لا أدري ما الذي حملني الى عصر النهضة بالأمس فقد انتقلت فجأة وعبر الزمن الى عصر العشاق وطالبوا الود في الكوميديا ديلارتي, والذين وعلى الدوام دائما أنيقين وجذابين ومضحكين قليلا ,وهم جميعا يتكشفون عن مقدار فاجع من الحماقة ,ومع أن تأكيداتهم العاطفية تذيب قلبا من الحجر ,يظل هناك جانب هزلي في كل ما يقولونه, ويتساءل المرء فيما إذا كان تفسير ذلك يكمن في الحقيقة القائلة إن الحب في الغالب يجرد المحب من كل إحساس بسخافته, مع انه قد يكون أعقل الناس في الظروف العادية ,وربما كان السبب في هذه الحالة هو أن اله الحب في عصر النهضة لم يعد مرعبا كما اعتاد أن يكون, بل تردى عمليا الى مجرد فتى هزلي صغير "جوكر" ,أو لعل الأمر بكل بساطة يتجلى في أن مسرحا مكرسا للكوميديا ,لا يمكن أن يأخذ بجدية أي شيء غير الهزل.
وبالفعل تنقلت بالأمس عبر عصر النهضة من عرض نادر وبديع بدار الأوبرا هو كرنفال باروك لفرقة "بويم هارمونيك" الفرنسية, وضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية مع فرقة موسيقية حية تعزف, ولمدة ساعة ونصف على آلات موسيقية تعود الى القرن السابع عشر ,والملفت عند عودتي الى المنزل استكملت السهرة السحرية بفيلم للمبدع الأمريكي من أصل ايطالي "داني ديفيتو" على قناة فوكس موفيز الجديدة, وعنوان الفيلم أيضا "رجل من عصر النهضة" أو رجل عصر النهضة ولكن موضوعه كان هاملت وليس الكوميديا ديلارتي وهنا سأقارن. وسبب متابعتي للفوكس موفيز هو ولعي مؤخرا بالسينما الكورية كوني أتمنى مشاهدتها منذ زمن بعيد واعتبرها أفضل من الأمريكية واكتشاف لعالم جديد وكوني تعلمت بعض الكورية منذ زمن ليس ببعيد.
وسأتحدث عن الأستاذ "داني ديفيتو", ودور العاشق لديه ولدى هاملت ولدى الكوميديا ديلارتي فقد كانت وظيفة العشاق وعلى الدوام تتمثل في وصف حالة ذهنية أكثر مما هي رسم شخصية, وكان على العاشق أن يمثل بحيوية, وان يتمكن من التظاهر بأعنف العواطف, ويجب أن يكون شابا حسن البنية, لبقا وغزلا الى حد الشغف, بمعنى أن يكون بارعا وغندورا ,وبما أن الميزة الأساسية للعشاق وسامتهم, فإنهم كانوا يمثلون بلا قناع مثل العشيقات, ولم يكن لهم لباس خاص بهم ولكنهم كانوا يلبسون آخر موضات الفترة التي عاشوا فيها ,ففي هذه الأرض السعيدة لن تجد هاملت أو عطيل ,وليس فيها أية فيدرا أو شيمين أو آخرون من هذا الطراز ممن تعتم عقولهم وتثقلها عواطف مأساوية غريبة.
"والكوميديا ديلارتي ليست فن الارتجال العفوي وحسب بل هي ذاك الفن القائم على الخفة والبراعة والظرف والإيماء وهو نوع مسرحي متميز يسعى الى تعرية البؤس الروحي للبشر" المرحوم ممدوح عدوان في ترجمته لكتاب الكوميديا الايطالية الموسوعي.
إن الكوميديا ديلارتي نوع من السيثيريا "وهي جزيرة افروديت آلهة الحب وقد رسمها واتو في مطلع القرن18" المسحورة حيث لا يفقد العشاق سعادتهم ولا يزعجهم فيها الحب المدجن, ولا مشاركة الأرواح, أو مشاكل المصروف البيتي ,وجميع سكان هذا المكان يعيشون حياة بهيجة مرحة خيالية في جو من الموسيقى الجذابة الفاتنة, تهزهم حينا انفعالات سريعة ومفاجئة كالأسهم النارية, وأحيانا تعتريهم حالة من الكآبة المؤقتة أو روح هزلية جامحة كالإعصار لا تقاوم .
إن كوميديا ديلارتي عالم قائم بذاته, حيث يجد كل إنسان مكانة ملائمة له, ومجالا لنشاطه ,فالشعراء والموسيقيون والكتاب والرسامون من مختلف المواهب والأمزجة يتآلفون معا من خلال حبهم الشديد المشترك لهذا العالم.
الكوميديا الايطالية إذن في حالتها نوع من البلدان الخيالية "تيليم"الهوى –والتيليم هو مكان مثالي كالجنة وصفه رابليه في غارغانتوا- إذن هي تيليم الهوى الملأى بالعديد من الناس الغرباء المبتهجين:شخصيات ونماذج حديثهم لطيف بقدر ما يكون سلوكهم الغريب مفاجئا, إنهم اعز أصدقائنا طبعا, ولا يصيرون مملين أبدا لان أخطاءهم أكثر من أن تحصى, وهي مسلية في الوقت ذاته, يعيشون حياة مسحورة لأنهم آمنون في حسن طالعهم المطلق, مشروعهم ذاته أو مغامرتهم مكتوب لها أن تنتهي نهاية سعيدة, وحتى العاشق التقليدي الغيور يغدو شخصية مرحة متعاطفة لأنه يرغب في تبديد غضبه في التهريج, فهو لا يحمل أي ضغينة ومكائده الغارقة في الشر لاتصل أبدا الى أكثر من أغنية مستهترة أو رقصة يؤديها على أحسن وجه.
في الحقيقة لن اغرق في هذا المقال بوصف إحدى أجمل العروض التي حضرتها بحياتي ,فلم نمل أبدا, ولمدة ساعة ونصف, وكنا نتمنى المزيد المزيد من تلك الحركات الجميلة للبهلوانيين ولاعبي الحبال والمغنين من سوبرانو وتينور والموسيقى الأكثر من سحرية والإضاءة والديكور الذي لا يضاهى, وذكرني بديكور مسرحية الجدارية لمحمود درويش قبل عامين ,وفيها كلمات الشاعر العملاق على وقع مسرحية بغاية الروعة, أما بالأمس فلم تكن اقل روعة ,فعرض الأمس كان فيه سحر وجاذبية خفية لايمكن لمسها , فهي أشبه ما تكون بتلك الجزر البعيدة ذات الأسماء المنغمة والمغرية ,والتي يحلم بها الناس ,ولكن قلما يصلون إليها ,إنها أمكنة غير مرئية على سطح العالم الأزرق المترامي, تظل دائما متشحة بغلالة وراء الأفق تماما, تتردد في أعماق النفس وتغويها ولا سبيل الى زيارتها.
شكرا لاحتفالية دمشق ولهيئتها والتي لبت طلبي بتخفيض خمسين بالمئة لجميع طلاب جامعة دمشق وليس للمعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقية فحسب وشكرا لدار الأوبرا العملاقة بكل ما تقدمه.
وأضيف هنا أنني ساعي -إن شاء الله- خلال الأيام المقبلة لاستكمال مفردات عصر النهضة بعرض عمل لشكسبير وهو "ريتشارد الثالث" تمثيل فايز قزق, ومجموعة من الفنانين السوريين والكويتيين والبريطانيين, فضلا عن عصر الزمن الجميل بمغنيات عربيات سيغنين لام كلثوم وأسمهان وناظم الغزالي ,فنحن كبشر لا يمكننا إلا البحث عن السعادة أينما كانت ومهما كانت التكاليف.
أما داني ديفيتو, فقد نجح بتعليم هاملت لمجموعة من المجندين الفقراء, والذين لا سبيل لديهم إلا الجيش, في أن يحولهم من قطعان وآلات للقتل والبطش بالجيش الأمريكي الأرعن, الى مجموعة مخلوقات حساسة تمتلئ بالحب الشكسبيري العظيم, فشعلة الحب التي يحملها كيوبيد "اله الحب الصغير" والتي يرميها بسهامه لم تنطفئ بدواخلهم, بل ازدادت اشتعالا وحولتهم أخيرا الى بشر. واللافت في هاملت أن من يبقى بالمسرحية هما هوراشيوس وافتيميوس كما أذكر أي ثنائية "الطالب والجندي" في حين يموت الباقون من الملوك والأمراء, أي أن من يبقى هم من يمثلون العقل أي طلاب العلم وهم من يجسدون الجهاد الأكبر بمفهومنا والجنود وهم من يمثلون الجهاد الأصغر أي الجسد في أي أمة.أي ثنائية "العقل والجسد" ولكن هذه الثنائية بغاية التحليق والروعة في كرنفال باروك وكوميديا ديلارتي الرائعة بالأمس.
محمد زعل السلوم
سوريا دمشق
8/5/2008
وبالفعل تنقلت بالأمس عبر عصر النهضة من عرض نادر وبديع بدار الأوبرا هو كرنفال باروك لفرقة "بويم هارمونيك" الفرنسية, وضمن فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية مع فرقة موسيقية حية تعزف, ولمدة ساعة ونصف على آلات موسيقية تعود الى القرن السابع عشر ,والملفت عند عودتي الى المنزل استكملت السهرة السحرية بفيلم للمبدع الأمريكي من أصل ايطالي "داني ديفيتو" على قناة فوكس موفيز الجديدة, وعنوان الفيلم أيضا "رجل من عصر النهضة" أو رجل عصر النهضة ولكن موضوعه كان هاملت وليس الكوميديا ديلارتي وهنا سأقارن. وسبب متابعتي للفوكس موفيز هو ولعي مؤخرا بالسينما الكورية كوني أتمنى مشاهدتها منذ زمن بعيد واعتبرها أفضل من الأمريكية واكتشاف لعالم جديد وكوني تعلمت بعض الكورية منذ زمن ليس ببعيد.
وسأتحدث عن الأستاذ "داني ديفيتو", ودور العاشق لديه ولدى هاملت ولدى الكوميديا ديلارتي فقد كانت وظيفة العشاق وعلى الدوام تتمثل في وصف حالة ذهنية أكثر مما هي رسم شخصية, وكان على العاشق أن يمثل بحيوية, وان يتمكن من التظاهر بأعنف العواطف, ويجب أن يكون شابا حسن البنية, لبقا وغزلا الى حد الشغف, بمعنى أن يكون بارعا وغندورا ,وبما أن الميزة الأساسية للعشاق وسامتهم, فإنهم كانوا يمثلون بلا قناع مثل العشيقات, ولم يكن لهم لباس خاص بهم ولكنهم كانوا يلبسون آخر موضات الفترة التي عاشوا فيها ,ففي هذه الأرض السعيدة لن تجد هاملت أو عطيل ,وليس فيها أية فيدرا أو شيمين أو آخرون من هذا الطراز ممن تعتم عقولهم وتثقلها عواطف مأساوية غريبة.
"والكوميديا ديلارتي ليست فن الارتجال العفوي وحسب بل هي ذاك الفن القائم على الخفة والبراعة والظرف والإيماء وهو نوع مسرحي متميز يسعى الى تعرية البؤس الروحي للبشر" المرحوم ممدوح عدوان في ترجمته لكتاب الكوميديا الايطالية الموسوعي.
إن الكوميديا ديلارتي نوع من السيثيريا "وهي جزيرة افروديت آلهة الحب وقد رسمها واتو في مطلع القرن18" المسحورة حيث لا يفقد العشاق سعادتهم ولا يزعجهم فيها الحب المدجن, ولا مشاركة الأرواح, أو مشاكل المصروف البيتي ,وجميع سكان هذا المكان يعيشون حياة بهيجة مرحة خيالية في جو من الموسيقى الجذابة الفاتنة, تهزهم حينا انفعالات سريعة ومفاجئة كالأسهم النارية, وأحيانا تعتريهم حالة من الكآبة المؤقتة أو روح هزلية جامحة كالإعصار لا تقاوم .
إن كوميديا ديلارتي عالم قائم بذاته, حيث يجد كل إنسان مكانة ملائمة له, ومجالا لنشاطه ,فالشعراء والموسيقيون والكتاب والرسامون من مختلف المواهب والأمزجة يتآلفون معا من خلال حبهم الشديد المشترك لهذا العالم.
الكوميديا الايطالية إذن في حالتها نوع من البلدان الخيالية "تيليم"الهوى –والتيليم هو مكان مثالي كالجنة وصفه رابليه في غارغانتوا- إذن هي تيليم الهوى الملأى بالعديد من الناس الغرباء المبتهجين:شخصيات ونماذج حديثهم لطيف بقدر ما يكون سلوكهم الغريب مفاجئا, إنهم اعز أصدقائنا طبعا, ولا يصيرون مملين أبدا لان أخطاءهم أكثر من أن تحصى, وهي مسلية في الوقت ذاته, يعيشون حياة مسحورة لأنهم آمنون في حسن طالعهم المطلق, مشروعهم ذاته أو مغامرتهم مكتوب لها أن تنتهي نهاية سعيدة, وحتى العاشق التقليدي الغيور يغدو شخصية مرحة متعاطفة لأنه يرغب في تبديد غضبه في التهريج, فهو لا يحمل أي ضغينة ومكائده الغارقة في الشر لاتصل أبدا الى أكثر من أغنية مستهترة أو رقصة يؤديها على أحسن وجه.
في الحقيقة لن اغرق في هذا المقال بوصف إحدى أجمل العروض التي حضرتها بحياتي ,فلم نمل أبدا, ولمدة ساعة ونصف, وكنا نتمنى المزيد المزيد من تلك الحركات الجميلة للبهلوانيين ولاعبي الحبال والمغنين من سوبرانو وتينور والموسيقى الأكثر من سحرية والإضاءة والديكور الذي لا يضاهى, وذكرني بديكور مسرحية الجدارية لمحمود درويش قبل عامين ,وفيها كلمات الشاعر العملاق على وقع مسرحية بغاية الروعة, أما بالأمس فلم تكن اقل روعة ,فعرض الأمس كان فيه سحر وجاذبية خفية لايمكن لمسها , فهي أشبه ما تكون بتلك الجزر البعيدة ذات الأسماء المنغمة والمغرية ,والتي يحلم بها الناس ,ولكن قلما يصلون إليها ,إنها أمكنة غير مرئية على سطح العالم الأزرق المترامي, تظل دائما متشحة بغلالة وراء الأفق تماما, تتردد في أعماق النفس وتغويها ولا سبيل الى زيارتها.
شكرا لاحتفالية دمشق ولهيئتها والتي لبت طلبي بتخفيض خمسين بالمئة لجميع طلاب جامعة دمشق وليس للمعهد العالي للفنون المسرحية والموسيقية فحسب وشكرا لدار الأوبرا العملاقة بكل ما تقدمه.
وأضيف هنا أنني ساعي -إن شاء الله- خلال الأيام المقبلة لاستكمال مفردات عصر النهضة بعرض عمل لشكسبير وهو "ريتشارد الثالث" تمثيل فايز قزق, ومجموعة من الفنانين السوريين والكويتيين والبريطانيين, فضلا عن عصر الزمن الجميل بمغنيات عربيات سيغنين لام كلثوم وأسمهان وناظم الغزالي ,فنحن كبشر لا يمكننا إلا البحث عن السعادة أينما كانت ومهما كانت التكاليف.
أما داني ديفيتو, فقد نجح بتعليم هاملت لمجموعة من المجندين الفقراء, والذين لا سبيل لديهم إلا الجيش, في أن يحولهم من قطعان وآلات للقتل والبطش بالجيش الأمريكي الأرعن, الى مجموعة مخلوقات حساسة تمتلئ بالحب الشكسبيري العظيم, فشعلة الحب التي يحملها كيوبيد "اله الحب الصغير" والتي يرميها بسهامه لم تنطفئ بدواخلهم, بل ازدادت اشتعالا وحولتهم أخيرا الى بشر. واللافت في هاملت أن من يبقى بالمسرحية هما هوراشيوس وافتيميوس كما أذكر أي ثنائية "الطالب والجندي" في حين يموت الباقون من الملوك والأمراء, أي أن من يبقى هم من يمثلون العقل أي طلاب العلم وهم من يجسدون الجهاد الأكبر بمفهومنا والجنود وهم من يمثلون الجهاد الأصغر أي الجسد في أي أمة.أي ثنائية "العقل والجسد" ولكن هذه الثنائية بغاية التحليق والروعة في كرنفال باروك وكوميديا ديلارتي الرائعة بالأمس.
محمد زعل السلوم
سوريا دمشق
8/5/2008