NAQD n°18, automne-hiver 2003, pages 31-40 (arabe).
أليس شركي[*]
فانون والاستلاب النفسي المرضي
ترجمة : لحسن عيساني
إن الحديث عن فانون من وجهة نظر الطب النفسي هو لا محالة تقطيع اعتباطي، إذ كما تعلمون، فقد انصب بحث فانون على استلاب الإنسان- والاستلاب كلمة لم تعد تستعمل اليوم قط، تماما مثل كلمة دخيل أو دعي- في جميع المجالات البشرية.
كان فانون يتابع بلا هوادة تساؤله عن أسباب الاستلاب، وعن آثاره والوسائل التي يجب استعمالها لمحاولة الخروج منه. كما أن لا شيء منفصل لديه عن ولعه بالجنون وأكثر من ذلك بالنفس ومعركته السياسية وممارسته الكتابة.
ويصعب الفصل بين فانون محلل التمييز العنصري و فانون الذي يتفق مع مانوني
(1) علم نفس الاحتلال، وفانون الذي يبرز أنه لا يمكن اختزال وضعية احتلال عالمين منفصلين أحدهما عن الآخر، والمواجهة بين قوتين متنافستين وغير متكافئتين تقصي إحداهما الأخرى، ولا يدع للمحتل خيارا آخر سوى التحجر الخاضع أو ثورة فانون بكتابه الظاهرة ''الشمال- أفريقية'' للعامل المهاجر، المشيء في الخطاب الطبي، والمقطوع عن جذوره وغاياته، وفانون المكافح من أجل أن يدخل إلى الـ HPB العلاج الاجتماعي لدى الأجراء الذين كانوا آنذاك يدعون أهالي مسلمين، أو إقامته آنذاك في تونس مؤسسة طلائعية، لمستشفى نهاري.
والمريض في هذه المؤسسة لا يقطع صلته بمحيطه العائلي وأحيانا المهني الذي لا يخمد فيه علم الأعراض العقلي تكلفا عن طريق الحجز الذي تمنع خلاله الأعراض من الظهور فقط وأحيانا تخفى ولكنها لا تحل.
وقد أصبح هذا النقد من جديد حاليا بصورة حديثة وغريبة، بما في ذلك في فرنسا اليوم: ففي نوفمبر2001 صدرت ''Lettre de la Psychiatrie française'' بعنوان ''Au feu, exclusion de la psychopathologie’’، '' حذار....هناك إقصاء لعلم العلاج النفسي'' وهي صيحة إنذار بالاستيلاء على سلطة الطب العقلي البيولوجي، والجزيء المضاد للاكتئاب أو الذهان،الذي يفرغ كل البعد المرضي النفسي والأنثربولوجي من طب الأمراض العقلية، وهذا حتى في تكوين أطباء الأمراض العقلية.
و يتيح لي هذا الاقتحام للحالي حركة دائبة حول هذه النقاط الثلاث:
- نقد الطب العقلي الاستعماري
- تقدم فانون على الركود الذي كان يميز تطور النفسية البشرية عبر الأجيال، والصلة مع التاريخ والصدمة التي لا تخلو من علاقة بكتابته الفريدة: تفكيك اللغة المسيطرة، والانطلاق مجددا من الجسد، ومن المشاعر والإدراكات التي تتسلل مجددا بصورة سميولوجية إلى اللغة.
- وأخيرا إذا ما بقي لدينا بعض الوقت، فسنتطرق إلى ما يميز فانون عن ثقافوية الطب العقلي العرقي.
نقد الطب العقلي الاستعماري:
كان فانون قد تميز بوضوح في فرنسا عن الطب العقلي الكلاسيكي وعن المنفى (كان ذلك قبل ظهور مهدئات الأعصاب) مصحة عقلية تصف فقط الأعراض والأمراض وتمثل منفى، مؤسسة ميتة، تقوم بوظيفة الحراسة. وفي سانت ألبان وجد له موضع قدم مع توسكال Tosquelles وتأسيس علاج نفسي مؤسساتي مؤ، ا.
وتفترض مؤسسة الطب العقلي''العيش معا لبشر مجانين وغير مجانين''، معالجين ومرضى، من أجل بناء، نصوص ومسارح، داخل المؤسسة نفسها حتى يلعب من جديد ويمثل ما كان قد لعب بشكل سيء أو حتى لم يكن لعبه ممكنا. ويدرس فضاء الجنون في علاقته الوثيقة بالاستلاب الاجتماعي، والثقافي أيضا.
يجب القضاء على استلاب مؤسسة الطب العقلي وجعلها فضاء يخترع فيه المعالجون والمرضى، والمرضى عقليا وغير المرضى هذه القواعد. ويجد فانون هنا، عكس تجاربه السابقة، لدى Dechaume وكذا في مستشفى Dole نقطة التقاء، حيث يدرس الاستلاب في جميع أشكاله في مكان التقاء الجسدي بالنفسي، والمؤسسة بالتاريخ.
وقد تبنى فانون هذا التصور الأقلي جدا وحمله معه إلى الجزائر الاستعمارية، والحال أنه، ليس فقط أن العلاج النفسي المؤسساتي لم يكن قد توغل في هذه المنطقة، بل أنه كانت تعيث فسادا حينذاك، وربما وجب تذكير صغار السن بذلك، نظرية مدرسة الجزائر العاصمة-لا تلك الخاصة بالأدب إنما تلك الخاصة بالطب العقلي 'Porot, Sutter' وآخرون.
كان مذهب بدائية الأهلي المسلم الذي وضع العنصرية البيولوجية في مرتبة أنثربولوجيا المرض العقلي. وقد وقع سوتر، تلميذ بورو، الذي حرر أطروحته عام,1938 معه عام 1939 مقالة عن ''بدائية الأهالي الأفريقيين الشماليين وانعكاساتها في المرض العقلي'' وكلاهما يلحان على وصف الأهلي ككائن بدائي تنتظم حياته الخاملة أساسا والغريزية بواسطة بدماغه المتوسط (...) وهي حالة خاصة للمعمار، على الأقل للتسلسل الحركي للمراكز العصبية، أي عن طريق تدن في النمو الدماغي.
ومع أنه قدم نفسه في سنوات الخمسينيات على أنه كاثوليكي ليبرالي، فإن سوتر يشارك سواء تماهيا مع المعلم أو عن اقتناع شخصي، وإن بكل ابتذال، في مذهب الأطباء العقليين لـ ''مدرسة الجزائر العاصمة'' ألا وهو البدائية....ووفق هذا المذهب، يتميز الأهالي الإفريقيون الشماليون بنمو نفسي بدائي وتسيطر على حياتهم النفسية الغرائز، وقلما تلجأ إلى أكثر القدرات العقلية تطورا.
ولأنهم فاقدو إرادة، يفتقرون إلى الفضول الفكري، فإنهم يبدون فقدان شهية فطري للعمل، ويفتقرون إلى العناية والمنطق في نشاطاتهم المهنية. ويبدون ميلا واضحا إلى الكذب والوقاحة، ويخضعون إلى نزق إجرامي يجعلهم شديدي الخطورة. و يعود أصل هذه الخصائص إلى عدم نضج محدد وراثيا للنمو الدماغي، ويهيمن العقل الأدنى(الدماغ المتوسط) عند الأهلي على البنيات القشرية العليا.
ومن هذا المنظور فإن '' هؤلاء البدائيين لا يستطيعون ولا ينبغي لهم أن يستفيدوا من تطورات الحضارة الأوروبية'' وهم غير قادرين على التمتع بها وكل محاولة لمنحهم إياها لا يمكنها إلا أن تصيبهم باضطراب خطير.
و تظهر هذه الأطروحة، مع أنها مرتبطة بصورة وثيقة بالنظام الاستعماري وسنوات الثلاثينيات، في الدليل الأبجدي للطب العقلي الذي نشر عام ,1952 والذي نجد فيه إلى جانب1960-1959، سوتر، أوبان وباردونا.
ويبدو أنها ستستمر بشكل ماكر، لأنها أعيدت في طبعة 1975 من هذا الدليل الذي حرره أعضاء '' مدرسة الجزائر العاصمة''، وهو دليل كان إلى غاية صدور وجيز Henry Ey عام 1960-1959 ، العمل الوحيد باللغة الفرنسية الذي هو في متناول الطلبة ويروق لهم.
ويقول Bernard Doray بتذمر في العدد 14 من '' Nord Sud Algéries'' : ''لم يحدث ذلك في ألمانيا الثلاثينيات إنما في دائرة فرنسية من الخمسينيات'' ولن يكن لفانون مواجهة مباشرة مع هذه النظرية وقد كتب فيما بعد مقالة في
''Consciences maghrébines'' يقرب فيها هذه النظرية من كلام Carothers الذي يقول فيه أن ''الأفريقي العادي هو أوروبي محدود الذكاء''. وتوجد إجابة فانون في عمله في البليدة، وإدخاله علم الاجتماع في مصلحته.
وسيتحول الفشل مع المرضى المسلمين إلى تساؤل خصب '' أي اضطراب في الحكم جعلنا نعتقد انه يمكن وجود علم اجتماع من وحي غربي يضع بين قوسين جميع الأطر الجغرافية والتاريخية والثقافية والاجتماعية، في مصلحة للمستلبين المسلمين ؟''
ألم نعتمد دون تفكير سياسة الإدماج ؟ ومن هذا المنظور فعلا ليس الأهلي في حاجة إلى أن يفهم في تفرده الثقافي، وعليه هو أن يجتهد كي يشبه النموذج الذي يقترحه المحتل عليه. ولا يفترض الإدماج في إطار المجتمع المحتل التبادل، إنما اختفاء ثقافة بأكملها لحساب ثقافة مهيمنة.
ومن الضروري أيضا، يقول فانون، أن تأتي المبادرة من داخل المعالجين أنفسهم الذين جربوا الانتقاص والرفض وإقصاء مرجعيات لغتهم وتاريخهم وثقافتهم وأن يتحرروا، نقول اليوم ، من النسبة إلى هذا الآخر الذي كان يدعي أنه مالك مكان الآخر، جميع الآخرين ويطرد خارج الحضارة أو ما يسمى كذلك وحتى من رتبة البشر، أي شخص يرفض ''الاحتكار الإمبراطوري الفادح'' Doray.
وسأتوقف هنا عند نقد الطب النفسي لا الاستعماري فحسب بل بعد -الاستعماري أيضا، إذ كما ذكرتكم في بداية حديثي فقد عوض الـ DSM3 ثم 4 ثم قريبا 5 بصورة دقيقة جدا وصف الأمراض هذا الذي يعود للخمسينيات وانتصرت البيولوجيا، بما في ذلك في الجانب الآخر للمتوسط، على الإصغاء للشخص المقصى من تاريخ السياسي والموضوع موضع شيء مقطوع عن جذوره وعن أهدافه.
تقدم فانون على ما كان متوقفا منقطعا في تطور النفس البشرية عبر الأجيال والعلاقة مع التاريخ والصدمة. ويقرأ هذا التقدم بصورة أقل بروزا لكنه يدرس ظروف النمو النفسي للإنسان منذ ولادته، في العالم.
فكل طفل يبتلع مع عصيدته أصوات العالم وكذا الصمت وسينهل منها صوره الخاصة، وتراكيبه الوظيفية، والآثار النفسية ووسائل مصيره المحتمل.
وأكثر مما نظر لها، طرح فانون بطريقة جد استباقية أسئلة عما يعرقل التطور الذاتي، ووصف آثار مصادرات اللغات وعنف التاريخ على الموضوع، والرفض عبر الأجيال، وانتقاص القيمة وإقصاء المرجعيات والأنساب، والصدمات المتوقفة الجامدة في إعداد مستحيل بسبب الإنكار والخنق.
ويبين الآثار العيادية، والخزي، والذهول والانطواء على جسد منهك ومتحجر، والعنف المتواتر اللانهائي. وهذه الحوادث الذاتية التي لا تجد، كي تتنقل وتترجم وتظهر، نقاط استقبال أو دعم في الاجتماعي والسياسي والثقافي، تتردد على عيادات الأطباء السرير يين والمؤسسات المسماة مؤسسات ضواحي.
وقد أكد فانون عن قرب على الواقع وعلى ضرورة واستحالة مشهد عندما يكون مطبوعا بإنكارات الوجود، وإنكارات الذاكرة ويجعل من الصعب بل من المستحيل وضع قواعد لإعادة كتابة ذاكرة ممنوعة.
وسواء أكان ذلك في ذهول الشاب الأسود( هو في هذه الحالة) المشار إليه بالأسود أو الشخص المستعمر أو أي شخص أخر تعرّض لعنف شديد، لا يملك الوسائل لإعداد المشهد.
وقد حرص فانون على إظهار آثار الذهول من جديد على أجساد صامتة، تغوص في اضطراب صورة الذات، والخزي والقنوط، والعنف المتواتر.
ولهذا في فترة كان فيها التحليل النفسي محصورا في غالبيته في الجعجعة الأوديبية الخالية من التاريخ وبلغة واحدة، يحاول فيها أحد النادرين القلة ك Bettelheim عبثا أن يقول أن الشعور بالخزي هو علامة بعيدة عن شعور أوديبي بالذنب لا شعوري مرتبط بصور أبوية جدا.
وكان فانون يحمل في تجربته ذاتها هذا السؤال الذي وضحه في عمله كطبيب أمراض عقلية (لاسيما مع صدمات الحرب) وكذا في أبحاثه ابتداء بـ PNMBخضوع للأحادية اللغوية للآخر، وخاصة إخفاء الرق في الـ Antilles وبعيدا عن الإبادة وبعيدا عن الاحتلال.
وزيادة على ذلك فهو يلخص ما هو أكثر صدمة '' ليس أن هذه الثقافة تدمر إنما أنها لا تختفي كليا''. في احتضار لا ينتهي وتتحنط وتتكيس. ونحن قريبون جدا، حتى في المصطلحات، من كل ما يجعل الصدمة لا متناهية، والتكيس واستحالة الغياب، والدفن.
وهو يبحث عن الأدوات التي تستطيع أن تعرض هذا الذهول الذاتي وهذا الاضطراب في صورة الجسد، ويدرس مفهوم الصدمة عند Freud ثم عند Ferenczi فيما بعد. ويبحث عن صورة الجسد عند L'Hermite وطبعا ظاهراتية Merleau Ponty Sartre أكثر في رأيي منHegel الذي تخلى عنها بسرعة.
ميراث هذا الصمت: الإعداد المشطوب، التوقف عند صورة وعند جسد منهك. ما لعمل ؟ من ناحية إيجاد أماكن للإظهار، والكتابة وإظهار السلطة، ربما في المدينة، ومن ناحية أخرى إصلاح المرجعيات الرمزية للثقافة وللسياسي.
ويهيم أبناؤنا في الواقع بين الخجل من الذات وكراهية كل شيء، لنقل إن الكلمات لا تقول شيئا، على أجسادهم علامات، ورموز هيروغليفية تبحث عن من يفكها. وكان فانون قد شعر بوجوده، ولو مع يتامى دور الأطفال في تونس، المسكونين جميعهم في لحظة معينة بالصمت والذهول والغموض أمام الناس و يعصف بهم عنف لا متناه.
وفي هذا الإطار، كان الأمر بالنسبة لفانون يتعلق بتوليد أشكال جديدة لذات لا متحجرة ولا مشيئة، إنما مبحرة في ما هو مأساة كل إنسان. ربما كان هذا ما يحاول اليوم بعناية أن يمحوه أطباء الأمراض العقلية المدمنون على العقاقير إلى درجة تجعلنا نتساءل إن لم يكونوا هم مروجو مخدرات القرن الحادي والعشرين، على غرار عدد معتبر من معاصريهم،حتى عندما يذكرهم فعل متوهج في العالم وطأة الشعور بالقنوط.
ماالذي يميز فانون عن الطب العقلي العرقي ؟
حول هذا الموضوع أكد Olivier Douville من ناحية و Bernard Doray عند قراءة كتابي على هذه النقاط، أفضل مما أستطيع فعله، بخبراتهما كعالمي نفس، ومحللين نفسانيين ويعملان في الميدان اليوم. ثم ألسنا من أجل هذا نتحدث ونكتب كي يمتد القارئ الآخر، ويخطو خطوة إضافية. أليس من أجل هذا اجتمعنا اليوم؟
من خلال هذا الصوت الثلاثي سأشير إلى ما يلي :
وقعت الثقافوية في فخ إنكار السياسي وتشييء الوضعيات سواء على أساس شخصية قاعدية أو شخصية ثقافية، ''لديها ولع بالجغرافيا ورهبة من التاريخ'' ويستند Olivier Douvilleإلى هياكل ثقافية لا زمنية للحركة.
وسيبدي فانون نفورا من كل أشكال الحبس الثقافوي للأشخاص ويتخلى بسرعة عن منطق يكاد يصبح ثنائيا ''زنوجة وبياض''، واضعا الثقافات المتحركة كمعالم للدخول إلى الكلية.
وقد شجع تأثير الثقافة على نفسها وتشهد على ذلك عدة فصول من السنة الخامسة من الثورة وما كان مهما هو تحديد استحالة الثقافة في إطار السيطرة الاستعمارية بين اتجاهين: إما تصليب الثقافة السلفية في شكل تقاليد منمطة وقليلة الإنتاج أو اكتساب ثقافة المحتل بصورة مجنونة.
الخروج من السيطرة الاستعمارية هو تمكين ثقافتين أن تغني إحداهما الأخرى للوصول إلى الكلية. وبهذا المعنى يرد بلباقة شديدة على Shariati حول الإسلام. وهنا أيضا تعد الأنثربولوجيا الثقافية لفانون متقدمة بشكل رائع مقارنة بالعودة الارتدادية الحالية للطب العقلي العرقي مستندة إلى ثقافوية كان فانون دائما يحذرها ويتقيها.
ويعد تشييء ذهنيات خاصة بهذا العهد الثقافي أو ذاك و خاصة مطابقة الأشخاص، بشكل مسبق، مع الثقافة التي يفترض أنهم أعضاء منها، أي إعطائهم هوية مصممة ومعدة مسبقا جوهر الثقافوية في فرنسا اليوم، ويقترن تماما مع وصف عودة هوية.
والحال انه إن كان فانون كعالم أنثربولوجيا ثقافية قد ذكر الآثار المدمرة للاضطهاد الذي يمليه انشغال سياسي للسيطرة، على الأفراد وعلى ثقافتهم، مؤديا إلى تكيس هذه الأخيرة و''تحنطها'' وإن كان قد استعمل في ممارسة العلاج الاجتماعي في البليدة مرجعيات دالة لهذه الثقافة بالنسبة للمرضى، فلقد كان دائما ضد التوفيق بين عقليات ثابتة وسلاسل ثقافية، وإن كان قد استطاع أن يلاحظ أن مرجعيات مطحونة بالثقافة المسيطرة كان يجب أن ترمم للسماح للشخص أن يشكل فضاء رمزيا، فإنه لم يكن يظن أنه- وهذا ما كان يفعله أطباء العقل العرقيون- بنسبة شخص إلى هذه الثقافة المسماة أصلية يتم تحريره، أو بمعنى آخر شفاؤه.
وكان يناضل أيضا بصورة متكررة من أجل ثقافة متحركة، تغيرها دائما الوضعيات الجديدة. ومنذ انتقاده مانوني، أكد فانون انه لا وجود لعالم تقليدي سليم، فهذا الأخير فاسد بعد ويجب أن يجد في الحداثة طريقه لامتلاك موقع الإنسانية والكونية.
و ما يزال هذا الموقف اليوم يزعج التقليديين والمحافظين، فهو مفرط الثقافوية بالنسبة لبعضهم ومفرط الكونية للبعض الآخر، في هذه الحركة المزدوجة لخرق المرجعيات والانتقال إلى أمر آخر، وإنتاج شيء قابل لأن يصبح كونيا.
إن فانون هو ابن الواقع وهو مفرط الكونية بالنسبة لبعض المحللين النفسانيين أو بعض المفكرين الذين يعتقدون أنه يجب إعادة امتلاك الهوية الأصلية.
وهو مفرط التفاضلية بالنسبة للبعض الآخر لأنه أكد على أهمية الاختلافات بين الثقافات، بينما ينصب اهتمامه على التعرف على المرجعيات التي تطبع الشخص في هذه الثقافات من جيل إلى جيل، والانتقال من المفرد إلى الجمع- لا من الفردانية إلى الكونية.
كان هذا النقاش في قلب قضية نهاية قرننا، لأنها تدرس، في إفلاس الكليات، مكانة الشخص كفاعل إما أن يختفي أو أن يتصرف، وهذا العمل هو عمل شخص السياسي. ويشكل مسار فانون الممتد من تحرير الشخص إلى دراسة السياسي، سؤالا ما يفتأ يلح على مجتمعاتنا العصرية. والشخص المسؤول، الذي يكون مواطنا فاعلا لا شخصا منفعلا ومخضعا، هو في قلب التفكير بشأن سياسي اليوم، عندما لا نعلن طبعا عن اختفائه.
و سأعود من جديد من دون قصد إلى بداية كلامي ألا وهو استحالة الفصل، بصورة أخرى غير التعسف بين فانون طبيب الأمراض العقلية وبين المفكر و الكاتب والإنسان الملتزم سياسيا.
الهوامش
________________________________________[*] محللة نفسانية
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:18
أليس شركي[*]
فانون والاستلاب النفسي المرضي
ترجمة : لحسن عيساني
إن الحديث عن فانون من وجهة نظر الطب النفسي هو لا محالة تقطيع اعتباطي، إذ كما تعلمون، فقد انصب بحث فانون على استلاب الإنسان- والاستلاب كلمة لم تعد تستعمل اليوم قط، تماما مثل كلمة دخيل أو دعي- في جميع المجالات البشرية.
كان فانون يتابع بلا هوادة تساؤله عن أسباب الاستلاب، وعن آثاره والوسائل التي يجب استعمالها لمحاولة الخروج منه. كما أن لا شيء منفصل لديه عن ولعه بالجنون وأكثر من ذلك بالنفس ومعركته السياسية وممارسته الكتابة.
ويصعب الفصل بين فانون محلل التمييز العنصري و فانون الذي يتفق مع مانوني
(1) علم نفس الاحتلال، وفانون الذي يبرز أنه لا يمكن اختزال وضعية احتلال عالمين منفصلين أحدهما عن الآخر، والمواجهة بين قوتين متنافستين وغير متكافئتين تقصي إحداهما الأخرى، ولا يدع للمحتل خيارا آخر سوى التحجر الخاضع أو ثورة فانون بكتابه الظاهرة ''الشمال- أفريقية'' للعامل المهاجر، المشيء في الخطاب الطبي، والمقطوع عن جذوره وغاياته، وفانون المكافح من أجل أن يدخل إلى الـ HPB العلاج الاجتماعي لدى الأجراء الذين كانوا آنذاك يدعون أهالي مسلمين، أو إقامته آنذاك في تونس مؤسسة طلائعية، لمستشفى نهاري.
والمريض في هذه المؤسسة لا يقطع صلته بمحيطه العائلي وأحيانا المهني الذي لا يخمد فيه علم الأعراض العقلي تكلفا عن طريق الحجز الذي تمنع خلاله الأعراض من الظهور فقط وأحيانا تخفى ولكنها لا تحل.
وقد أصبح هذا النقد من جديد حاليا بصورة حديثة وغريبة، بما في ذلك في فرنسا اليوم: ففي نوفمبر2001 صدرت ''Lettre de la Psychiatrie française'' بعنوان ''Au feu, exclusion de la psychopathologie’’، '' حذار....هناك إقصاء لعلم العلاج النفسي'' وهي صيحة إنذار بالاستيلاء على سلطة الطب العقلي البيولوجي، والجزيء المضاد للاكتئاب أو الذهان،الذي يفرغ كل البعد المرضي النفسي والأنثربولوجي من طب الأمراض العقلية، وهذا حتى في تكوين أطباء الأمراض العقلية.
و يتيح لي هذا الاقتحام للحالي حركة دائبة حول هذه النقاط الثلاث:
- نقد الطب العقلي الاستعماري
- تقدم فانون على الركود الذي كان يميز تطور النفسية البشرية عبر الأجيال، والصلة مع التاريخ والصدمة التي لا تخلو من علاقة بكتابته الفريدة: تفكيك اللغة المسيطرة، والانطلاق مجددا من الجسد، ومن المشاعر والإدراكات التي تتسلل مجددا بصورة سميولوجية إلى اللغة.
- وأخيرا إذا ما بقي لدينا بعض الوقت، فسنتطرق إلى ما يميز فانون عن ثقافوية الطب العقلي العرقي.
نقد الطب العقلي الاستعماري:
كان فانون قد تميز بوضوح في فرنسا عن الطب العقلي الكلاسيكي وعن المنفى (كان ذلك قبل ظهور مهدئات الأعصاب) مصحة عقلية تصف فقط الأعراض والأمراض وتمثل منفى، مؤسسة ميتة، تقوم بوظيفة الحراسة. وفي سانت ألبان وجد له موضع قدم مع توسكال Tosquelles وتأسيس علاج نفسي مؤسساتي مؤ، ا.
وتفترض مؤسسة الطب العقلي''العيش معا لبشر مجانين وغير مجانين''، معالجين ومرضى، من أجل بناء، نصوص ومسارح، داخل المؤسسة نفسها حتى يلعب من جديد ويمثل ما كان قد لعب بشكل سيء أو حتى لم يكن لعبه ممكنا. ويدرس فضاء الجنون في علاقته الوثيقة بالاستلاب الاجتماعي، والثقافي أيضا.
يجب القضاء على استلاب مؤسسة الطب العقلي وجعلها فضاء يخترع فيه المعالجون والمرضى، والمرضى عقليا وغير المرضى هذه القواعد. ويجد فانون هنا، عكس تجاربه السابقة، لدى Dechaume وكذا في مستشفى Dole نقطة التقاء، حيث يدرس الاستلاب في جميع أشكاله في مكان التقاء الجسدي بالنفسي، والمؤسسة بالتاريخ.
وقد تبنى فانون هذا التصور الأقلي جدا وحمله معه إلى الجزائر الاستعمارية، والحال أنه، ليس فقط أن العلاج النفسي المؤسساتي لم يكن قد توغل في هذه المنطقة، بل أنه كانت تعيث فسادا حينذاك، وربما وجب تذكير صغار السن بذلك، نظرية مدرسة الجزائر العاصمة-لا تلك الخاصة بالأدب إنما تلك الخاصة بالطب العقلي 'Porot, Sutter' وآخرون.
كان مذهب بدائية الأهلي المسلم الذي وضع العنصرية البيولوجية في مرتبة أنثربولوجيا المرض العقلي. وقد وقع سوتر، تلميذ بورو، الذي حرر أطروحته عام,1938 معه عام 1939 مقالة عن ''بدائية الأهالي الأفريقيين الشماليين وانعكاساتها في المرض العقلي'' وكلاهما يلحان على وصف الأهلي ككائن بدائي تنتظم حياته الخاملة أساسا والغريزية بواسطة بدماغه المتوسط (...) وهي حالة خاصة للمعمار، على الأقل للتسلسل الحركي للمراكز العصبية، أي عن طريق تدن في النمو الدماغي.
ومع أنه قدم نفسه في سنوات الخمسينيات على أنه كاثوليكي ليبرالي، فإن سوتر يشارك سواء تماهيا مع المعلم أو عن اقتناع شخصي، وإن بكل ابتذال، في مذهب الأطباء العقليين لـ ''مدرسة الجزائر العاصمة'' ألا وهو البدائية....ووفق هذا المذهب، يتميز الأهالي الإفريقيون الشماليون بنمو نفسي بدائي وتسيطر على حياتهم النفسية الغرائز، وقلما تلجأ إلى أكثر القدرات العقلية تطورا.
ولأنهم فاقدو إرادة، يفتقرون إلى الفضول الفكري، فإنهم يبدون فقدان شهية فطري للعمل، ويفتقرون إلى العناية والمنطق في نشاطاتهم المهنية. ويبدون ميلا واضحا إلى الكذب والوقاحة، ويخضعون إلى نزق إجرامي يجعلهم شديدي الخطورة. و يعود أصل هذه الخصائص إلى عدم نضج محدد وراثيا للنمو الدماغي، ويهيمن العقل الأدنى(الدماغ المتوسط) عند الأهلي على البنيات القشرية العليا.
ومن هذا المنظور فإن '' هؤلاء البدائيين لا يستطيعون ولا ينبغي لهم أن يستفيدوا من تطورات الحضارة الأوروبية'' وهم غير قادرين على التمتع بها وكل محاولة لمنحهم إياها لا يمكنها إلا أن تصيبهم باضطراب خطير.
و تظهر هذه الأطروحة، مع أنها مرتبطة بصورة وثيقة بالنظام الاستعماري وسنوات الثلاثينيات، في الدليل الأبجدي للطب العقلي الذي نشر عام ,1952 والذي نجد فيه إلى جانب1960-1959، سوتر، أوبان وباردونا.
ويبدو أنها ستستمر بشكل ماكر، لأنها أعيدت في طبعة 1975 من هذا الدليل الذي حرره أعضاء '' مدرسة الجزائر العاصمة''، وهو دليل كان إلى غاية صدور وجيز Henry Ey عام 1960-1959 ، العمل الوحيد باللغة الفرنسية الذي هو في متناول الطلبة ويروق لهم.
ويقول Bernard Doray بتذمر في العدد 14 من '' Nord Sud Algéries'' : ''لم يحدث ذلك في ألمانيا الثلاثينيات إنما في دائرة فرنسية من الخمسينيات'' ولن يكن لفانون مواجهة مباشرة مع هذه النظرية وقد كتب فيما بعد مقالة في
''Consciences maghrébines'' يقرب فيها هذه النظرية من كلام Carothers الذي يقول فيه أن ''الأفريقي العادي هو أوروبي محدود الذكاء''. وتوجد إجابة فانون في عمله في البليدة، وإدخاله علم الاجتماع في مصلحته.
وسيتحول الفشل مع المرضى المسلمين إلى تساؤل خصب '' أي اضطراب في الحكم جعلنا نعتقد انه يمكن وجود علم اجتماع من وحي غربي يضع بين قوسين جميع الأطر الجغرافية والتاريخية والثقافية والاجتماعية، في مصلحة للمستلبين المسلمين ؟''
ألم نعتمد دون تفكير سياسة الإدماج ؟ ومن هذا المنظور فعلا ليس الأهلي في حاجة إلى أن يفهم في تفرده الثقافي، وعليه هو أن يجتهد كي يشبه النموذج الذي يقترحه المحتل عليه. ولا يفترض الإدماج في إطار المجتمع المحتل التبادل، إنما اختفاء ثقافة بأكملها لحساب ثقافة مهيمنة.
ومن الضروري أيضا، يقول فانون، أن تأتي المبادرة من داخل المعالجين أنفسهم الذين جربوا الانتقاص والرفض وإقصاء مرجعيات لغتهم وتاريخهم وثقافتهم وأن يتحرروا، نقول اليوم ، من النسبة إلى هذا الآخر الذي كان يدعي أنه مالك مكان الآخر، جميع الآخرين ويطرد خارج الحضارة أو ما يسمى كذلك وحتى من رتبة البشر، أي شخص يرفض ''الاحتكار الإمبراطوري الفادح'' Doray.
وسأتوقف هنا عند نقد الطب النفسي لا الاستعماري فحسب بل بعد -الاستعماري أيضا، إذ كما ذكرتكم في بداية حديثي فقد عوض الـ DSM3 ثم 4 ثم قريبا 5 بصورة دقيقة جدا وصف الأمراض هذا الذي يعود للخمسينيات وانتصرت البيولوجيا، بما في ذلك في الجانب الآخر للمتوسط، على الإصغاء للشخص المقصى من تاريخ السياسي والموضوع موضع شيء مقطوع عن جذوره وعن أهدافه.
تقدم فانون على ما كان متوقفا منقطعا في تطور النفس البشرية عبر الأجيال والعلاقة مع التاريخ والصدمة. ويقرأ هذا التقدم بصورة أقل بروزا لكنه يدرس ظروف النمو النفسي للإنسان منذ ولادته، في العالم.
فكل طفل يبتلع مع عصيدته أصوات العالم وكذا الصمت وسينهل منها صوره الخاصة، وتراكيبه الوظيفية، والآثار النفسية ووسائل مصيره المحتمل.
وأكثر مما نظر لها، طرح فانون بطريقة جد استباقية أسئلة عما يعرقل التطور الذاتي، ووصف آثار مصادرات اللغات وعنف التاريخ على الموضوع، والرفض عبر الأجيال، وانتقاص القيمة وإقصاء المرجعيات والأنساب، والصدمات المتوقفة الجامدة في إعداد مستحيل بسبب الإنكار والخنق.
ويبين الآثار العيادية، والخزي، والذهول والانطواء على جسد منهك ومتحجر، والعنف المتواتر اللانهائي. وهذه الحوادث الذاتية التي لا تجد، كي تتنقل وتترجم وتظهر، نقاط استقبال أو دعم في الاجتماعي والسياسي والثقافي، تتردد على عيادات الأطباء السرير يين والمؤسسات المسماة مؤسسات ضواحي.
وقد أكد فانون عن قرب على الواقع وعلى ضرورة واستحالة مشهد عندما يكون مطبوعا بإنكارات الوجود، وإنكارات الذاكرة ويجعل من الصعب بل من المستحيل وضع قواعد لإعادة كتابة ذاكرة ممنوعة.
وسواء أكان ذلك في ذهول الشاب الأسود( هو في هذه الحالة) المشار إليه بالأسود أو الشخص المستعمر أو أي شخص أخر تعرّض لعنف شديد، لا يملك الوسائل لإعداد المشهد.
وقد حرص فانون على إظهار آثار الذهول من جديد على أجساد صامتة، تغوص في اضطراب صورة الذات، والخزي والقنوط، والعنف المتواتر.
ولهذا في فترة كان فيها التحليل النفسي محصورا في غالبيته في الجعجعة الأوديبية الخالية من التاريخ وبلغة واحدة، يحاول فيها أحد النادرين القلة ك Bettelheim عبثا أن يقول أن الشعور بالخزي هو علامة بعيدة عن شعور أوديبي بالذنب لا شعوري مرتبط بصور أبوية جدا.
وكان فانون يحمل في تجربته ذاتها هذا السؤال الذي وضحه في عمله كطبيب أمراض عقلية (لاسيما مع صدمات الحرب) وكذا في أبحاثه ابتداء بـ PNMBخضوع للأحادية اللغوية للآخر، وخاصة إخفاء الرق في الـ Antilles وبعيدا عن الإبادة وبعيدا عن الاحتلال.
وزيادة على ذلك فهو يلخص ما هو أكثر صدمة '' ليس أن هذه الثقافة تدمر إنما أنها لا تختفي كليا''. في احتضار لا ينتهي وتتحنط وتتكيس. ونحن قريبون جدا، حتى في المصطلحات، من كل ما يجعل الصدمة لا متناهية، والتكيس واستحالة الغياب، والدفن.
وهو يبحث عن الأدوات التي تستطيع أن تعرض هذا الذهول الذاتي وهذا الاضطراب في صورة الجسد، ويدرس مفهوم الصدمة عند Freud ثم عند Ferenczi فيما بعد. ويبحث عن صورة الجسد عند L'Hermite وطبعا ظاهراتية Merleau Ponty Sartre أكثر في رأيي منHegel الذي تخلى عنها بسرعة.
ميراث هذا الصمت: الإعداد المشطوب، التوقف عند صورة وعند جسد منهك. ما لعمل ؟ من ناحية إيجاد أماكن للإظهار، والكتابة وإظهار السلطة، ربما في المدينة، ومن ناحية أخرى إصلاح المرجعيات الرمزية للثقافة وللسياسي.
ويهيم أبناؤنا في الواقع بين الخجل من الذات وكراهية كل شيء، لنقل إن الكلمات لا تقول شيئا، على أجسادهم علامات، ورموز هيروغليفية تبحث عن من يفكها. وكان فانون قد شعر بوجوده، ولو مع يتامى دور الأطفال في تونس، المسكونين جميعهم في لحظة معينة بالصمت والذهول والغموض أمام الناس و يعصف بهم عنف لا متناه.
وفي هذا الإطار، كان الأمر بالنسبة لفانون يتعلق بتوليد أشكال جديدة لذات لا متحجرة ولا مشيئة، إنما مبحرة في ما هو مأساة كل إنسان. ربما كان هذا ما يحاول اليوم بعناية أن يمحوه أطباء الأمراض العقلية المدمنون على العقاقير إلى درجة تجعلنا نتساءل إن لم يكونوا هم مروجو مخدرات القرن الحادي والعشرين، على غرار عدد معتبر من معاصريهم،حتى عندما يذكرهم فعل متوهج في العالم وطأة الشعور بالقنوط.
ماالذي يميز فانون عن الطب العقلي العرقي ؟
حول هذا الموضوع أكد Olivier Douville من ناحية و Bernard Doray عند قراءة كتابي على هذه النقاط، أفضل مما أستطيع فعله، بخبراتهما كعالمي نفس، ومحللين نفسانيين ويعملان في الميدان اليوم. ثم ألسنا من أجل هذا نتحدث ونكتب كي يمتد القارئ الآخر، ويخطو خطوة إضافية. أليس من أجل هذا اجتمعنا اليوم؟
من خلال هذا الصوت الثلاثي سأشير إلى ما يلي :
وقعت الثقافوية في فخ إنكار السياسي وتشييء الوضعيات سواء على أساس شخصية قاعدية أو شخصية ثقافية، ''لديها ولع بالجغرافيا ورهبة من التاريخ'' ويستند Olivier Douvilleإلى هياكل ثقافية لا زمنية للحركة.
وسيبدي فانون نفورا من كل أشكال الحبس الثقافوي للأشخاص ويتخلى بسرعة عن منطق يكاد يصبح ثنائيا ''زنوجة وبياض''، واضعا الثقافات المتحركة كمعالم للدخول إلى الكلية.
وقد شجع تأثير الثقافة على نفسها وتشهد على ذلك عدة فصول من السنة الخامسة من الثورة وما كان مهما هو تحديد استحالة الثقافة في إطار السيطرة الاستعمارية بين اتجاهين: إما تصليب الثقافة السلفية في شكل تقاليد منمطة وقليلة الإنتاج أو اكتساب ثقافة المحتل بصورة مجنونة.
الخروج من السيطرة الاستعمارية هو تمكين ثقافتين أن تغني إحداهما الأخرى للوصول إلى الكلية. وبهذا المعنى يرد بلباقة شديدة على Shariati حول الإسلام. وهنا أيضا تعد الأنثربولوجيا الثقافية لفانون متقدمة بشكل رائع مقارنة بالعودة الارتدادية الحالية للطب العقلي العرقي مستندة إلى ثقافوية كان فانون دائما يحذرها ويتقيها.
ويعد تشييء ذهنيات خاصة بهذا العهد الثقافي أو ذاك و خاصة مطابقة الأشخاص، بشكل مسبق، مع الثقافة التي يفترض أنهم أعضاء منها، أي إعطائهم هوية مصممة ومعدة مسبقا جوهر الثقافوية في فرنسا اليوم، ويقترن تماما مع وصف عودة هوية.
والحال انه إن كان فانون كعالم أنثربولوجيا ثقافية قد ذكر الآثار المدمرة للاضطهاد الذي يمليه انشغال سياسي للسيطرة، على الأفراد وعلى ثقافتهم، مؤديا إلى تكيس هذه الأخيرة و''تحنطها'' وإن كان قد استعمل في ممارسة العلاج الاجتماعي في البليدة مرجعيات دالة لهذه الثقافة بالنسبة للمرضى، فلقد كان دائما ضد التوفيق بين عقليات ثابتة وسلاسل ثقافية، وإن كان قد استطاع أن يلاحظ أن مرجعيات مطحونة بالثقافة المسيطرة كان يجب أن ترمم للسماح للشخص أن يشكل فضاء رمزيا، فإنه لم يكن يظن أنه- وهذا ما كان يفعله أطباء العقل العرقيون- بنسبة شخص إلى هذه الثقافة المسماة أصلية يتم تحريره، أو بمعنى آخر شفاؤه.
وكان يناضل أيضا بصورة متكررة من أجل ثقافة متحركة، تغيرها دائما الوضعيات الجديدة. ومنذ انتقاده مانوني، أكد فانون انه لا وجود لعالم تقليدي سليم، فهذا الأخير فاسد بعد ويجب أن يجد في الحداثة طريقه لامتلاك موقع الإنسانية والكونية.
و ما يزال هذا الموقف اليوم يزعج التقليديين والمحافظين، فهو مفرط الثقافوية بالنسبة لبعضهم ومفرط الكونية للبعض الآخر، في هذه الحركة المزدوجة لخرق المرجعيات والانتقال إلى أمر آخر، وإنتاج شيء قابل لأن يصبح كونيا.
إن فانون هو ابن الواقع وهو مفرط الكونية بالنسبة لبعض المحللين النفسانيين أو بعض المفكرين الذين يعتقدون أنه يجب إعادة امتلاك الهوية الأصلية.
وهو مفرط التفاضلية بالنسبة للبعض الآخر لأنه أكد على أهمية الاختلافات بين الثقافات، بينما ينصب اهتمامه على التعرف على المرجعيات التي تطبع الشخص في هذه الثقافات من جيل إلى جيل، والانتقال من المفرد إلى الجمع- لا من الفردانية إلى الكونية.
كان هذا النقاش في قلب قضية نهاية قرننا، لأنها تدرس، في إفلاس الكليات، مكانة الشخص كفاعل إما أن يختفي أو أن يتصرف، وهذا العمل هو عمل شخص السياسي. ويشكل مسار فانون الممتد من تحرير الشخص إلى دراسة السياسي، سؤالا ما يفتأ يلح على مجتمعاتنا العصرية. والشخص المسؤول، الذي يكون مواطنا فاعلا لا شخصا منفعلا ومخضعا، هو في قلب التفكير بشأن سياسي اليوم، عندما لا نعلن طبعا عن اختفائه.
و سأعود من جديد من دون قصد إلى بداية كلامي ألا وهو استحالة الفصل، بصورة أخرى غير التعسف بين فانون طبيب الأمراض العقلية وبين المفكر و الكاتب والإنسان الملتزم سياسيا.
الهوامش
________________________________________[*] محللة نفسانية
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:18