ليلة من أكتوبر في أحضان شهيد
بقلم : إبراهيم كامل أحمد
بقلم : إبراهيم كامل أحمد
[align=justify]القمر بدر . . يرسل أشعته ونوره بسخاء على رمال شاطئ القناة. فتبدو الموجودات جلية واضحة بعد أن غسلتها الأشعة والنور . أصوات المدافع الثقيلة تزمجر كأنها شياطين غاضبة كسرت أغلالها وانطلقت تعربد بجنون. القذائف تنفجر في كل مكان وتتناثر في كل اتجاه لا تفرق بين لحم البشر وحديد الدبابات ورمل ونبات الصحراء. بين آن وأخر تمرق طائرة فتعبث بسلام السماء، وتمزق وجه الأرض وما عليها.
في حفرته البرميلية هم المقاتل إبراهيم برفع "الزمزمية" ليفطر فقد تزامن رمضان مع أكتوبر مع حرب العبور . وفي زحمة وهول القصف نسي أن يفطر. ولكن دوي انفجار هز باطن الأرض، وكادت "الزمزمية" أن تسقط من يده. بعد أن انقشع الدوي الهائل.. طل برأسه بحذر.. لمح زميله المقاتل محمود يزحف محاولاً الوصول إلى حفرة برميلية ، وواضح أنه مصاب. ألقي بالحذر والخوف بعيداً ، وأسرع ناحيته ، وما أن أنزله في الحفرة حتى دوي انفجار آخر اضطره أن ينزل معه في نفس الحفرة.
رغم إصابته كانت الابتسامة تملأ وجه محمود، ولم يشِ ملمح واحد بالألم ، وسأل إبراهيم بهدوء: "أفطرت"؟
- لا لم يمهلني القصف.
تناول محمود الزمزمية شرب وناولها لإبراهيم ، وقال بصوت بدا واضحاً رغم دوي الانفجارات المتواصلة.
الحمد لله . . اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت.
شرب إبراهيم، ومد يده فتناول تمرتين من محمود الذي ذكره بأنهما من نخلة أم محمود وهي دائماً تدخرها لرمضان ولأعز الحبايب . . أحس إبراهيم بمعني فرحة الصائم حين يفطر . . فرحة غطت على زمجرة المدافع ودوي الانفجارات . . تلاشي الخوف أمام التوحد الذي جمعه هو ومحمود في تلاحم حميمي يستعصي على الوصف.. ولأنهما في حفرة تسع واحداً، فقد كانا وكأن كل منهما يحتضن الآخر.
شرب محمود مرة أخري ، واستطعم الماء ، وعاد إلى الحديث مع إبراهيم: "جميل اسم الزمزمية . . يذكرنا بماء زمزم . . أحمدك ياربي سأشرب من الكوثر بعد أن تطهرت أرضنا بدمائي ودماء إخواني". . صرخ إبراهيم ملتاعاً: "لا لن تموت . . سنرجع سوياً إلى قريتك ونجلس تحت نخلة أم محمود ونحكي لأخوتك وكل أبناء القرية عما فعلناه وفعله إخواننا لنخلص أرضنا.. لم يمنعنا الماء ولم تصدنا النار"... "كل نفس ذائقة الموت . . لا تحزن ولا تجزع . . سأكون حياً أرزق عند ربي . . خذني إلى الشاطئ ست سنوات مرت بأيامها ولياليها . . بحرها وبردها وأنا وغيري كثيرون نتطلع إلى هذا الشاطئ بشوق ولهفة . . خذني إلى الشاطئ".
لم يجد إبراهيم مشقة في حمل محمود بدا له خفيفاً وكأنه طفل رضيع ، أجلسه على الشاطئ وجلس إلى جواره يسنده . . ظل محمود ينظر إلى الشاطئ الآخر والفرحة تتدفق من عينيه . . تشهد وأسلم روحه الطاهرة التي صعدت إلى بارئها في زفة سماوية شارك فيها القمر ورمال الشاطئ ومياه القناة وامتلأت جنبات المكان بموسيقي ملائكية ما زال إبراهيم يقسم أنه أسير نشوة طربها رغم مرور السنين.[/align]