NAQD n°18، automne-hiver 2003، pages 9-29 (arabe).
فينا داس
الصدمة والشّهادة: توريط المجتمعِ السّياسيِ
ترجمة : لحسن عيساني
أوَدُّ أَنْ أنتهز هذه الفرصةِ كي أَفكر في دور الأنثربولوجيا في الحياة العامة انطلاقا من خبرتي الحيّاتيةِ والعَمِليةِ في سياق عنفِ طّائفيِ في الهند[1]. لكن قبل أنّ اَبْدأُ علي أَنْ أَعترفَ بأنّ تحديد العنف بحد ذاته يعتبر تحديَا، فتعقيد مختلف أنواع الفاعلين الاجتماعيين في كل حادث عنف جماعي يجعل من الصعب أن نحدد إن كان يجب اعتبار هذا الفعل مثالا للعنف" الطائفي"أو العنف " بين الطوائف" أو العنف" الذي تشجعه الدولة"
ترى هل تم وصفُه بشكل ملائم في إطار" أعمال الشغب "أم " المذابح المدبرة "أم " الاضطرابات المدنية "أم"الإبادة الجماعية " أم مزيجا من كل هذا؟ فقَدْ ذكرPaul Brass ء(1996) بول باس على سبيل المثال بأنّه لا مصطلح "الشغب" ولا" المذبحة المدبرة" يلمان بشكل فعّال بديناميكية أعنف الحوادثِ التي تَتورط فيها حشود كبيرة. وإذا ما اعتبرنا أن أعمال العنفُ ثارَت تلقائيا استجابة لحدث استفزازي موجه ضد مجموعة دينيِة أو عرقيِة أو لغوية فان المذابح المدبرة هي أحداث عنفِ تُنظّمها وتنَفّذها أجهزة الدّولةِ، غير أن الحدودِ بين الاثنين تختلط بإطراد، فتَسْمِية العنفِ لا تَعْكسُ الخلافات الدلالية فحسب إنما تعكس أيضا المستوى الذيَ يُصبحُ فيه جسمِ اللّغةِ متعذرا تمييزه عن جسم العالمِ إذ أن فعلِ التَسْمِيةِ يُشكل تعبيرا توكيديا.
ويُمكنُ أَنْ نَرى الرّهانات الهائلة لهذه المصطلحاتِ حتى في تراكيبِ التّوقعِ. فعلى سبيل المثال، على أثر العنف الأخير( مارس 2002) ضد الأقليةِ المسلمةِ في جوجارات في الهند، حَذّرَ رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجباي المعارضة في البرلمانِ من استعمال كلمة "مجزرة" لوصف العنف.. " قائلا لها" يجب أن لا تنسوا أن استعمال تعابير كهاته يسيء إلى سمعة البلد، وربما استعمل ضد الهند في المحافل الدولية..” (The Statesman، 17.3.2002 ) .
ومن جانب آخر، عكفت جماعة من النشطاء القانونيين على تحرير مشروع عريضة على أساس نقاشات قدّمتَ في المحاكمِ الدّوليةِ عن رواندا ويوغسلافيا سابقا لتؤكد بأنّه على الرغم من أن الدّستورَ الهنديَ لا يسمّي "الإبادة الجماعية"، فان مثل هذه الجريمةِ يُمكنُ أَنْ تَوجد في الدّستورِ، ومنه فانه يجِبُ أَنْ يحاكم مرتكبو العنف على جريمةِ الإبادة الجماعيةِ. وسنرى إن كانت إستراتيجيتهم القانونيةِ تعمل ولكن من الواضح أن النزاع حول التسمية يعكس نزاعات سياسية وقانونية خطيرة.
اسمحوا لي أن أفكر في هذه القضايا بأن أصف أولا التجارب التي أبني عليها ملاحظاتي.
في عام 1984، ربطتني صلة وثيقة بجماعةِ ممن نجوا من الموت في دلهي بعد أن كانوا ضحية عنف بعد اغتيال السيدة غاندي، التي كانت آنذاك رئيسة وزراء الهند، من قبل حرسها الخاص السيخ.
وأنا اعتبر عام 1984 تاريخا جوهريا لفهم العنف بين الطوائف في الهند ودور المجتمعِ المدنيِ في إنكار الصور التي كان يتلقاها لما يشكل العنف الجماعي، لا لأن الدِّراساتَ الأكاديميةَ كَانتْ تَنْقصُ في السابق بل لأن العلاقةَ بين إنتاجِ المعرفةِ والحاجاتِ الآنيةِ كانت مترابطة بطّرقِ مهمةِ من أجل إنْقاذِ المشروعِ الدّيمقراطيِ في الهند عام 1984.
وقد كانت التّقارير التي أعدّتها منظماتِ الحقوق المدنيةِ مثل إتحاد الشعب للحقوقِ الدّيمقراطيةِ وإتحادِ الشعب من أجل الحرياتِ المدنية
ِ(PUDR and PUCL 1984) ذات أهمية خاصةً لتأثيرها على الرّأيِ الشّعبيِ ، ولكن بينما كَانتَ أشكالَ العملِ المتطَوّرة عندئذَ مهمةَ لتَوَسُّعِ أشكالِ التّعبئة، يحق لنا التساؤَل إن كَانَ لهذا أي تأثير على فهمنا لما يُكوّنُ الإثنوغرافيا وصف الأعراق البشريةُ؟
ولما فكرت مليا، تَطوّرَ فهمي الخاص للطريقة التي يتم بها القيام بإثنوغرافيا الدّولةِ في اتجاهات غير متوقّعةِ تماما لأني باعتباري عضوا في فريق"الإنقاذ والإصلاحِ" لجامعةِ دلهي التي كانت تحظى بدعِم صحيفةِ محليةِ ألا وهي صحيفة
(The Indian Express) كان لزملائي وأنا موقف غامضُ جداً إذ كَانَ يجب علينا أن نتحرك من خلال الثغرات التي كان يمكن أن نجدها ( في هياكل) الدولة حتى نجْمعَ موارد كافية لإتمام عملنا في المناطقِ المعنية.
بهذا المعنى، كان واضحا انه حتى عندما كان العديد من أعوان الدّولةِ أنفسهم منشغلين بَخْرق القوانين، كان ما يزالَ ممكنا اَستعمالَ بعض موارد هذه الدّولةِ،لأن معايير اللائيكية والديمقراطية كَانت قَدْ ألهمت العديد من الفاعلين في النّظامِ.
وبعد ذلك بسَّنَواتِ وَجدتُ نفسي أيضا أفكر في ما يعَنيه الإحساس بالألمِ للمعرفةِ الأنثروبولوجيةِ- وهي النقطة التي سأتطرق إليها مع بعض التّفصيلِ فيما بعد. وعن كلتا القضيتين لم يكن الأمر يعني أن يُقَسَّم المرء نّشاطاتِه الخاصة إلى مجالاتِ منفصلة- تتوافق مع التقسيمِ بين العمل الأكاديميِ والنّضال وكما يمفهمها Scheper-Hughesء (1995) – كانت ممارسة الأنثربولوجيا قَدْ شُكّلَت بالأحرىَ بحاجاتِ الآنيةِ أو النضال.
أما عن أعمال الشغبِ بين الطوائف في الهند عام 1984 فقد كانت نقطة مهمة قَدْ أسست مِن قِبل عمّالِ مجموعاتِ حقوق مدنيةِ متعدّدةِ، ومحامين نشطاءِ وأساتذة جامعةِ ( وكنت أحدهم) ألا وهي انه بعيدِا عن أن تكونُ الدّولةِ فاعلا محايداَ يتمثل دوره في الوسّاطَة بين الجماعات الاجتماعية المُكَوَّنةِ مسبقا واهتماماتها الفئوية، وكَان عدة موظفين في الدّولةِ، في الحقيقةِ، متورطين بشكل نشيط كمجرمي عنفِ، أو على أقل تقدير، متواطئين في العنفِ ضد السيخ.
وخلال كِتابَةِ هذا العنفِ، على أية حال، أصبحُ واضحَا لدي انه ما لم يفهم المرء الحياة اليومية للنّواحيِ التي تحدث فيها أعمال الشغب، فسَيَكُونُ مستحيلا أَنْ نرى كيف يُمكنُ لمشاعر الغضبِ والحقد العارمة ِ أَنْ تترجم في الأَفْعالِ الحقيقيةِ للقَتْلِ.
ولأني نظرت إلى الوضع بعينَ عالم الأنثربولوجيا، بدا لي أَنْ التوزيع المكاني لأعمال الشغبِ في النّواحيِ، يبين وجود علاقةَ وثيقة بين العواملِ المحليةِ وشعور وطني بالأزمةِِ أحدثه اغتيال السيدةِ غاندي (Das 1995).. وهكذا بينما استمر التّمثيلَ الرّسميَ للعنفِ الطائفي في الهند تسَيطر عليه صورةِ حشودِ فقدت صوابها في ردّ فعلِ طبيعيِ على بعض الأعمال الاستفزازية من هذه المجموعة أو تلك، وقَدْ تغَيّرَ الفهم الأكاديمي لأعمال الشغبِ إلى حدٍّ بعيد. لكن لسوء الحظ، ما زالَ هناك ميلُ للعْملَ بنماذجِ نقائض ثنائية واضحِة في فهمِ العنفِ- الدولة مقابل المجتمعِ المدنيِ، الهنود مقابل المسلمين، العالمي مقابل المحليِ، الخ.
وقد جَعلني انخراطي عام 1984 في النشاط الحقيقي لجَمْعِ البياناتِ من اجل الإصلاحِ، على أية حال، أُدركُ مدى تعَقّد التقسيمات والارتباطات بين هذه الكياناتِ الثّنائيةِ. ولما أدركنا أن ممثلي الدّولةِ المتعدّدين قَدْ اتخذوا من العنف مواقف مختلفة حدث بعض الشَّرخ في فهمي الخاصِ للدّولةِ.. فعلى سبيل المثال، بينما انشغلَت فئةَ واحدة من حزبِ المؤتمرِ بشكل نشيط في التَحريضِ على أعمال الشغبِ على أملِ حشد الدعم لزعمائها ضمن تدرجِ الحزبِ، كان آخرون ضمن هياكل الدّولةِ أيضا قَدْ روّعتْهم الأحداثِ. لذا فقد تمكنّا أَنْ نُعبّئَ مساعدة البيروقراطيين الكبار، وضبّاط الشرطةِ والموظفين المتقاعدين لخْلق هيبة السلطةِ ضمن الناحية لضمان النجدة والإصلاح.
وعلى غرار العديد من الحالاتِ الأخرىِ، كَانَ التمويه جزءَ مهمَا من إستراتيجيتنا حتى نضلل مجرمي العنفِ الذين كَانَوا يحضون بمساندة ضبّاطِ الشرطةِ المحليين، وهذا فقد كانوا يعتقدون أنّهم فوق القانونِ. وكان الناجون من الموت و عُمّال الحقوق المدنيةِ يوَاجهون تهديدات وتحرشَات كبيرة منهم.
هل كانت أمامنا وسيلة نعمل بها في ذلك الجو سوى لتّمويهِ؟ وحتى نَعطي مثالا عن استراتيجيات المداراة التي اعتمدناها فبعد بضعة أيام من أعمال الشغبِ، سَاعدنا مدير تقاعد مؤخرا من الشرطةِ الاحتياطية المركزيةِ في تنظّيمَ توزيع المؤونة على العائلات المتضررة التي لمَ يتم ترحيلها إِلى مخيمات الإغاثة[2].
وقد وَصلَ معنا في شاحنِة رَفقَة ستة رجال من شرطةِ الاحتياط الذين كَانَ يرتدون بزاتهم الرسمية وَاتخذناَ الإجراءاتَ اللازمة لتَحديد العائلات المتضررة وأمددناها بالمؤونة بينما كان ضبّاطَ من مراكز الشرطةِ المحليةِ يرَاقبون الوضع[3].
و هكذا، عندما قمنا فيما بعد بأنواعَ أخرىَ من العملِ في النّاحيةِ، لم يستطع ضبّاط الشرطةِ والعديد من المجرمين تحديد مكانتنا الاجتماعية.
هَلْ كُنّا جزء من هيكل رسمي معتمد أم جزء من معارضةِ ما؟ ربما كُنّا قادرين على أَنْ نَعْملَ ونتحرّكَ في النّاحيةِ لأنه لَم يكن واضحَا لأحدِ أي مخاطر تتهدده إن هو هاجمنا. وقد كان التمويه في موقفنا، ضمن سياق القلقِ في العِلاقاتِ في النّاحيةِ، يشكل شرطَا في حد ذاته لإمكانية العملِ الإصلاحِي وجمع الأدلة.
لنأخُذ مثالاَ آخرَ: فقد استطعنا بوساطة موظفِ كبير في وزارةِ الداخلية أن نحصل على فرق شرطةَ وضعتْ في النّاحيةِ مؤلفة من موظفين استقدموا من دوائر الشرطةِ الأخرى. وقد ضمنِ هذا أمننا بينما انشغلنَا بتوزيعِ التّعويضِات؛ وحَمانا من تخويفِ المجرمين المحليين؛ وسَمح لنا أَنْ نُعيد بناء منازل الضّحاياِ؛ ومنحنا حرية الحركةِ ضمن أماكن صغيرة محددة تمكن هؤلاء الشّرطةِ المختارين أَنْ يُؤمنوها.
وقد أدركت أنّ منظماتَ الحقوق المدنيةِ والمحامين كانوا بحاجة إلى أَنْ يُعرّفوا بأنفسهم من خلال أشكال واضحة المعارضة للدّولةِ. وقد تراوح موقفي الخاص، على أية حال، بشكل ثابت بين الحاجةِ إلى جمع الأدلة التي يُمكنُ أَنْ تساعدَ في العملياتِ القانونيةِ وعملياتِ الإصلاحِ من ناحية، والفهم الأوسع للطّرقِ المعقّدةِ التي كانت قضايا النشاط والمسؤوليةِ المعنوية مرتبطة بها من ناحية أخرى.
هذه هو المسّألةُ التي يوَاجهها علماء الأنثربولوجيا، لأنهم ملتزمون مهنيا بفهمِ معقّدِ للسّياقِ المحليِ ويَجِبُ عليهم أَنْ يضفوا بعض القِيَم على الأحداثِ التي يَشْهدونهاَ ويُسجّلونهاَ. ولهذه المشكلة عواقب جدّية على الدّورِ العامّ الذي يُمكنُ أَنْ تلْعبَه الأنثربولوجيا: وتجدر إعادة النظر في الخلافات عند التَفكير في هذه القضيةِ.
وهي تثير السؤال: كيف أننا نحن علماء الأنثربولوجيا نسكن العالم بالنظر إلى الأحداث المُعاصرة التي تحدث مشكلات أخلاقية قوية و نضفي أيضا بعض الغموضَ على الوضع بسبب التزامنا بأَنْ نفْهمَ السّياق المحلي الذي يحددَ ألنشاطات بطرق لَرُبَما ظْهرتُ غامضة من خارج.
وقد مرت ثمان عشْرة سنة منذ أعمال الشغب التي حدثت عام 1984. وعلى ضوء الأحداثِ التي شَعرتُ أن علي َ أَنْ أقوم برْدّة فعل عليها، فقد َتم هدم فظيعَ لمسجد بابري، تَلته أعمال الشغبِ في بومباي في 1992، واغتيالِ أقرب أصدقائي في كولومبو عام 1999، في11 أيلول/سبتمبرِ 2001، وبعد ذلك الأعمال الوحشية ضد المسلمين في جوجارات في مارس 2002. كانت هناك بالتأكيد أحداثُ أخرى بنفس الأهميةِ لكني أستطيع أَنْ أَتحدث بشكل أسهل عن الأمور التي أعرفها عن عوالمي الخاصةِ.
وقد انتابني شعور بالصّدمةِ عندما عرفت أنه كان هناك من بين العديد من الشبان، المعروفين والمغمورين ً، الذين حاربوا الروايات الرسمية عن العنفِ الطّائفيِ في جوجارات في 2000 يَستغلون مكتسبات النشاط الاجتماعي الذي تطوّر من خلال المنظماتِ التي كَانتْ قد أسست عام 1984 فقط. وقد كان العديد من المحررين والصحفيين في الصحافة المكتوبةِ قَدْ جازفوا بأَنْ فضحوا تواطؤ السّياسيين البارزين والشرطةِ في أعمال الشغبِ.
وبالطريقة نفسها فضح بارخا دوت وراجديب ساردزي( من ستارِ تي في ) في عام 2002، أكاذيبَ الحكومةِ المركزية بتَغْطِيةِ أعمال الشغبِ وتصوير الحشود والنَّهْب، مُعرضين في العمليةِ حياتهم لأخطار هائل[4]. وفي عام 1984 جَلبت بنتي شانتي الصّغيرتين( التي كان زوجها و أبناؤها الأربعة قَدْ اُحرقوا أحياء في أعمال الشغبِ وانتحرت بعد ذلك )، كي تَعِيشَا معي إلى أن نتُمكن من وضع ترتيبات أخرى لهم.
ولم تكن بنتها الصغرى تَتّواصلُ سوى مع ابني الأصغرِ ( سانماي )، الذي كَان قد تجاوز الأربع سنوات بقليل.وقد انتهيت للتو من قراءة قصة لصديقِة طفولةِ سانماي، بهريجو، عن بعض العملِ الرّائع الذي قام به مع الأطفالِ في معسكرِ للناجين من الموت في منطقةِ "أمان تشوك"، في أحمد آباد (راجع سينغ 2002).
أتصور أن العديد من الشّباب الذين شَاركوا في أعمال الشغبِ في مارس في جوجارات كَانوا هم أيضا أطفالا َعام 1984 ، لكأن التقسيمات المتعدّدة في أشكالِ المشاركة في الحياةِ العامة في الهند- بعضها إلى جانبِ العنفِ وبعضها الآخر يريد التعامل مع هذا العنفِ- تتم من خلال مثل هذا التّلقينِ بالنّارِ.
هَلْ للأنثربولوجيا أي دورِ خاصِّ تَلْعبَه في هذا المجال، عدا تحملها المشاريعِ الأكبرِ التي يتم من خلالها جمّعُ شهادات الاتهامات القانونيةِ، والتكفل بالإصلاح وضمان بعض الإغاثةِ للضّحاياَ والناجين من الموت ؟
هل من المهمُ أن تكُونُ هناك أي حدود بين التخصصات و بين المِهَنِ، أو بين النضال وبين العمل الأكاديمي؟ إن ما اَعْرضُه هنا مشكّلُُ بصورة عميقة بسيرتي الذاتية وأُريدُ أَنْ أُقول بوضوح أنّ ممارسة الأنثربولوجيا على هذا النحو مقبولة تماما. ورغم هذا، فعندما نوَاجه بنوعِ الصدمة التي يتسبب العنف لنا فيها فنحن نشترك لا محالة في القراراتِ التي تشَكّل الطّريقة التي نَفْهمَ بها مكاننا في العالمِ.
إن العلاقة بين الأنثربولوجيا وتركيبة المحيط العام يُمكنُ أَنْ تنْتجَ من الأنواعِ المختلفةِ من التّقاطعاتِ ولا يمكن لنا أن ننجو من الاستغلال التام للمعرفة إلا بواسطة الانتباه إِلى هذه المشاريعِ المختلفةِ التي تتطَلبَها الدّولةِ والسّوقِ بشكل متعاقب والمحافظة في الوقت نفسه على شيء من التوازن بين متطلبات الآنيةِ ومتطلباتِ المدى البعيد.
وهناك أيضا مسألةُ كون الكثير من الأمور موضع تهديد بفعل الحديث بشكل مهمل أو دون كياسة عن هذه الأمورِ. إن الحدّ بين العَمَلِ والَقُول، ضمني في تقسيم العملِ بين ما يسميه "كانت" القدراتِ " الأعلى " لعلم اللاهوتِ والقانون، والطب و القدرة " الدنيا" للفلسفةِ، لا يمكن المحافظة عليها بسهولة. وهذا يؤدَي إلى علاقات معقّدَة بين تصوراتِ أخلاقِ المسؤوليةِ وبعض أشكالِ الرقابةِ.
إنّ بقيةَ هذه المساهمةِ منظّمة كالتالي. فأن في الجزء الأولِ، أَدرس الانتقاد الذي مفاده أن التَركيزِ على الصدمة يؤدي إلى نشوء جماعاتِ حاقدة. فلَيسَ واضحَا لدي ما إذا كان التركيز على ألمِ الضّحاياِ، في إطار ثقافة شعبية للجرح، يجعل الاعترافَ بالماضي أمرا صعبَا، ومن ثم الانشغال في بناء الذات في الحاضر. ومن غير الواضح أيضا إن كانِ هذا الحقد ينظر إليه على أنه القدرِ المحتوم لمحاولةِ علاج قضية الألمِ والشفاء.
لا أُنكرُ أنّ هناك الكثير من الآثار لقصصِ الضّحاياِ والناجين من الموت راسخة في الثقافة الشعبيِة تعطي فيها صورة الضحية " البريئة " مبررا للانشغال بالتلصص. وعلى أقل تقدير، بإمكان هذا أَنْ يفتحَ مجالات مشكوك فيها تَنْتشرُ فيها قصصِ الألمِ في ممارساتِ ِالفَصْلِ بين ضحايا" أبرياء " و ضحايا " مذنبين ". لكني ما زِلتُ أتساءل إن لم تكن هناك صورة مختلفة من الضّحاياِ والناجين من الموت محتملة لا يكون فيها الوقتِ جامّدا لكنها على العكس تسْمحُ لهذا الأخير بان يَعمَلُ عمله.
في الجزء الثّاني، أَدرس ما يَعنيه الاَنشغال بخلقِ المسؤوليةِ أو الحديث بشكل مسؤول في إطار الخطاب الأنثروبولوجي وأُحاولُ أَنْ أدافع عن صورة للمعرفةِ الأنثروبولوجيةِ فيما يتعلق بالألمِ، كتلك التي تبقي متفطنة للعنفِ حيثما يَحْدثُ في نسيجِ الحياةِ و(صورة) جسمِ النّصِ الأنثروبولوجي كتلك التي ترفض التواطؤ مع العنفِ بالانفتاح على ألمِ الآخرِ.
وضع الضحية، الشهادة، وجماعات الحقد:
يجدر بي، لمناقشة الطّرقِ المختلفةِ التي ينظر بها إلى فكرةِ الألمِ والشّهادةِِ في تكوين الجماعةِ السّياسيةِ، أَنْ أثير التعارض بين الأنماطِ النّبويةِ والتّشخيصيةِ للانتقاد كما يتطُرق إليه Reinhardt Koselleckء (1973) . وأود بعد ذلك أَنْ أَستعملَ هذا التعارض لمناقشة بعض الأطروحات المهمةِ التي صاغها Achille Mbembe (2002) عن قضيةِ الألمِ وبناء الذّات.
ووفق ما اَفْهمه، فان النّمط النّبوي للانتقاد راسخ في نوعِ من الشجبِ المثيرِ للحاضر، بما أن النّبي( بالمقارنة مع الخوري ) يَتكلّمُ نيابة عن الجماعةَ المستقبليةَ.
وبالمقابل نَتحدث عن حالةِ حرجةِ في التّشخيصِ الطّبيِ عندما يتطور المرضِ نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. ويَتطلّبُ هذا تفسيرا حذرا للإشاراتِ والأعراضِ و اهتماماِ يقظا بالتّفاصيلِ الصغيرة التي يظهرُ المرضِ من خلالها. ومع أنّ التّنبؤَ مقنّعُ غالباً في شكل تشخيصَ قائم على قراءة دقيقة للأعراضِ، فاني أُؤكد أن نشوء جماعاتِ الحقد تلك أكثر احتمالا عندما يكون الموقف المتخذ من الألم موقفا نبويُا.
و بتَأْطيرِ سّؤالِي على هذا النحو، سأعود إِلى إعلانِ Mbembe الاستفزازي الأخير لما يَدْعوه فشلَ الخيال الجماعيِ لأفريقيا في التوصل إلى نمطِ أفريقيِ خالص من الكِتابَةِ عن الذات.
وكان العائق الكبير الذي رآه Mbembe في ظهورِ كتابة " أصيلة " لموضوعِ جماعيِ في أفريقيا هو الطّريقة التي نُشِر بها خطاب" الضحية" كي تؤخذ في الَحْسبانِ التجربة التّاريخية للعبوديةِ والاستعمار والتفرقة العنصرية. و هو يُؤكد أن التحقيقاتِ الفلسفيةِ الأصيلةِ أهملت في النقدِ الأفريقيِ، وأن ذلك الإهمالِ مسؤول عن كون أنّه خلافا لتجربةِ الهولوكوست اليهوديةِ التي أنتجت تحقيقا فلسفيا أصيلا، ولم يستطع النقد الأفريقي أن يعالج الألم في التّاريخِ بطريقة يُمكنُ أَنْ تؤدي إِلى ولادةِ الموضوعِ. وعلى حد تعبير Mbembe:
" إن المسألة الأولى التي يَجِبُ تحديدها تتعلق بوضع الألمِ في التأريخِ- الطّرقِ المختلفة التي تلحق بها القوى التاريخيةِ الأذى النفسي بالأجسامِ الجماعيةِ والطّرقِ التي يُشكّلُ بها العنفِ الذاتيّةَ. هاهنا اعتبرتْ المقارنة بتجارب تاريخيةِ أخرىِ مقارنة مناسبة.
ويوفرُ الهولوكوست اليهوديُ مثل هذه التجربةِ المقارنة. والحقيقة إن الهولوكوست والرق والتفرقة العنصرية تمثّل جميعها أشكالا من الألم الأصلي. وكلها تتمَيَّزِ باستملاك الذات من قبل قوى لا اسم لهاِ.....حقاً، تَشهد الأحداث الثّلاثة، في أساسها النّهائي، على الحياةِ نفسها مما يطرح السّؤال: كيف يمكن استدراك الحياة، أو بمعنى آخر، كيف يُمكنُ إنقاذها من هذا العمل المستمر للسّلبيةِ؟ " (ملاحظتنا، ص 259)
على الرغم من الإشارة إلى أحداث الهولوكوست والرق والتفرقة العنصرية كشواهدَ ضد الحياةِ، يبقى شكل الحياةِ غير مستكشف نسبيا. وبدلاً من ذلك، يقدم Mbembe خطابا يفسر فيه العقباتِ التي تحول دون استعادة الذات في الخيال الجماعيِ الأفريقي بسلسلة منِ الإنكاراتِ. وأكثر هذه الإنكارات وأقواها بالنسبة له هي العجز الأفريقيُ عن التّمثيلِ الذّاتي، القائم هو نفسه على تكرارِ طقوسيِ لتعابيرِ من قبيل " حديث المرء بصّوتِه الخاصِ" أو" إيجاد هوية " أفريقية " أصيلة قائمة على هذا التصور أو ذاك للفطرة.
يَعْرضُ Mbembe ثلاثة انتقادات للمحاولاتِ الأفريقيةِ لاستعادة الذّات، التي سأناقش منها الانتقاد الأخير هنا. " في النّقدِ التالي، سأؤكد أن " تفضيلهم" الضحية" على حساب " الخاضع" مشتق، في التحليل الأخير نهائياً، من فهم فطري خالص للتّاريخِ ألا وهو " التاريخ كسحر". ص (245).
ويرى Mbembe أن "التاريخ كسحر"ِ يقوم على مفهوم أوسع بحيث، خلافا لذّكرىِ الهولوكوست اليهوديةِ ِ، ليس هناك، في الواقع أي ذاكرة أفريقيةُ للرق ِ، الذي جرب في أحسن الأحوال كجرحِ يَنتمي معناه إلى مجال اللاشعورِ، أكثر منه في مملكةِ السّحر منه في التأريخِ (راجع خاصةً ص 60- 259).
ومن بين أسباب صّعوبةِ المشروعِ الذي يهدف إلى استَعادة ذاكرةِ الرق، يُحددُ Mbembe المنطقةَ الغامضةَ التي تخفي فيها ذكرىِ الرق فجوة بين الأمريكانِ- الأفريقيين والأفريقيين- القاريينِ. فالأمر بالنسبة للأفريقيين يتعلق بصمت مذنب، ألا وهو رفض الأفريقيين أَنْ يُواجهوا المظهر المحرج للجريمةِ التي تلزم مسؤوليتهم الخاصة في جوانب المسالة.
وهو يؤكد كذلك أن انمحاء مظهرِ ألمِ الرق الأسود الحديث هذا يمكن أن يخْلقَ الخيال (أو الوهم) بان الطابع المؤقت للعبودية والبؤسِ كَان نفسه على جانبِي الأطلسي.
" هذا لَيس صحيحا، وهذه المسافةِ هي التي تمنع الصدمة والغياب والخسارة من أن تكُون أبداً هي نفسها على جانبي الأطلسيِ. وطالما كان الأفارقة القاريون يُهملونَ إعادة التفكير في العبودية- لا ككارثةِ فحسب كانوا هم ضّحاياَها، إنما كإنتاجِ تاريخِ لَعبوا دورا نشيطا في تَشكيلِه- فجاذبية العنصر كقاعدةِ سّياسيةِ ومعنوية للتّضامنِ سَتَعتمد-إِلى حد ما على وهم الوعيِ. ص (260).
هناك بِضْع فرضيات مهمة هنا حول حتمية استعادة المعنى الأصلي للذّاكرةِ لتَشكيل الهويةِ الجماعيةِ ذات الصلة بفهمنا- في ظل هذه الظروف- لُعوامل التوحيد وعوامل الفصل بين الأنثربولوجيا وأجواء الشفاء.
أولا: من الواضح أن الهولوكوست اتخذ نموذجِا، يطرح على منواله "فشل" المشروعِ الأفريقيِ للكِتابَةِ عن الذّات.
ثانيا: من المفترضَ أنّ تشكيل الهويةِ الجماعيةِ له صلة وثيقة بمهمةِ استعادة الذاّكرةِ.
ثالثا: إن بناء الذات مدرك كشكل من الكتابَةِ.
و مع أنّ Mbembe لا يذكر هذا بشكل واضح، فاني أَتخيّلُ أنّ كِتابَةَ الذات تقدم وعدا- ألا وهو خلقِ جماعةِ مستقبليةِ. و يبدو أَنْه يَرْفضَ أي فكرة للتعبير عن الذات بصور كنائية أخرى، مثل تلك المتعلقة باكتشاف أو تّأسيس؛ أو اكتشاف في صورة تأسيسِ- بسبب حذره من نماذجِ الذات الواقعة في اكتشاف الماضيِ.
وما نزال لحد الآن نشك أن تصورات Mbembe للماضيِ تندرج في التصور الخطيّ للوقتِ، لأنه يبدو أَنْه يَرْفضَ الاحتمال بأنّه يُمكنُ شغل فضاء الخرابِ بامتلاكه لا من خلال الهروبِ، إنما بشغل الوجود في حالةِ حدادِ. وإذا كانت كِتابَةَ الذات تُشيرُ إلى تكوين جماعةِ مستقبليةِ، فان معناه إذن يظل غير مستكشف[5] سواء بالمعنى الحرفيِ أو الرمزي. وأخيراً، تَظْهرَ أشكال جديدة للذات في الممارساتِ الحربِية التي تشكل الآن جزء من الحقيقةِ اليوميةِ للمشهدِ الأفريقيِ عوض تَكوينِ حالة استثنائية.
وهذه الأشكالِ الجديدةِ لكِتابَةِ الذات مرتبطة، بالنسبة ل Mbembe بالمشاريعِ المَجهضةِ لاسْتِعاَدةِ الذّاكرةِ. و يبدو هذا واضحا، على سبيل المثال، في التّصريحِ الآتي:" في رجفة السّكر، يصبح هو أو هي قطعة فنيةِ تشكلها القسوة وتنَحتَهاِ. وبهذا المعنى تُصبحُ حالة الحرب فيما بعد جزءَ من الممارساتِ الأفريقيةِ الجديدةِ للذات. ومن خلال التّضحيةِ، يحول الكائن الأفريقي ذاتيّته الخاصة وينتج شيئا جديدا- شيئا لا يندرج في مجال هويةِ مفقودةِ يَجِبُ استرجاعها ثانية مهما كلف الأمر ولكنه بالأحرى شيء مختلف بشكل جذري، شيء ما منفْتحُ على التغيير ويبقى أنْ تختَرع نظريته ومفرداته".
وفيما بعد، "(.....) يظْهرُ خيال أصليُ للسّيادةِ، سوى تمثل الحياة في عموميتها مجال عمله. و يمكن لهذه الأخيرة ُ أَنَْ تخضع لموت تجريبيِ، أي موت بيولوجي. لكنها يُمكنُ أيضا أَنْ تَعتبر مَرْهُونة بالطريقة نفسها التي ترهن بها الأشياء، في اقتصاد عامّ يستمد مصطلحا ته من المذابحِ والمجازرِ، على طريقة رأس المالِ والعملِ والقيمةِ المضافة
وأعتقد أنه من المهم أن Mbembe لم يغير وضع فكرة" الكتابة" فقط دون تحديد مكانها في التقاليد التاريخية والثقافية التي هو بصدد دراستها، بل نفد صبره أيضا كلما تعلق الأمر بتقديم حساب مفصل للاختلافات داخل أفريقيا حول العلاقة بين الشفوي والمكتوب، رغم إلحاحه الخاص على كون الخلافات كانت قد حجبت في النقاشات حول مفاهيم التشابه على أساس العرق.
وحتى يتأكد، فقد خلص إلى بيان الأشكال المتحركة وغير القارة التي تولدها ممارسات الذات ، لكن هذا لا يمنعه من الحديث مرارا عن " فكر أفريقي" أو عن " ذاتية أفريقية" خلال تحليله.
كما يُطرح ذلك في النّموذجِ الماركسيِ الكلاسيكيِ. " ص (269).
و يظهر شكل الحياةِ ثانية لكنه هذه المرة مرَهون في محاولةِ َ"كْتابة " الذات من خلال ممارساتِ الحربِ والقسوةِ[6]. وفي وقت سابق في هذه المقالةِ كنت قَدْ لفتُ الانتباه إِلى " كيف يُمكنُ للحياةَ أن تستدرك، أو بتعبير آخر تُنقذ من هذا العمل المستمرِ للسّلبيةِ؟ " لكن فضلا عن إشارة إلى "كثافة " الحاضر الأفريقيِ ومطابقة السلوك والحياةِ، ليس هناك أي تحليل للطريقة التي يصبح بها تمييز شكلِ الحياةِ عن المشاريع المدانة لاستعادة الهوية ِ.
ولَيسَ في نيتي أَنْ أدفع بالنقاش مع Mbembe في المجال الذي اختارَ أَنْ يَكْتبَ عنه لأني لا افهم جيدا مشروعِ كِتابَةِ الذات الأفريقيِة وخاصةً بسبب إثارة Mbembe ِفي السّابق للكِتابَةِ كمشروعِ هلوسيِ (راجع .[7])Mbembe 2001 ومع هذا، فأنا مهتمُّ جداً بالكيفية التي نتعامل بها مع العنف الذي يعد شاهدا ضد الحياةِ نفسها (لا ضد نوعِ بعينه من الهويةِ على سبيل المثال ). هَلْ هناك طرق أخرى يمكن أن يتم من خلالها خلق الذات عن طريق احتلال نفس مكان الخرابِ، لكن مرة ثانية من خلال إدراك علامات الجرح وتحويلها إلى طرقِ للتحول إلى مواضيعِ ؟
و بدلاً من سجل البيانِ النّبويِ، اسمحوا لي أن اتجه إِلى سجلِ الحياة اليوميِة الذي يمكن من خلاله أن نُحاولُ استدراك إنقاذ الحياة. ما معنى رفع التّحديِ –ألا وهو َالكْتابة ضمن نوعَ التحقيق الأنثروبولوجيِ؟ سأنتهز هنا ببساطة هذه الفرصةِ كي أبين الطّريق الآخر الذي أرى به القضاياَ المطروحة في مشروعِ الأنثروبولوجيِاِ فيما يتعلق بالعنف والألم. وكما أَتمنّى أَنْ أُبينه، فان ما أريد أن أصفه لَيسَ أن أشباحا يمكن أن تطَردَ من مشاهدِ العنفِ لكن بالأحرىَ أن الحياةِ اليوميةِ لا تَطْردُ.
وقد حَاولتُ في مقدمةِ هذه الورقةِ، أَنْ أُصفَ كيف أن فهمي الخاص للعنفِ وللعملِ على الشفاء ِ قَدْ نبع من القضاياِ الفعلية التي تتعلق بضَّماَنِ أن الناجين من عنف أعمال الشغبِ التي حدثت عام 1980، في ناحيةِ بعينها ِ يُمكنُ أَنْ يَسْكنَوا ذلك الفضاءِ ثانية.
لسنا نطمح هنا إلى أي مشروعِ كبيرِ للشفاء ِ لكن ببساطة إلى مسألة معرفة كيف أن المهمّاتَ اليوميةَ للعَيْشِ- أن يكون للمرء بيت يأوي إليه، ويَكُونُ قادرَا على أَنْ يُرسلَ أطفاله إِلى المدرسةِ، و أَنْ يَمارس عملَه اليوميِ من دون أن يكون خائفا باستمرار من أن يتعرض للُهَجَوم- يُمكنُ أَنْ تتمَّ.
وَقد وجدتُ أن بناء الذات كان يتم، لا في ظلِ ماضِ شّبحيِ إنما في جَعْلِ الحياة اليومية صالحة للسكنى ِ. وعليه، سأَقترحُ أن يعرف النّمط الأنثروبولوجي لمعرفة الموضوعِ هذا الأخير في من خلال الشّروطِ التي يُصبحُ فيها الحديثَ عن التجربة ممكنا. إذن ليس هناك موضوعُ جماعيُ موحدُ ( مثل الذات الأفريقيِة أو الذات الهندية) ولكن هناك طرقا لسُكُنِى العالمِ يحاول المرء من خلالها امتلاك العالم، أو أَنْ يَجدَ صّوته في آن واحد داخل وخارج الأنواعِ التي تُصبحُ متوفرة في النزول إِلى الحياة اليوميِة. كما أن شهادة الناجين من الموت كأولئك الذينِ تَكلّموا لأن الضّحاياَ لم يستطيعوا ذلك.، تمت مفهمتها بصورة أفضل، لا من خلال الصور الكنائية للكِتابَةِ، ولكن بالأحرىَ من خلال المقارنةِ بين القَولِ والبيان.
واسمحوا لي أن أعود إلى لحظةَ مهمةَ بالنسبة للنّاحيةِ التي كُنْتُ اَعْملُ فيها. فقد كَانَت هناك إشاعةَ في الأسبوعِ الثّاني من تشرين ثاني/نوفمبرِ أن الأمِ تيريزا كَانتْ ستَزُورُ النّاحية. وكان مهما بالنسبة للعديد من الفاعلين المتوَرّطين في العنفِ أن يَقدموا صورة عن عودة الأمور إِلى طّبيعتها ِ. لذا فقد ً بَدأوا يَضْغطون على النِّساءَ اللواتي كُنّ يَقبعن في حدادِ خارج البيوت، ويَرْفضُن الاَستحماّمَ، أو تنظيف منازلهن، أو َتْرك الجماعات الصّغيرة التي شَكّلنها بجلوسهنِ وَنَومهنَ في الشّارعِ، كي ينظفن المكان و يُنظّفَن أجسامهن، ويُمشّطن شعورهن.
وبعبارة أخرى، كان يجب أن يُقدّم الجسم المرتّب والمكان المرتّب كالعرض الذي كان يجب أن تقرأ من خلاله الحالة الطبيعية حتى وهي مشحونةِ بتجربة الخسارةِ، والهياج وغَمْرة الأسىِ. ولم تكن النِّساء اللواتي كُنّ في الحدادِ يثرن أي نقاشِ لكنهن رَفضن ببساطة أَنْ يُقدّمن واجهة نظيفة. وبالنسبة لشخص على دراية بالقواعدِ الثّقافيةِ للحدادِ، كانت النِّساء يُقدّمنَ أجسامهن دليلاِ على خسارتهن البالغة. فهن من ناحية، لم يتَمَكّن من أَنْ يَجْعلن أجسامهن تَتكلّمُ لتعبر عن َ الرّثاء التّقليدي، لكن من ناحية أخرى، كان الدنس الذي اصررن على تَجْسيدِه " يظهر" الخسارة و الموت والدّمار.
وهذا يذُكّرني بشّخصية دروبادي في ماهابهاراتا (راجع Hiltebettel 1981 و 1982)، التي كَانَت قَدْ عُرّيت في محكمةِ الملكِ دوريودانا بينما كَانتْ تَحيضُ لأن زوجها راهن عليها في مقامرةِ ضد الملكِ. وحسب النّص فقد ظلت طيلة أربع عشْرة سنةِ ترتدي نفس الثياب الملَطّخَة بدمها وتركت شعرها أشعث وغير ممشّطِ.
من الواضح أن النِّساء لم يكن يرغبن في تجسيد الدنس في فعلِ محاكاة مباشرةِ لشكلِ دروبادي، ولا كن منشغلات بفعل " إظهار"، بعد نقاشِ عقلانيِ حول كيفيةْ تفنيد إنكار الروايات الرسمية أن عددا كبيرا من السيخ قَدْ قُتِلواَ، ومع ذلك فان شهادتهن يُمكنُ أَنْ تُبْنَى من الطّريقِة الجديدة التي كن يشغلن بها فضاءَ التّمثيلِ الرّمزيِ في الخيال الجماعيِ .وَيبدو لي أن هذا الشكلِ من خَلْقِ الذات كموضوعِ باعتماد علامات الخضوعِ يعطي اتجاها فعليا لمعنىِ الَوقوع ضحيّة أكثر مما يَقترحُه Mbembe . إذ أن ما كانت النِّساءِ ّ قادراتِ عِلى " إظهاره " لم يكَنَ رواية ثابتةَ للخسارةِ والألمِ ولكنه مشروعَ لم ُيكنُ فهمه ممكنا سوى في المفردِ من خلال صورةِ سُكُنىِ فضاءِ الخرابِ مرة ثانية.
وهكذا بعيدا عن التعارض ِ بين تجربةِ العنفِ التي تعيشها ضحيّةِ / ناج من الموت وتلك التي يعيشها موضوعِ، كانت قدرتهن على إعادة صياغة رموز الحدادِ وأنواعه هي التي جَعلتهن نشيطات في الميدانِ الذي هو محل نزاع شديد في السياسةِ. وقد أعطى هذا للنِّساء وأعطانا ( برفقتهن ) المقدرة على تعبئةَ جمهور أكبر حول معنىِ هذا العنفِ.
والآن، من الواضح أن هذا لم يكَن نوعَ الأدلة الذي يمكن أن يعتبر مهما في محكمةِ قانونِ. لكن المَهمُّ هو أنّ البيروقراطيين أو المسؤولين الآخرين في الدّولةِ ما كَانوا صما ّ ولا عميا عن معنىِ هذا التّشريعِ الثّقافيِ.
أنا لا أدافع عن فكرة أن الخزي يعمل كأداةِ قويةِ في كل المناسباتِ، لأنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هناك بعض الحسّاسيةِ لمعنىِ هذا الخْزي من الجانبين ِ. إن تجسيد النِساءِ للدنس على أية حال كَانَ مهما بهذه المناسبةِ لجعل الموظفين الذين رَافقوا الأم تيريزا خلال هذه الزّيارةِ يشعرون بالخزي. وسأتجرأ وأذكر أن الأنثربولوجياِ اتّهمتَ غالباً بجَعْلِ الاجتماعي معقدا جداً بحيث تصبح غير ذات جدوى لأي أهداف سياسيةِ تتطلب بعض التخفيف من التعقيدِ. غير أنه من خلال خبرتي، فانه تحديدا عندما يتوصل علماء الأنثربولوجيا إِلى إعادة معنىِ حدثِ من خلال وضعه في إطار الحياة اليومية – بافتراض أن الفعلِ الاجتماعي لا يكون مجرد تجسيد مباشر للسيناريوهات الثّقافيةِ، لكنها تحملَ آثار الطريقة التي يُمكنُ أَنْ يعاد بها استعمال هذه الرّموزِ المُشَترَكةِ- يمكن أن تكون الأنثربولوجيا أكثر فعّالية.
وقد طور علماء الأنثربولوجيا فكرة السردية كنمطِ يعطى من خلاله للتجربةِ شكل، لكن القصص، مثل ظواهر اجتماعيِة أخرى لهاُ نتائجُ غير متوقّعةُ.
وقد كَتبتُ في الورقةِ السّابقةِ مع Arthur Kleinman أن " الفضاء الاجتماعي الذي تشغله نفوسِ مَجْرُوحةِ قد يسمح لقصص أَنْ تَخترقَ رموزاَ ثقافيةَ روتينية كي تُقدم خطابا مضادا يهَاجم و ربما حتى يلغم، انطلاقا من الذات، معنىِ الأشياءِ كما هي.
وانطلاقا من مثل تجارب اليأس والفشل هذه ِ لَرُبَما ظهرت قصص تدعو وربما تؤدي أحيانا إلى تغيير يشوه تماماً الفضاء العام على مستوىِ التجربة الجماعيةِ وعلى مستوىِ الذّاتيّةِ الفرديةِ. " (ص 21) .
وباعتباره معاكسا للقوة المثيرةِ للقصصِ في وسائل الإعلام التي تتمكن من تَركيزِ الانتباه على حدثِ كارثي، فان قوة الأنثربولوجيا تكمن في إظهارها في آن واحد كيف انه أولا يمكن لأمر ما أن يؤدي إلى أزمةِ: وثانيا أن مثل هذه الأحداث يُمكنُ أَنْ تظهر في المستقبل وفي الحاضر في آن معا. وهذا بدوره مرتبط بالقدرة على رُؤيةِ وتَوثيقِ الطابع الحدثي للحياة اليوميِة.
وخلال تفكيرنا في تجربة الجماعات التي دَمّرهاَ العنف وكذا السّكينِ الناعمة للاضطهاد اليوميِ، كَتبنا Kleinman وأنا ما يلي:" من الواضح أن حركة مزدوجة تبدو ضرورية للجماعاتِ حتى تستطيع أَنْ تَحتوي الأذى الذي وردَ في هذه الروايات: يَتطلّبُ هذا في المستوىِ الكبيرِ للنّظامِ السّياسيِ خلقَ فضاءِ عامّ بمنح الاعتراف لألمِ الناجين من الموت ويُعيدُ بعض الثقة في العمليةِ الديمقراطية وفي المستوياتِ الدّقيقةِ للناجين من الموت في الجماعة والعائلةِ. ويتَطْلبُ هذا استعادة فُرَص الحياةِ اليومية، وهذا لا يَعْني أنه يمكن تحقيق النّجاحِ بفَصْلِ المذنبِين عن الأبرياءِ من خلال عَمَلِ النظامِ القضائيِ الجزائي ِ، لأنه في معظم الحالاتِ الموَصوفةْ هنا لَيس من ْ السهلَ أَنْ نَفْصلَ المذنبين وأَنْ نُحدّدَ بدقة المسؤولية القانونية، لكن هذا يَعْني أنّ العدالة في حياةِ جماعةِ ما، ليست كل شيء ولاهي لاشيء- إن تطبيق عمليةِ الاعتراف العامّ بالألم ِ يُمكنُ أَنْ يَسْمحَ بخلق فُرَص جديدة لاستئناف الحياةِ اليوميةِ. " (ص 19).
وبعبارة أخرى، أَؤكد أن خلق الذّات في سجلِ الحياة اليوميةِ هو جمع حذر للحياةِ- التزام مؤكّد بمهمّاتِ إعادة صنعِ حريص لمصطلحي التّعبيرِ المركّبِ "حياةِ" و "يوميةِ".وهذا يبرز الطابع الحدثي للحياة اليوميةِ ومحاولةِ التأسس كموضوعِ أخلاقيِ ضمن مشهدِ العاديِ هذا.
الأنثربولوجيا وأخلاق المسؤوليةِ:
في مقالته عن العلم كمهنةِ "، نعت ماكس فيير Max Weber نوعَ الأخلاقِ الذي يميز البحث العلميِ على انه خلقِ المسؤوليةِ. أما فيما يتعلق بالأنثربولوجيا فلَيسَ من السهل تعرّيفَ مسالة المسؤولية عن طريق المقارنةِ بين الفعَلِ والَقُول ُ. في منتدى " " Current Anthropology"، عن" anthropology in public"، عرض(Charles Hale (1997 المسألةَ كما يليِ " علينا أَنْ نَشق طريقنا بين الرواياتِ المَشْحُونةِ إلى حدٍ كبير بما حَدث، ونُنتج رواياتنا الخاصة التي ستكون لا محالة متحيزة ونسبية.
ومن ناحية أخرى عندما نختار أن لا ننقب في ذلك التّأريخِ الحديث فإننا نوشك أن نتواطأ مع المصالح القويةِ التي استفادت جيّدا من النسيانِ الرّسميِ.
" وقد أصاب. ” Hale حين اعتبر أن فضح الأكاذيب الرّسمية هو في آن معا فعلُ و قَولِ. في مثل هذه اللّحظاتِ البطوليةِ عندما يكون لعالم الأنثربولوجيا الموارد لفضح الأكاذيب الرّسمية، فالواجب الأخلاقي يبدو أوضح منه عندما نتبع َ مسار ما يَحْدثُ للضّحاياِ أو المجرمين بمرور الوقتِ. أنا لا أشير ببساطة إِلى التّحولِ الذي يصبح فيه الضحايا قتلةَ كما أكده Mamdani ء(2002) في كتابه الأخيرِ، لكن عندما يكون العنفَ متشابكا جدا مع النسيجِ الاجتماعي بحيث يُصبحُ متعذرا تمييزه.
وقد أثرت سابقا طرح Mbembe الذي حسبه أن الحروب في أفريقيا قد أَصْبَحتْ جزءَ من الحياةِ اليوميةِ لكني ترددت في تَقْبلَ صياغته التي تقول بأن هذا كَان نتيجةَ ماضِ لم تتم السيطرة عليه وعاد من جديد لتُطاردَ الأحياء.
وبخصوص هذه المسألةِ، هناك اتجاه مُهَْمُ أشارت إليه Diane Nelson ء(1999) ديان نيلسون في جزء من عملها الأخيرِ عن غواتيمالا عندما تَسْاء لت كيف يمكن لنفس الدّولةَ التي ثبت أنها ارتكبت مذابحِ وانتهجت سياسةِ الأرضِ المَحْرُوقةِ أَنْ تَكُونَ الآن شيئا مرغوبا .
وتؤكد أن الدّولة يحدث أنْ تُفْهَمُ على أنها منافقةِ، مخادعة، ومرغوبة، مخيبة وخطرة. وهكذا عكست الصورة الشائعة للدّولةِ مِن قِبل المواطنين المنافقين المخادعين الذين يوجدون على رأسها، وإثنوغرافيا صف الأعراق البشرية الذي يَضعه نيلسون للدّولةِ يضع هذه الأخيرة على مسارِ متنقلِ إلى حدٍ كبير تكون فيه مرهوبة ومرَغوبة في آن. وبعد عشرين سنةِ من السياسية الأسوأ المناهضة للثورة، يبدو أن عمل الوقتِ يقضي على التقسيمات الصّارمة بين الدّولةِ كمضطهد والناسِ كمضطهدين. وكمثال على هذا فقد أعلنت لجنةِ الأمَم المُتّحِدةِ للحقيقةِ أن الجنرال ريوس مونت General Rios Montt قَدْ تورط في الإبادة الجماعيةِ خلال الحرب الأهليةِ الغواتيماليةِ عام 1999.
وبعد استيلائه على السلطة عام 1982 عن طريق انقلاب عسكريِ أشرفت حكومته على حملاتِ الأرضَ المَحْرُوقةَ والمذابح في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك فبعد بضعة شهور من اكتشافات لجنةِ الحقيقةِ، انتخب الحزب السياسي لريوس مونت لرئاسة البلادِ و أصبح هو الرئيس المنتخبَ للمؤتمرِ. وما كَانَ يجبُ أَنْ يَكُونَ موقفا راسخا ( ضحايا ساخطون ) أصبح متغيرا بأعجوبة.وبدلاً من وضوح صورةِ الدّولةِ كطاغيةِ متميزا عن الضحايا الأبرياء، فنحن أمام فكرةَ أن لاشيء هو كما يَظْهرُ. إنّ مقاتلي الأمس هم اليوم متعاونونُ في مشاريعِ الدولة. وهذه نموذجياً هي مواقعُ الإشاعةِ والثرثرة وسريان معنى عام للفسادِ التي يقوم بها أولئك الذينِ يُجسّدُون الدّولةَ وأولئك الذينَ يُقدّمونِ على أنهم مقاومون لها.
ربما تكونت لدينا فكرة عن المسافةِ بين وضعيةِ نظريةِ- تحَدّدَ قضايا السّيادةِ في تصور معين للقبولِ وممارسات استعادة الحقيقةِ التي تتبعه- ووطأة الإثنوغرافيا على هذه القضايا. في صياغتها العامّةِ لما يَدْعونَه الانتقال العامَّ من نموذج السّيادةِ الحديثةِ إلى نموذج مثالِ السّيادةِ الإمبراطوريةِ، وقد عَلّقَ هاردت ونيجري ( 2000) على تقييداتِ منظورِ ينتقدَ فكرة حقيقةِ التنوير بالّعبارات التّاليةِ.
" في سياقِ رعبِ الدّولةِ وخداعها، قد يشكل الَتعلّقُ بأولوية مفهومِ الحقيقةِ شكلاَ قويَا وضروريَا للمقاومةِ وتَأسيس حقيقة الماضي الحديث وتَعميمها – وتحميل مسؤوليةِ أَفْعالِ محدّدةِ لمسؤولين في الدولة وتسليط عقوبةَ في بعض الحالاتِ- يبدو هنا شرطا مسبقا حتميا يُعدُّ لأي مستقبلِ ديمقراطيِ.
ولا تبدو الروايات الكبيرة للتّنويرِ قمعية بشكل خاص هنا، ومفهوم الحقيقةِ لَيسَ غامضا أو غير مستقر-بل العكس! الحقيقة أن هذا الجنرال أعطى أوامر بتّعذيبِ واغتيال ذلك الزعيم النقابي، وهذا العقيدِ قاد مذبحةَ تلك القريةِ. ويعد تَعميم مثل هذه الحقائقِ مشروع سياسةِ عصرية نموذجيا للتنويرِ، وانتّقاده في هذه السّياقاتِ يُمكنُ أَنْ يفيد فقط في مُساعدَة القوى المضللة القمعية للنّظامِ موضع الهجومِ. (56-155)
وخلافا للحنينِ إلى فضاءِ عامّ يطبعه الفصل الواضحِ بين مقترفي الجرائم وبين الضّحاياِ، أظهرت معظم الدِّراساتِ المفصلة للجانِ الحقيقةِ إلى أي مدى استثنىَ مفهوم الشّهادةِ بعض النّماذجَ الأخرىَ من الشّهادةِ والتّذكر Reynolds 1995; Ross 2001 ) ( رينولدس 1995؛ روس 2001) وعليه فان ممارسات استعادة الحقيقة لَرُبَما ظهرت لا كمشروعِ التّنويرِ النّموذجيِ(عن الحقيقة) بالمعنى المطلق، إنما فقط كمنفذ للجماعاتِ المحليةِ المحصورة بين عنفِ الدّولةِ وحروب العصاباتِ ، فإذا كان الالتزام تجاه عقلانية التنوير شرطا لتشييد الدّيمقراطياتِ في المجتمعاتِ الغارقة في الحروبِ والثورات و الثورات المُضادةِ طّويلة الأمد، فسنكون فعلا بصدد رفض محاولات تشييد ديمقراطيات في العوالمِ المضطربة التي يحْدثُ فيها هذا النوع من التحولاتِ في العديد من أجزاءِ العالمِ.
ولا يمكن لعلماء الأنثربولوجيا أَنْ يقتصروا على أي تصوّرِ تبسيطِي لضحايا أبرياءِ ولا للعمل الثقافي كسيناريو معد سلفاِ. فالثقافة لا تنبع فقط من معنى اصطلاحي أو تعاقدي للاتفاق بين أفراد مجتمعِ ما، ولكنها تستند إلى استيعاب متبادلِ أيضا للاجتماعي والطّبيعي. و قَد أشرت في الأَوراقِ السّابقةِ إلى أن العنفِ من النّوعِ الذي شاهدناه في أعمال الشغبِ في الهند يشكك في فكرةِ الحياة ذاتها ولن نَصل إلى نهايةَ الاتفاق ولكن إلى نهايةَ المعيارِ.
لنتأمل عرض الأجساد عن طريق العنفِ – عندما عريت النِساءِ وأجبرن على السير عاريات في الشّوارعِ- أو هوس كِتابَةِ شعاراتِ سّياسيةِ على الأجزاء الحميمة من أجسادهن ومؤخراً جدا، في جوجارات، أو بقر بطون الحوامل وإخراج الجنين في فعلِ القَتْلِ.
وقد أخبرتني إحدى النِّساء،ألا وهي مانجيت، التي كنت قد عَملتُ معها انه بينما كان يمكن التعبير عن العنف المعيش داخل المحيط العائلي، كانت أشكال أخرى من العنفِ، كعنف أعمال الشغب، كأي طموح إلى الثقافة قد أصبحت مستحيلة. كما أخبرتني انه يمكن وصفه بكَلِمات ولكن"كأن الاحتكاك بهذه الكَلِماتِ ومنه بالحياةِ نفسها كان قَدْ اُحرق أو خُدّر. "(Das 2000:69). ( داس ). وأخبرتني مانجيت أيضا أن هناك طاقة معنوية عميقة في رّفضِ بيان بعض انتهاكات الجسمِ الإنسانيِ.
وبسماحها لألمها أَنْ يَحْدثَ لي، عَلّمتني أَنْ إنقاذ الحياة من الانتهاكات التي كانت قد تعرضت لها، كَان فعلَ التزام مدى الحياةِ تجاه معرفةِ مسمومةِ؛ بهَضْمِ هذا السّمِ عن طريق أَفْعالِ مُعَالَجَةِ العاديِ. لقد استطاعتْ أَنْ تُعلّمني كيف أَحترم الحدود بين القَولِ والإظهار.
هكذا أرى الدّورَ العامّ للأنثربولوجيا: بالعمل بناء على السّجلِ المزدوج الذي نَعْرضُ فيه أدلة تعارض النسيان الرّسمي والإخفاء المباشر للأدلة، ولكن لكوننا أيضا شَهودا على الانحدار إلى اليوميِ الذي يُؤكّد من خلاله الضحاياِ والناجون من الموت إمكانية الحياةِ بحذف هذه الأخيرة من الكَلِماتِ المتداولةِ التي أصبحت وحشية –واستعادة الكلمات .
الهوامش
________________________________________
[1] هذا المقال مأخوذ من محاضرة أعدت لورشة Wenner-Gren عن " الألم والشفاء"، المنعقدة من 17 إلى 20 سبتمبر في امينيا بنيويورك. وأنا ممتن جدا للمشاركين على تعليقاتهم الوجيهة وللمنظمين وعلى إتاحتهم فرصة رائعة لنقاش مفتوح.
[2] أنتهز هذه الفرصة لأعبر مجددا عن امتناني للفقيد Rajgopalan C.R.الذي تشهد حياته وكذا عمله على الشجاعة والقوة المعنوية التي أظهرها العديد من الموظفين آنذاك.
[3] رغم صورة الضحايا الأبرياء التي كان الناس يراهنون عليها، فأولئك الذين يعملون في العمليات الفعلية للإصلاح بعد أي نكبة جماعية، خاصة ما تعلق منها بالعنف، واعون تماما للطرق التي تتطور بها الشبكات المحلية لضخ الموارد في هذا الاتجاه أو ذاك.
وحتى توزيع المؤن يمكن أن يؤدي إلى خصومات كبيرة بين الناجين من الموت، حول مسألة معرفة من يستحق أن يتلقى الإسعافات. من ناحية أخرى ، يعكس نوع المواد الغذائية التي تصل إلى معسكرات الإغاثة بعد حدوث كارثة مسارا كاملا للطريقة التي تجبى بها " الصدقة" في عالم معولم.
وهناك مثال حديث قدمه ممثل لشركة دولية للاستشارة، بتوزيع لعب تجسد شخصيات الأفلام الأمريكية وهي تحمل أسلحة، لأطفال في معسكرات الإغاثة كانوا قد رأوا أولياءهم أو أقاربهم يحرقون أو يضربون حتى الموت خلال أعمال الشغب التي حدثت في جوجارات. وللحصول على تحليل دقيق للطريقة التي يتفاعل بها مسار الإغاثة مع مسار العنف، راجع Mehta et Chatterji (2001).
[4] على سبيل المثال، وصف Barkha Dutt كيف أنه، بعد محاورة رئيس وزراء جوجارات في منزله، وبينما كان هذا الأخير قد أكد أن الوضع في جوجارات كان طبيعيا في الوقت الراهن، تعرض فريقهم إلى هجوم من حشد لا يكاد يبعد بميل عن إقامة رئيس الوزراء (Dutt 2002).
[5] على سبيل المثال، درس الاختبار الذي قام به Foucault (1994) ل" كتابة الذات" الطرق الدقيقة التي كان فعل كتابتها متضمنا في تكنلوجيات الذات. ويحدد ثلاثة كيفيات مختلفة كانت الكتابة تستعمل من خلالها في التربية الفلسفية للذات مباشرة قبل مجيء المسيحية، ثم في الإشكال المسيحية الأولى للرهبانية
[6] ليس في نيتي أن أؤكد أن عملا تاريخيا مفصلا عن الظروف التي تم فيها الرق- كجزء من استراتيجية البيع في السياق الإفريقي-، لا يكون ملائما، بل بالا حرى، ـ أن تتبع أصول الحروب الحديثة في أفريقيا حتى الرؤى الشبحية التي تنتج عن إحساس بالذنب بدون حل و لكنه لم يكن موضوع وساطة من قبل القوى المعاصرة للحياة والعمل لا يبدو لا رسما يجب إتمامه فيما بعد، ولا شطرا يحيل إلى مجموع مستحيل . هناك يقينا، الإغراء القوي للغته، الذي هو أكثر ملاءمة للتصريحات النبوية، إنما هل هو مبرر كاف لقبول تشخيص الأزمة؟.
[7] في مجموعة مقالاته عن(فترة) ما بعد الاحتلال، يتحدث Mbembe(2001) عن كتابة مهلوسة، لكنة يستعمل الهلوسة كميزة قوة في (هذه الفترة): وتفهم الكتابة كفعل استعادة هذه التجربة بالمعاني التحليلية: يبدو الموضوع مهلوسا" غير قادر على تحمل مسؤولية ما يقوله وما يفعله"( ص.169) .بقدر ما استطعت فهمه، لم يناقش مفهوم كتابة الذات في هذا الكتاب
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:32
فينا داس
الصدمة والشّهادة: توريط المجتمعِ السّياسيِ
ترجمة : لحسن عيساني
أوَدُّ أَنْ أنتهز هذه الفرصةِ كي أَفكر في دور الأنثربولوجيا في الحياة العامة انطلاقا من خبرتي الحيّاتيةِ والعَمِليةِ في سياق عنفِ طّائفيِ في الهند[1]. لكن قبل أنّ اَبْدأُ علي أَنْ أَعترفَ بأنّ تحديد العنف بحد ذاته يعتبر تحديَا، فتعقيد مختلف أنواع الفاعلين الاجتماعيين في كل حادث عنف جماعي يجعل من الصعب أن نحدد إن كان يجب اعتبار هذا الفعل مثالا للعنف" الطائفي"أو العنف " بين الطوائف" أو العنف" الذي تشجعه الدولة"
ترى هل تم وصفُه بشكل ملائم في إطار" أعمال الشغب "أم " المذابح المدبرة "أم " الاضطرابات المدنية "أم"الإبادة الجماعية " أم مزيجا من كل هذا؟ فقَدْ ذكرPaul Brass ء(1996) بول باس على سبيل المثال بأنّه لا مصطلح "الشغب" ولا" المذبحة المدبرة" يلمان بشكل فعّال بديناميكية أعنف الحوادثِ التي تَتورط فيها حشود كبيرة. وإذا ما اعتبرنا أن أعمال العنفُ ثارَت تلقائيا استجابة لحدث استفزازي موجه ضد مجموعة دينيِة أو عرقيِة أو لغوية فان المذابح المدبرة هي أحداث عنفِ تُنظّمها وتنَفّذها أجهزة الدّولةِ، غير أن الحدودِ بين الاثنين تختلط بإطراد، فتَسْمِية العنفِ لا تَعْكسُ الخلافات الدلالية فحسب إنما تعكس أيضا المستوى الذيَ يُصبحُ فيه جسمِ اللّغةِ متعذرا تمييزه عن جسم العالمِ إذ أن فعلِ التَسْمِيةِ يُشكل تعبيرا توكيديا.
ويُمكنُ أَنْ نَرى الرّهانات الهائلة لهذه المصطلحاتِ حتى في تراكيبِ التّوقعِ. فعلى سبيل المثال، على أثر العنف الأخير( مارس 2002) ضد الأقليةِ المسلمةِ في جوجارات في الهند، حَذّرَ رئيس الوزراء أتال بيهاري فاجباي المعارضة في البرلمانِ من استعمال كلمة "مجزرة" لوصف العنف.. " قائلا لها" يجب أن لا تنسوا أن استعمال تعابير كهاته يسيء إلى سمعة البلد، وربما استعمل ضد الهند في المحافل الدولية..” (The Statesman، 17.3.2002 ) .
ومن جانب آخر، عكفت جماعة من النشطاء القانونيين على تحرير مشروع عريضة على أساس نقاشات قدّمتَ في المحاكمِ الدّوليةِ عن رواندا ويوغسلافيا سابقا لتؤكد بأنّه على الرغم من أن الدّستورَ الهنديَ لا يسمّي "الإبادة الجماعية"، فان مثل هذه الجريمةِ يُمكنُ أَنْ تَوجد في الدّستورِ، ومنه فانه يجِبُ أَنْ يحاكم مرتكبو العنف على جريمةِ الإبادة الجماعيةِ. وسنرى إن كانت إستراتيجيتهم القانونيةِ تعمل ولكن من الواضح أن النزاع حول التسمية يعكس نزاعات سياسية وقانونية خطيرة.
اسمحوا لي أن أفكر في هذه القضايا بأن أصف أولا التجارب التي أبني عليها ملاحظاتي.
في عام 1984، ربطتني صلة وثيقة بجماعةِ ممن نجوا من الموت في دلهي بعد أن كانوا ضحية عنف بعد اغتيال السيدة غاندي، التي كانت آنذاك رئيسة وزراء الهند، من قبل حرسها الخاص السيخ.
وأنا اعتبر عام 1984 تاريخا جوهريا لفهم العنف بين الطوائف في الهند ودور المجتمعِ المدنيِ في إنكار الصور التي كان يتلقاها لما يشكل العنف الجماعي، لا لأن الدِّراساتَ الأكاديميةَ كَانتْ تَنْقصُ في السابق بل لأن العلاقةَ بين إنتاجِ المعرفةِ والحاجاتِ الآنيةِ كانت مترابطة بطّرقِ مهمةِ من أجل إنْقاذِ المشروعِ الدّيمقراطيِ في الهند عام 1984.
وقد كانت التّقارير التي أعدّتها منظماتِ الحقوق المدنيةِ مثل إتحاد الشعب للحقوقِ الدّيمقراطيةِ وإتحادِ الشعب من أجل الحرياتِ المدنية
ِ(PUDR and PUCL 1984) ذات أهمية خاصةً لتأثيرها على الرّأيِ الشّعبيِ ، ولكن بينما كَانتَ أشكالَ العملِ المتطَوّرة عندئذَ مهمةَ لتَوَسُّعِ أشكالِ التّعبئة، يحق لنا التساؤَل إن كَانَ لهذا أي تأثير على فهمنا لما يُكوّنُ الإثنوغرافيا وصف الأعراق البشريةُ؟
ولما فكرت مليا، تَطوّرَ فهمي الخاص للطريقة التي يتم بها القيام بإثنوغرافيا الدّولةِ في اتجاهات غير متوقّعةِ تماما لأني باعتباري عضوا في فريق"الإنقاذ والإصلاحِ" لجامعةِ دلهي التي كانت تحظى بدعِم صحيفةِ محليةِ ألا وهي صحيفة
(The Indian Express) كان لزملائي وأنا موقف غامضُ جداً إذ كَانَ يجب علينا أن نتحرك من خلال الثغرات التي كان يمكن أن نجدها ( في هياكل) الدولة حتى نجْمعَ موارد كافية لإتمام عملنا في المناطقِ المعنية.
بهذا المعنى، كان واضحا انه حتى عندما كان العديد من أعوان الدّولةِ أنفسهم منشغلين بَخْرق القوانين، كان ما يزالَ ممكنا اَستعمالَ بعض موارد هذه الدّولةِ،لأن معايير اللائيكية والديمقراطية كَانت قَدْ ألهمت العديد من الفاعلين في النّظامِ.
وبعد ذلك بسَّنَواتِ وَجدتُ نفسي أيضا أفكر في ما يعَنيه الإحساس بالألمِ للمعرفةِ الأنثروبولوجيةِ- وهي النقطة التي سأتطرق إليها مع بعض التّفصيلِ فيما بعد. وعن كلتا القضيتين لم يكن الأمر يعني أن يُقَسَّم المرء نّشاطاتِه الخاصة إلى مجالاتِ منفصلة- تتوافق مع التقسيمِ بين العمل الأكاديميِ والنّضال وكما يمفهمها Scheper-Hughesء (1995) – كانت ممارسة الأنثربولوجيا قَدْ شُكّلَت بالأحرىَ بحاجاتِ الآنيةِ أو النضال.
أما عن أعمال الشغبِ بين الطوائف في الهند عام 1984 فقد كانت نقطة مهمة قَدْ أسست مِن قِبل عمّالِ مجموعاتِ حقوق مدنيةِ متعدّدةِ، ومحامين نشطاءِ وأساتذة جامعةِ ( وكنت أحدهم) ألا وهي انه بعيدِا عن أن تكونُ الدّولةِ فاعلا محايداَ يتمثل دوره في الوسّاطَة بين الجماعات الاجتماعية المُكَوَّنةِ مسبقا واهتماماتها الفئوية، وكَان عدة موظفين في الدّولةِ، في الحقيقةِ، متورطين بشكل نشيط كمجرمي عنفِ، أو على أقل تقدير، متواطئين في العنفِ ضد السيخ.
وخلال كِتابَةِ هذا العنفِ، على أية حال، أصبحُ واضحَا لدي انه ما لم يفهم المرء الحياة اليومية للنّواحيِ التي تحدث فيها أعمال الشغب، فسَيَكُونُ مستحيلا أَنْ نرى كيف يُمكنُ لمشاعر الغضبِ والحقد العارمة ِ أَنْ تترجم في الأَفْعالِ الحقيقيةِ للقَتْلِ.
ولأني نظرت إلى الوضع بعينَ عالم الأنثربولوجيا، بدا لي أَنْ التوزيع المكاني لأعمال الشغبِ في النّواحيِ، يبين وجود علاقةَ وثيقة بين العواملِ المحليةِ وشعور وطني بالأزمةِِ أحدثه اغتيال السيدةِ غاندي (Das 1995).. وهكذا بينما استمر التّمثيلَ الرّسميَ للعنفِ الطائفي في الهند تسَيطر عليه صورةِ حشودِ فقدت صوابها في ردّ فعلِ طبيعيِ على بعض الأعمال الاستفزازية من هذه المجموعة أو تلك، وقَدْ تغَيّرَ الفهم الأكاديمي لأعمال الشغبِ إلى حدٍّ بعيد. لكن لسوء الحظ، ما زالَ هناك ميلُ للعْملَ بنماذجِ نقائض ثنائية واضحِة في فهمِ العنفِ- الدولة مقابل المجتمعِ المدنيِ، الهنود مقابل المسلمين، العالمي مقابل المحليِ، الخ.
وقد جَعلني انخراطي عام 1984 في النشاط الحقيقي لجَمْعِ البياناتِ من اجل الإصلاحِ، على أية حال، أُدركُ مدى تعَقّد التقسيمات والارتباطات بين هذه الكياناتِ الثّنائيةِ. ولما أدركنا أن ممثلي الدّولةِ المتعدّدين قَدْ اتخذوا من العنف مواقف مختلفة حدث بعض الشَّرخ في فهمي الخاصِ للدّولةِ.. فعلى سبيل المثال، بينما انشغلَت فئةَ واحدة من حزبِ المؤتمرِ بشكل نشيط في التَحريضِ على أعمال الشغبِ على أملِ حشد الدعم لزعمائها ضمن تدرجِ الحزبِ، كان آخرون ضمن هياكل الدّولةِ أيضا قَدْ روّعتْهم الأحداثِ. لذا فقد تمكنّا أَنْ نُعبّئَ مساعدة البيروقراطيين الكبار، وضبّاط الشرطةِ والموظفين المتقاعدين لخْلق هيبة السلطةِ ضمن الناحية لضمان النجدة والإصلاح.
وعلى غرار العديد من الحالاتِ الأخرىِ، كَانَ التمويه جزءَ مهمَا من إستراتيجيتنا حتى نضلل مجرمي العنفِ الذين كَانَوا يحضون بمساندة ضبّاطِ الشرطةِ المحليين، وهذا فقد كانوا يعتقدون أنّهم فوق القانونِ. وكان الناجون من الموت و عُمّال الحقوق المدنيةِ يوَاجهون تهديدات وتحرشَات كبيرة منهم.
هل كانت أمامنا وسيلة نعمل بها في ذلك الجو سوى لتّمويهِ؟ وحتى نَعطي مثالا عن استراتيجيات المداراة التي اعتمدناها فبعد بضعة أيام من أعمال الشغبِ، سَاعدنا مدير تقاعد مؤخرا من الشرطةِ الاحتياطية المركزيةِ في تنظّيمَ توزيع المؤونة على العائلات المتضررة التي لمَ يتم ترحيلها إِلى مخيمات الإغاثة[2].
وقد وَصلَ معنا في شاحنِة رَفقَة ستة رجال من شرطةِ الاحتياط الذين كَانَ يرتدون بزاتهم الرسمية وَاتخذناَ الإجراءاتَ اللازمة لتَحديد العائلات المتضررة وأمددناها بالمؤونة بينما كان ضبّاطَ من مراكز الشرطةِ المحليةِ يرَاقبون الوضع[3].
و هكذا، عندما قمنا فيما بعد بأنواعَ أخرىَ من العملِ في النّاحيةِ، لم يستطع ضبّاط الشرطةِ والعديد من المجرمين تحديد مكانتنا الاجتماعية.
هَلْ كُنّا جزء من هيكل رسمي معتمد أم جزء من معارضةِ ما؟ ربما كُنّا قادرين على أَنْ نَعْملَ ونتحرّكَ في النّاحيةِ لأنه لَم يكن واضحَا لأحدِ أي مخاطر تتهدده إن هو هاجمنا. وقد كان التمويه في موقفنا، ضمن سياق القلقِ في العِلاقاتِ في النّاحيةِ، يشكل شرطَا في حد ذاته لإمكانية العملِ الإصلاحِي وجمع الأدلة.
لنأخُذ مثالاَ آخرَ: فقد استطعنا بوساطة موظفِ كبير في وزارةِ الداخلية أن نحصل على فرق شرطةَ وضعتْ في النّاحيةِ مؤلفة من موظفين استقدموا من دوائر الشرطةِ الأخرى. وقد ضمنِ هذا أمننا بينما انشغلنَا بتوزيعِ التّعويضِات؛ وحَمانا من تخويفِ المجرمين المحليين؛ وسَمح لنا أَنْ نُعيد بناء منازل الضّحاياِ؛ ومنحنا حرية الحركةِ ضمن أماكن صغيرة محددة تمكن هؤلاء الشّرطةِ المختارين أَنْ يُؤمنوها.
وقد أدركت أنّ منظماتَ الحقوق المدنيةِ والمحامين كانوا بحاجة إلى أَنْ يُعرّفوا بأنفسهم من خلال أشكال واضحة المعارضة للدّولةِ. وقد تراوح موقفي الخاص، على أية حال، بشكل ثابت بين الحاجةِ إلى جمع الأدلة التي يُمكنُ أَنْ تساعدَ في العملياتِ القانونيةِ وعملياتِ الإصلاحِ من ناحية، والفهم الأوسع للطّرقِ المعقّدةِ التي كانت قضايا النشاط والمسؤوليةِ المعنوية مرتبطة بها من ناحية أخرى.
هذه هو المسّألةُ التي يوَاجهها علماء الأنثربولوجيا، لأنهم ملتزمون مهنيا بفهمِ معقّدِ للسّياقِ المحليِ ويَجِبُ عليهم أَنْ يضفوا بعض القِيَم على الأحداثِ التي يَشْهدونهاَ ويُسجّلونهاَ. ولهذه المشكلة عواقب جدّية على الدّورِ العامّ الذي يُمكنُ أَنْ تلْعبَه الأنثربولوجيا: وتجدر إعادة النظر في الخلافات عند التَفكير في هذه القضيةِ.
وهي تثير السؤال: كيف أننا نحن علماء الأنثربولوجيا نسكن العالم بالنظر إلى الأحداث المُعاصرة التي تحدث مشكلات أخلاقية قوية و نضفي أيضا بعض الغموضَ على الوضع بسبب التزامنا بأَنْ نفْهمَ السّياق المحلي الذي يحددَ ألنشاطات بطرق لَرُبَما ظْهرتُ غامضة من خارج.
وقد مرت ثمان عشْرة سنة منذ أعمال الشغب التي حدثت عام 1984. وعلى ضوء الأحداثِ التي شَعرتُ أن علي َ أَنْ أقوم برْدّة فعل عليها، فقد َتم هدم فظيعَ لمسجد بابري، تَلته أعمال الشغبِ في بومباي في 1992، واغتيالِ أقرب أصدقائي في كولومبو عام 1999، في11 أيلول/سبتمبرِ 2001، وبعد ذلك الأعمال الوحشية ضد المسلمين في جوجارات في مارس 2002. كانت هناك بالتأكيد أحداثُ أخرى بنفس الأهميةِ لكني أستطيع أَنْ أَتحدث بشكل أسهل عن الأمور التي أعرفها عن عوالمي الخاصةِ.
وقد انتابني شعور بالصّدمةِ عندما عرفت أنه كان هناك من بين العديد من الشبان، المعروفين والمغمورين ً، الذين حاربوا الروايات الرسمية عن العنفِ الطّائفيِ في جوجارات في 2000 يَستغلون مكتسبات النشاط الاجتماعي الذي تطوّر من خلال المنظماتِ التي كَانتْ قد أسست عام 1984 فقط. وقد كان العديد من المحررين والصحفيين في الصحافة المكتوبةِ قَدْ جازفوا بأَنْ فضحوا تواطؤ السّياسيين البارزين والشرطةِ في أعمال الشغبِ.
وبالطريقة نفسها فضح بارخا دوت وراجديب ساردزي( من ستارِ تي في ) في عام 2002، أكاذيبَ الحكومةِ المركزية بتَغْطِيةِ أعمال الشغبِ وتصوير الحشود والنَّهْب، مُعرضين في العمليةِ حياتهم لأخطار هائل[4]. وفي عام 1984 جَلبت بنتي شانتي الصّغيرتين( التي كان زوجها و أبناؤها الأربعة قَدْ اُحرقوا أحياء في أعمال الشغبِ وانتحرت بعد ذلك )، كي تَعِيشَا معي إلى أن نتُمكن من وضع ترتيبات أخرى لهم.
ولم تكن بنتها الصغرى تَتّواصلُ سوى مع ابني الأصغرِ ( سانماي )، الذي كَان قد تجاوز الأربع سنوات بقليل.وقد انتهيت للتو من قراءة قصة لصديقِة طفولةِ سانماي، بهريجو، عن بعض العملِ الرّائع الذي قام به مع الأطفالِ في معسكرِ للناجين من الموت في منطقةِ "أمان تشوك"، في أحمد آباد (راجع سينغ 2002).
أتصور أن العديد من الشّباب الذين شَاركوا في أعمال الشغبِ في مارس في جوجارات كَانوا هم أيضا أطفالا َعام 1984 ، لكأن التقسيمات المتعدّدة في أشكالِ المشاركة في الحياةِ العامة في الهند- بعضها إلى جانبِ العنفِ وبعضها الآخر يريد التعامل مع هذا العنفِ- تتم من خلال مثل هذا التّلقينِ بالنّارِ.
هَلْ للأنثربولوجيا أي دورِ خاصِّ تَلْعبَه في هذا المجال، عدا تحملها المشاريعِ الأكبرِ التي يتم من خلالها جمّعُ شهادات الاتهامات القانونيةِ، والتكفل بالإصلاح وضمان بعض الإغاثةِ للضّحاياَ والناجين من الموت ؟
هل من المهمُ أن تكُونُ هناك أي حدود بين التخصصات و بين المِهَنِ، أو بين النضال وبين العمل الأكاديمي؟ إن ما اَعْرضُه هنا مشكّلُُ بصورة عميقة بسيرتي الذاتية وأُريدُ أَنْ أُقول بوضوح أنّ ممارسة الأنثربولوجيا على هذا النحو مقبولة تماما. ورغم هذا، فعندما نوَاجه بنوعِ الصدمة التي يتسبب العنف لنا فيها فنحن نشترك لا محالة في القراراتِ التي تشَكّل الطّريقة التي نَفْهمَ بها مكاننا في العالمِ.
إن العلاقة بين الأنثربولوجيا وتركيبة المحيط العام يُمكنُ أَنْ تنْتجَ من الأنواعِ المختلفةِ من التّقاطعاتِ ولا يمكن لنا أن ننجو من الاستغلال التام للمعرفة إلا بواسطة الانتباه إِلى هذه المشاريعِ المختلفةِ التي تتطَلبَها الدّولةِ والسّوقِ بشكل متعاقب والمحافظة في الوقت نفسه على شيء من التوازن بين متطلبات الآنيةِ ومتطلباتِ المدى البعيد.
وهناك أيضا مسألةُ كون الكثير من الأمور موضع تهديد بفعل الحديث بشكل مهمل أو دون كياسة عن هذه الأمورِ. إن الحدّ بين العَمَلِ والَقُول، ضمني في تقسيم العملِ بين ما يسميه "كانت" القدراتِ " الأعلى " لعلم اللاهوتِ والقانون، والطب و القدرة " الدنيا" للفلسفةِ، لا يمكن المحافظة عليها بسهولة. وهذا يؤدَي إلى علاقات معقّدَة بين تصوراتِ أخلاقِ المسؤوليةِ وبعض أشكالِ الرقابةِ.
إنّ بقيةَ هذه المساهمةِ منظّمة كالتالي. فأن في الجزء الأولِ، أَدرس الانتقاد الذي مفاده أن التَركيزِ على الصدمة يؤدي إلى نشوء جماعاتِ حاقدة. فلَيسَ واضحَا لدي ما إذا كان التركيز على ألمِ الضّحاياِ، في إطار ثقافة شعبية للجرح، يجعل الاعترافَ بالماضي أمرا صعبَا، ومن ثم الانشغال في بناء الذات في الحاضر. ومن غير الواضح أيضا إن كانِ هذا الحقد ينظر إليه على أنه القدرِ المحتوم لمحاولةِ علاج قضية الألمِ والشفاء.
لا أُنكرُ أنّ هناك الكثير من الآثار لقصصِ الضّحاياِ والناجين من الموت راسخة في الثقافة الشعبيِة تعطي فيها صورة الضحية " البريئة " مبررا للانشغال بالتلصص. وعلى أقل تقدير، بإمكان هذا أَنْ يفتحَ مجالات مشكوك فيها تَنْتشرُ فيها قصصِ الألمِ في ممارساتِ ِالفَصْلِ بين ضحايا" أبرياء " و ضحايا " مذنبين ". لكني ما زِلتُ أتساءل إن لم تكن هناك صورة مختلفة من الضّحاياِ والناجين من الموت محتملة لا يكون فيها الوقتِ جامّدا لكنها على العكس تسْمحُ لهذا الأخير بان يَعمَلُ عمله.
في الجزء الثّاني، أَدرس ما يَعنيه الاَنشغال بخلقِ المسؤوليةِ أو الحديث بشكل مسؤول في إطار الخطاب الأنثروبولوجي وأُحاولُ أَنْ أدافع عن صورة للمعرفةِ الأنثروبولوجيةِ فيما يتعلق بالألمِ، كتلك التي تبقي متفطنة للعنفِ حيثما يَحْدثُ في نسيجِ الحياةِ و(صورة) جسمِ النّصِ الأنثروبولوجي كتلك التي ترفض التواطؤ مع العنفِ بالانفتاح على ألمِ الآخرِ.
وضع الضحية، الشهادة، وجماعات الحقد:
يجدر بي، لمناقشة الطّرقِ المختلفةِ التي ينظر بها إلى فكرةِ الألمِ والشّهادةِِ في تكوين الجماعةِ السّياسيةِ، أَنْ أثير التعارض بين الأنماطِ النّبويةِ والتّشخيصيةِ للانتقاد كما يتطُرق إليه Reinhardt Koselleckء (1973) . وأود بعد ذلك أَنْ أَستعملَ هذا التعارض لمناقشة بعض الأطروحات المهمةِ التي صاغها Achille Mbembe (2002) عن قضيةِ الألمِ وبناء الذّات.
ووفق ما اَفْهمه، فان النّمط النّبوي للانتقاد راسخ في نوعِ من الشجبِ المثيرِ للحاضر، بما أن النّبي( بالمقارنة مع الخوري ) يَتكلّمُ نيابة عن الجماعةَ المستقبليةَ.
وبالمقابل نَتحدث عن حالةِ حرجةِ في التّشخيصِ الطّبيِ عندما يتطور المرضِ نحو الأفضل أو نحو الأسوأ. ويَتطلّبُ هذا تفسيرا حذرا للإشاراتِ والأعراضِ و اهتماماِ يقظا بالتّفاصيلِ الصغيرة التي يظهرُ المرضِ من خلالها. ومع أنّ التّنبؤَ مقنّعُ غالباً في شكل تشخيصَ قائم على قراءة دقيقة للأعراضِ، فاني أُؤكد أن نشوء جماعاتِ الحقد تلك أكثر احتمالا عندما يكون الموقف المتخذ من الألم موقفا نبويُا.
و بتَأْطيرِ سّؤالِي على هذا النحو، سأعود إِلى إعلانِ Mbembe الاستفزازي الأخير لما يَدْعوه فشلَ الخيال الجماعيِ لأفريقيا في التوصل إلى نمطِ أفريقيِ خالص من الكِتابَةِ عن الذات.
وكان العائق الكبير الذي رآه Mbembe في ظهورِ كتابة " أصيلة " لموضوعِ جماعيِ في أفريقيا هو الطّريقة التي نُشِر بها خطاب" الضحية" كي تؤخذ في الَحْسبانِ التجربة التّاريخية للعبوديةِ والاستعمار والتفرقة العنصرية. و هو يُؤكد أن التحقيقاتِ الفلسفيةِ الأصيلةِ أهملت في النقدِ الأفريقيِ، وأن ذلك الإهمالِ مسؤول عن كون أنّه خلافا لتجربةِ الهولوكوست اليهوديةِ التي أنتجت تحقيقا فلسفيا أصيلا، ولم يستطع النقد الأفريقي أن يعالج الألم في التّاريخِ بطريقة يُمكنُ أَنْ تؤدي إِلى ولادةِ الموضوعِ. وعلى حد تعبير Mbembe:
" إن المسألة الأولى التي يَجِبُ تحديدها تتعلق بوضع الألمِ في التأريخِ- الطّرقِ المختلفة التي تلحق بها القوى التاريخيةِ الأذى النفسي بالأجسامِ الجماعيةِ والطّرقِ التي يُشكّلُ بها العنفِ الذاتيّةَ. هاهنا اعتبرتْ المقارنة بتجارب تاريخيةِ أخرىِ مقارنة مناسبة.
ويوفرُ الهولوكوست اليهوديُ مثل هذه التجربةِ المقارنة. والحقيقة إن الهولوكوست والرق والتفرقة العنصرية تمثّل جميعها أشكالا من الألم الأصلي. وكلها تتمَيَّزِ باستملاك الذات من قبل قوى لا اسم لهاِ.....حقاً، تَشهد الأحداث الثّلاثة، في أساسها النّهائي، على الحياةِ نفسها مما يطرح السّؤال: كيف يمكن استدراك الحياة، أو بمعنى آخر، كيف يُمكنُ إنقاذها من هذا العمل المستمر للسّلبيةِ؟ " (ملاحظتنا، ص 259)
على الرغم من الإشارة إلى أحداث الهولوكوست والرق والتفرقة العنصرية كشواهدَ ضد الحياةِ، يبقى شكل الحياةِ غير مستكشف نسبيا. وبدلاً من ذلك، يقدم Mbembe خطابا يفسر فيه العقباتِ التي تحول دون استعادة الذات في الخيال الجماعيِ الأفريقي بسلسلة منِ الإنكاراتِ. وأكثر هذه الإنكارات وأقواها بالنسبة له هي العجز الأفريقيُ عن التّمثيلِ الذّاتي، القائم هو نفسه على تكرارِ طقوسيِ لتعابيرِ من قبيل " حديث المرء بصّوتِه الخاصِ" أو" إيجاد هوية " أفريقية " أصيلة قائمة على هذا التصور أو ذاك للفطرة.
يَعْرضُ Mbembe ثلاثة انتقادات للمحاولاتِ الأفريقيةِ لاستعادة الذّات، التي سأناقش منها الانتقاد الأخير هنا. " في النّقدِ التالي، سأؤكد أن " تفضيلهم" الضحية" على حساب " الخاضع" مشتق، في التحليل الأخير نهائياً، من فهم فطري خالص للتّاريخِ ألا وهو " التاريخ كسحر". ص (245).
ويرى Mbembe أن "التاريخ كسحر"ِ يقوم على مفهوم أوسع بحيث، خلافا لذّكرىِ الهولوكوست اليهوديةِ ِ، ليس هناك، في الواقع أي ذاكرة أفريقيةُ للرق ِ، الذي جرب في أحسن الأحوال كجرحِ يَنتمي معناه إلى مجال اللاشعورِ، أكثر منه في مملكةِ السّحر منه في التأريخِ (راجع خاصةً ص 60- 259).
ومن بين أسباب صّعوبةِ المشروعِ الذي يهدف إلى استَعادة ذاكرةِ الرق، يُحددُ Mbembe المنطقةَ الغامضةَ التي تخفي فيها ذكرىِ الرق فجوة بين الأمريكانِ- الأفريقيين والأفريقيين- القاريينِ. فالأمر بالنسبة للأفريقيين يتعلق بصمت مذنب، ألا وهو رفض الأفريقيين أَنْ يُواجهوا المظهر المحرج للجريمةِ التي تلزم مسؤوليتهم الخاصة في جوانب المسالة.
وهو يؤكد كذلك أن انمحاء مظهرِ ألمِ الرق الأسود الحديث هذا يمكن أن يخْلقَ الخيال (أو الوهم) بان الطابع المؤقت للعبودية والبؤسِ كَان نفسه على جانبِي الأطلسي.
" هذا لَيس صحيحا، وهذه المسافةِ هي التي تمنع الصدمة والغياب والخسارة من أن تكُون أبداً هي نفسها على جانبي الأطلسيِ. وطالما كان الأفارقة القاريون يُهملونَ إعادة التفكير في العبودية- لا ككارثةِ فحسب كانوا هم ضّحاياَها، إنما كإنتاجِ تاريخِ لَعبوا دورا نشيطا في تَشكيلِه- فجاذبية العنصر كقاعدةِ سّياسيةِ ومعنوية للتّضامنِ سَتَعتمد-إِلى حد ما على وهم الوعيِ. ص (260).
هناك بِضْع فرضيات مهمة هنا حول حتمية استعادة المعنى الأصلي للذّاكرةِ لتَشكيل الهويةِ الجماعيةِ ذات الصلة بفهمنا- في ظل هذه الظروف- لُعوامل التوحيد وعوامل الفصل بين الأنثربولوجيا وأجواء الشفاء.
أولا: من الواضح أن الهولوكوست اتخذ نموذجِا، يطرح على منواله "فشل" المشروعِ الأفريقيِ للكِتابَةِ عن الذّات.
ثانيا: من المفترضَ أنّ تشكيل الهويةِ الجماعيةِ له صلة وثيقة بمهمةِ استعادة الذاّكرةِ.
ثالثا: إن بناء الذات مدرك كشكل من الكتابَةِ.
و مع أنّ Mbembe لا يذكر هذا بشكل واضح، فاني أَتخيّلُ أنّ كِتابَةَ الذات تقدم وعدا- ألا وهو خلقِ جماعةِ مستقبليةِ. و يبدو أَنْه يَرْفضَ أي فكرة للتعبير عن الذات بصور كنائية أخرى، مثل تلك المتعلقة باكتشاف أو تّأسيس؛ أو اكتشاف في صورة تأسيسِ- بسبب حذره من نماذجِ الذات الواقعة في اكتشاف الماضيِ.
وما نزال لحد الآن نشك أن تصورات Mbembe للماضيِ تندرج في التصور الخطيّ للوقتِ، لأنه يبدو أَنْه يَرْفضَ الاحتمال بأنّه يُمكنُ شغل فضاء الخرابِ بامتلاكه لا من خلال الهروبِ، إنما بشغل الوجود في حالةِ حدادِ. وإذا كانت كِتابَةَ الذات تُشيرُ إلى تكوين جماعةِ مستقبليةِ، فان معناه إذن يظل غير مستكشف[5] سواء بالمعنى الحرفيِ أو الرمزي. وأخيراً، تَظْهرَ أشكال جديدة للذات في الممارساتِ الحربِية التي تشكل الآن جزء من الحقيقةِ اليوميةِ للمشهدِ الأفريقيِ عوض تَكوينِ حالة استثنائية.
وهذه الأشكالِ الجديدةِ لكِتابَةِ الذات مرتبطة، بالنسبة ل Mbembe بالمشاريعِ المَجهضةِ لاسْتِعاَدةِ الذّاكرةِ. و يبدو هذا واضحا، على سبيل المثال، في التّصريحِ الآتي:" في رجفة السّكر، يصبح هو أو هي قطعة فنيةِ تشكلها القسوة وتنَحتَهاِ. وبهذا المعنى تُصبحُ حالة الحرب فيما بعد جزءَ من الممارساتِ الأفريقيةِ الجديدةِ للذات. ومن خلال التّضحيةِ، يحول الكائن الأفريقي ذاتيّته الخاصة وينتج شيئا جديدا- شيئا لا يندرج في مجال هويةِ مفقودةِ يَجِبُ استرجاعها ثانية مهما كلف الأمر ولكنه بالأحرى شيء مختلف بشكل جذري، شيء ما منفْتحُ على التغيير ويبقى أنْ تختَرع نظريته ومفرداته".
وفيما بعد، "(.....) يظْهرُ خيال أصليُ للسّيادةِ، سوى تمثل الحياة في عموميتها مجال عمله. و يمكن لهذه الأخيرة ُ أَنَْ تخضع لموت تجريبيِ، أي موت بيولوجي. لكنها يُمكنُ أيضا أَنْ تَعتبر مَرْهُونة بالطريقة نفسها التي ترهن بها الأشياء، في اقتصاد عامّ يستمد مصطلحا ته من المذابحِ والمجازرِ، على طريقة رأس المالِ والعملِ والقيمةِ المضافة
وأعتقد أنه من المهم أن Mbembe لم يغير وضع فكرة" الكتابة" فقط دون تحديد مكانها في التقاليد التاريخية والثقافية التي هو بصدد دراستها، بل نفد صبره أيضا كلما تعلق الأمر بتقديم حساب مفصل للاختلافات داخل أفريقيا حول العلاقة بين الشفوي والمكتوب، رغم إلحاحه الخاص على كون الخلافات كانت قد حجبت في النقاشات حول مفاهيم التشابه على أساس العرق.
وحتى يتأكد، فقد خلص إلى بيان الأشكال المتحركة وغير القارة التي تولدها ممارسات الذات ، لكن هذا لا يمنعه من الحديث مرارا عن " فكر أفريقي" أو عن " ذاتية أفريقية" خلال تحليله.
كما يُطرح ذلك في النّموذجِ الماركسيِ الكلاسيكيِ. " ص (269).
و يظهر شكل الحياةِ ثانية لكنه هذه المرة مرَهون في محاولةِ َ"كْتابة " الذات من خلال ممارساتِ الحربِ والقسوةِ[6]. وفي وقت سابق في هذه المقالةِ كنت قَدْ لفتُ الانتباه إِلى " كيف يُمكنُ للحياةَ أن تستدرك، أو بتعبير آخر تُنقذ من هذا العمل المستمرِ للسّلبيةِ؟ " لكن فضلا عن إشارة إلى "كثافة " الحاضر الأفريقيِ ومطابقة السلوك والحياةِ، ليس هناك أي تحليل للطريقة التي يصبح بها تمييز شكلِ الحياةِ عن المشاريع المدانة لاستعادة الهوية ِ.
ولَيسَ في نيتي أَنْ أدفع بالنقاش مع Mbembe في المجال الذي اختارَ أَنْ يَكْتبَ عنه لأني لا افهم جيدا مشروعِ كِتابَةِ الذات الأفريقيِة وخاصةً بسبب إثارة Mbembe ِفي السّابق للكِتابَةِ كمشروعِ هلوسيِ (راجع .[7])Mbembe 2001 ومع هذا، فأنا مهتمُّ جداً بالكيفية التي نتعامل بها مع العنف الذي يعد شاهدا ضد الحياةِ نفسها (لا ضد نوعِ بعينه من الهويةِ على سبيل المثال ). هَلْ هناك طرق أخرى يمكن أن يتم من خلالها خلق الذات عن طريق احتلال نفس مكان الخرابِ، لكن مرة ثانية من خلال إدراك علامات الجرح وتحويلها إلى طرقِ للتحول إلى مواضيعِ ؟
و بدلاً من سجل البيانِ النّبويِ، اسمحوا لي أن اتجه إِلى سجلِ الحياة اليوميِة الذي يمكن من خلاله أن نُحاولُ استدراك إنقاذ الحياة. ما معنى رفع التّحديِ –ألا وهو َالكْتابة ضمن نوعَ التحقيق الأنثروبولوجيِ؟ سأنتهز هنا ببساطة هذه الفرصةِ كي أبين الطّريق الآخر الذي أرى به القضاياَ المطروحة في مشروعِ الأنثروبولوجيِاِ فيما يتعلق بالعنف والألم. وكما أَتمنّى أَنْ أُبينه، فان ما أريد أن أصفه لَيسَ أن أشباحا يمكن أن تطَردَ من مشاهدِ العنفِ لكن بالأحرىَ أن الحياةِ اليوميةِ لا تَطْردُ.
وقد حَاولتُ في مقدمةِ هذه الورقةِ، أَنْ أُصفَ كيف أن فهمي الخاص للعنفِ وللعملِ على الشفاء ِ قَدْ نبع من القضاياِ الفعلية التي تتعلق بضَّماَنِ أن الناجين من عنف أعمال الشغبِ التي حدثت عام 1980، في ناحيةِ بعينها ِ يُمكنُ أَنْ يَسْكنَوا ذلك الفضاءِ ثانية.
لسنا نطمح هنا إلى أي مشروعِ كبيرِ للشفاء ِ لكن ببساطة إلى مسألة معرفة كيف أن المهمّاتَ اليوميةَ للعَيْشِ- أن يكون للمرء بيت يأوي إليه، ويَكُونُ قادرَا على أَنْ يُرسلَ أطفاله إِلى المدرسةِ، و أَنْ يَمارس عملَه اليوميِ من دون أن يكون خائفا باستمرار من أن يتعرض للُهَجَوم- يُمكنُ أَنْ تتمَّ.
وَقد وجدتُ أن بناء الذات كان يتم، لا في ظلِ ماضِ شّبحيِ إنما في جَعْلِ الحياة اليومية صالحة للسكنى ِ. وعليه، سأَقترحُ أن يعرف النّمط الأنثروبولوجي لمعرفة الموضوعِ هذا الأخير في من خلال الشّروطِ التي يُصبحُ فيها الحديثَ عن التجربة ممكنا. إذن ليس هناك موضوعُ جماعيُ موحدُ ( مثل الذات الأفريقيِة أو الذات الهندية) ولكن هناك طرقا لسُكُنِى العالمِ يحاول المرء من خلالها امتلاك العالم، أو أَنْ يَجدَ صّوته في آن واحد داخل وخارج الأنواعِ التي تُصبحُ متوفرة في النزول إِلى الحياة اليوميِة. كما أن شهادة الناجين من الموت كأولئك الذينِ تَكلّموا لأن الضّحاياَ لم يستطيعوا ذلك.، تمت مفهمتها بصورة أفضل، لا من خلال الصور الكنائية للكِتابَةِ، ولكن بالأحرىَ من خلال المقارنةِ بين القَولِ والبيان.
واسمحوا لي أن أعود إلى لحظةَ مهمةَ بالنسبة للنّاحيةِ التي كُنْتُ اَعْملُ فيها. فقد كَانَت هناك إشاعةَ في الأسبوعِ الثّاني من تشرين ثاني/نوفمبرِ أن الأمِ تيريزا كَانتْ ستَزُورُ النّاحية. وكان مهما بالنسبة للعديد من الفاعلين المتوَرّطين في العنفِ أن يَقدموا صورة عن عودة الأمور إِلى طّبيعتها ِ. لذا فقد ً بَدأوا يَضْغطون على النِّساءَ اللواتي كُنّ يَقبعن في حدادِ خارج البيوت، ويَرْفضُن الاَستحماّمَ، أو تنظيف منازلهن، أو َتْرك الجماعات الصّغيرة التي شَكّلنها بجلوسهنِ وَنَومهنَ في الشّارعِ، كي ينظفن المكان و يُنظّفَن أجسامهن، ويُمشّطن شعورهن.
وبعبارة أخرى، كان يجب أن يُقدّم الجسم المرتّب والمكان المرتّب كالعرض الذي كان يجب أن تقرأ من خلاله الحالة الطبيعية حتى وهي مشحونةِ بتجربة الخسارةِ، والهياج وغَمْرة الأسىِ. ولم تكن النِّساء اللواتي كُنّ في الحدادِ يثرن أي نقاشِ لكنهن رَفضن ببساطة أَنْ يُقدّمن واجهة نظيفة. وبالنسبة لشخص على دراية بالقواعدِ الثّقافيةِ للحدادِ، كانت النِّساء يُقدّمنَ أجسامهن دليلاِ على خسارتهن البالغة. فهن من ناحية، لم يتَمَكّن من أَنْ يَجْعلن أجسامهن تَتكلّمُ لتعبر عن َ الرّثاء التّقليدي، لكن من ناحية أخرى، كان الدنس الذي اصررن على تَجْسيدِه " يظهر" الخسارة و الموت والدّمار.
وهذا يذُكّرني بشّخصية دروبادي في ماهابهاراتا (راجع Hiltebettel 1981 و 1982)، التي كَانَت قَدْ عُرّيت في محكمةِ الملكِ دوريودانا بينما كَانتْ تَحيضُ لأن زوجها راهن عليها في مقامرةِ ضد الملكِ. وحسب النّص فقد ظلت طيلة أربع عشْرة سنةِ ترتدي نفس الثياب الملَطّخَة بدمها وتركت شعرها أشعث وغير ممشّطِ.
من الواضح أن النِّساء لم يكن يرغبن في تجسيد الدنس في فعلِ محاكاة مباشرةِ لشكلِ دروبادي، ولا كن منشغلات بفعل " إظهار"، بعد نقاشِ عقلانيِ حول كيفيةْ تفنيد إنكار الروايات الرسمية أن عددا كبيرا من السيخ قَدْ قُتِلواَ، ومع ذلك فان شهادتهن يُمكنُ أَنْ تُبْنَى من الطّريقِة الجديدة التي كن يشغلن بها فضاءَ التّمثيلِ الرّمزيِ في الخيال الجماعيِ .وَيبدو لي أن هذا الشكلِ من خَلْقِ الذات كموضوعِ باعتماد علامات الخضوعِ يعطي اتجاها فعليا لمعنىِ الَوقوع ضحيّة أكثر مما يَقترحُه Mbembe . إذ أن ما كانت النِّساءِ ّ قادراتِ عِلى " إظهاره " لم يكَنَ رواية ثابتةَ للخسارةِ والألمِ ولكنه مشروعَ لم ُيكنُ فهمه ممكنا سوى في المفردِ من خلال صورةِ سُكُنىِ فضاءِ الخرابِ مرة ثانية.
وهكذا بعيدا عن التعارض ِ بين تجربةِ العنفِ التي تعيشها ضحيّةِ / ناج من الموت وتلك التي يعيشها موضوعِ، كانت قدرتهن على إعادة صياغة رموز الحدادِ وأنواعه هي التي جَعلتهن نشيطات في الميدانِ الذي هو محل نزاع شديد في السياسةِ. وقد أعطى هذا للنِّساء وأعطانا ( برفقتهن ) المقدرة على تعبئةَ جمهور أكبر حول معنىِ هذا العنفِ.
والآن، من الواضح أن هذا لم يكَن نوعَ الأدلة الذي يمكن أن يعتبر مهما في محكمةِ قانونِ. لكن المَهمُّ هو أنّ البيروقراطيين أو المسؤولين الآخرين في الدّولةِ ما كَانوا صما ّ ولا عميا عن معنىِ هذا التّشريعِ الثّقافيِ.
أنا لا أدافع عن فكرة أن الخزي يعمل كأداةِ قويةِ في كل المناسباتِ، لأنه يَجِبُ أَنْ تَكُونَ هناك بعض الحسّاسيةِ لمعنىِ هذا الخْزي من الجانبين ِ. إن تجسيد النِساءِ للدنس على أية حال كَانَ مهما بهذه المناسبةِ لجعل الموظفين الذين رَافقوا الأم تيريزا خلال هذه الزّيارةِ يشعرون بالخزي. وسأتجرأ وأذكر أن الأنثربولوجياِ اتّهمتَ غالباً بجَعْلِ الاجتماعي معقدا جداً بحيث تصبح غير ذات جدوى لأي أهداف سياسيةِ تتطلب بعض التخفيف من التعقيدِ. غير أنه من خلال خبرتي، فانه تحديدا عندما يتوصل علماء الأنثربولوجيا إِلى إعادة معنىِ حدثِ من خلال وضعه في إطار الحياة اليومية – بافتراض أن الفعلِ الاجتماعي لا يكون مجرد تجسيد مباشر للسيناريوهات الثّقافيةِ، لكنها تحملَ آثار الطريقة التي يُمكنُ أَنْ يعاد بها استعمال هذه الرّموزِ المُشَترَكةِ- يمكن أن تكون الأنثربولوجيا أكثر فعّالية.
وقد طور علماء الأنثربولوجيا فكرة السردية كنمطِ يعطى من خلاله للتجربةِ شكل، لكن القصص، مثل ظواهر اجتماعيِة أخرى لهاُ نتائجُ غير متوقّعةُ.
وقد كَتبتُ في الورقةِ السّابقةِ مع Arthur Kleinman أن " الفضاء الاجتماعي الذي تشغله نفوسِ مَجْرُوحةِ قد يسمح لقصص أَنْ تَخترقَ رموزاَ ثقافيةَ روتينية كي تُقدم خطابا مضادا يهَاجم و ربما حتى يلغم، انطلاقا من الذات، معنىِ الأشياءِ كما هي.
وانطلاقا من مثل تجارب اليأس والفشل هذه ِ لَرُبَما ظهرت قصص تدعو وربما تؤدي أحيانا إلى تغيير يشوه تماماً الفضاء العام على مستوىِ التجربة الجماعيةِ وعلى مستوىِ الذّاتيّةِ الفرديةِ. " (ص 21) .
وباعتباره معاكسا للقوة المثيرةِ للقصصِ في وسائل الإعلام التي تتمكن من تَركيزِ الانتباه على حدثِ كارثي، فان قوة الأنثربولوجيا تكمن في إظهارها في آن واحد كيف انه أولا يمكن لأمر ما أن يؤدي إلى أزمةِ: وثانيا أن مثل هذه الأحداث يُمكنُ أَنْ تظهر في المستقبل وفي الحاضر في آن معا. وهذا بدوره مرتبط بالقدرة على رُؤيةِ وتَوثيقِ الطابع الحدثي للحياة اليوميِة.
وخلال تفكيرنا في تجربة الجماعات التي دَمّرهاَ العنف وكذا السّكينِ الناعمة للاضطهاد اليوميِ، كَتبنا Kleinman وأنا ما يلي:" من الواضح أن حركة مزدوجة تبدو ضرورية للجماعاتِ حتى تستطيع أَنْ تَحتوي الأذى الذي وردَ في هذه الروايات: يَتطلّبُ هذا في المستوىِ الكبيرِ للنّظامِ السّياسيِ خلقَ فضاءِ عامّ بمنح الاعتراف لألمِ الناجين من الموت ويُعيدُ بعض الثقة في العمليةِ الديمقراطية وفي المستوياتِ الدّقيقةِ للناجين من الموت في الجماعة والعائلةِ. ويتَطْلبُ هذا استعادة فُرَص الحياةِ اليومية، وهذا لا يَعْني أنه يمكن تحقيق النّجاحِ بفَصْلِ المذنبِين عن الأبرياءِ من خلال عَمَلِ النظامِ القضائيِ الجزائي ِ، لأنه في معظم الحالاتِ الموَصوفةْ هنا لَيس من ْ السهلَ أَنْ نَفْصلَ المذنبين وأَنْ نُحدّدَ بدقة المسؤولية القانونية، لكن هذا يَعْني أنّ العدالة في حياةِ جماعةِ ما، ليست كل شيء ولاهي لاشيء- إن تطبيق عمليةِ الاعتراف العامّ بالألم ِ يُمكنُ أَنْ يَسْمحَ بخلق فُرَص جديدة لاستئناف الحياةِ اليوميةِ. " (ص 19).
وبعبارة أخرى، أَؤكد أن خلق الذّات في سجلِ الحياة اليوميةِ هو جمع حذر للحياةِ- التزام مؤكّد بمهمّاتِ إعادة صنعِ حريص لمصطلحي التّعبيرِ المركّبِ "حياةِ" و "يوميةِ".وهذا يبرز الطابع الحدثي للحياة اليوميةِ ومحاولةِ التأسس كموضوعِ أخلاقيِ ضمن مشهدِ العاديِ هذا.
الأنثربولوجيا وأخلاق المسؤوليةِ:
في مقالته عن العلم كمهنةِ "، نعت ماكس فيير Max Weber نوعَ الأخلاقِ الذي يميز البحث العلميِ على انه خلقِ المسؤوليةِ. أما فيما يتعلق بالأنثربولوجيا فلَيسَ من السهل تعرّيفَ مسالة المسؤولية عن طريق المقارنةِ بين الفعَلِ والَقُول ُ. في منتدى " " Current Anthropology"، عن" anthropology in public"، عرض(Charles Hale (1997 المسألةَ كما يليِ " علينا أَنْ نَشق طريقنا بين الرواياتِ المَشْحُونةِ إلى حدٍ كبير بما حَدث، ونُنتج رواياتنا الخاصة التي ستكون لا محالة متحيزة ونسبية.
ومن ناحية أخرى عندما نختار أن لا ننقب في ذلك التّأريخِ الحديث فإننا نوشك أن نتواطأ مع المصالح القويةِ التي استفادت جيّدا من النسيانِ الرّسميِ.
" وقد أصاب. ” Hale حين اعتبر أن فضح الأكاذيب الرّسمية هو في آن معا فعلُ و قَولِ. في مثل هذه اللّحظاتِ البطوليةِ عندما يكون لعالم الأنثربولوجيا الموارد لفضح الأكاذيب الرّسمية، فالواجب الأخلاقي يبدو أوضح منه عندما نتبع َ مسار ما يَحْدثُ للضّحاياِ أو المجرمين بمرور الوقتِ. أنا لا أشير ببساطة إِلى التّحولِ الذي يصبح فيه الضحايا قتلةَ كما أكده Mamdani ء(2002) في كتابه الأخيرِ، لكن عندما يكون العنفَ متشابكا جدا مع النسيجِ الاجتماعي بحيث يُصبحُ متعذرا تمييزه.
وقد أثرت سابقا طرح Mbembe الذي حسبه أن الحروب في أفريقيا قد أَصْبَحتْ جزءَ من الحياةِ اليوميةِ لكني ترددت في تَقْبلَ صياغته التي تقول بأن هذا كَان نتيجةَ ماضِ لم تتم السيطرة عليه وعاد من جديد لتُطاردَ الأحياء.
وبخصوص هذه المسألةِ، هناك اتجاه مُهَْمُ أشارت إليه Diane Nelson ء(1999) ديان نيلسون في جزء من عملها الأخيرِ عن غواتيمالا عندما تَسْاء لت كيف يمكن لنفس الدّولةَ التي ثبت أنها ارتكبت مذابحِ وانتهجت سياسةِ الأرضِ المَحْرُوقةِ أَنْ تَكُونَ الآن شيئا مرغوبا .
وتؤكد أن الدّولة يحدث أنْ تُفْهَمُ على أنها منافقةِ، مخادعة، ومرغوبة، مخيبة وخطرة. وهكذا عكست الصورة الشائعة للدّولةِ مِن قِبل المواطنين المنافقين المخادعين الذين يوجدون على رأسها، وإثنوغرافيا صف الأعراق البشرية الذي يَضعه نيلسون للدّولةِ يضع هذه الأخيرة على مسارِ متنقلِ إلى حدٍ كبير تكون فيه مرهوبة ومرَغوبة في آن. وبعد عشرين سنةِ من السياسية الأسوأ المناهضة للثورة، يبدو أن عمل الوقتِ يقضي على التقسيمات الصّارمة بين الدّولةِ كمضطهد والناسِ كمضطهدين. وكمثال على هذا فقد أعلنت لجنةِ الأمَم المُتّحِدةِ للحقيقةِ أن الجنرال ريوس مونت General Rios Montt قَدْ تورط في الإبادة الجماعيةِ خلال الحرب الأهليةِ الغواتيماليةِ عام 1999.
وبعد استيلائه على السلطة عام 1982 عن طريق انقلاب عسكريِ أشرفت حكومته على حملاتِ الأرضَ المَحْرُوقةَ والمذابح في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك فبعد بضعة شهور من اكتشافات لجنةِ الحقيقةِ، انتخب الحزب السياسي لريوس مونت لرئاسة البلادِ و أصبح هو الرئيس المنتخبَ للمؤتمرِ. وما كَانَ يجبُ أَنْ يَكُونَ موقفا راسخا ( ضحايا ساخطون ) أصبح متغيرا بأعجوبة.وبدلاً من وضوح صورةِ الدّولةِ كطاغيةِ متميزا عن الضحايا الأبرياء، فنحن أمام فكرةَ أن لاشيء هو كما يَظْهرُ. إنّ مقاتلي الأمس هم اليوم متعاونونُ في مشاريعِ الدولة. وهذه نموذجياً هي مواقعُ الإشاعةِ والثرثرة وسريان معنى عام للفسادِ التي يقوم بها أولئك الذينِ يُجسّدُون الدّولةَ وأولئك الذينَ يُقدّمونِ على أنهم مقاومون لها.
ربما تكونت لدينا فكرة عن المسافةِ بين وضعيةِ نظريةِ- تحَدّدَ قضايا السّيادةِ في تصور معين للقبولِ وممارسات استعادة الحقيقةِ التي تتبعه- ووطأة الإثنوغرافيا على هذه القضايا. في صياغتها العامّةِ لما يَدْعونَه الانتقال العامَّ من نموذج السّيادةِ الحديثةِ إلى نموذج مثالِ السّيادةِ الإمبراطوريةِ، وقد عَلّقَ هاردت ونيجري ( 2000) على تقييداتِ منظورِ ينتقدَ فكرة حقيقةِ التنوير بالّعبارات التّاليةِ.
" في سياقِ رعبِ الدّولةِ وخداعها، قد يشكل الَتعلّقُ بأولوية مفهومِ الحقيقةِ شكلاَ قويَا وضروريَا للمقاومةِ وتَأسيس حقيقة الماضي الحديث وتَعميمها – وتحميل مسؤوليةِ أَفْعالِ محدّدةِ لمسؤولين في الدولة وتسليط عقوبةَ في بعض الحالاتِ- يبدو هنا شرطا مسبقا حتميا يُعدُّ لأي مستقبلِ ديمقراطيِ.
ولا تبدو الروايات الكبيرة للتّنويرِ قمعية بشكل خاص هنا، ومفهوم الحقيقةِ لَيسَ غامضا أو غير مستقر-بل العكس! الحقيقة أن هذا الجنرال أعطى أوامر بتّعذيبِ واغتيال ذلك الزعيم النقابي، وهذا العقيدِ قاد مذبحةَ تلك القريةِ. ويعد تَعميم مثل هذه الحقائقِ مشروع سياسةِ عصرية نموذجيا للتنويرِ، وانتّقاده في هذه السّياقاتِ يُمكنُ أَنْ يفيد فقط في مُساعدَة القوى المضللة القمعية للنّظامِ موضع الهجومِ. (56-155)
وخلافا للحنينِ إلى فضاءِ عامّ يطبعه الفصل الواضحِ بين مقترفي الجرائم وبين الضّحاياِ، أظهرت معظم الدِّراساتِ المفصلة للجانِ الحقيقةِ إلى أي مدى استثنىَ مفهوم الشّهادةِ بعض النّماذجَ الأخرىَ من الشّهادةِ والتّذكر Reynolds 1995; Ross 2001 ) ( رينولدس 1995؛ روس 2001) وعليه فان ممارسات استعادة الحقيقة لَرُبَما ظهرت لا كمشروعِ التّنويرِ النّموذجيِ(عن الحقيقة) بالمعنى المطلق، إنما فقط كمنفذ للجماعاتِ المحليةِ المحصورة بين عنفِ الدّولةِ وحروب العصاباتِ ، فإذا كان الالتزام تجاه عقلانية التنوير شرطا لتشييد الدّيمقراطياتِ في المجتمعاتِ الغارقة في الحروبِ والثورات و الثورات المُضادةِ طّويلة الأمد، فسنكون فعلا بصدد رفض محاولات تشييد ديمقراطيات في العوالمِ المضطربة التي يحْدثُ فيها هذا النوع من التحولاتِ في العديد من أجزاءِ العالمِ.
ولا يمكن لعلماء الأنثربولوجيا أَنْ يقتصروا على أي تصوّرِ تبسيطِي لضحايا أبرياءِ ولا للعمل الثقافي كسيناريو معد سلفاِ. فالثقافة لا تنبع فقط من معنى اصطلاحي أو تعاقدي للاتفاق بين أفراد مجتمعِ ما، ولكنها تستند إلى استيعاب متبادلِ أيضا للاجتماعي والطّبيعي. و قَد أشرت في الأَوراقِ السّابقةِ إلى أن العنفِ من النّوعِ الذي شاهدناه في أعمال الشغبِ في الهند يشكك في فكرةِ الحياة ذاتها ولن نَصل إلى نهايةَ الاتفاق ولكن إلى نهايةَ المعيارِ.
لنتأمل عرض الأجساد عن طريق العنفِ – عندما عريت النِساءِ وأجبرن على السير عاريات في الشّوارعِ- أو هوس كِتابَةِ شعاراتِ سّياسيةِ على الأجزاء الحميمة من أجسادهن ومؤخراً جدا، في جوجارات، أو بقر بطون الحوامل وإخراج الجنين في فعلِ القَتْلِ.
وقد أخبرتني إحدى النِّساء،ألا وهي مانجيت، التي كنت قد عَملتُ معها انه بينما كان يمكن التعبير عن العنف المعيش داخل المحيط العائلي، كانت أشكال أخرى من العنفِ، كعنف أعمال الشغب، كأي طموح إلى الثقافة قد أصبحت مستحيلة. كما أخبرتني انه يمكن وصفه بكَلِمات ولكن"كأن الاحتكاك بهذه الكَلِماتِ ومنه بالحياةِ نفسها كان قَدْ اُحرق أو خُدّر. "(Das 2000:69). ( داس ). وأخبرتني مانجيت أيضا أن هناك طاقة معنوية عميقة في رّفضِ بيان بعض انتهاكات الجسمِ الإنسانيِ.
وبسماحها لألمها أَنْ يَحْدثَ لي، عَلّمتني أَنْ إنقاذ الحياة من الانتهاكات التي كانت قد تعرضت لها، كَان فعلَ التزام مدى الحياةِ تجاه معرفةِ مسمومةِ؛ بهَضْمِ هذا السّمِ عن طريق أَفْعالِ مُعَالَجَةِ العاديِ. لقد استطاعتْ أَنْ تُعلّمني كيف أَحترم الحدود بين القَولِ والإظهار.
هكذا أرى الدّورَ العامّ للأنثربولوجيا: بالعمل بناء على السّجلِ المزدوج الذي نَعْرضُ فيه أدلة تعارض النسيان الرّسمي والإخفاء المباشر للأدلة، ولكن لكوننا أيضا شَهودا على الانحدار إلى اليوميِ الذي يُؤكّد من خلاله الضحاياِ والناجون من الموت إمكانية الحياةِ بحذف هذه الأخيرة من الكَلِماتِ المتداولةِ التي أصبحت وحشية –واستعادة الكلمات .
الهوامش
________________________________________
[1] هذا المقال مأخوذ من محاضرة أعدت لورشة Wenner-Gren عن " الألم والشفاء"، المنعقدة من 17 إلى 20 سبتمبر في امينيا بنيويورك. وأنا ممتن جدا للمشاركين على تعليقاتهم الوجيهة وللمنظمين وعلى إتاحتهم فرصة رائعة لنقاش مفتوح.
[2] أنتهز هذه الفرصة لأعبر مجددا عن امتناني للفقيد Rajgopalan C.R.الذي تشهد حياته وكذا عمله على الشجاعة والقوة المعنوية التي أظهرها العديد من الموظفين آنذاك.
[3] رغم صورة الضحايا الأبرياء التي كان الناس يراهنون عليها، فأولئك الذين يعملون في العمليات الفعلية للإصلاح بعد أي نكبة جماعية، خاصة ما تعلق منها بالعنف، واعون تماما للطرق التي تتطور بها الشبكات المحلية لضخ الموارد في هذا الاتجاه أو ذاك.
وحتى توزيع المؤن يمكن أن يؤدي إلى خصومات كبيرة بين الناجين من الموت، حول مسألة معرفة من يستحق أن يتلقى الإسعافات. من ناحية أخرى ، يعكس نوع المواد الغذائية التي تصل إلى معسكرات الإغاثة بعد حدوث كارثة مسارا كاملا للطريقة التي تجبى بها " الصدقة" في عالم معولم.
وهناك مثال حديث قدمه ممثل لشركة دولية للاستشارة، بتوزيع لعب تجسد شخصيات الأفلام الأمريكية وهي تحمل أسلحة، لأطفال في معسكرات الإغاثة كانوا قد رأوا أولياءهم أو أقاربهم يحرقون أو يضربون حتى الموت خلال أعمال الشغب التي حدثت في جوجارات. وللحصول على تحليل دقيق للطريقة التي يتفاعل بها مسار الإغاثة مع مسار العنف، راجع Mehta et Chatterji (2001).
[4] على سبيل المثال، وصف Barkha Dutt كيف أنه، بعد محاورة رئيس وزراء جوجارات في منزله، وبينما كان هذا الأخير قد أكد أن الوضع في جوجارات كان طبيعيا في الوقت الراهن، تعرض فريقهم إلى هجوم من حشد لا يكاد يبعد بميل عن إقامة رئيس الوزراء (Dutt 2002).
[5] على سبيل المثال، درس الاختبار الذي قام به Foucault (1994) ل" كتابة الذات" الطرق الدقيقة التي كان فعل كتابتها متضمنا في تكنلوجيات الذات. ويحدد ثلاثة كيفيات مختلفة كانت الكتابة تستعمل من خلالها في التربية الفلسفية للذات مباشرة قبل مجيء المسيحية، ثم في الإشكال المسيحية الأولى للرهبانية
[6] ليس في نيتي أن أؤكد أن عملا تاريخيا مفصلا عن الظروف التي تم فيها الرق- كجزء من استراتيجية البيع في السياق الإفريقي-، لا يكون ملائما، بل بالا حرى، ـ أن تتبع أصول الحروب الحديثة في أفريقيا حتى الرؤى الشبحية التي تنتج عن إحساس بالذنب بدون حل و لكنه لم يكن موضوع وساطة من قبل القوى المعاصرة للحياة والعمل لا يبدو لا رسما يجب إتمامه فيما بعد، ولا شطرا يحيل إلى مجموع مستحيل . هناك يقينا، الإغراء القوي للغته، الذي هو أكثر ملاءمة للتصريحات النبوية، إنما هل هو مبرر كاف لقبول تشخيص الأزمة؟.
[7] في مجموعة مقالاته عن(فترة) ما بعد الاحتلال، يتحدث Mbembe(2001) عن كتابة مهلوسة، لكنة يستعمل الهلوسة كميزة قوة في (هذه الفترة): وتفهم الكتابة كفعل استعادة هذه التجربة بالمعاني التحليلية: يبدو الموضوع مهلوسا" غير قادر على تحمل مسؤولية ما يقوله وما يفعله"( ص.169) .بقدر ما استطعت فهمه، لم يناقش مفهوم كتابة الذات في هذا الكتاب
أرسلت بتاريخ: 2008/12/25 13:32