اللغة والتفكير
يرى البعض أن اللغة قدرة ذهنية تؤثر عليها التغيرات الجسدية، مثل تركيب الجهاز العصبي والسمعي والصوتي، وهناك فريق يراها اختراعاً بشرياً يقوم على تراكيب صوتية لا تترابط أجزائها بصورة متعمدة، ثم يبدأ العقل في صبغ هذه التراكيب الصوتية بمفاهيم ودلالات معينة، أما الفريق الثالث فيراها ضرورة حتمية لنجاح التواصل ضمن المجتمع البشري، وهذا كله صواب!! ولكن هذا يدفعنا لتساؤل .. إذا كانت اللغة متوقفة على القدرات الصوتية، فهل يمكن للحيوان الناطق كالببغاء مثلاً أن يكتسب اللغة البشرية؟ ويتعلمها؟ ويطور فيها؟ وينظم تراكيبها بصورة سليمة؟؟بالطبع لا .... وذلك لأن الببغاء إذا كان يمتلك قدرات صوتية، فهو لا يمتلك قدرات ذهنية، ولا يمتلك مهارات التفكير الراقي، لذا لا يمكنه أن يحقق الفائدة من استخدام اللغة المنطوقة، وهذا لا يمنع أن في عالم الحيوان لغات خاصة، ولديها نظم تواصل تختلف عن ما لدى الإنسان من لغات وطرق اتصال، بل وقد تكون أنظمة التواصل لدى الحيوان أعقد منها لدى البشر!!!
ترسم اللغة حدود التفكير، وهذا يعني أنه لا يمكن للعقل البشري أن ينتج من الأفكار إلا ما يمكن للغة أن تسمح به، وطبيعة الفكر تتحدد بطبيعة اللغة التي نتحدثها، وكلما ارتقى مستوى اللغة، وتزايد اتساع محتواها كلما تزايد المستوى الفكري لدى أبنائها، وكل لغة تعمل على تشكيل وجهة نظر متحدثيها تجاه العالم، لذا فإن لكل أصحاب لغة نظرة خاصة تجاه العالم الذي نعيش فيه، ولكل لغة خصائص مميزة ترتبط بطريقة تفكير أهلها، وبذلك فإن أكثر الصعوبات التي تتعلق بالترجمة لا تكمن في ترجمة ألفاظ اللغة المصدر، بل في ترجمة الفكر المرافق للغة المصدر.
إننا إذا نظرنا إلى العلاقة التي تربط اللغة بالفكر لوجدنا أن العرف الفلسفي القديم كان يتعامل مع اللغة بوصفها وعاء لفظي، ويكون دور التفكير هو استنباط محتوى هذا الوعاء!! ونجد أن ترتيب العلاقة هنا يجعل اللغة في المقام الأول ثم تتبعها عملية التفكير،ولكن ما مدى صحة ذلك خاصة عندما تجد لسان حالك يقول: إنني لا أستطيع التعبير عن أفكاري أو أحاسيسي؟!! هنا نجد أن الفكر قد سبق اللفظ، فصرت تبحث عن ألفاظ تعبر بها عن أفكارك،ونجد أن اللغة قد استحالت إلى أداة للتعبير عن الفكرة.
يمكننا أن نستنبط طريقة تفكير أهل اللغة من خلال اللغة التي يتكلمونها، فحين أقول (جاء أحمد إلى البيت)، نجد أن التركيب اللغوي هو ( فعل+ فاعل+ التكملة)، أي أن الاهتمام الأول لدى المتحدث باللغة العربية ينصب على الفعل متبوعاً بفاعله، وهذا ما يسر في اللغة العربية بناء الفعل للمجهول، وهذا يقودنا إلى استنتاج أن العربي يمكنه أن يؤمن بالغيبيات، وهذا ما يعكسه عدم اهتمامه بتقديم الفاعل وانصباب تركيزه على الفعل. أما عند تناول نفس الجملة باللغة الإنجليزية مثلاً فستصبح: Ahmad came home….، فنجد أن اهتمام الإنجليزي كان منصباً على الفاعل فبادر بذكره، وهذا ينفي صفة الميل إلى قبول الغيبيات عن هذا النسق اللغوي، كما أن ذلك يعكس أيضاً النمط البدائي الأولي للغة الإنجليزية التي تقوم على نسق تركيبي أساسي واحد، ودليل آخر على بدائية الإنجليزية أن لا مجال فيها لثنية الأسماء، فالاسم في الإنجليزية يأتي في صيغتي المفرد أو الجمع، فكل ما زاد عن الفرد في أسماء اللغة الإنجليزية تتم معاملته على أنه جمع. أما في لغتنا العربية، فالجملة تأتي على وجهين إما فعلية (يتصدر الفعل فيها الكلام)، أو اسمية (مبنية على منطقية الابتداء والخبر)، واللغة العربية تصنف الاسم على حالات ثلاث، فهو إما مفرد أو مثنى أو جمع، كما أن في العربية صيغ عديدة للجمع ( جمع التكسير، والمذكر السالم والمؤنث السالم، وجمع الكثرة والقلة ...)، بينما يغيب ذلك عن الإنجليزية، وهذا يعكس لنا ثقافة العربي الذي يولي اهتماما كبيراً للجماعة، بينما تغلب على أهل لغات الغرب النزعة الفردية. كذلك فيما يتعلق بالنعت، فالصفة في الإنجليزية لا تميز بين مذكر أو مؤنث، ولا تتبع موصوفها في العدد، بينما نجد أن الصفة مميزة للموصوف في العربية، تابعة له في النوع والعدد، وحتى في إعرابها.
تعبر اللغة أيضاً عن بيئة الفرد، فنجد في لغة أهل الاسكيمو ما يزيد على مائة وخمسين اسماً تشير جميعها للجليد، وعند العرب سبعين اسماً للسيف، فهذا يعطينا خلفية عن البيئة التي يعيش فيها أهل اللغة، وإضافة إلى ذلك فإن مجتمع العرب تغلب عليه السمة الذكورية، وذلك لأن تفاعل المرأة في المجتمع ظل محدوداً لفترات طويلة، فبات استخدام اللفظ المذكر مغنياً عن استخدام اللفظ المؤنث، بل إن معظم التسميات اقتصرت على إطلاق الاسم المذكر، وصار لزاماً لتمييز المؤنث أن نضيف إليه لفظ أنثى، ومثال ذلك قولنا (الأسد) ففيه نشير إلى الأسد بمعنى واضح مباشر، أما عند ذكرنا للفظ "اللبؤة" فإننا نفسره بقولنا (أنثى) الأسد، وهذا يعكس لنا حرص المجتمع العربي عند التعامل مع الأنثى، وسعيه إلى مواراتها والتعامل فيما يتعلق بها بحيطة وحذر وخوف من التصريح الفاضح، وهكذا فإن اللغة قد تميزت بخصائص معينة دفعتنا إلى التفكير واستنباط الخصائص المميزة للمجتمع الذي يتحدث هذه اللغة، وهذه نقطة بالغة الأهمية سنعرض لها عند الحديث عن العلاقة بين الترجمة واللغة!!!
إن اللغة الملفوظة ليست هي الأساس أيضاً في التعبير عن المشاعر والوجدان، بل إن غالبية التواصل الشعوري الوجداني قد يتم بدون استخدام لغة لفظية، بل من خلال لغة قوامها التعبيرات الوجهية، والجسدية، والإشارات، والإيماءات، ونبرة ومستوى الصوت، فنبرة الصوت قد تكون هي المعبرة عن المحتوى الشعوري، وقد تجد أن نفس الكلمات تحمل دلالات مختلفة، بل ومتناقضة إذا ما تم نطقها بصورة معينة، وهنا يتوجب علينا أن ننتبه إلى نقطة هامة، وهي أن إدراك معنى الكلام يجب أن لا يقتصر على ظاهر اللفظ المسموع أو المكتوب، بل لابد وأن ندرك المحتوى غير اللفظي والذي يعبر عن الشعور المرافق للفظ، ففي هذه الحالة وحدها يمكننا القول أننا قد أدركنا دلالة ومعنى اللفظ والكلام.
اللغة هي الجسر الذي تعبر عليه الأفكار من عالم السكون والغيب إلى عالم التصريح والواقع، فالتفكير عملية صامتة واللغة أداة نطقها، ومن خلال اللغة يصوغ الإنسان المفاهيم، ووفق هذه الصياغات تتشكل طبيعة فهم الإنسان للبيئة المحيطة به، واللغة لها عظيم الدور في العمليات العقلية، وكلما زاد ثراء المحتوى اللفظي للغة كلما أسهم ذلك في تطور البناء المعرفي لأهلها، وأدى إلى تطور مجتمعاتهم، كما أن اللغة تخدم عملية صياغة الأفكار وحفظها وتجعل من السهل استعادة هذه الأفكار واسترجاعها.
يعد التفكير أعقد أنماط السلوك البشري، فمن خلاله يمكن للإنسان التعامل مع الأشياء بصورة تخيلية رمزية لا تنحصر في صياغات واقعية فكرية، وهو عملية معرفية يتحول فيها الإدراك الحسي للأشياء إلى رموز تدل على هذه الأشياء، واللغة مبنية على استخدام الرموز ذات الدلالة، فهي بالتالي أداة محورية يعتمد عليها التفكير، وهي ضرورية في عملية التفكير، وينبغي أن ننتبه هنا إلى أن اللغة الملفوظة ليست الأداة الوحيدة للتفكير فحتى غير القادرين على النطق يمكنهم التفكير، والأساس دوماً أن بني الإنسان يولدون ولديهم القدرة على التفكير، ثم تكتسب بعد ذلك اللغة التي تثري هذا التفكير وتعززه..
والتفكير هو أداتنا كي يفهم المرء ذاته، فهو حين يفكر فإن ذلك يجعله يفهم ما يعيشه من خبرات شعورية وحسية، أما اللغة فهي أداة المرء كي يجعل الآخرين يفهمونه ويدركون أفكاره، والتفكير عملية واسعة النطاق، وليس بالضرورة أن ننقل كل أفكارنا من خلال اللغة بل يمكننا أن نحتفظ ببعض هذه الأفكار دون أن نصرح بها، لكن اللغة لابد وأن تكون ناتجة عن التفكير، ولو أن بذهنك خمس أفكار فيمكنك أن تستخدم اللغة للتعبير عن ثلاث منها وتكتم اثنتين!!! ولكن حينما تنطق أو تكتب خمس كلمات، فلابد وأن يكون ذلك ناتجاً عن تفكير، فإذا خرجت كلماتك دون تفكير في معناها ودلالتها صارت ضرباً من الأصوات الخالية من المعاني وفقدت قيمتها اللغوية، ويرى المعاصرون من علماء اللغة أن الإنسان لا يفكر حتى بينه وبين ذاته إلا من خلال أنماط لغوية،وما يمكننا أن نخلص إليه من هذه الجدلية أنه لا يمكن فصل اللغة عن التفكير، فلا تفكير بغير لغة، ولا لغة بغير معنى فكري...