فلسفة الموت:ميشيما-همنغواي مثالا

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • محمد زعل السلوم
    عضو منتسب
    • Oct 2009
    • 746

    فلسفة الموت:ميشيما-همنغواي مثالا

    فلسفة الموت:ميشيما-همنغواي مثالا

    محمد زعل السلوم

    "لقد خبرت روحي الرعب والخشية ولكنها لم تعرف أبدا غياب عنصر أساسي كان يوفره لها الجسد دون أن يكون عليها أن تطلبه...على ارتفاع مصطنع يبلغ واحدا وأربعين ألف قدم,اثنين وأربعين ألف قدم,كنت اشعر إن الموت ملتصق بشفتي,موت لزج,دافئ,شبيه باخطبوط...لم تكن روحي قد نسيت أن هذه التجربة ما كانت لتقتلني,الاان هذه الرياضة اللاعضوية كانت تزودني بفكرة عن نوع الموت الذي يحاصر الأرض في كل اتجاه" ليختم المظلي يوكيو ميشيما"شمس و فولاذ",وبذلك يدور حول الحياة نفسها واصفا الموت بالثعبان الملتف حول الكرة الأرضية ليخنق الحياة برتابتها وتقلباتها التي يتم إدراكها وتجاوزها, فالوجود لم يعد شيئا آخر سوى الإحساس بأنه لعبة تافهة وخاطئة بعض الشئ ,وبذلك يقترب ميشيما من مفهوم سارتر عن الموت,مع أن سارتر يرى بالموت بعض الجوانب الايجابية,فالموت عند سارتر يكشف النقاب عن حريتنا,وهذه هي وظيفته الأولى,بل إن المرء قد يتجاوز ذلك فيذهب إلى القول بان الموت لا يحقق فحسب الكشف عن الحرية بل يحرر الإنسان بالفعل من عبء الوجود,ولكن الموت عند ميشيما هو طقس احتفالي وان اخذ جانبا من القسوة فتلك القسوة بحد ذاتها تعد تقليدا إراديا باحتفالية "السيبوكو",وهذا هو القلق ,حيث يعتبر هيدغر أن المخلوق المفعم قلقا يصمم على أن "يأخذ الموت على عاتقه"ويصل إلى"حرية الموت المثقلة بالقلق"فهذا التصميم ليس مهربا تم اختراعه بقصد قهر الموت,وإنما هو مواجهة الموت المجردة من الأوهام,غير انه مع القلق الواقع كما يتابع هيدغر,تمضي جنبا إلى جنب "الفرحة المسلحة"إزاء إمكانية استحالة الوجود وهذه الفرحة المسلحة تشبه والى حد بعيد السيبوكو التي مارسها ميشيما لإنهاء حياته,حيث يصبح الوجود الإنساني متحررا من الدعائم التي يستمدها الوجود الإنساني غير الأصيل نحو أحداث العالم,ويستحثنا الوجود الأصيل نحو الموت, ويعد لحياة جديدة فهو يشبه الوصية القديمة القائلة بأنه لكي يعيش المرء فعليه أن يموت,وهذا ما يفسر ما رآه ميشيما بالضبط حين اختار موته الواعي الذي يعبر عن انتصاره الأخير والنهائي على الموت,فيما يدعو هيدغر إلى تغييرالمرء لحياته فحسب, والى أن يحيا على نحو"أصيل",ومن خلال تحقيق وجودنا جوهريا وبالضرورة باعتباره وجودا نحو الموت,ومن خلال هذا فحسب يمكن للإنسان أن يعلو على حياته اليومية الضيقة النطاق ليصبح ذاته حتما,وليغدو حرا بصورة حقيقية.

    وهنا يختلف همنغواي عن ميشيما,فهو يتفق معه في مسالة فراغ الحياة وعدم اهميتهاوعبثيتها,ولكنه يختلف معه حول مسالة الموت وفلسفة الموت بحد ذاتها,فالموت عند همنغواي هو الهزيمة,ولذلك يتوجب مواجهة الموت بشجاعة كالعجوز سانتياغو بطل "العجوز والبحر" في صراعه مع الموت وصبره على الانتصار ودحر الموت, وعودته المظفرة إلى جزيرته,فيما يجد ازاو بطل ميشيما في"الجياد الهاربة",يجد بموته انتصارا للقضاء على البؤس,وبحثه الحثيث عن ضحايا من ذوي النفوذ على حساب الفقراء,فهو ينتصر للمهزومين,ويجد في بحثه عن الموت رؤية لحقيقة مشرفة شاهرا سيف الكيندو,أو مصوبا النصل نحو بطنه الذي سيخترقها يوما ما,وبالمقارنة مع مفهوم هيغل عن الموت فهو يقول في مقدمة"ظاهريات الروح":"ليست حياة الروح هي تلك التي تنأى بنفسها عن الموت وتتجنب الدمار,وإنما هي الحياة التي تتحمل الموت وتتقبله في غير جزع,وهي لا تظفر بحقيقتها إلا حينما تجد ذاتها في يأس مطلق",وهذا القول يتطابق مع فلسفة ارنست همنغواي أيضا من ناحية مفهوم الحياة والموت,فالحياة بالنسبة له انتصار أما الموت فهو الهزيمة ,على عكس ميشيما تماما والذي يجد بالموت نصرا مقدسا.

    أما بطل همنغواي فله فلسفته ونظامه الخاص في الحياة,فهو يواجه الحياة بشجاعة مدركا تفاهتها وانعدامها أمام حقيقة الموت,ويعرف انه يتوجب عليه مواجهته بشجاعة ونبل,فيتبع في حياته وفي مواجهته للموت نظاما صارما يتقيد به,وفي مواجهته للهزيمة يقف بطل همنغواي بنبل,وفي وقفته هذه ضد الهزيمة أو الموت يستخلص البطل معنى لحياته في حياة لا معنى لها,وموقفه هذا يمليه عليه نظامه الخاص أو أسلوبه سواء كان مصارعا في حلبة مصارعة الثيران أو جنديا في الحرب أو عاشقا أو كاتبا,إذ يفرض كل من هؤلاء على نفسه نظاما خاصا صارما هو وسيلته لخلق معنى لحياته,وهو ما يتطابق مع قول سبينوزا:"أن آخر ما يفكر فيه الرجل الحر..هو الموت..لان حكمته ليست تأملا للموت..بل تأملا للحياة" فهذا الخوف من الموت ينعكس عند همنغواي باهتمامه بالبطل المتذوق كثيرا ما في العالم المادي من جمال ,وهو يستمتع بهذا الجمال بحواسه, واكبر هذه المتع الحسية هي الشراب والجنس اللذان يرقى بهما همنغواي إلى مرتبة تشبه العبادة,حيث أنهما تساعدان بطله على إيجاد معنى للحياة,وهذا ما يتفق مع قول بوسويه:"خوف الناس من الموت هو الذي حدا بهم إلى تجاهل التفكير بالموت والعمل على تناسيه",وباختصار فان عالم همنغواي هو عالم بلا اله ولا معنى وعلى البطل أن يخلق ذلك المعنى باتباع نظامه الخاص,وهو ذات العالم لدى يوكيو ميشيما. لكن ميشيما يجد اللذة بوصف الانتحارات وكأنها تعبر عن وجوده في حياة عبثية بالنسبة له, ففي "جياد هاربة" يذكر الانتحار الجماعي لمجموعة الساموراي المتمردة

    عام1877مما زاد في تأثر "ازاو"بها فقد قام ثمانون من الناجون منهم بعد هزيمتهم على يد الجيش النظامي بإقامة الشعائر التقليدية للانتحار ومنهم من قضى على الطريق

    و منهم من اختار الموت على قمة جبل مكرس لشعائر الشنتو, كما يصور ميشيما بعض الانتحارات القاسية كرمز للانتصار على الموت و كأنها شئ مقدس يجب القيام به و قد فعل ذلك بطله الشره الذي يجز رقبته قبل أن يبقر بطنه و كذلك بعض المشاهد

    الأخرى التي لا تخلو من الحنان والقسوة بذات الوقت حيث ينتحر أشخاص في حضور

    زوجاتهم اللاتي يصممن هن أيضا على الموت في طقوس دموية بشعة وهذا السيل الغريب من الدم و الأحشاء تثير في الوقت نفسه الرعب و النشوة معا لدى ميشيما شأن كل مشهد يعبر عن التضحية الكلية لتلوح في الآفاق مشهد مجزرة مع طقوس غرائبية تعبر عن الشهوة الجسدية بذات الوقت, وكأن الموت يمثل قمة الشهوة الجنسية لإشباع يوكيو ميشيما, فيما يبدو همنغواي أكثر إنسانية ورحمة وأقل قسوة , فالموت عنده هو مجرد الشعور بالضياع ففي "الشمس تشرق أيضا" عام1926يروي وبشكل غير مباشر حياة مغتربين أمريكيين في أوربا وشربهم ومغامراتهم وسهراتهم, ويرويها مراسل صحفي أمريكي في باريس ,وهو يقدم صورة حقيقية لا لحياة الجيل الضائع فحسب بل الشعور العام السائد بعد الحرب العالمية الأولى وما تركته من جراح نفسية و جسدية, وهنا نتوقع حضور الموت كمجرد ردة فعل تجاه قسوة الموت, وبذلك يتبع همنغواي وبشكل غير مباشر مفهوم شوبنهاور عن الموت إن الموت هو العبقرية الحقة الملهمة للفلسفة وقد عرف سقراط الفلسفة بأنها معرفة الموت والواقع أنه بدون الموت لا يمكن للبشر أن يتفلسفوا ولذا فان الحيوان يحيا دون معرفة الموت ،معرفة صحيحة ), كما يوجد نوعان من البشر عند شوبنهاور،أولئك الذين يطردون فكرة الموت من أذهانهم لكي يتسنى لهم أن يتمتعوا بحياة أفضل وأكثر حرية ،و أولئك الذين يشعرون ، بعكس ذلك ،بأن الحكمة والقوة في وجودهم إنما تنبعان من ترقب الموت وفي كل الإشارات التي تصدر عنه عبر أحاسيس الجسد أو مصادفات العالم الخارجي, وهاتان الروحيتان لا تلتقيان فيما يسميه البعض هاجسا سوداويا, يراه البعض الآخر قواعد لنظام بطولي.

    في "معبد الفجر" لميشيما, نجد عامل التضحية من خلال احتفال بتقديم ذبيحة حيوانية معادلا لعملية السيبوكو التقليدية وجز العنق, ففي معبد "كالي المدمرة"في "كلكوتا" يتأمل "هوندا"بطل الرواية, وبشيء من الفضول والانقباض, المضحي الذي بضربة واحدة يقطع رأس جدي صغير, و ما هي إلا لحظات ويتحول الحيوان المرتعش المقاوم

    بثغائه إلى شيء ساكن بلا حركة كبطل سارتر في قصة "الجدار" إذ يدرك على حين غرة أنه لا يرغب في أن "يموت كحيوان"بل أن يفهم . فيما مصارعة الثيران أو حالة السيبوكو الأسبانية والتي يحاول تصويرها همنغواي وكأن مصارعة الثيران هي ذات السيبوكو اليابانية كما في وصايا كتاب "هاغا كورا"الشهير الذي استلهم روح الساموراي في القرن الثامن عشر, والذي قرأه ميشيما أكثر من مرة: "في كل يوم تهيأ للموت لكي يتسنى لك ، حين تزف الساعة ،أن تموت بسلام فالمصاب حين يأتي ليس بالبشاعة التي كنت تخشاها ... اجتهد كل صباح أن تهدئ من روعك ،وتخيل لحظة تمزق أو تخترق جسدك السهام و الطلقات النارية و الرماح والسيوف ،لحظة تجرفه الأمواج العظيمة ويلقى في النار ويصعقه البرق ويبتلعه زلزال ويسقط في هاوية أو لحظة يقتله المرض أو حادث مفاجئ . مت بالفكر كل صباح فلن تعود تخاف الموت"

    فالماتادور عند همنغواي أو بطل همنغواي هو الحياة بحد ذاتها, وهو المنتصر على الثيران حين مقارعتها, و لكنه قد يسقط ذات لحظة, فالضحايا عند همنغواي هم ضحايا حروب كما في "لمن تقرع الأجراس " أو "وداعا للسلاح " وكأن تلك الجثث المترامية أو على طريق السقوط لا ينقصها إلا الحب و الشهوة الجسدية لاستكمال طقوس الموت وقد حاول هيجل في البداية تبرير الموت الإنساني ب "جدل الحب "و جدل الحب هذا نجده لدى ميشيما نفسه و بطله "ازاو"في الجياد الهاربة حيث يخفق ازاو باللحظات الأخيرة لمحاولة الانتحار .لقد كان على عجلة من أمره قبل أن يتم اعتقاله فلم ينتظر لحظة الغبطة التي طالما حلم بها:"جالسا تحت شجرة صنوبر،على شاطئ البحر،يتأمل الشمس المشرقة" فالبحر هنا يبدو شديد السواد في الليل حيث الوحدة والعزلة التي تتملك ازاو كما تملكت العجوز سانتياغو في "العجوز والبحر" لهمنغواي لكن لا أثر لشجرة الصنوبر وكما يبدو من غير الممكن انتظار شروق الشمس إلا أن ميشيما الذي يمتلك حدسا متفوقا في مجال الألم الجسدي يمنح ميشيما بطله المتمرد الشاب ما يعادل شروق الشمس الذي سيحدث فيما بعد :فالألم الحاد الذي تسببه طعنة الخنجر في الأحشاء هو ما يعادل كتلة النار المشعة,وكأنها أشعة شمس حمراء,وهذا ما يسميه الرومانتيكيون "عشق الموت"وتمجيده,حيث ينظر إلى الموت باعتباره ضياعا شاملا لشخصية المرء الواعية,ويقول شلنج في تمجيد الموت:"إن أولئك الذين انعتقوا من إسار الوجود الأرضي ينبغي أن تزجى لهم التهنئة",و هنا يقود ميشيما صديقه الحميم "موريتا"و ثلاثة آخرين ليقتل نفسه بمقر وزارة الدفاع.

    يقول هيجل أنه (في مقابل الموت الطبيعي والعضوي الخالص يصبح الموت الذي يجسده الإنسان ذاته موتا "عنيفا"واعيا بذاته وتطوعيا, فموت الإنسان وبالتالي الوجود الإنساني الحق هما بمعنى ما : "انتحار"), و هنا يبدو ميشيما بالنسبة لنا في حالة نزاع ما بين "وعي العبد"-حسب تصنيف هيغل- الذي لا يملك شجاعة تقبل الموت ونبذ الحياة و"وعي السيد" أي ذلك الذي يتقبل الموت بل ويريده، في محاولة لتفسيره من خلال مفهوم هيجل ،فالإمبراطور الياباني الذي أعلن أنه إنسان فان وصل إلى درجة "وعي العبد", و اختيار ميشيما لصديقه موريتا لاستكمال طقوسه المقدسة أصبح في خانة "وعي السيد",تماما كتجربة الموت في ملحمة جلجامش التي تتجاوز اكتشاف حتمية الموت, فهناك كذلك إشارة لطابعه النهائي ،وتتسم هذه التجربة بالشعورين المتداخلين زمنيا بخشية الموت وعقم الحياة ،ومن الأمور التي تدعو للاهتمام مقارنة رد فعل جلجامش بوصف فيلهلم فونت للاستجابة العادية من جانب الرجل البدائي تجاه موت رفيقه البشري –كموريتا رفيق ميشيما بعد أن أجهز على نفسه ولكنه أصيب بالذعر بعد قتل ميشيما فأجهز عليه الجنرال حسب المعتقد الياباني فيما فر الثلاثة الآخرون الذين رافقوا ميشيما وموريتا طلبا للحياة-حيث يكون الاندفاع الأول متمثلا في التخلي عن الجثة و الفرار لأن الميت قد غدا شيطانا بوسعه أن يقتل .

    وضع همنغواي حدا لحياته بإطلاق الرصاص على رأسه عام 1961 بعد نيله جائزة نوبل عام1954عن "العجوز و البحر" فيما انتحر ميشيما بمقر وزارة الدفاع مع صديقه موريتا على طريقةالسيبوكوعام1970غير آبه بجائزة نوبل التي كاد أن ينالها.
يعمل...