القضية عبر الرؤية السردية، التي تقدم الأفكار عبر عناصر سردية مؤتلفة من الحدث والشخصيات والبيئة الروائية "الزمكان"، واختيار أسلوب السرد، الذي يمثل –طبقًا لذائقتي- مكانة مقدرة في الرواية. حيث استخدمت الرواية فكرة الإزاحة الزمانية بتداخل الفترات الزمانية، والتقديم والتأخير الزماني، ومفارقة الزمن الخطي، والتناوب بين الفقرات السردية في تجلية الحدث الروائي وموضوعه الرئيس.
    وطوال رحلة الحكي تظهر الغوامض التي تحتاج للإيضاح لذلك كان التسريب الممنهج للقصص الخلفية والسياق التاريخي للشخصيات الروائية، والذي يأتي عبر أكثر من وسيلة، منها الآخر الذي يقص ويقدم جانبا من خفايا الحدث، ومنها الحوار بين المريد والأستاذ، ولكن المكون المحوري في الأسلوب السردي كان استخدام المفكرة للإفضاء الذاتي وكتابة المذكرات ومطالعة السارد "المريد" لأوراق الأستاذ وخواطره، وكانت تلك وسيلة للتماس الروائي مع تيار الوعي، وتدفق الأفكار دون ترتيب أو رابط زمكاني محدد: "ينتقل الأستاذ من فكرة إلى فكرة، ولا ينتقل بسلاسة ويسر، بل أحيانًا تأتي الأفكار مبتسرة ومتداخلة، ومرة يكتب بالفصحي وأخرى بالعامية، وثالثة تتداخل الفصحي بالعامية، ربما يكتب وفقا للحالة النفسية والمزاجية التي هو عليها" ص 109.
    والسارد دائم التذكير بالأسلوب السردي الرئيس: "الأوراق التي كتبها الأستاذ كثيرة، والأحداث لا تسير في خط تصاعدي، والخيوط متباعدة، وغير موصولة، الصفحات أكثرها غير مرقم، ومساحات بيضاء كثيرة تركها، ربما ليعود إليها فيما بعد" ص 50، وفي موطن روائي ثالث: "أقلب في صفحات بيضاء كثيرة، تركها الأستاذ فارغة، وقد يبدأ في إثارة موضوع، ثم سرعان ما يخرج منه قبل أن يتمه، وينتقل إلى موضوع آخر" ص 68
    والسياق الروائي هذا ممنطق حيث من أظهر خصال المثقف "الأستاذ" محبة العزلة المنتجة، والوعي بالذات، والتنقيب في داخلها، والتفكر المستدام، كما يشير السرد: "يتداخل السجن الحقيقي بالسجن الافتراضي، كما يتداخل الواقعي بالتخيلي، والبعيد بالقريب، والماضي بالحاضر"
    والعزلة منتخبة – محبة الريف- لا تفارق الواقع ولا تستهين به، والشواهد الموقفية والنصية كثر بالرواية، منها ثنائية الثقافة والرياضة، حيث الأخيرة تستحوذ علي اهتمام المجتمع، فالنادي الكبير معادل موضوعي للتنظيم الاجتماعي الكلي، والتناص مع حكايات الطفل للمبدع "كامل الكفراوي"، وحضور علامات وقامات ثقافية (الأبنودي وجاهين وغيرهم) لها مكانة مقدرة وفاعلة تاريخيًا وثقافيا يحيل أنها رواية واقعية تبصر أدواء اجتماعية وتصف سبيل المثقف للتداوي بالحكايات والفكر والقراءة والتأمل والفعل والكتابة والتبصير والوصايا جميعا. يقول الأستاذ: "أحاول أن أمضغ أحزاني، يلتف حولي الصغار، كل أطفال العزبة ينادونني (جدو) ويطلبون مني الحدوتة" ص 100
    وللسبب ذاته ضمت الرواية نظرات سياسية واجتماعية، وإشارات تاريخية كثر، واحتفاء بقضايا قومية ما زالت محورية في الضمير المصري رغم المحن المتتالية، والضمير الروائي أيضا يبصر العدو الحقيقي ويشير بمقاومته: ".... وكراهيتم الشديدة للمصريين بالذات، اكتشفت أن الأدوية مسرطنة، والأعلاف مسرطنة، حتى الكتاكيت ذاتها مسرطنة (..) استيقظ في داخلي الفلاح والصعيدي والعربي والمسلم، وقال لي جدك خليل: ما تفعله عين الصواب" ص 98 "بتصرف"
    والإيقاع السردي منوع في إطار هذه الاستراتيجية الأسلوبية من استعمال تقنيات التسريع ومنها الحذف: "التقينا آلاف المرات، وصرت من مريديه، وباح لي، وبحث له، جاء مثل بطل أسطوري، هتف باسمه البسطاء، وغنت له الصبية" ص 20
    كما استخدمت الرواية تقنية الملخص في مفاصل روائية تحفظ التلقي من التشتت وتعيد المسار في المطالعة للوعي بالحدث الروائي، أنموذجًا: "عاش حياة الملوك، وعاش حياة الصعاليك، عاش سنوات في الأضواء، وسنوات أكثر في الظل، عرفته قارئًا، نهمًا، شرهًا ..." ص 20
    وعلي الجانب الضدي يستعمل تقنيات التمهل السردي، حيث مثول الحوار أحيانا واستعمال الحكايات "الكناية" الإسقاطية
    والرواية شغوفة بإيضاح هموم المثقف العضوي الفاعل في مجتمعه، تسعي للشمول والإحاطة بسماته النفسية، وأفعاله الحركية خدمة لأفكاره وسعيًا لإنارة مجتمعه. فالفاعل الرئيس مبدع وناشط ثقافي جوال يمارس أكثر أفعال الثقافة لصوقا بالمجتمعات "المسرح". والرواية تقارب رواية السيرة الذاتية للشخصية الروائية الرئيسة، والضوء السردي محيط بشخصية المثقف لذلك كان حضور الوصف الخارجي للشخصية الرئيسة "الأستاذ"، وتقديم فعله الثقافي النير. لذلك جاء الاستهلال سريعًا بتوحد "الأستاذ" مع الكتاب وتبتله في محراب الفكر فينقطع عن التواصل حتي ينهي المطالعة: "احترم جلستي مع الكتاب"، والأمر آراه تربويًا حيث الإشارة لتقدير الكتاب وجعله الجامعة الحرة المفتوحة للتثقيف، فكان شعوره وموقفه: "... لاعنا المنهج والقولبة، والحجر علي العقول، والتعليم في حجرات مغلقة، والأسوار حول المدرسة" ص 10
    وتحتشد الرواية بجذور تاريخية كاشفة، وتأملات سياسية واجتماعية موفقة، نشير لمثال منها أرى أنه مهما، أن رفعة المواطن وارتفائه سبيلا للتقدم والاستقرار السياسي والاجتماعي ولصالح الحاكم والمحكوم معا، ففي القصة الرمزية الكناية المشوقة –الأسد والقرود والكلب والفأر- نجد الأسد يسقط وتستباح أبهته وكرامته ورفعته عندما يتدني مواطنيه ولا يرتقون لا بثقافة ولا بفكر ولايستشعرون كرامتهم المنحورة، مع تضمين بيت شعري ولا أروع في توظيفه الموضوعي الخلاق بالفقرة السردية: "الأسد يتذكر كم عاني خسة الضباع، ومكر الثعالب، وغدر الذئاب، وغباء الحمير، لكنه جمع هذه التوليفة تحت قيادته بما له من عظمة وسطوة (..) ولسان حال البومة يقول له: يا ساريا بين الأسنة والقنا / إني أشم عليك رائحة الدم" ص 127 "بتصرف"
    وصورة المثقف روائيا شيقة تتماس مع المثال الكريم، حيث يمزج بين المسطور والمنظور، ويقارب الكتب والطبيعة: "كانت الشمس قد اختفت تمامًا، والأستاذ طوى الكتاب، ووضعه إلى جواره، وراح ينظر إلى نجمة تبزغ في السماء" ص 12، والنسيج الروائي يبث في مواطن روائية كثر تلك الإشارات حول محبة البيئة الريفية خاصة والكتب دائما
    والمثقف يألف الرواية ويعدها مثيرة للتلقي حيث تلك المنثورات الذهبية حول عوالم الإبداع والكتابة وإقتناء فكرة ما وراء القص كما يقال "أشهي من الكتابة الحديث عن الكثابة"، فسمات الكاتب توضح لون إبداعه: "الشاعر قلق بطبعه، ولا يطيق الانتظار" بينما "الرواية أو المسرحية، هذا يحتاج إلى دأب وصبر وأناة". ثم رعاية الاحتشاد للمشروع الإبداعي: "ما أحلم بكتابته، لم أكتبه بعد". والحديث عن أزمة الناقد والمنقود، وتعثر الفرز: "الضمير الأدبي في مصر يعاني أزمة حقيقية، كيف لنقادنا الأشاوس أن يتجاهلوا أعمالا مثل هذه بقيمتها الموضوعية والفنية العالية" ص 104
    أما النافذة المضيئة روائيا رغم محنة المثقف، وجهاده الصعب لتصويب واقعه الذي يوضحه المجاز الروائي: "ولا أعرف كيف انقلبت الضحكات إلى كآبة مرة؟، وللحزن طعوم" ص 32، تلك النافذة جاءت في شكل وصية والد محب لولده الإداري بالنادي الوطني معادل "مصر الأمة": "الحب الحب ياولدي، ينقصنا الحب ياولدي، فالتعصب دخل الحب، عليك بمراقبة الحب بداخلك، فيه يكون الكشف، وتكون الفيوضات" ص 92
    وتعد الوصية بصيرة إبداعية بأعنف أخطار الأمة المصرية في داء التقسيم والنحر الاجتماعي البغيض، نرجو أن تنفيه الطبيعة المصرية الخيرة المقاومة: "ونحن كما نحن، مثل طعم الأرض، مهما قطعنا ننمو" ص 70وعسى أن يكون قريبا.
يعمل...
X