[align=center]العودة[/align]
أخيرًا عدت إلى الوطن بعد سبع سنوات هناك، هناك... في الصحراء، صحراء خالية من الأحياء فترات طويلة من النهار، وكلَّ الليل، صحراء تطبع وجه ساكنها بطابعها الخاص الذي يخلِّف سوادًا في الوجه، وضيقًا في النَفْسِ، وامتلاءً للجيوب، كنت أعمل في إحدى الشركات، موظفًا صغيرًا، رغب أن يكون كبيرًا في يوم قريب، فترك الصحراء، ورجع إلى القاهرة لإكمال دراسته العليا. <o>></o>>في السعودية... كان وداعهم باردًا، رغم حرارة الشمس، وسخونة الرمال، ولهب الجبال. هم طيبون، كانوا متأكدين أنهم سيروني مرة أخرى. هم واثقون أنَّ مَنْ يعش في الصحراء، مَنْ يشم هواءها فجرًا، مَنْ تصمه بطابعها، فلا بد أن يعود إليها. رفضوا الاستقالة، وارتضوا إجازة مفتوحة.<o>></o>>
أخيرًا... تنسمت هواء الوطن، ذكريات كثيرة وخواطر شتى تمور في نَفْسِ العائد من الصحراء، ماذا كان؟ وماذا أصبح؟ كيف كان يتعامل مع الناس هنا؟ هل أصدقاؤه ما زالوا في أماكنهم أم تركوها مثلما تركها؟ هل ستناديه الصحراءُ مرة أخرى؟ هل سيعود إليها؟ لماذا لا يعمل هنا؟ لماذا
لا ينبُت شعره الأبيض هنا؟ لماذا لا يظل مع نصفه الآخر هنا؟ أم مقدور عليهما أن يفترقا سنين طوال، يجف فيها العود، وييبس الجسد؟ هل مقدور أن يتبعد عن بعضه شطر العمر؟ <o>></o>>
هبطت الطائرة في الثامنة، مساء الجمعة، في مطار القاهرة، القاهرة... الجميلة عروس الدنيا، القاهرة... الناس والسيارات، القاهرة... الضجيج والضوضاء، القاهرة... الأزياء وبيوت الموضة، القاهرة... بحر الثقافة وبئر العلم، القاهرة... الحضارة النافذة في جسد التاريخ، القاهرة...عبق الماضي وموطن الأصالة. يومها استقبلني عمر في المطار، أخي الشاب الذي في الرابعة والثلاثين، يكبرني بثلاث سنوات. أخذني في حضنه الذي افتقده سنينًا، وقال:<o>></o>>
- حمدًا لله على سلامتك يا أخي!<o>></o>>
- شكرًا لك يا عمر! افتقدكم كثيرًا، كيف حالك يا أخي؟ كيف حال أمي؟ ما أخبار صحتها؟ <o>></o>>
- الحمد لله بخير، طالت غيبتك هذه المرة، لم نكن نعتقد أنك ستغيب كل هذه المدة!<o>></o>>
- ماذا أفعل يا أخي، أنت تعرف الظروف؟! <o>></o>>
شردتُ في المباني الشاهقة في طريقنا إلى الحي الشعبيِّ - أو العشوائيِّ كما يطيب للمسؤولين وصفه - قلت لعمر: <o>></o>>
- ما أخبار الدنيا هنا؟<o>></o>>
- ارتح قليلًا، وستعرف كلَّ شيء قريبًا. <o>></o>>
لم ترحني الإجابة، يبدو أن هناك أشياء كثيرة قد تغيرت، هذا طبعيٌّ، آخر مرة رجعت فيها كانت من ثلاث سنوات، ثلاث سنوات طوال، تتغير آلاف الأشياء في اليوم الواحد، فما بالنا بألف يوم! <o>></o>>
صاح عمر:<o>></o>>
- وصلنا، أمي منتظرة في الشرفة. <o>></o>>
- الحمد لله! <o>></o>>
نزلت بسرعة من التاكسي، وصعدت إلى الدور الثالث حيث أعيش أنا وأمي وأخي، أخذتني أمي في حِضْنٍ طويل. كانت تبكي، دائمًا تبكي، في الفرح تبكي! وفي الحزن تبكي، لم تستطع القاهرة أن تصنع لها قلبًا من الخراسانات، ولا وجهًا من القصدير كغيرها من النساء، ولكنها تغيرت... أخذ الزمن كثيرًا من صحتها، كست ملامحَها صروفُ الدهر، اشتعل رأسُها شيبًا، لم تكن كذلك منذ ثلاث سنوات. نظرتُ إليها قائلًا: <o>></o>>
- لماذا تبكين يا أمي؟ هأنذا بينكم، لماذا البكاء إذن؟ <o>></o>>
- هذه دموع الفرح يا بنيّ، حمدًا لله على سلامتك، هيَّا العشاء جاهز، كي تنام قليلًا، من المؤكد أنك مرهق من السفر. <o>></o>>
- عندك حقٌّ يا أمي، لم أَنمْ البارحة. <o>></o>>
بعد العشاء استأذن عمر، سيقضي سويعات في المقهى مع أصحابه كعادته كل ليلة. <o>></o>>
قلت لأمي: <o>></o>>
- ما أخبار صحتك يا حاجة؟ <o>></o>>
- الحمد لله يا بني! أتناول الدواء كما قال الدكتور. <o>></o>>
ثم أردفت: <o>></o>>
- الأعمار بيد الله.<o>></o>>
- أعطاك الله طول العمر. <o>></o>>
- رتبتُ سريرك يا بنيّ، هيَّا، وحمدًا لله على سلامتك. <o>></o>>
مضت ساعات الليل كلمح البصر، لم أحسَّ بشيء حتى جاء صوتها حنونًا، مشفقًا:<o>></o>>
- هيا استيقظ يا بني، الوقت تأخر!<o>></o>>
- تأخَّر على ماذا يا أمي؟! <o>></o>>
- على الخبز يا بنيّ، أنا أنزل كلَّ يوم في مثل هذا الوقت، ولكن الحمد لله أنك جئت؛ لتريحني من هذا العذاب. <o>></o>>
- أَيَّ عذاب تقصدينَ؟ وأيُّ خبز هذا يا أمي الذي سأستيقظ من أجله الساعة السادسة والنصف؟ ألسنا نشتري الخبز من شارع السوق؟!<o>></o>>
- كان هذا فيما مضى يا بنيّ، أمَّا الآن، فإذا لم تستطع أن تحصل على خبزٍ بجنيه، فذلك يعني أننا لن نأكل اليوم، ستعرف كل شيء...!<o>></o>>
- معقولٌ يا أمي، معقولٌ ما تقولين! <o>></o>>
انفجر فجأة صوت جارتنا العجوز مخترقًا الجدران والأبواب: <o>></o>>
- قلتُ لك انهضي، أم تريدينني أن أذهب أنا؟! <o>></o>>
ردَّ عليها صوتٌ نائم: <o>></o>>
- سأنهض... سأنهض ، سأذهب... حسبنا الله ونعم الوكيل!<o>></o>>
قلَّبَتْ أمي كَفَيها، ومَضَتْ إلى غرفتها، نهضتُ من السرير متذمرًا، ارتديتُ ملابسي بسرعة، أخذتُ الشنطة المخصصة لشراء الخبز. نزلت من الشقة، وصوت جارتنا شلال يهدر: <o>></o>>
- قلت لك انهضي... أأنت صماء!<o>></o>>
والصوت النائم يجيب: <o>></o>>
- سأنهض... سأنهض... سأحضر الخبز! حسبنا الله ونعم الوكيل!<o>></o>>
تزاحمت في ذهني الأفكار والأفكار، في روضتي الجميلة في صعيد مصر، كان هناك نظام <sup>(( </sup>الرَّاتب<sup> ))</sup>، كان عامل الفرن يأتينا بالخبز في بيوتنا، نظير مبلغ شهريّ ندفعه لصاحب الفرن. لم أكن أحمل للخبز همًّا! نعم... الأشياء تتغير في كلِّ الدنيا، الدنيا تتغير في القاهرة، ولكن رغيف الخبز! لم أتوقع أبدًا أن يكون رغيف الخبر هو الأزمة، ماذا حدث في السنوات الثلاثة الأخيرة. أيُعْقَلُ ما يحدث؟! أيُّ خبز هذا الذي سأضيع فيه وقتي! ألا يوجد حلٌّ؟! اهدأ... فقد تجد حلًّا، ولا بد أنك واجده! <o>></o>>
وبينما أنا غارق في بحر أفكاري، إذا بأنفاس حارَّةٍ، وكثير من الصخب يصدران من شارع الفرن، ما هذا؟ عنقودان طويلان أسود وملون، يصلان لمنتصف الشارع، وخلفهما تقبع جدران الفرن، فرن يعج بالحياة، الشارع كله مظاهرة لا تتحرك. أمام الموزع، الواقفون حِزَمٌ بشرية تتعلق أنظارها بالقفص الخارج. أمي لم تكن مبالغة عندما تحدثت عن ... أزمة.<o>></o>>
وقفت في طابور الرجال، كان أكثر قليلًا من طابور النساء، ثلاث ساعات أو يزيد؛ حتى استطعت أن أحصل على خبزٍ بجنيه. في الطابور كان الأطفال، وفي الطابور كان الشيوخ والكهول والشباب، وفي الطابور كانت النساء المسنات والشابات والبنات. كلُّ الواقفين والواقفات من الجوعى المنتظرين رغيف الخبز، من الشَّبْعَى فقرًا، وقهرًا، وهمًّا، ووقوفًا، وانتظارًا، وغمًّا. لقد تعودوا الأمر... أحاديث ثنائية، وأحاديث ثلاثية أو رباعية، صنعوا من عالمهم - عالم الفرن- ناديًا اجتماعيًّا، أحيانًا هم أصدقاء يتحادثون، وأحيانًا هم أعداء يتشاتمون، ويتلاسنون، ويتضاربون، ويتدافعون بالأيدي والأجساد، وضعوا لأنفسهم قانونًا، قانون الطابور. هنا... في عالم الفرن جمعتهم المعاناة، ووحدتهم الأزمة.<o>></o>>
[align=left]خالد توكال[/align]
من المجموعة القصصية: طابور الخبز