NAQD n°17, printemps-eté 2003, pages 41-43 (arabe).
عبد الحفيظ حمدي شريف
عبد الحميد شبيح... أو وعود فجر متجدد
ترجمة :لحسن عيساني
يقال أنه عندما يرفع العلم يذهب الذكاء أدراج الرياح لكن ها هي حالة يرفع فيها العلم دون أن يذهب الذكاء حيث يعمل على العكس من ذلك على إيقاظه ومنحه معالم ويبقيه يقضا.
والفنان عبد الحميد شبيح هو لا محالة ما يمكن أن ندعوه ''المواطن الصالح'' صهرته المحن القاسية لليتم والترحال وهو يسكن في مكان تطبعه العدالة الاجتماعية ومنفتح على الإنسانية جمعاء.
هو رجل مؤمن وتقي وفيّ في التزاماته وفي صداقته ويزدري الانقسامات الإيديولوجية ويتخذ كصديق أثير منذ أكثر من ثلاثين عاما شخصا أصبح مناضلا شيوعيا.
ولمن يعرف قوة الانقسامات في الجزائر فان هذا يعتبر أمرا مفاجئا.
ويلذ له أن يتحدث عن أصدقائه الشعراء لكنه يحرص على أن يعرف نفسه بوصفه شاعرا شعبيا لأنه حتى وإن كان يكتب باللغة العربية الفصحى (فهو حاصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية ولطالما درّس أدبها) فإن مجاله الحقيقي يبقى دائما كما يقول هو'' الملحون''.
ولأنه خجول وانطوائي فهم بعيد عموما عن المنابر الرسمية سواء بإرادته أو بسبب الرقابة.
ولأنه ينحدر من الحضنة التي ولد فيها عام 1955 فانه لم يغادر حياة البدو إلا مؤخرا جدا ولأنه يدرس في سطيف و لم يكن يملك فيها سكنا فقد واصل السفر خلال عدة أعوام بين المكانين: هناك حيث يعمل والمسيلة حيث يقيم.
ولأنه مثل جميع الرّحل فإن هذا الشاعر لا يسكن مكانا إنما يسكن فضاء، وحتى حين حصل على سكن لم يكد يستقر فيه، إذ أنه قرر عندئذ أن يتقاعد حتى يكون أكثر حرية.
ومع أن ثقافته تكاد تنحصر في العربية فليس من الصدفة أن تكون القصيدة التي أثرت فيه إلى الأبد هي رائعة : Liberté Eluard Paul
والمثير فيه هو أنه ليس شاعر مناسبات فقد تعودنا حتى الآن في مجال الشعر الشعبي الذي يتناول قضايا سياسية نسبيا على كتابات المجاملة أو الاحتفالات والمدح الذي يتملق سادة اللحظة.
ولكن لا شيء من هذا عند شبيح فنحن أمام شخص على الرغم من أنه يدور في فلك الشعر التقليدي، على غرار أساتذة هذا النوع ألا وهم بن كريو وبن قيطون وسماتي...الخ فإنه يضمّن نصوصه محتوى واضحا وشجاعا وناقدا، وإجمالا محتوى معاصرا.
ويكمن عالمه برمته في البيت الأول من قصيدة'' قوافل عز'': التل وقمحه الأسطوري ودقلة نور تمر الصحراء.وهنا بين الهضاب العليا للبلاد في سطيف، ذات الجمال الساكن والجاف، ولكن حيث تحمل الريح عبق التربة الندية وبين هذه الأقاليم على تخوم الصحراء, مترددا بين جدب الإستبس وروعة الرمال، يتناثر الشعر محاولا في كل ثنايا التمرد أن يقول ذكرى الأموات وشرف الأحياء.
هناك في شعر شبيح حزن لأنه يتغنى بإباء الفقراء إنما ليس ذلك استسلاما، بل على العكس هو ''دمار ''أي أنه بمعنى آخر مفعم غضبا وسخطا.
ويضفي هذا الحزن الغاضب و هذه الثورة نفحة ملحمية على غالبية نصوصه.وتعالج تلك التي اخترنا أن نقدمها لكم هنا ثلاثة أحداث كبرى تعد لحظات قطيعة في تاريخ الجزائر: ماي 1945 وأكتوبر1988 وكمرجعية للاثنين نوفمبر1954.
وهي مبنية على ذهاب وإياب مستمرين بين ماض وحاضر، حيث يستدعى الماضي لا كاحتفال سلبي بالذكرى إنما من أجل التقييم: ماالذي آلت إليه العهود والوعود المقطوعة ؟ أين نحن مما كان بمقدورنا وينبغي علينا فعله؟ لهذا وظفت رمزية أماكن كبيرة : الأوراس، جرجرة، الصومام, مغرس، بوسلام، خراطة، قالمة و سطيف طبعا.
وقد حولت هذه الرموز إلى أساطير لكن لا لأغراض شعرية.فالملحمة تسجل أيضا أثرا تلعب فيه هذه الأساطير دور الحرس والرقباء والعسس.حتى نعيد عبارة طاهر جاووت لأن الشاعر يسائل ويحاكم باسم نوفمبر والأوراس وجرجرة والصومام، أولئك الذين سيهرقون الدم في أكتوبر 1988 ! وباسم ماي 1945 يقيّم الاستغلال والقمع الذي ن يمارسان اليوم.
ويتم التنديد بالظلم الذي يشكل ثابتا عنده باسم الوعود التي حملتها هاته الثورات، ولا تستثنى من هذا أي قصيدة من قصائده إلى درجة أنه بعد أن رأى أن الأمور ما فتئت تزداد سوءا، هاهو الآن يخاطب الأطفال الذين وجه إليهم قصائده الأخيرة.
غير أن هذه الميثولوجيا لا تؤدي فقط إلى الاحتفال السلبي بل إلى نوع من اليقظة الحذرة كما في نهاية قصيدة أكتوبر 1988 :
عد رجالك لا تامن شي حكام
وهذا نوع من إضفاء الطابع الأسطوري/ نزع التضليل. إضفاء طابع أسطوري يستعمل الأساطير لكشف الغاصبين.أولئك الذين يستغلونها من أجل مصالحهم الخاصة والذين باسم الذاكرة ينتفعون.
تاريخ الأجداد راقد فيه توام
والنقد الواضح والحاد الذي يوجهه شبيح لكل أشكال الاستغلال خاصة استغلال المقدس والدين والعلم:
مرة باسم الدين مرة باسم لعلام
وهو يستهدف لا محالة، في المقام الأول القادة والأنظمة لكنه لا يستثني الشعب أيضا والمجتمع، عندما يفقد الشجاعة.وشعره في هذا ليس لا ديماغوجيا ولا شعبويا.فالبلد بالنسبة له هو نوع من المطلق.
وتتضاعف الأسطرة/ نزع التضليل في ذات الوقت باعتراف وإنكار.اعتراف للأسلاف والأماكن الرموز لما ندين لهم به: ،تاريخ واسم ومجد، وكذلك تنكر لأن ميراثهم قد شوّه،و خطابهم قد تعرّض للخيانة.
ولم نعد نعرف أنفسنا وهذا يذكرنا بالكلمات الجميلة التي قالها محمد قاسيمي الذي شبّه الجزائر بشخص عزيز نلقاه وقد احترق وجهه، وجه ''نستطيع أمامه أن نصرخ من الفزع لنتحدث عن فظاعة استحالته،أو نداعبه قليلا ونبحث تحت الجرح عن ملامح الجمال التي أرادت النار أن تطمسها''.
والجواب يقول قاسيمي هو ''أن لا ندع المأساة تتحدث وحدها، ولكن أن نقطع عليها حديثها حتى نجد شطر الحياة الذي تدعي أنها تجهله.
وشطر الحياة هذا هو ما يحاول شعر شبيح أن يوقظه عن طريق إعادة الوعود بهذا الفجر المتجدد الذي كانته جميع المعارك من أجل الحرية والمساواة.
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:30
عبد الحفيظ حمدي شريف
عبد الحميد شبيح... أو وعود فجر متجدد
ترجمة :لحسن عيساني
يقال أنه عندما يرفع العلم يذهب الذكاء أدراج الرياح لكن ها هي حالة يرفع فيها العلم دون أن يذهب الذكاء حيث يعمل على العكس من ذلك على إيقاظه ومنحه معالم ويبقيه يقضا.
والفنان عبد الحميد شبيح هو لا محالة ما يمكن أن ندعوه ''المواطن الصالح'' صهرته المحن القاسية لليتم والترحال وهو يسكن في مكان تطبعه العدالة الاجتماعية ومنفتح على الإنسانية جمعاء.
هو رجل مؤمن وتقي وفيّ في التزاماته وفي صداقته ويزدري الانقسامات الإيديولوجية ويتخذ كصديق أثير منذ أكثر من ثلاثين عاما شخصا أصبح مناضلا شيوعيا.
ولمن يعرف قوة الانقسامات في الجزائر فان هذا يعتبر أمرا مفاجئا.
ويلذ له أن يتحدث عن أصدقائه الشعراء لكنه يحرص على أن يعرف نفسه بوصفه شاعرا شعبيا لأنه حتى وإن كان يكتب باللغة العربية الفصحى (فهو حاصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية ولطالما درّس أدبها) فإن مجاله الحقيقي يبقى دائما كما يقول هو'' الملحون''.
ولأنه خجول وانطوائي فهم بعيد عموما عن المنابر الرسمية سواء بإرادته أو بسبب الرقابة.
ولأنه ينحدر من الحضنة التي ولد فيها عام 1955 فانه لم يغادر حياة البدو إلا مؤخرا جدا ولأنه يدرس في سطيف و لم يكن يملك فيها سكنا فقد واصل السفر خلال عدة أعوام بين المكانين: هناك حيث يعمل والمسيلة حيث يقيم.
ولأنه مثل جميع الرّحل فإن هذا الشاعر لا يسكن مكانا إنما يسكن فضاء، وحتى حين حصل على سكن لم يكد يستقر فيه، إذ أنه قرر عندئذ أن يتقاعد حتى يكون أكثر حرية.
ومع أن ثقافته تكاد تنحصر في العربية فليس من الصدفة أن تكون القصيدة التي أثرت فيه إلى الأبد هي رائعة : Liberté Eluard Paul
والمثير فيه هو أنه ليس شاعر مناسبات فقد تعودنا حتى الآن في مجال الشعر الشعبي الذي يتناول قضايا سياسية نسبيا على كتابات المجاملة أو الاحتفالات والمدح الذي يتملق سادة اللحظة.
ولكن لا شيء من هذا عند شبيح فنحن أمام شخص على الرغم من أنه يدور في فلك الشعر التقليدي، على غرار أساتذة هذا النوع ألا وهم بن كريو وبن قيطون وسماتي...الخ فإنه يضمّن نصوصه محتوى واضحا وشجاعا وناقدا، وإجمالا محتوى معاصرا.
ويكمن عالمه برمته في البيت الأول من قصيدة'' قوافل عز'': التل وقمحه الأسطوري ودقلة نور تمر الصحراء.وهنا بين الهضاب العليا للبلاد في سطيف، ذات الجمال الساكن والجاف، ولكن حيث تحمل الريح عبق التربة الندية وبين هذه الأقاليم على تخوم الصحراء, مترددا بين جدب الإستبس وروعة الرمال، يتناثر الشعر محاولا في كل ثنايا التمرد أن يقول ذكرى الأموات وشرف الأحياء.
هناك في شعر شبيح حزن لأنه يتغنى بإباء الفقراء إنما ليس ذلك استسلاما، بل على العكس هو ''دمار ''أي أنه بمعنى آخر مفعم غضبا وسخطا.
ويضفي هذا الحزن الغاضب و هذه الثورة نفحة ملحمية على غالبية نصوصه.وتعالج تلك التي اخترنا أن نقدمها لكم هنا ثلاثة أحداث كبرى تعد لحظات قطيعة في تاريخ الجزائر: ماي 1945 وأكتوبر1988 وكمرجعية للاثنين نوفمبر1954.
وهي مبنية على ذهاب وإياب مستمرين بين ماض وحاضر، حيث يستدعى الماضي لا كاحتفال سلبي بالذكرى إنما من أجل التقييم: ماالذي آلت إليه العهود والوعود المقطوعة ؟ أين نحن مما كان بمقدورنا وينبغي علينا فعله؟ لهذا وظفت رمزية أماكن كبيرة : الأوراس، جرجرة، الصومام, مغرس، بوسلام، خراطة، قالمة و سطيف طبعا.
وقد حولت هذه الرموز إلى أساطير لكن لا لأغراض شعرية.فالملحمة تسجل أيضا أثرا تلعب فيه هذه الأساطير دور الحرس والرقباء والعسس.حتى نعيد عبارة طاهر جاووت لأن الشاعر يسائل ويحاكم باسم نوفمبر والأوراس وجرجرة والصومام، أولئك الذين سيهرقون الدم في أكتوبر 1988 ! وباسم ماي 1945 يقيّم الاستغلال والقمع الذي ن يمارسان اليوم.
ويتم التنديد بالظلم الذي يشكل ثابتا عنده باسم الوعود التي حملتها هاته الثورات، ولا تستثنى من هذا أي قصيدة من قصائده إلى درجة أنه بعد أن رأى أن الأمور ما فتئت تزداد سوءا، هاهو الآن يخاطب الأطفال الذين وجه إليهم قصائده الأخيرة.
غير أن هذه الميثولوجيا لا تؤدي فقط إلى الاحتفال السلبي بل إلى نوع من اليقظة الحذرة كما في نهاية قصيدة أكتوبر 1988 :
عد رجالك لا تامن شي حكام
وهذا نوع من إضفاء الطابع الأسطوري/ نزع التضليل. إضفاء طابع أسطوري يستعمل الأساطير لكشف الغاصبين.أولئك الذين يستغلونها من أجل مصالحهم الخاصة والذين باسم الذاكرة ينتفعون.
تاريخ الأجداد راقد فيه توام
والنقد الواضح والحاد الذي يوجهه شبيح لكل أشكال الاستغلال خاصة استغلال المقدس والدين والعلم:
مرة باسم الدين مرة باسم لعلام
وهو يستهدف لا محالة، في المقام الأول القادة والأنظمة لكنه لا يستثني الشعب أيضا والمجتمع، عندما يفقد الشجاعة.وشعره في هذا ليس لا ديماغوجيا ولا شعبويا.فالبلد بالنسبة له هو نوع من المطلق.
وتتضاعف الأسطرة/ نزع التضليل في ذات الوقت باعتراف وإنكار.اعتراف للأسلاف والأماكن الرموز لما ندين لهم به: ،تاريخ واسم ومجد، وكذلك تنكر لأن ميراثهم قد شوّه،و خطابهم قد تعرّض للخيانة.
ولم نعد نعرف أنفسنا وهذا يذكرنا بالكلمات الجميلة التي قالها محمد قاسيمي الذي شبّه الجزائر بشخص عزيز نلقاه وقد احترق وجهه، وجه ''نستطيع أمامه أن نصرخ من الفزع لنتحدث عن فظاعة استحالته،أو نداعبه قليلا ونبحث تحت الجرح عن ملامح الجمال التي أرادت النار أن تطمسها''.
والجواب يقول قاسيمي هو ''أن لا ندع المأساة تتحدث وحدها، ولكن أن نقطع عليها حديثها حتى نجد شطر الحياة الذي تدعي أنها تجهله.
وشطر الحياة هذا هو ما يحاول شعر شبيح أن يوقظه عن طريق إعادة الوعود بهذا الفجر المتجدد الذي كانته جميع المعارك من أجل الحرية والمساواة.
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:30