(ابتداء ظهور الفتن في الشرق وثورة أهالي بغداد ومقتل يوسف باشا)
عارض أهالي بغداد الوالي يوسف باشا في بعض الأمور ، ومنعوه من ممارسة سلطاته ، فلم يعد يوسف باشا يحتمل ذلك وفكر في تأديبهم. فاتفق بكر صوباشي (قائد الشرطة) مع الشرطة فقتلوا يوسف باشا ،فلما علمت الآستانة بذلك ،عينت سليمان باشا الذي سبق وأن عزل من الشام لولاية بغداد ، فوصل إلى هناك وأعاد الأمور إلى نصابها.
سنة 1032 (حادثة يوسف باشا في بغداد)
ومن أحداث هذا العام وقعة يوسف باشا والي بغداد. ذلك بأن بكر صوباشى الذي كان رئيسا على عشرة آلاف من شرطة بغداد بقي في منصبه زمنا طويلا فصارا غنيا وشهيرا ،وتحكم في أمور ومصالح رجال الشرطة وتسلط على بغداد ، ولم يعد للولاة غير الاسم ، وكان أبناؤه والبكباشي محمد آغا أعوانه وأنصاره . وذات يوم جاء خبر غارة عرب السماوة ، فجمع بكر صوباشى حوالي ألف من العربان وأربعة آلاف من الانكشارية، واستخلف ابنه البلوك باشي مكانه وطلب من البكباشي محمد رعايته ،واتجه نحو العربان ، وكان يوسف باشا قد ضاق ذرعا بأفعال المذكور فجاء بالبكباشي محمد ، وأزال أبناء بكر صوباشى وأتباعه واتفق مع البكباشي على حبس بكر ، وعينه قائدا للإنكشارية وأمر المنادي بأن يأتي إليه كل من هو بجانب السلطان. فلما سمع أبناء بكر صوباشى بذلك فروا، فختمت بيوتهم، واعتقل كل أتباعه. ومن جانب آخر وبعد أن نجح بكر صوباشى بتشتيت العربان ، عرف القضية ، أمر البلوكباشي رحماني ، فقتل حوالي خمسمائة من العربان كما قتل ابن البكباشي الذي كان معه. ودخل بغداد على حين غرة فرأى الجسر مقطوعا والمدافع منصوبة ، فاجتاز بالسفن مع حوالي ثمانية آلاف من رجاله ، وحاصر بغداد. واجتمعت العساكر من الأطراف والنواحي وتحصنت وخلال الاشتباكات ،صعد يوسف باشا إلى برج القلعة قبالة الإمام الأعظم فأصيب برصاصة من الخارج في فخذه ، فتوفي في اليوم التالي ، ودفنوه في الحديقة وبعد ثلاثة أيام شاع خبر وفاته، فطلب بكر صوباشى تسليم البكباشي مقابل إعطاء الأمان للآخرين. فقاموا بالقبض على البكباشي وفتحوا الأبواب ، فوضع البكباشي المسكين داخل زورق وأحرقه بالنفط . وأعمل السيف في كل من اشترك في هذه العملية. ودخل بكر صوباشى القلعة واستولى على أموال الباشا وكتب إلى العاصمة كتابا يشرح فيه الوضع بعد الغدر الذي تعرض له. ولما وصلت الرسالة كان حسين باشا الأسود قد أوصل سليمان باشا المعزول من ديار بكر إلى أسكدار ليتوجه على عجل إلى بغداد . فبعث الباشا المذكور المتسلم علي آغا ،ليلحق به بعد ذلك . فلما وصل المتسلم قال بكر صوباشى:" لسنا بحاجة للباشا" ورده . ولما كان الباشا في ماردين جاء المتسلم وأبلغ الدولة بواقع الحال.
(القائد حافظ باشا في بغداد)
ولما جاءت رسالة سليمان باشا عين حافظ باشا والي ديار بكر قائد على جيوش قائدا عسكريا لبغداد مع جيوش مرعش وسيواس والموصل وكردستان وكركوك. وأرسل إدريس آغا كبير البوابين بالخط الهمايوني والسيف والقفطان لتمكين سليمان باشا في مهمته . فلما وصل نصب حافظ باشا الخيام عند باب الجبل وباشر بجمع العساكر . وفي هذه الأثناء أبلغ بعض أهل الخبرة بأن أكثر أهالي بغداد على الرفض والإلحاد وأن العجم يتحينون الفرصة للاستيلاء على بغداد ، وأن هذا التصرف قد يكون سببا في ضياع بغداد . فكتب حافظ باشا معروضا بين فيه خطورة التوجه إلى بغداد والأولى حاليا أن تعطى ولاية بغداد لبكر صوباشى،وأرسله مع إدريس آغا إلى العاصمة ولما ورد الأمر بالتأكيد على التوجه إلى بغداد بالعساكر جمع أمراء كردستان وقوات ديار بكر. ولما وصل إلى الموصل ، كانت الأوامر قد وصلت إلى واليها حسين باشا الأعور وإلى سائر العساكر الملحقة وجاء محمد باشا الطيار والي سيواس مع عساكره وكان سيد خان حاكم العمادية قد دعي هو الآخر فجاء مع ابنه الصغير وعساكره وخيم في النبي يونس . وكان سليمان باشا في كركوك. وقام بستان باشا والي كركوك بجمع العساكر. وصدر الأمر بالتقدم. وبينما توقف القائد بالموصل مع جيوش مرعش والرها أصيب العساكر بمرض، وكان محمد باشا الطيار منهار القوة من المرض عندما جاءه الأمر بالالتحاق بمحمود باشا الذي عين قائدا على الأباظة. فقام المذكور وذهب. ولك تأت السفن المكلفة بالعمل ،فاضطر القائد لقضاء رمضان وشوال في الموصل . وكان قد أرسل عددا من الرسائل إلى الآستانة للعدول عن الحملة . ولما جاءته رسائل من جعفر آغا كتخدا البوابين يبلغه فيها أن هناك شائعات تقول بأنه أخذ من بكر صوباشى مالا وفيرا لذلك فهو لا يريد أن يواجهه، توجه ومن معه من العساكر إلى كركوك يوم التاسع عشر من ذي القعدة . وسبق أن أُرسل حسين باشا الأعور مصطفى بك حاكم سهران وأبدال بك ، وأمر بستان باشا وسليمان باشا بالتقدم ، فرحلوا جميعا نحو بهروز وكان معهم حوالي عشرة آلاف عسكري . فلما علم بكر صوباشى بذلك عين مساعده قائدا للجيش ، ونصب الخيام واجتمع العصاة من النواحي والأطراف واجتازوا نهر ديالة قرب بهروز ، وأقاموا الخيام في الجانب الآخر. كما جاءت قوات سليمان باشا ونزلت في الجانب الأدنى من النهر . وعندما بدأ القتال بين الجانبين غادر حافظ باشا كركوك بعد أن أقام فيها يوما واحدا وقبل أن يصل إليهم انهزم جيش سليمان باشا وسقط مصطفى بك حاكم سهران قتيلا ،فأرسلوا جنازته إلى أمه ، وفي الطريق التقوا بحافظ باشا حيث اطلع على مجريات الأمور فأسرع حتى وصل المعسكر في ليلة واحدة وفي صلاة فجر اليوم التالي جاء الأمراء والباشوات إلى القائد ،وأرسل سليمان باشا مساعده لأنه كان مريضا. وقام كل من بستان باشا وحسين باشا الأعور وأبدال باشا وأمراء كردستان وهم شرف خان حاكم حازو ومأمن خان حاكم كيل وإبراهيم بك حاكم ترجيل وحسين بك حاكم ياولو وعلي بك باشى بيوك زاده رئيس أرغنه وإبراهيم رئيس خربوت وسيد خان حاكم العمادية بترتيب الكتائب في صفوف وساروا في اتجاه العدو وكان البغداديون في الجانب الآخر من ديالة وقد عينوا قدري آغا وأبدال مراد على المدافع المنصوبة في اتجاه المعبر ورأى حافظ باشا بواسطة أدلائه من العساكر المعبر المائي من الأعلى ، فبادر بإرسال بستان باشا مع العسكر إلى ذلك المعبر .فتحرك الباشا المذكور، ثم تلاه مساعد سليمان باشا مع عساكره، ثم حسين باشا الأعور، وتلاه حاكم العمادية ثم عبر هو مع عساكر ديار بكر وساروا نحو العدو .ولما وصل بستان باشا رأى البغداديون أنهم العساكر الذين غلبوهم. فاشتبكوا معهم وبدأ القتال وبينما هم على وشك الهزيمة وصل مساعد سليمان باشا بجنوده واشترك في القتال وقتل من الجانبين كثير من الرجال وفي الوقت الذي اشتد فيه القتال وصل حاكم العمادية بجنوده ونظم صفوفه . ولما رأى العصاة أنهم يصدون العساكر الذين تتابعوا عليهم ، بدأ ضعفهم يتحول إلى قوة . ولم يصدقوا قبل ذلك أن الباشا قد وصل . ولما ارتفع النقع مرة أخرى وظهر القائد حافظ باشا بجنوده أمر بفتح الرايات ، وكان على أبدال باشا أن يفتح نيران المدافع بمجرد فتح الرايات ،فلما فتح النيران في تلك الساعة عرف البغداديون أن حافظ باشا قد وصل فاختلط الحابل بالنابل وانهزموا. فاصطفت الكتائب المذكورة ، فبهتوا ، وفي لحظة واحدة قطع حوالي أربعة آلاف رأس ،وشق حافظ باشا الصفوف بفرسه حتى وقف على مرتفع قريب من وسط العدو وقام العسكر بنهب الجيش . وجاء الزعماء والأسرى مكبين على وجوههم أمام القائد . وقاتل أحد وجوههم واسمه قزانجي اوغلى على جانب الماء مدة طويلة حتى قتل أخيرا. واستطاع الكتخدا عثمان اجتياز النهر وفر إلى بغداد. وأراد حافظ باشا أن يلحقه إلى بغداد لكن البعض منعوه قائلين بأن العجم قد يهاجمون الجيش . وعادوا من مكان المعركة حتى وصل إلى مقر الجيش مساء. واحتفلوا في تلك الليلة وفي الصباح أقيم الديوان وجاء الباشوات والأمراء صفوفا ولبسوا الخلع، وجاء كل من لديه معتقل أو أسير وأخذوا المكافآت كل حسب وضعه ومكانته. وضربت رقاب جميع الأسرى فبلغ عددهم حتى المساء ألفا وسبعمائة . وفي اليوم التالي اجتمع الأمراء والباشوات وتشاوروا واتفقوا على أهمية الهجوم على بغداد وفي اليوم التالي وبينما نادى المنادي بالتحرك جاء الخبر بامتناع سكبان الإنكشارية عن التحرك بتحريض من بستان باشا مالم ينل كل واحد منهم عشرة قروش. وكان عدد سكبان الانكشارية لدى الباشوات جميعا حوالي ثمانية آلاف. فوعدهم حافظ في حالة الاستيلاء على بغداد بالعطايا وقادة كتائبهم بالإقطاع . فلم يقتنعوا وأبرزوا كتاب بكر صوباشى يعد فيه بعشرة قروش . وأخيرا رضوا بخمسة قروش . وفي اليوم التالي توفي سليمان باشا.
(نزول حافظ باشا بحوالي بغداد ودفع بكر صوباشي)
وفي اليوم الرابع وبعد أن نال السكبان مكافآتهم المقررة رحلوا حتى وصلوا أق شرعي وتشاوروا هناك . وكان الرأي أن يجتازوا دجلة ويحاصروا من جهة قلعة الطيور . فاجتازوا النهر ونزلوا أمام الإمام موسى . فقد وصلت العساكر المنهزمة إلى بغداد، فأغلق بكر صوباشى الأبواب وأتخذ الاستعدادات اللازمة ،وأرسل أحد رجاله واسمه عنايت إلى الشاه عباس بطلب المدد ، ووعده بإعطاء بغداد. فاغتنم الشاه هذه الفرصة ، وبدأ بإرسال قرجغاي كبير الخانات مع حوالي ثلاثين ألفا من العدو إلى جهة شهربان على أن يلحق الشاه بهم بعد ذلك. وأرسل الشاه عباس تاجا مع سفير له. وبينما كان العساكر على وشك الحصار جاء السفير ، فاستقبله حافظ باشا . وورد في رسالة بكر صوباشى : إنه لاذنب لي بما حصل ، فقد غدروا بي بينما كنت في مهمة بخدمة السلطان. فالرجاء منكم ألا تسعوا لإعطاء بغداد للعدو ، فأرسلوا واليا سفيرا ، ونحن مستعدون لاستقباله. " فاستشار حافظ باشا من حوله من الحاضرين وقال: ماذا تقولون. فبادر بستان باشا إلى سيفه ، عندئذ نهض حسين باشا الأعور وقال:" الزم أدبك ،فالسيف لا يشهر على السفير " وقام الجميع واقفين ثم جلسوا وانفض المجلس . وفي اليوم التالي عقد مجلس آخر ، وجاء السفير ليبلغ بالخبر أن بكر صوباشي لن يقبل واليا . وأنه إذا كان جائزا إعطاءه الولاية فأعطوه. ومر ذلك اليوم. وفي اليوم التالي شاع الخبر بوصول السفير والتاج من شاه العجم إلى بغداد . وجاء السفير المذكور إلى حافظ باشا وقدم رسالة قرجغاي خان . وفيها أن بكر خان لازال في حماية الشاه ، ويطلب عدم الإخلال بالصلح ، والرحيل عن بغداد ، وإلا فإن الصلح يفسد . فرد حافظ باشا قائلا:" لسنا في بلادهم . لقد تمرد أحد أتباع السلطان فجئنا لتأديبه فلماذا يفسد الصلح . قال السفير:" لقد احتمى بكر صوباشى بالشاه . وإذا احتمى طير بشجرة حمته." فأجاب حافظ باشا:" الطير لازال في قفصنا، فإذا تخلص ووصل إلى شجرتكم فاحموه ، ولن نطالبكم به" فقال السفير: " القول الفصل هو أن ترحلوا وإلا فإن قرجغاي خان عازم على قتالكم بثلاثين ألفا من القزلباش. ، وهو الآن في شهربان" أجاب الباشا:" إذا أخلوا بالصلح فالعثمانيون ليسو عاجزين عن مقابلتهم وسيلقون جزاءهم " فقام السفير وعاد باتجاه الخان. وجاء جواسيس الشاه في الداخل ليخبروه بأن حوالي ثلاثمائة من القزلباش ذوي التيجان جاءوا يوم الجمعة وقالوا بأن السكة ستضرب باسم الشاه. فاحتار حافظ باشا فيما يفعل ، واستشار الباشوات ، واتفقوا جميعا على أن لا حل إلا بإسناد أمر ولاية بغداد إلى بكر صوباشى ، وجاؤوا بسفيره علي آغا وأبلغوه بما اتفقوا عليه. فوافقهم السفير على ذلك وطلب أن يكتب ذلك ، على أن يسبقه بالبشرى. فجمع خيمته وفر إلى الجانب الآخر . وكتب الأمر، وبحثوا عن السفير فلم يجدوا . ولما علموا بفراره ،فاغتم الباشا وبدا عليه الأسى وقال :" كان بإمكاننا أن نأخذ بغداد " فأعطى ولاية الرقة لبكر صوباشى وأعطى ابنه محمد (البلوك باشى) لواء الحلة وبعث سيد خان حاكم العمادية بهذا الأمر سفيرا إلى الداخل . فلما وصل استقبلوه وفتحوا له الأبواب . فلما دخل قام بالنصح قائلا:" ما الذي غرك من هذه الأيام المعدودة من عمرك حتى أوقعت كل هذه المصائب؟ فأجاب بأن الأمور بعد موته ستزداد سوءا. عندئذ قال سيد خان:" لقد أعطاك القائد لواء الرها ولولدك لواء الحلة . فما كان منه إلا أن نهض وافقا وأمر رجاله بطرده ، عندئذ تدخل الدفتردار عمر أفندي فتشفع له وأخذه إلى داره. فبعث من ورائه أمرا بإبقائه تحت المراقبة . فتقدمه عمر أفندي حتى أخرجه ، وحقيقة الحال أنه جاء إلى القائد بالسيف والقفطان وامره المقرر (؟) فسر حافظ باشا من حيث الصورة.
(تعيين بكر صوباشى على ولاية بغداد)
وجاء الخبر من الداخل أن المنادين أعلنوا بأن بغداد للشاه وأن بكر خان من أتباع الشاه. وأن السكة ضربت باسم الشاه . كما أعلن بأن من كان تابعا للشاه عباس فله البقاء ، ومن لم يكن كذلك فليرحل. ولما تأكد هذا الخبر شاور من معه ثم كتب أمر تعيين بكر صوباشى على ولاية بغداد وأرسله مع إبراهيم بك الصغير رئيس خربوت . ففتحوا له الأبواب وأدخلوه ، ثم أخذوه إلى بكر صوباشى ، فقدم له رسالة حافظ باشا، فقرأها وسر منها وورد في الرسالة :" لقد فوضنا أمر ولاية بغداد كي تبذل قصارى جهدك للحفاظ عليها وحمايتها على هدى وبصيرة. فأمر بكر صوباشى من ساعته باستدعاء القزلباش الثلاثمائة ، فلما جاءوا رمى التاج الذي أتوا به من الشاه وقال :" لقد عفا حضرة السلطان عن جرمنا وأعطانا ولاية بغداد ، فاذهبوا وبلغوا شاهكم بالأحوال ، وليحذر من إرسال الجيش فإنه لا أمل لهم بالحياة ، وسيندم على ذلك . وأراد بعض القزلباش أن يقفوا في وجهه وقالوا كلاما سيئا ، فأمر بشق بطونهم وتعليقهم من أرجلهم على جدار القلعة ، وخرج الباقون. وفي ذلك اليوم نادى المنادي بأنه صار واليا على بغداد بأمر السلطان ،وأقيمت احتفالات عظيمة . وبعد التكريم البالغ لإبراهيم بك كلفه بإيصال رسائله إلى القائد وبعد الثناء عليه والدعاء للسلطان قال في رسالته :" كي أثق بما تفضلت به ، عليك أن تغادر إلى ديار بكر. فرحل الباشا في ذلك اليوم من مكانه ، وخيم في مشارف الإمام موسى .وأرسل بكر صوباشى مع أحد رجاله واسمه علي آغا المصري طنين من القطيفة وفرسين هدية . فقبل حافظ باشا الهدية وفي اليوم التالي غادر إلى جهة الموصل. ولما وصل القزلباش .. سنبين في السنة الآتية كيف جاء قرجغاى خان وبعده الشاه وكيف أخذوها .
سنة 1033 (استيلاء الشاه عباس علىبغداد)
ولما أخرجهم بكر صوباشى من بغداد غادروا على شكل جماعات وأبلغوا الخانات بما جرى . فقاموا بدورهم بإبلاغ ذلك للشاه فبقي هو في درتنك، وتوجه الخانات نحو بغداد. واستعد بكر صوباشى للحصار، فلما وصلوا أغلق الأبواب ، فعاد قرجغاي إلى ظاهر بغداد وأرسل سفيره إلى الداخل وأرسل معه كتابا سريا قال فيه:" لقد جاء رجالك في وقت سابق إلى الشاه قائلا إنك على استعداد لإعطائك بغداد . فكلفنا بهذا الأمر، فجئنا، حتى الجنود الذين جاؤوا لمحاربتك انهزموا أمامنا ، فتعال إلينا وسلم بغداد ، فرد الباشا في كتابه مع السفير :"مرحبا بكم، كونوا ضيوفنا هذه الليلة في الخارج وغدا نرد على الرسالة بإذن الله" فسر العجم من ذلك واستعدوا لاستضافة عطا خان . وفي اليوم التالي جاء رجل وقدم رسالة إلى قره خان، فأعطى الرسالة للكاتب . قال الكاتب أ أقرأه علنا؟ لأنها تبدو على غير العادة . وكتب فيها :" صحيح أننا طلبنا منكم المدد لكن سيدنا عفا عنا . لقد وفيتم بحق الجوار فجزاكم الله خيرا. ولكي لا تعودوا وأيديكم خالية فإنني أرسلت لكم عشرة أرتال من الإبل وعشرة آلاف قرش مصاريف السفر ،فتفهموا الأمر وعودوا وإلا فإنه محال علينا أن نعطيكم بغداد ولو جاء عشرة آلاف شاه ، ولم ترد في رسالته عبارة إن شاء الله. فأرسل الخان من يبلغه بتسليم القلعة مهددين إياه بأوخم العواقب وكان بكر باشا قد أعد المافع فأطلقها وقتل كثيرا من الإيرانيين ، فقلع الإيرانيون خيامهم ونزلوا في محل بعيد عن مرمى النيران وأبلغوا الشاه بالوضع. ومضى أربعة عشر يوما ولم يأت الخبر . ومن جانب آخر ، فإن رسالة بكر باشا وصلت إلى حافظ باشا وهو بالموصل ، وفيها :"إن قرجغاي خان جاء بثلاثين ألف جندي كما أرسلوا رسالة إلى الشاه ، فأنجدنا بالمؤن ، فأرسل الباشا مع عثمان آغا رئيس البوابين إلى بغداد عن طريق البادية كميات من المؤن ، فأوصل المذكور المؤن وعاد إلى الموصل . وبلغ الشاه ما أرسله الخانات فأعلن عن عزمه القيام بالهجوم على بغداد . وركب فرسه على عجل فلحقه رجاله وحاشيته وفي اليوم الرابع عشر وصل إلى بغداد وحاصرها في شوال السنة السابقة ، فكتب بكر صوباشي إلى القائد رسالة أخرى وأبلغه بمجيء الشاه، وهو بدوره أبلغ استنبول
(سفر حسين باشا إلى بغداد واستشهاد بحيلة الشاه)
ولما كان القائد مقيما في الموصل جاءته رسالة بكر صوباشى يقول فيها:" لا داعي للحزن ،يكفي أن ترسل إلينا باسم الوالي طبلا وصاحب علم ،كي يأتي ويدخل ، فيظنون بأن المدد قد وصل . وجاء الجواسيس إلى بغداد وأخبروا بأن عساكر إيران يبيتون للهجوم وأنهم تشاوروا فيما بينهم وقالوا طالما إن ذلك الطبل عندهم فلن ننتصر على بغداد ، وأنهم عينوا حوالي عشرين ألف جندي . وكان الجنود قد تفرقوا من حول الباشا ، ولما جاءت الرسالة الأخرى من بكر صوباشى بطلب إرسال حسين باشا الأعور والي الموصل، كلفه القائد بهذه المهمة وكافأ كل سكبان بعشرة قروش وأرسلهم مددا وفي اليوم التالي توجهوا إلى بغداد . وجاءت رسالة من متسلم ديار بكر والقاضي وفيها أن هناك احتمال بهجوم الأباظة على ديار بكر وطلب من القائد القدوم إلى ديار بكر. فغادر حافظ باشا الموصل متوجها إلى ماردين . وبينما كان حسين باشا في الطريق اعترضه قرجغاي خان بعدة آلاف من العدو فاحتمى الباشا بقيزيل خان وحاربهم وكان هذا الخان غير مسقوف على اليابسة بعيدا عن الشط ، فحفروا بئرا في وسطه فخرج منه ماء آسن . وطالت الاشتباكات بين الجانبين ،فأرسل جيش العدو سفيرا إلى الباشا طالبا التدخل لإتمام الصلح الذي اتفق عليه الطرفان في عهد السلطان عثمان. وكان حسين باشا شركسيا ومعروفا بين الناس لكنه كان أيضا طيب القلب لا يعرف الحيلة والكذب ، فغفل عن مكر العدو وظن أن ما يقولونه صحيح فأرسل محمد آغا رئيس الطباخين إلى الخارج وبعد يومين عاد رئيس الطباخين بكتاب أمان وسيف وقفطان من الشاه . وقد ورد في كتاب الأمان :" أماننا أمان ومرادنا إتمام الصلح ،إنك باشا عجوز، فكن وسيطا بيننا " فوثق الباشا بما يقوله وأرسل مع سفر غازي (؟) ما جاء إليه من تلك الهدايا إلى الموصل وكتب كتابا بهذا المفهوم وأعطاه لعلي بك رئيس الأدلاء ليسلمه إلى حافظ باشا . أدرك حافظ باشا الحيلة ، وأرسل إليه كتاب قال فيه:" حذار من مغادرة الخان ، فنحن سننجدك، أو بادر بالقتال ليلا كي تتمكن من الخروج والابتعاد عنهم " لكن المقدر كائن، فما أن وصل سفر غازي إلى الآبار المالحة حتى خرج إليه من الكمين حوالي مائة وخمسين من الأعداء ونهبوا أحماله وقتل من قتل وفر من فر إلى الصحراء وسقط سفر غازي أثناء القتال ، حتى إن الباشا خرج ووقف أمام قرجغاي خان وقال له بلهجة معاتبة " أينما كان عسكر الشاه وجدوا امامهم حسين باشا أليس هناك خان غيرك؟" فحبسه وعرض الأمر على الشاه فأرسل إليه الشاه أمرا شفويا أن اقطع رأسه وأرسله مع طبله وعلمه إلينا ، وكأني لا أعلم من الأمر شيئا. فنفذ قرجغاي أمر الشاه ولف رأس الباشا بثوب أحمر وأرسله مع عدد من رجاله الذين بقوا على قيد الحياة. فلما وصل الموكب إلى بغداد ، تظاهر الشاه بالغضب وقال :" كيف يجرؤ قرجغاي خان على قطع رأس هذا الغازي العجوز الذي أعطيناه الأمان؟ ، ثم أطلق سراح حوالي خمسة عشر من رجاله الذين بقوا أحياء . ووصل هذا الخبر السيء إلى حافظ باشا وهو في الطريق ، فاسترجع ودخل ماردين. وكان الجو شتاء باردا. وبعد أن مكث فيها أكثر من عشرين يوما جاءه كتاب من بكر باشا يطلب فيه إيصال المدد من استنبول ورد فيه " إن الشاه يحاصر بغداد ويقوم بهجمات كبيرة ، وقد فتح أربعة وخمسين أخدودا للتلغيم ، واستطعنا اكتشافها جميعا.ولن أنسحب من بغداد ، فاطلب المدد من الآستانة " فأكرم الباشا وفادة الرجال وألبسهم الخلع ، كما أرسل إلى الآستانة بتكرار طلب المدد ، ثم بعث إلى بكر صوباشي مع الرجال القادمين خبرا يفيد بأن الوزير الأعظم على وشك المجيء . ومكث في ماردين شهرين ينتظر الآستانة ولكن لم يظهر شيء. وأخيرا جاء الخبر بعودة باشا الأباظة إلى دياره.
( استيلاء شاه العجم على قلعة بغداد واستئصال أهل السنة )
لم يتمكن الشاه المحتال من الانتصار على القلعة بالمحاصرة والهجوم ،فأكد عجزه ويأسه، وأوشك على الرحيل محروما، ولكن ما لبث أن لجأ إلى الحيلة ، حيث استطاع اجتذاب درويش محمد بن بكر صوباشي بتوسط من بعض الروافض ـ وكان مكلفا بضبط الأمور الداخلية في القلعة، فوعده بحكم بغداد ، وكان هذا ساذجا وغافلا عن مكر الشاه وخداعه. فظن أنه صادق الوعد ،فأرسل أحد رجاله المدعو عباس إلى الشاه سرا من غير أن يعلم أبوه بذلك وأخذ منشور حكومة بغداد . وكان بكر صوباشى لابسا درعه يتفقد حماة القلعة بين الباب الأبيض وبرج العجم ،يشجعهم ويرفع معنوياتهم قائلا بأن الشاه سيرحل غدا ، وفي فجر اليوم الثاني من صفر دخلت من باب القلعة أعداد كبيرة من جنود العدو خلسة . وبدأت أصوات الناي والطبول فوق أسوار القلعة فطار صواب بكر صوباشى ، فاحتمى الناس في بيوتهم وقام جنود العدو بفتح الأبواب فدخلت أعداد كبيرة من الروافض . وأمروا مناديا ينادي بأن المدينة هي للشاه فعلى أهل المدينة والرعايا والمتعيشين أن يلزموا أماكنهم ولا يتحركوا، فلن يتعرض أحد لأي ضرر، فلهم الأمان من الشاه ، ولتفتح الأسواق والمتاجر ، ولن يصاب أحد من السنة أو الشيعة بأي أذى. عندئذ اطمأن الناس قليلا وساد السكون. ولما قبض على بكر صوباشى وجيء به إلى الشاه، وجد ابنه جالسا بجانب الشاه. قال الشاه معاتبا:" لماذا قمت بهذا العمل السيء؟" فأجاب:" لم أقم بأي عمل سيء ، بل إن ابن الزانية هذا هو الذي قام بالعمل السيء وأشار إلى ولده وصار يدعو عليه. فقال له ذلك الشقي:" لقد أعطيت عهدا بتسليم بغداد ولم تف بعهدك، فقمت أنا بتنفيذ العهد ، والآن قدم كل ما تملك من مال وخلص نفسك كي يعتقك الشاه . وأمر الشاه بحبسه. ومضت ثلاثة أيام لم يتعرض أحد فيها لأي أذى.وفي اليوم الرابع نادى المنادي بأن يأتي كل من كان يعمل لدى السلطان ويسجل نفسه جنديا لدى الشاه. ولما جاءوا جميعا، بدءوا أولا بتسجيل أسماء غير الجنود فسر الناس من ذلك فسجل الناس أسماءهم حتى دخل الليل. فأخذ الشاه الأسماء المسجلة ووزعها على الخانات وعين على كل أربعة أو خمسة رجلا من الأعداء كي يبحثوا عن أموالهم ويستخرجونها. وبأمر من الشاه بدأ كل واحد بتعذيب المأسورين عنده ، وأخذوا كل ما عندهم من أموال ، وقد مات بعضهم تحت التعذيب ، وصار بعضهم معوقا. وبعد ذلك أقعدوهم مطأطئي الرؤوس، فتقتلوا من كان سنيا بأمر من الشاه سود الله وجهه وأطلقوا سراح من كان شيعيا. وجاءوا بنوري أفندي قاضي بغداد ومحمد أفندي خطيب الجامع الكبير وعرضوا عليهما شتم الشيخين(أبي بكر وعمر) ، وقالوا :" تقدم أيها القاضي واشتم" وفكوا قيد يديه فتقدم القاضي وقال:" لعنة الله عليك وعلى كل من كان مثلك وكل من يتبعك أشد من الكفار وتلا ماتذكره من آيات وأحاديث تتعلق بصحابة رسول الله الأربعة. فأخذ الخبيث الغضب ، فأمر بثقب ذقن القاضي وتعليقه على نخلة. واشتكى الشيعة من الخطيب، فقال له الشاه :" اشتم كي أعفو عنك " فطلب الخطيب أن يفكوا قيده أولا، ثم صعد إلى مكان عال وبدأ يخطب كعادته، فاستشاط الشاه غضبا فأمر بتعليقه من رأسه بجانب القاضي وبعد ذلك أمر كل من يحمل بارودة بإطلاق النار عليهما فماتا شهيدين. ثم جيء ببكر باشا ، فأمر الشاه التعيس بإيقاد النار، وخلعت ملابسه وعرض على النار حتى بدأت شحوم جسمه تذوب كي يعترف بمكان أمواله، حتى اعترف بها جميعا . وكان ابنه يشرب الخمر وهو ينظر إلى أبيه. ثم وضعوه في قفص حديدي ، وعذبوه سبعة أيام بلياليها، فلما يئسوا من ماله ، أمر الشاه بوضعه في زورق وقاموا بطلاء أطراف الزورق بالنفط ،وأشعلوا فيه النار ودفعوه إلى مياه الشط فاحترق داخل الزورق أمام أعين الناس . أما ولده الذي كان يطمح بحكم بغداد فقد خذل ونكب ولقي جزاءه ، وأعطى الشاه حكم بغداد لصاري خان ، وأرسل رسائل وعد ووعيد للعربان والأكراد ودعاهم للطاعة. كما أرسل قرجغاي خان للهجوم على جهات ماردين ، فوصل إلى الوادي الأسود بنصيبين وبعث السرايا إلى المناطق المجاورة فسلب من عشيرة الشقاقي وحدها مائتي ألف غنم . واختارت قبيلة طيء العربية مائة من فرسانها فاعترضوا جيش العدو وأخذوا منهم مائتي ناقة ومثل هذا العدد من الخيول والبغال ودخلوا الصحراء ثم عادوا إلى بيوتهم قرب ماردين. فلما علم الشاه بذلك اغتم. وفي أول رجب قام بزيارة الإمام علي . أما حافظ باشا فقد علم بسقوط بغداد فغادر ماردين متوجها إلى ديار بكر ، وأبلغ الدار العلية بما جرى.
(مشاورات حافظ باشا حول محاصرة بغداد)
1035 وفي محرم نزلت العساكر المنصورة في صحراء كركوك واجتمع في خيمة القائد الباشوات والأمراء وضباط القطعات وتشاوروا فيما بينهم. قال حافظ باشا : " كان من الأفضل أن يذهب مراد باشا ويمنع الإيرانيين الموجودين في أطراف بغداد من دخول القلعة، لكنه فضل أن يجابه الجيش كله فقام صاروخان ومير فتاع مع سبعة أو ثمانية آلاف من الإيرانيين ودخلا بغداد. لا نملك المدافع اللازمة للمحاصرة ، والشاه سيخف للنجدة . ثم هل من المعقول التوجه إلى بغداد قبل الدخول في بلاد أحمد خان ابن جلوه خان والاستيلاء عليها والوصول إلى درنه ودرتنك والاستيلاء عليهما؟ " البعض رأى الأمر معقول والبعض الآخر لم يوافق على ذلك وتعددت الآراء وأخيرا قالوا " نتوجه مباشرة إلى بغداد ونحاصرها، إذ لا تقاس الحملة على بغداد على الحملات الأخرى ، وبغداد الآن في موسم الشتاء. أما في موسم الصيف فلا يمكن البقاء في بغداد لشدة حرارتها. ونحن مستعدون جميعا للتضحية بأرواحنا من أجل بغداد " فوافقهم حافظ باشا ، وتفرقوا على ذلك. وفي اليوم التالي جاء ثلاثة أو أربعة من العجم برسالة من أحمد خان ،يقول فيها إن بغداد بلادكم ، فلا تبدءوا أولا بتخريبها، بل أرسلوا سفيرا إلى الشاهواطلبوها منه بطريقة معقولة ، فلعله يعطيكم . وكان السفير القادم بياله بك فسألوه عن أحوال الشاه ، فقال إنه سيلاقيكم خلال عشرين يوما. وفي ذلك الوقت أرسل سليمان باشا والي الموصل لتأمين المؤن من الموصل كما كلف بستان باشا بحماية كركوك . وفي اليوم التالي رحل الجميع ، وفي اليوم العاشر من شهر صفر نزلوا قرب الإمام الأعظم. وقبض على عدد من الأعداء فضربت أعناقهم. وفي اليوم التالي رحلوا من هناك ونزلوا إلى الجهة الجنوبية من بغداد حيث يشتد جريان مياه الشط أمام البئر الأسود ،وظهرت أماكن المتاريس ، وبينما كانت المواكب تسير أطلقت المدافع من القلعة بينما كان الأراذل من جنودهم يهزءون بالقائد قائلين :" هذا هو المفتاح فخذه" . وفي تلك الليلة تم بناء مواقع ثلاثة مدافع وفي اليوم الثاني عشر دخلوا في المتاريس . حيث كانت على الشاطئ بعد برج العجم في اتجاه حي الباب الأبيض فدخل في هذه المتاريس كل من والي حلب مصطفى باشا بجانب الماء والوزير القبطان آغا الانكشارية قرب برج العجم. ودخل في المتاريس كل من محمد باشا الكورجي والي الروميلي والحاج إلياس باشا والي الأناضول ونوغاي باشا والي مرعش ومحمد باشا الطيار والي سيواس وحسين باشا الشركسي والي قرمان مع جنوده من السكبان. وأرسلوا الرجال إلى ديار بكر والبصرة مرة أخرى لإحضار المهمات ، وتم ضرب القلعة بتلك المدافع الثلاثة عدة أيام والواقع فإن أسوار بغداد لم تكن شديدة المتانة ،فضربة المدفع تهدمها، لكنهم كانوا يسدون الثغرات بزنابيل التمر فتصير محكمة. وكان حافظ باشا يقضي ليله ونهاره في المتاريس لبناء أبراج المدافع وحفر التراب والكشف عن الألغام ، وقد فتح باب العطاء للجنود ، وزاد في رعاية واستمالة الضباط والجنود.كما إن الجنود لم يألوا جهدا في العمل ليلا ونهارا . حيث يبقى في الليل ست كتائب يحرسون المتاريس، واستمرت هذه الحالة مدة شهرين كاملين استطاعوا فيها كشف اثنين وخمسين لغما وأبطلوها بالماء. وكان الشاه سود الله وجهه قد انتخب خيرة جنوده لحماية القلعة ،فكان الفدائيون منهم يصطفون على شاطئ النهر حتى البئر الأبيض يحاربون بالبواريد نهارا ويوقدون المشاعل في الأحياء بالليل ، ويرفعون أصوات النداء لا إله إلا الله.أما رعايا فيعملون على حفر التراب بحثا عن الألغام تحت الأرض. وقطعوا آلافا من أشجار النخيل الضخمة ودفعوها مع التراب إلى الخنادق . وكانوا يحولون دون سحبها وإزالتها . ولما صار الجيش في وضع صعب وتأكد من وصول مدد من مئات من الفرسان إلى القلعة ليلا من جهة الإمام الأعظم واستحالة المحاصرة التامة وتحقيق النصر ، أزال الخيام من منطقة الإمام الأعظم ، وتوجه إلى أسفل الشط ،فسدوا جانب البر وبذلك تحقق الحصار الكامل ، وأقاموا جسرا إلى الضفة الأخرى كما وضع عدد من الجنود في قلعة الطيور.
1035 (وصول بعض السفن والمدافع إلى البصرة)
وبعد يوم القتال جاء بكر آغا وعلي آغا البصريين مع عدة مئات من الرجال وبعض النجارين ولبسوا الخلع ونزلوا بحي الإمام الأعظم. وجاءت ثلاث سفن حربية من نوع غراب، فهي من طراز قدرغه لا أجنحة لها في نهايتها وقد رفعوا جدران السفن عالية وفتحوا ثقوب دهليز فهم يحركون المجاديف من هذه الثقوب وسواريها مثل القدرغة . وجاءوا بكميات وافرة من التمر وقالوا بأن مدافع كبيرة على وشك الوصول من البصرة . وذات يوم ذاع خبر قدوم العجم ، فخرجت الكتائب ونظمت صفوفها وانتظرت حتى المساء ولم يأت أحد، وتبين فيما بعد أن العجم بدلوا أماكنهم. وفي اليوم التالي عين مراد باشا على المدافع وقاموا بعملية عبور مدفع البصرة إلى هذه الضفة وهيئوا الذخائر ووضعوها أمامه . كما وضعت المدافع غير المرتدة التي جاءت من عاصمة الدولة على رؤوس الخاندق وسهل نقلها ووضعها في المتاريس ، فقد تشاور القادة وقالوا:" إذا نقلناها إلى المتاريس فستحتاج إلى آلاف الجنود ،وفضل الولاة أن تبقى هذه المدافع ضمن الجيش.
(رحلة عمر باشا لحماية الشط)
ولما جاء شاه الروافض إلى ضفاف ديالة، أرسل جنوده إلى المناطق المجاورة ،فاقتادوا جميع المهور والبهائم التي كانت ترعى هناك ، كما اتخذ التدابير لقطع طريق القوارب والذخائر القادمة عبر مياه دجلة والفرات .ولما امتد زمن الحصار أرسل العساكر خيولهم وبغالهم وجمالهم لترعى وبقوا مشاة في الخيام . إلا أن أرباب المناصب والمتعينين أبقوا في خيامهم بعض الخيول.وكانت هذه الخيول ترعى بعض الحشائش الصحراوية. وذات يوم جاء الخبر باستيلاء الروافض على القوارب القادمة من الموصل ، وبإغارتهم على اق شرعه ونهبهم المؤن ،فعادت باقي القوارب فوصلت إلى قزل خان. وأرسل حافظ باشا أحد أتباعه المسمى عمر باشا الأرناؤوطي لحماية تكريت ، فلقي جيش العدو وهو في الطريق ، فقاتلهم فغلب وفقد كل ما ملك والقافلة التي كانت معه ، فتوجه مع عدد من رجاله نحو الموصل . كما علم حافظ باشا بخبر نهب الروافض تسعة وعشرين قافلة تابعة للوزير الأعظم كانت متجهة لنقل المؤن من مزرعته ، وأنهم أغاروا على مرسى فلوجة على نهر مراد صو ونهبوا كل مافيها من مؤن ، عندئذ عين حافظ باشا علي آغا الخادم وكوجك أحمد على الضفة الأخرى كما أمر يعقوب الذي كان على رأس الجسر باشا بحماية تلك المنطقة.
(وصول سفير الشاه وجواب من القائد)
وفي هذه الأثناء جاء سفير من قبل الشاه ومعه رسالة يقول فيها:" لقد أخذت بغداد من يد رجل متمرد . وأرسلت إلى حضرة السلطان سفيرا ورسالة وطلبتها لابني . فإن لم يعطها فسنسلمها لكم ،فلا تتعبوا أنفسكم حاليا بالقتال والجدال." فرد حافظ باشا قائلا:" لازلت أنا الوكيل المطلق عن حضرة السلطان فجوابه عندنا ولا حاجة لإرسال كتاب إليه ، ولن نسحب يدنا اعتمادا على مثل هذه الأقوال" . وفي هذه الأثناء هبت رياح شديدة ، فكسر الجسر واستمر هبوب الرياح لليوم التالي فامتلأت الخيام بالغبار والرمال بحيث لم يعد يرى أحد أحدا والتزم الجميع خيامهم وتوجه خسرو آغا نحو الجسر وجاء الجنود لسحب السفن الموجودة على الضفتين وربطها ، فهبت رياح شديدة وكانت هناك ثلاث سفن وفيها خسروا آغا ويعقوب باشا فسارت مسرعة نحو بغداد ، وصار الناس يقذفون بأنفسهم في الماء ويربطون هذه السفن ويسحبونها بمساعدة الرياح إلى الضفة الأخرى . ولما هدأت الرياح ربطوا الجسر بصعوبة بالغة.
( المعركة الثانية)
ولما ورد الخبر بعزم الروافض على وضع الذخائر في قلعة الطيور ، فأمر الباشا بأن يتوجه العزاب( رماة البحرية) لحمايتها . كما أرسل إلى كوجك أحمد وحسن باشا والي قرمان يستدعيهم . وبينما هم كذلك ظهرت كتائب العدو وهاجمت من ثلاث جهات. فعين حافظ باشا مساعده على الجيش وخرج مع بعض الكتائب . وتقابل الجانبان وقت الظهر فنصب الشاه عريشة فوقه ومكث نصف ساعة . وكان العدو قد ظهر من الضفة الأخرى أيضا. فلما جاء الخبر بتراجعه اجتاز حسن باشا إلى هذه الضفة وهاجم جيش الروافض كما اشترك الباشا الكورجي والي الروميلي في القتال ، ودوت أصوات المدافع والرصاص ، فتراجع جيش الروافض خطوة فخطوة إلى الوراء وعادت من حيث أتت . وبقيت الكتائب في أماكنها حتى المساء ثم عادت إلى خيامها وفي اليوم التالي وبينما كان حافظ باشا وعثمان زاده رئيس بولى عائدين من زيارة الإمام الأعظم أطلق عليه مدفع فسقط شهيدا. وفي الليل تسلل إلى متاريس مصطفى باشا حوالي خمسين من الروافض ، وقتل أكثر وفر الباقون إلى داخل القلعة. وفي هذه الأثناء جاء مراد باشا إلى حافظ وصار يقول "سأحرق القلعة بزيت النفط وأستولي عليها" وغير ذلك من الكلام الجزاف ، فأخذ شيئا من النفط من المستودع وأدخل الجنود في الخنادق فحفروا أسفر السور وصبوا على الجدران النفط ثم أشعلوا النار ، فأضاءت السور ، فأطلقوا الرصاص على الروافض وقتلوا منهم مائة. وانسحب الباقون، وظهرت ثمرة الجنون وفي اليوم التالي خرج الباشا بكباشى اوغلى من خيمة الوزير الأعظم فأصابته طلقة مدفع وهو يمهم ركوب فرسه فسقط شهيدا. وذات مرة أعدوا سلالم وتطوع أكثر من ألف للصعود من هذه السلالم وفي الليل نصبوا عددا من السلالم على جدران القلعة وبينما هم كذلك أحس بهم العدو فأوقدوا المشاعل وهجموا على ذلك المكان وأمطروا كل من كان في الخندق بوابل من الرصاص فاستشهد الرئيس وحوالي ثلاثين من الجنود.
(إمداد الشاه المحاصرين بالمؤن)
وذات يوم كان خسروا آغا في خيمة الوزير الأعظم داخل المتاريس جاء أحد جنود الإنكشارية بحمامة ووضعها أمامه. وقد ربطت في أحد جناحيها ورقة .قال الجندي بأن الحمامة حطت فوق عمود الراية في المتاريس .فضوا الورقة وإذا بها رسالة وفيها:" جاءني منك أن في الداخل شح في المؤن . وأريد أن أرسل المؤن في عدد من السفن من الجهة الأخرى." والرسالة مختومة بختم الشاه. وعاد الرجال الذين أرسلوا للسفن( الغراب) وأخبروا بأنهم لم يتمكنوا من اللحاق بها . وقد نصب مدفعان من المدافع المرسلة من عاصمة الدولة على ضفة الشط . وفي الليل تم القبض على أربعة سفن في كل سفينة ثلاثة أو أربعة من الرجال ، فجيء بهم إلى الباشا ولما سئلوا أجابوا بأن شيخ الشاه دعي من قبل الشاه لزيارة الإمام الرضا ولما كنا في الطريق إليه قبض علينا وتمكن هو من الهرب. وأمر الباشا بقتلهم. وبعد يومين جاء حوالي ألف وخمسمائة من العدو أرسلهم الشاه حاملين خلفهم المؤن وليأخذوا معهم ثلاث سفن لتحمل المؤن من الضفة الأخرى . والحقيقة أن تلط المناطق كانت تعاني من المحل. المحاصرين في الداخل نضبت عندهم المؤن فصاروا يأكلون أوراق النخل ، حتى إن أشجار النخل صارت عارية . ومن جهة أخرى خرج كل من حسن باشا والانكشاري الفدائي المعروف بقره أوغلان ومعهما سبعمائة وخمسون من الجنود إلى البر ولما لحق بهم مراد باشا كان الروافض قد أدخلوا بعض المؤن ووقع وقت الظهر قتال شديد سقط فيه بعض الرجال وتم الاستيلاء على قسم من المؤن واستطاع العدو أخذ الباقي.
(المعركة الثالثة بين الشاه عباس والعثمانيين)
وفي آخر شعبان شاع الخبر بأن الروافض قادمون للقتال فإما لهم وإما عليهم. وفي اليوم الثاني عشر من رمضان تحرك جنود الشاه من شرقي بغداد وبعض الروافض من غربيها فنادى آمروا القطعات بأن يتسعد الجميع فعين يعقوب باشا على المدافع الخمسة على رأس الجسر وحسن باشا وكوجك أحمد على الضفة الأخرى وقبل طلوع الفجر تحركت قوات العدو من ضفة الشط في اتجاه قوات الروميلي ولما أسفر الصباح كان محمد باشا الكورجي قد شعر بالضيق والحاجة إلى المدد. فلما وصل طلب المدد نفخ في البوق فخرجت الطوابير جميعا ووقف جنود المشاة بجانب الخندق صفوفا وقد كنت أنا كاتب هذه الحروف خلف طوابير الانكشارية فوق قلة مرتفعة . وكان خلف الوزير الأعظم فرق الفرسان وعلى يمينه السلحدار. وخرج محمد الرومي وغيرهم وغيرهم مع عدد من الفرسان ونظموا كتيبة ولم يبق في الكتائب الأخرى مايحملهم من خيول أو حمير وكان الولاة في حالة من الحزن. ولكن عدد الجنود الذين اصطفوا فوق أتربة الخنادق وأمامها كان وافرا . وقد وقف خلفهم الفرسان القادمون من المناطق المجاورة . وأما المدافع التي أطلقها العجم فقد كانت بعيدة لكنها كانت تمر من فوقنا حتى تصل إلى الكتائب القادمة من المناطق وحدث مناوشات واشتباكات في المواقع الأمامية ولكن ما إن حان وقت الظهر حتى توقفت . وخرج من الباب الأبيض بعض الأعداء وأخذوا وضعية القتال فأفرز لهم (صاغ علوفة وصول علوفة) . أما الشاه فقد أقيمت له عريشة فكان يشرب من الكؤوس الذهبية. ومن هذه الجهة صار العزاب يحرضون الباشا على الخروج من الخنادق ليلقنوا الشاه درسا ويعرفوه نفسه. فرد عليهم حافظ باشا قائلا:" إنكم لاتعرفون شيئا، فالزموا اماكنكم ، فقد بسحبكم العدو إلى الفلاة فلا تستطيعون مجاراته . فنحن نبقى في أماكننا نقاتله إذا هاجمنا. وأخيرا تقدموا بعض المسافات حتى بقيت بين الكتيبة والخندق رمية سهم. وكلما تقدم هؤلاء تراجع العدو. حتى إذا وصلوا إلى الساحة تقدم العدو من جهة الإمام الأعظم مستهدفا المنطقة الكائنة بين الماء والخندق. ووقعت الاشتباكات في ثلاثة أماكن حتى صرنا نرى كثيرا من الخيول تجوب ميدان القتال من غير أن يكون عليها أحد. وبعد ذلك دفع مراد باشا برماته نحو تلة معتقدا بأن العدو قد انهزم. وأمر حافظ باشا أتباعه بالاستعداد وتلقيم المدافع ، وفي هذه الأثناء عادت قوات العدو فجأة ودفع بسبعة آلاف من الروافض حاملي السيوف كالقطيع ، عندئذ تصاعد غبار بأمر الله فلم يعد أحد يرى أمامه، وأعملت السيوف في رماة مراد باشا ، ثم جاء دور قوات سيواس فاندحروا أيضا واستشهد أحمد آغا مساعد الباشا واختلط الفرسان ببعضهم حتى إذا صار أمام الخندق أمطرهم المشاة المتمركزين في الخنادق بوابل من السهام والحجارة. وقتل عدد من جنود العدو . والحصل لم يبق عند القائد من العساكر سوى عدد ضئيل من حاملي الرايات والخدم وأغوات الانكشارية. لكن تصاعد الغبار حماهم من سيوف العدو، فتراجع الشاه معتقدا بأنهم انهزموا. ولما رأى العساكر الرايات والقائد بين الغبار عادوا إلى أماكنهم وانقشع الغبار وانسحب العدو بعيدا. وكان صوت حافظ باشا قد بح من شدة النداء وبيده القوس والسهم. وبلطف الله تعالى حال الغبار دون رؤية العدو انهزام العسكر. وإلا لكانت الحالة سيئة. وقد قتل في هذه المعركة الكثير من الجانبين، وبعد الظهر عادت القوات إلى خيامها.
وصول العجم إلى بغداد
وفي يوم السبت الثاني من شوال عبر جنود العجم نهر دجلة وهاجموا فوق جسر الإمام موسى ، وحدثت معارك شديدة وجرح في هذه المعارك يعقوب باشا والي الموصل وتقدم حوالي خمسمائة من الأعداء مردفين نحو قلعة الطيور وزودوها بالمؤن من الزوارق وقت الظهر وعلى الملأ. وكانت المدافعى تطلق نيرانها من الأطراف لكنها لم تصبهم وبعد أن أتموا عملهم عادوا . وقد تألم العسكر من هذا الوضع كثيرا.
وصول سفير الشاه
وبعد هذا قدم إلى والي الروميلي سفير من الشاه،ومعه رسالة إلى القائد. ولما سأله الوالي عن الهدف من الرسالة ، أجاب السفير :" إن الشاه يطلب منكم رجلا كبير السن كي يكون وسيطا ، يتشاور مع الجانبين فيما يوافق المصلحة ولم اتفق الجميع على أنه لاضرر من إرسال مثل هذا الوسيط .فأرسل الوزير الأعظم سلام شاويش ومن الفرسان رئيس الملازمين إبراهيم الأدرنوي وعادوا إلى حرب القلاع من جديد .وبعد عدة أيام جاء رجل من العجم ليخبر بقدوم سفير مهم اسمه توخته خان. فنصبوا الخيام قبالة خيمة القيادة . وفي ذلك اليوم توفي مصطفى باشا والي حلب وعين مكانه نوغاي باشا وأعطيت مرعش لزور باشا . وفي اليوم التالي جاء سلام شاويش وتوختمش خان ، وبعد يومين عقد الاجتماع وبعد ساعتين من الاجتماع خرج الوزير ووقف أركان الديوان وحيا الشاويش . ولما جلسوا جاء السفير وقبل اليد وحياه ، ثم قدم رسالة الشاه فوضع الوزير الرسالة على المخدة وقال للسفير أنت اليوم ضيفي وغدا نتحادث. وأذن له بالانصراف (وفيها) لقد هلكت الرعايا، فما الباعث على النزاع بين أمتي محمد ،لقد أخذت بغداد من متمرد. أرجو من أخي السلطان منحه لإبني. لقد وكلت توخته خان في كل شيء.فكر الوزير الأعظم ثم قال:" لقد وكلك الشاه فماذا تقول؟ أجاب:" لقد جئت لأصالح الطرفين، لأن الصلح خير" فقال الباشا:" على أي شيء يكون الصلح؟ لقد قال لي حضرة السلطان بأن الشاه قدم لزيارة الإمام علي، فكن وكيلي في القيام بزيارة الشيخ صفي. فالصلح لايكون إلا بعد أن تعطوا الولايات التي أخذتموها. أجاب توخته:" والله إنني لم آت كي أعطي قلعة. فقد أرسلني الشاه كي نرجو السلطان بإعطاء بغداد لولده. عندئذ قال حافظ باشا:" إن سلطاننا هو سلطان القبلتين مكة والمدينة ، فهو أكبر من كل السلاطين، وأنا وكيله ، فما أقوله مقبول لديه. وما قلته أنت ليس بالكلام المقبول ، فإذا كان لديك قول آخر فقل . عندئذ تحدث أعيان الجيش الذين كانوا في الاجتماع فقالوا ،لن نتنازل عن هذه القلعة طالما أن فينا عرق ينبض . فإذا أعطيت القلعة فبها وإلا فعد من حيث أتيت، فإننا لسنا مستعدين لسماع الحكايات منك. ولانريد منك أن تذكرنا بين حين وآخر بأنك سفير . فإذا كان هناك ماتعمله فاعمل. فأجاب توخته خان:" لست كسائر السفراء. ، لم آت لأعطي القلعة. لنرسل إلى الشاه رجلا اليوم أو غدا، ثم نتحادث على أساس مايرد من الشاه من جواب." وانفض الاجتماع بعد ذلك. وكان العساكر مشاة، والقحط والجوع سائدان في الداخل والخارج. ولما جاء مبعوث السفير جاء معه بفواكه وافرة . واجتمع الأعيان والأركان بالسفير مرة أخرى. وافتتح الوزير الأعظم الجلسة. وبعد أن رحب بتوخته خان قال:
- إن كان عندك كاتقوله فقل، وإلا فإننا لن نتنازل عن بغداد . قال السفير:
-" إذا أهدى الأخ لأخيه شيئا أفلا يقابله بشيء؟
-" بلى" عندئذ قال السفير:" إذا أعطيناكم بغداد فما تعطونا؟
- ماذا نعطيكم ؟ إن بغداد هي لنا. ولن نعطيها بمال الدنيا. فأعطونا مال الدنيا، أعطونا مقابلها تربة الإمام علي . وشدد على قوله:" مستعدون للتضحية بألف رأس في سبيل حجرة من أحجارها ، إننا نطلب بغداد من أجلها. "
قال السفير:" ننسحب من بغداد ، على أن تعطونا الإمام علي والحلة وميناء فلوجه أو بالأحرى الضفة الأخرى من الماء . فهذا هو الممكن. أما غير ذلك فتعرفونه أنتم. . فأجاب الوزير:" حسنا، إن رضيت أنا بذلك فلن يرض العساكر . وانفض الاجتماع. وبعد ذلك دعا الوزير خسرو آغا وسائر الأركان للتشاور معهم ومعرفة رأيهم فيما يقول السفير . قال الآغا إن العساكر في حالة سيئة . إن لنا خطة فإذا اكتملت فسننظر ، فاطلب مهلة، وبعد المهلة إذا كانت الحرب فبها وإلا فليكن مايكون.
البحث في أحوال الصلح
وفي اليوم التالي دعي السفير للإجتماع . قال الوزير:" إذا أعطيناكم الإمام علي والجانب الآخر ، فإن أصحاب الأملاك والمزارع لايعطونكم ، فماذا تقولون؟ " أجاب توخته خان:" ليحكم كل واحد في مكانه وليأخذ منهم حق الفروسية " عندئذ قال الوزير:" ياصاحب السعادة! فإذا أعطيت تلك الأماكن نتيجة الصلح فلا يمكن لأحد أن يتدخل ملكه ومكانه. ولايستطيع عثماني أن يدخل إلى هناك. إذا أردنا نحن فسنبني قلعة فماذا تفعل؟ " عندئذ تخلى السفير عن ذلك ورضي بالإمام علي والحلة والجوازر والفلوجة. وأبلغ بأنه سيرسل رسالة بهذا الصدد إلى الشاه . وفي اليوم التالي ذهب مبعوثه إلى الشاه. ثم جاء خبر من الشاه يطلب رجلا عاقلا. فأرسل مصطفى آغا شاويش السلام.
(ظهور أثر سحر وغرايم)
وفي هذه الأثناء دعا الباشا توخته خان إلى عشاء. وقال له:" إن العثمانيين لن يتركوا بغداد لكم. فإذا أخليتموها بواسطتي فإني سأرعاك بصورة غير عادية. " أجاب توخته خان:" لتكتب العهود بذلك، فإذا جاء مصطفى شاويش فإننا سنخلي بغداد ، ولكن أرجو ألا يصاب أحد من الجنود الخارجين منها بأي ضرر " ثم خرج واتجه نحو خيمته. وفي صباح اليوم التالي عثر حول خيمة الباشا على قطع من الأوراق على شكل مثلثات بقدر قطع النقود وكتبت عليها بعض الطلاسم ، فقيل بأنها سحر فأحرقت.
(ثورة العساكر)
وفي الصباح التالي ثار الجنود لعدم وجود أي نوع من الطعام في الجيش ونفوق الخيول والحمير. وتوجهوا إلى خيمة القيادة ، فهدموا الخيمة وقبضوا على الوزير بعد اتهامه بالاتفاق مع الأعداء ، وأرسلوه للسجن في قلعة الإمام الأعظم. وكان السفير وأتباعه من الأعداء يتفرجون على مايحدث. ولما قال أتباع مراد باشا:" خذوا العلم الشريف إلى خيمة مراد باشا، وليكن مراد باشا هو الوزير الأعظم، قام العلمدار عثمان آغا وتمسك بالعلم وقال ما من أحد غير السلطان له القدرة على عزل الوزير هذه الخيمة هي السلطان ، والعلم لايغادر هذا المكان مادمت حيا. ومن يكون وزيرا يأت إليه، وأخذوه خارجا. وخلال المشادة سرقوا سيف السفير وفرسه وأوقعوه ، ثم أخذوه إلى خيمته. وبينما كان الوزير الأعظم ذاهبا تقدم بعض كبار السن(ضوربة) وقالوا إن قائدنا هو وكيل السلطان ، فكيف نحبسه وجنود الشاه بين ظهرانينا ، فلو هجم العدو علينا فلا قائد لنا ، فمن يجيب على ذلك، فمنعوا بعضهم بعضا وعادوا أدراجهم. ونصبوا خيمة وأنزلوا الباشا من فرسه . سألهم الباشا:" أيها الرفاق ماذا تريدون؟ أين الذين قالوا لن نتنازل عن بغداد حتى الموت؟ عندئذ صرخ الجميع:"لقد انقطعت طرق الإمدادات، ولم نعد نثوى على البقاء. فأجر استعدادك كي نذهب" قال الباشا:" ننتظر قدوم سفيرنا من عند الشاه وننظر ماذا جرى ثم نذهب بعد يوم أو يومين. وحتى جنود الانكشارية في المتاريس قد مرض أكثرهم وأصيبوا بألم في أرجلهم. ولما سأل حافظ باشا توخته خان عن مصير مصطفى شاويش . أجاب السفير: ولماذا تسأل ؟ وصار يقول:" إن كان لكم سيوف ،تأخذون بغداد وإلا فعليكم استعطاف العدو كي لايصيبونكم بأذى، فارحلوا "
(حركة الجنود وحادثة اللغم)
كان واضحا أن الشكوك دبت في الجنود، وأنه لم يعد هناك مجال للبقاء. وفي اليوم الثالث من الحادثة ، تقرر الرحيل، وفي يوم الخميس السابع من شوال دعا حافظ باشا آغا الانكشارية ، وسأله عن لغم الانكشارية في المتاريس ، فأجاب بأنه تم وضع أكثر من ثلاثمائة كيسة من البارود ،واكتمل اللغم . فإذا أصبح الصباح ، وحصل أي شيء ، وإذا كان الأمر مقدرا فليكن وإن لم يكن مقدر بالأمر لله ،ثم جمع الوزير الأعظم أتباعه ووضعهم في التاريس وانتظر الصباح. وفي اليوم التالي خرج الجنود من خيامهم ، وقام البعض بإحراق هذه الخيام وتركها البعض الآخر، وأخذ كل واحد عصا وبينما هم ذاهبون طلب منهم بعض الضباط السير ثم التوقف ، فوقف عدد من الفرسان حاملي الرايات قبالة القلعة ، وكان الانكشارية قد خرجوا من المتاريس ودخل رماة الباشا ولما وصلوا في الصباح إلى البارود ،كان هناك كيس من البارود أمام الباب من غير أن يشعر به أحد فاشتعلت فيه النيران فخرب باب اللغم وانفجر على الملغمين فهلكوا ، وظهرت نار عظيمة على جدار القلعة وصعدت نحو السماء. وغطى المنطقة سحاب من الدخان فلم يتضرر منه أحد ، حتى إن الوزير قال الحكم لله، وترك المتاريس مع رجاله وخرجوا جميعا. وأمر بالرحيل. ونهب (كيلا زور خائري) وأحرقوا ماثقل وزنه وسحبوا المدافع إلى الخيام ونقلوا مافي الخيام إلى الإمام الأعظم وبعد أن وصل جميع عساكر الإسلام إلى الإمام الأعظم ، وصل الوزير الأعظم إلى خيمة القيادة ليلا. واضطر أكثر جنود الانكشارية للبقاء في الإمام الأعظم بسبب آلام أقدامهم .
(توجه العسلكر إلى جهة الموصل)
وفي يوم الجمعة عسكر الجنود في الإمام الأعظم وانكسربعض المدافع غير المرتدة ، وكان بين هذه المدافع مدفع ششخانه السلطان سليمان خلف خيمة القيادة ذو فوهة طويلة يساوي وزنه ذهبا. فدفنوه ، فعثر عليه الشاه فيما بعد ونقله إلى إصفهان. وفي هذه الأثناء وردت الأخبار بهجوم سيد خان الأعور مع عدد من رجاله وتجاوز الحد فجاء به الوزير الأعظم وقطع رأسه. وفي يوم السبت رحلوا مشاة متكئين على العصي، مقتاتين الأشواك بجانب الماء ، وتأخر واليا الروميلي وسيواس وجاؤوا بتوخته خان معهم وفي الإمام الأعظم ظهر العجم فساعدوهم وعاملوهم معاملة حسنة عدة أيام.
(جواب الشاه عباس)
ولما وصل مصطفى الشاويش إلى الشاه وأبلغ بواقع الحال، أكرمه الشاه ، وقال له:" سأزود غدا بالرسائل فتذهب بها. وكان اليوم التالي هو الخامس من شوال. فأعطاه الرسالة مع بعض الهدايا. وورد في الرسالة أن الصلح مقبول على النحو المتفق عليه بحيث لن يتعرض أحد من العساكر الخارجين لأي أذى وقد أمرتهم بأن يجتازوا الماء ويأتوا إلي. ولما ركب الشاويش فرسه ورحل ، أرسلوا إليه من يخبره بأن الشاه يريده ، فلما وصل قال له الشاه إن هناك أمورا سأضيفها إلى الرسالة. فأخذها الشاه ومزقها. ثم قال له: يامصطفى آغا لقد رفع القائد حصاره عن بغداد ورحل ، ولا يليق بنا أن نعطي القلعة للعساكر الراحلين ، فأبلغ هذا كل من تلقاه ، ثم أرسله. وبعد ذلك جاء الشاه وخيم في جهة قره كو قبو فلما وصل الشاويش إلى حيث الجيش بكى وقال لقد صبرتم كل هذا ، ألم يكن بوسعكم أن تصبروا يومين آخرين؟ فأجابه الباشا بأن المقدر كان ، وأن أثر السحر قد بان.
(تتمة التوجه)
وفي المرحلة الثانية، أرسل الشاه رجلا يطلب توخته خان. فأرفقه الوزير بمصطفى آغا مع كافة الأسرى العجم. وفي المرحلة الثالثة توقف الوزير الأعظم لظهور كتائب العدو من الخلف وأخذ الاستعداد للقتال وشكل الفرسان رتلا ، فانحاز القزلباش وعادوا. وفي الليل ، تناوب الحراس ،وظهر فيما بعد أنهم أرادوا غارة ليليلة ،فلم يجدوا الفرصة لذلك. وفي اليوم التالي، وصل خبر إلى الوزير الأعظم ،بأن العدو أرسل قواته نحو والي الروميلي ، فأرسل إلى مراد باشا أمرا بالتخلف وانتظار محمد باشا لكن مراد باشا لم يطع الأمر فاتجه إلى المنزل (المرحلة) وكان ذلك المنزل صعبا فهو جزء متفرع من الشط على شكل خندق يمتد حتى الصحراء . حيث قام عسكر العجم بالتقدم خلف الجيش فنزل الجيش بعد الخندق وأمر الوزير الأعظم بأن تأخذ التشكيلات أماكنها بشكل نظامي ، وقدموا سبعة مدافع واجتزوا الخندق إلى هذه الجهة وبدأوا بالقتال . وباشر القتال عدد من المشاة ، فوجد العساكر الإيرانيون القوة فيهم مع ضعفهم ، ولما هاجم حسن باشا وانطلقت المدافع فر العدو إلى الخلف وتفرق. وأسر خمسة عشر منهم، ولم يصب أحد من الجيش . ولم يجرؤ الإيرانيون على الهجوم مرة أخرى ، فعادوا أدراجهم. ولدى الوصول إلى المرحلة التالية، دعا الوزير الأعظم مراد باشا ،فجاء إليه قائلا إن الأمر للسلطان، فوثبوا إليه وقطعوا رأسه. ، وأسندت ولاية ديار بكر إلى رئيس البوابين خسروا آغا. ولدى الوصول إلى قزلخان، تقدم العساكر آملا في الحصول على بعض المؤن وتبين أن العرب نهبوها . وهناك تركت المدافع وكل شيء ثقيل. وكانت أوقية البكسمات بعشرة قروش والشعير....... وتساقط أكثر العساكر في الطريق من شدة الجوع، فكانوا يأكلون الخيول التي لا تقوى على السير ، كما يأكلون ثمرات بعض الأشجار الشوكية مع إنها لم يكن أكلها مألوفا. ولم يذق بعضهم الطعام عشرة أيام وبعضهم عشرين يوما والكتفى بالماء. ولم يحدث في التاريخ أن لقي الجيش الإسلام مشقة مثل هذه المشقة. فبعد تسعة شهور من الحصار ضاعت كل المدافع والذخائر ، وعاد الجنود وهم في أسوأ حال يلوذون بالأنهار حتى اجتازوا ماء الذهب على أرجلهم ولما وصلوا إلى ماء الزاب قام العساكر الفرسان بتحميل العساكر المشاة واجتياز النهر. وبعد استراحة يوم وصلت المؤن من المناطق المجاورة وسرت الدماء في عروق الجنود بعض الشيء ثم رحلوا حتى إذا وصلوا إلى الموصل ، ووزعت الرواتب للعساكر العتقاء من الأموال التي جاءت إليها، وقتلت طائفة العتقاء ملازم الفرسان مره حسين . وأعطى الوزير الأعظم لبكر آغا القادم من البصرة ولاية الموصل. وعين حسن باشا الشركسي لمحافظة الموصل وكلف الملازمين بالخدمة في الشيخ أزول، وأجاز للعسكر في ديار بكر ، وكلف محمد باشا بولاية الشام وعين مكانه سليمان باشا وأرسل تقرير بواقع الحال إلى عاصمة الدولة مع علي آغا الخادم ولما وصل إلى هناك دعي علي آغا لمقابلة السلطان وسئل عن حقيقة الحال وبعد الاطلاع على الحقيقة، أمر بإرسال الخلع مع الخط الهمايوني للباشا بأن يقضي الشتاء في حلب. فلما وصل الأمر الهمايوني أقام بضعة أيام في ديار بكر ثم توجه إلى حلب. وبعد طي المراحل دخل المدينة واستقر الأعيان والأركان فيها. وقد نقلنا عن حملة بغداد بصورة إجمالية بالقدر الذي شاهدناه. أما التفصيل فيه فيحتاج إلى كتاب مستقل. لكننا اختصرناه بهذا القدر. وحاصل الأمر أن عساكر الإسلام خلال تسعة شهور ردوا على الشاه ، كما قاموا بمحاصرة القلعة ، فلو لم تنقطع المؤن لما تأخروا في أخذها . وبالرغم من حالة الضعف هذه ، فقد جاء الشاه وبذل جهده ، حتى استبد به اليأس من القلعة . ومع ذلك فقد استطاع أكثر العساكر العودة بوسيلة من الوسائل ، وتفرق الجنود هنا وهناك سيرا على الأقدام . وحتى في هذه الحالة لم يغلبهم العدو . فقس قوة العثمانيين .
عارض أهالي بغداد الوالي يوسف باشا في بعض الأمور ، ومنعوه من ممارسة سلطاته ، فلم يعد يوسف باشا يحتمل ذلك وفكر في تأديبهم. فاتفق بكر صوباشي (قائد الشرطة) مع الشرطة فقتلوا يوسف باشا ،فلما علمت الآستانة بذلك ،عينت سليمان باشا الذي سبق وأن عزل من الشام لولاية بغداد ، فوصل إلى هناك وأعاد الأمور إلى نصابها.
سنة 1032 (حادثة يوسف باشا في بغداد)
ومن أحداث هذا العام وقعة يوسف باشا والي بغداد. ذلك بأن بكر صوباشى الذي كان رئيسا على عشرة آلاف من شرطة بغداد بقي في منصبه زمنا طويلا فصارا غنيا وشهيرا ،وتحكم في أمور ومصالح رجال الشرطة وتسلط على بغداد ، ولم يعد للولاة غير الاسم ، وكان أبناؤه والبكباشي محمد آغا أعوانه وأنصاره . وذات يوم جاء خبر غارة عرب السماوة ، فجمع بكر صوباشى حوالي ألف من العربان وأربعة آلاف من الانكشارية، واستخلف ابنه البلوك باشي مكانه وطلب من البكباشي محمد رعايته ،واتجه نحو العربان ، وكان يوسف باشا قد ضاق ذرعا بأفعال المذكور فجاء بالبكباشي محمد ، وأزال أبناء بكر صوباشى وأتباعه واتفق مع البكباشي على حبس بكر ، وعينه قائدا للإنكشارية وأمر المنادي بأن يأتي إليه كل من هو بجانب السلطان. فلما سمع أبناء بكر صوباشى بذلك فروا، فختمت بيوتهم، واعتقل كل أتباعه. ومن جانب آخر وبعد أن نجح بكر صوباشى بتشتيت العربان ، عرف القضية ، أمر البلوكباشي رحماني ، فقتل حوالي خمسمائة من العربان كما قتل ابن البكباشي الذي كان معه. ودخل بغداد على حين غرة فرأى الجسر مقطوعا والمدافع منصوبة ، فاجتاز بالسفن مع حوالي ثمانية آلاف من رجاله ، وحاصر بغداد. واجتمعت العساكر من الأطراف والنواحي وتحصنت وخلال الاشتباكات ،صعد يوسف باشا إلى برج القلعة قبالة الإمام الأعظم فأصيب برصاصة من الخارج في فخذه ، فتوفي في اليوم التالي ، ودفنوه في الحديقة وبعد ثلاثة أيام شاع خبر وفاته، فطلب بكر صوباشى تسليم البكباشي مقابل إعطاء الأمان للآخرين. فقاموا بالقبض على البكباشي وفتحوا الأبواب ، فوضع البكباشي المسكين داخل زورق وأحرقه بالنفط . وأعمل السيف في كل من اشترك في هذه العملية. ودخل بكر صوباشى القلعة واستولى على أموال الباشا وكتب إلى العاصمة كتابا يشرح فيه الوضع بعد الغدر الذي تعرض له. ولما وصلت الرسالة كان حسين باشا الأسود قد أوصل سليمان باشا المعزول من ديار بكر إلى أسكدار ليتوجه على عجل إلى بغداد . فبعث الباشا المذكور المتسلم علي آغا ،ليلحق به بعد ذلك . فلما وصل المتسلم قال بكر صوباشى:" لسنا بحاجة للباشا" ورده . ولما كان الباشا في ماردين جاء المتسلم وأبلغ الدولة بواقع الحال.
(القائد حافظ باشا في بغداد)
ولما جاءت رسالة سليمان باشا عين حافظ باشا والي ديار بكر قائد على جيوش قائدا عسكريا لبغداد مع جيوش مرعش وسيواس والموصل وكردستان وكركوك. وأرسل إدريس آغا كبير البوابين بالخط الهمايوني والسيف والقفطان لتمكين سليمان باشا في مهمته . فلما وصل نصب حافظ باشا الخيام عند باب الجبل وباشر بجمع العساكر . وفي هذه الأثناء أبلغ بعض أهل الخبرة بأن أكثر أهالي بغداد على الرفض والإلحاد وأن العجم يتحينون الفرصة للاستيلاء على بغداد ، وأن هذا التصرف قد يكون سببا في ضياع بغداد . فكتب حافظ باشا معروضا بين فيه خطورة التوجه إلى بغداد والأولى حاليا أن تعطى ولاية بغداد لبكر صوباشى،وأرسله مع إدريس آغا إلى العاصمة ولما ورد الأمر بالتأكيد على التوجه إلى بغداد بالعساكر جمع أمراء كردستان وقوات ديار بكر. ولما وصل إلى الموصل ، كانت الأوامر قد وصلت إلى واليها حسين باشا الأعور وإلى سائر العساكر الملحقة وجاء محمد باشا الطيار والي سيواس مع عساكره وكان سيد خان حاكم العمادية قد دعي هو الآخر فجاء مع ابنه الصغير وعساكره وخيم في النبي يونس . وكان سليمان باشا في كركوك. وقام بستان باشا والي كركوك بجمع العساكر. وصدر الأمر بالتقدم. وبينما توقف القائد بالموصل مع جيوش مرعش والرها أصيب العساكر بمرض، وكان محمد باشا الطيار منهار القوة من المرض عندما جاءه الأمر بالالتحاق بمحمود باشا الذي عين قائدا على الأباظة. فقام المذكور وذهب. ولك تأت السفن المكلفة بالعمل ،فاضطر القائد لقضاء رمضان وشوال في الموصل . وكان قد أرسل عددا من الرسائل إلى الآستانة للعدول عن الحملة . ولما جاءته رسائل من جعفر آغا كتخدا البوابين يبلغه فيها أن هناك شائعات تقول بأنه أخذ من بكر صوباشى مالا وفيرا لذلك فهو لا يريد أن يواجهه، توجه ومن معه من العساكر إلى كركوك يوم التاسع عشر من ذي القعدة . وسبق أن أُرسل حسين باشا الأعور مصطفى بك حاكم سهران وأبدال بك ، وأمر بستان باشا وسليمان باشا بالتقدم ، فرحلوا جميعا نحو بهروز وكان معهم حوالي عشرة آلاف عسكري . فلما علم بكر صوباشى بذلك عين مساعده قائدا للجيش ، ونصب الخيام واجتمع العصاة من النواحي والأطراف واجتازوا نهر ديالة قرب بهروز ، وأقاموا الخيام في الجانب الآخر. كما جاءت قوات سليمان باشا ونزلت في الجانب الأدنى من النهر . وعندما بدأ القتال بين الجانبين غادر حافظ باشا كركوك بعد أن أقام فيها يوما واحدا وقبل أن يصل إليهم انهزم جيش سليمان باشا وسقط مصطفى بك حاكم سهران قتيلا ،فأرسلوا جنازته إلى أمه ، وفي الطريق التقوا بحافظ باشا حيث اطلع على مجريات الأمور فأسرع حتى وصل المعسكر في ليلة واحدة وفي صلاة فجر اليوم التالي جاء الأمراء والباشوات إلى القائد ،وأرسل سليمان باشا مساعده لأنه كان مريضا. وقام كل من بستان باشا وحسين باشا الأعور وأبدال باشا وأمراء كردستان وهم شرف خان حاكم حازو ومأمن خان حاكم كيل وإبراهيم بك حاكم ترجيل وحسين بك حاكم ياولو وعلي بك باشى بيوك زاده رئيس أرغنه وإبراهيم رئيس خربوت وسيد خان حاكم العمادية بترتيب الكتائب في صفوف وساروا في اتجاه العدو وكان البغداديون في الجانب الآخر من ديالة وقد عينوا قدري آغا وأبدال مراد على المدافع المنصوبة في اتجاه المعبر ورأى حافظ باشا بواسطة أدلائه من العساكر المعبر المائي من الأعلى ، فبادر بإرسال بستان باشا مع العسكر إلى ذلك المعبر .فتحرك الباشا المذكور، ثم تلاه مساعد سليمان باشا مع عساكره، ثم حسين باشا الأعور، وتلاه حاكم العمادية ثم عبر هو مع عساكر ديار بكر وساروا نحو العدو .ولما وصل بستان باشا رأى البغداديون أنهم العساكر الذين غلبوهم. فاشتبكوا معهم وبدأ القتال وبينما هم على وشك الهزيمة وصل مساعد سليمان باشا بجنوده واشترك في القتال وقتل من الجانبين كثير من الرجال وفي الوقت الذي اشتد فيه القتال وصل حاكم العمادية بجنوده ونظم صفوفه . ولما رأى العصاة أنهم يصدون العساكر الذين تتابعوا عليهم ، بدأ ضعفهم يتحول إلى قوة . ولم يصدقوا قبل ذلك أن الباشا قد وصل . ولما ارتفع النقع مرة أخرى وظهر القائد حافظ باشا بجنوده أمر بفتح الرايات ، وكان على أبدال باشا أن يفتح نيران المدافع بمجرد فتح الرايات ،فلما فتح النيران في تلك الساعة عرف البغداديون أن حافظ باشا قد وصل فاختلط الحابل بالنابل وانهزموا. فاصطفت الكتائب المذكورة ، فبهتوا ، وفي لحظة واحدة قطع حوالي أربعة آلاف رأس ،وشق حافظ باشا الصفوف بفرسه حتى وقف على مرتفع قريب من وسط العدو وقام العسكر بنهب الجيش . وجاء الزعماء والأسرى مكبين على وجوههم أمام القائد . وقاتل أحد وجوههم واسمه قزانجي اوغلى على جانب الماء مدة طويلة حتى قتل أخيرا. واستطاع الكتخدا عثمان اجتياز النهر وفر إلى بغداد. وأراد حافظ باشا أن يلحقه إلى بغداد لكن البعض منعوه قائلين بأن العجم قد يهاجمون الجيش . وعادوا من مكان المعركة حتى وصل إلى مقر الجيش مساء. واحتفلوا في تلك الليلة وفي الصباح أقيم الديوان وجاء الباشوات والأمراء صفوفا ولبسوا الخلع، وجاء كل من لديه معتقل أو أسير وأخذوا المكافآت كل حسب وضعه ومكانته. وضربت رقاب جميع الأسرى فبلغ عددهم حتى المساء ألفا وسبعمائة . وفي اليوم التالي اجتمع الأمراء والباشوات وتشاوروا واتفقوا على أهمية الهجوم على بغداد وفي اليوم التالي وبينما نادى المنادي بالتحرك جاء الخبر بامتناع سكبان الإنكشارية عن التحرك بتحريض من بستان باشا مالم ينل كل واحد منهم عشرة قروش. وكان عدد سكبان الانكشارية لدى الباشوات جميعا حوالي ثمانية آلاف. فوعدهم حافظ في حالة الاستيلاء على بغداد بالعطايا وقادة كتائبهم بالإقطاع . فلم يقتنعوا وأبرزوا كتاب بكر صوباشى يعد فيه بعشرة قروش . وأخيرا رضوا بخمسة قروش . وفي اليوم التالي توفي سليمان باشا.
(نزول حافظ باشا بحوالي بغداد ودفع بكر صوباشي)
وفي اليوم الرابع وبعد أن نال السكبان مكافآتهم المقررة رحلوا حتى وصلوا أق شرعي وتشاوروا هناك . وكان الرأي أن يجتازوا دجلة ويحاصروا من جهة قلعة الطيور . فاجتازوا النهر ونزلوا أمام الإمام موسى . فقد وصلت العساكر المنهزمة إلى بغداد، فأغلق بكر صوباشى الأبواب وأتخذ الاستعدادات اللازمة ،وأرسل أحد رجاله واسمه عنايت إلى الشاه عباس بطلب المدد ، ووعده بإعطاء بغداد. فاغتنم الشاه هذه الفرصة ، وبدأ بإرسال قرجغاي كبير الخانات مع حوالي ثلاثين ألفا من العدو إلى جهة شهربان على أن يلحق الشاه بهم بعد ذلك. وأرسل الشاه عباس تاجا مع سفير له. وبينما كان العساكر على وشك الحصار جاء السفير ، فاستقبله حافظ باشا . وورد في رسالة بكر صوباشى : إنه لاذنب لي بما حصل ، فقد غدروا بي بينما كنت في مهمة بخدمة السلطان. فالرجاء منكم ألا تسعوا لإعطاء بغداد للعدو ، فأرسلوا واليا سفيرا ، ونحن مستعدون لاستقباله. " فاستشار حافظ باشا من حوله من الحاضرين وقال: ماذا تقولون. فبادر بستان باشا إلى سيفه ، عندئذ نهض حسين باشا الأعور وقال:" الزم أدبك ،فالسيف لا يشهر على السفير " وقام الجميع واقفين ثم جلسوا وانفض المجلس . وفي اليوم التالي عقد مجلس آخر ، وجاء السفير ليبلغ بالخبر أن بكر صوباشي لن يقبل واليا . وأنه إذا كان جائزا إعطاءه الولاية فأعطوه. ومر ذلك اليوم. وفي اليوم التالي شاع الخبر بوصول السفير والتاج من شاه العجم إلى بغداد . وجاء السفير المذكور إلى حافظ باشا وقدم رسالة قرجغاي خان . وفيها أن بكر خان لازال في حماية الشاه ، ويطلب عدم الإخلال بالصلح ، والرحيل عن بغداد ، وإلا فإن الصلح يفسد . فرد حافظ باشا قائلا:" لسنا في بلادهم . لقد تمرد أحد أتباع السلطان فجئنا لتأديبه فلماذا يفسد الصلح . قال السفير:" لقد احتمى بكر صوباشى بالشاه . وإذا احتمى طير بشجرة حمته." فأجاب حافظ باشا:" الطير لازال في قفصنا، فإذا تخلص ووصل إلى شجرتكم فاحموه ، ولن نطالبكم به" فقال السفير: " القول الفصل هو أن ترحلوا وإلا فإن قرجغاي خان عازم على قتالكم بثلاثين ألفا من القزلباش. ، وهو الآن في شهربان" أجاب الباشا:" إذا أخلوا بالصلح فالعثمانيون ليسو عاجزين عن مقابلتهم وسيلقون جزاءهم " فقام السفير وعاد باتجاه الخان. وجاء جواسيس الشاه في الداخل ليخبروه بأن حوالي ثلاثمائة من القزلباش ذوي التيجان جاءوا يوم الجمعة وقالوا بأن السكة ستضرب باسم الشاه. فاحتار حافظ باشا فيما يفعل ، واستشار الباشوات ، واتفقوا جميعا على أن لا حل إلا بإسناد أمر ولاية بغداد إلى بكر صوباشى ، وجاؤوا بسفيره علي آغا وأبلغوه بما اتفقوا عليه. فوافقهم السفير على ذلك وطلب أن يكتب ذلك ، على أن يسبقه بالبشرى. فجمع خيمته وفر إلى الجانب الآخر . وكتب الأمر، وبحثوا عن السفير فلم يجدوا . ولما علموا بفراره ،فاغتم الباشا وبدا عليه الأسى وقال :" كان بإمكاننا أن نأخذ بغداد " فأعطى ولاية الرقة لبكر صوباشى وأعطى ابنه محمد (البلوك باشى) لواء الحلة وبعث سيد خان حاكم العمادية بهذا الأمر سفيرا إلى الداخل . فلما وصل استقبلوه وفتحوا له الأبواب . فلما دخل قام بالنصح قائلا:" ما الذي غرك من هذه الأيام المعدودة من عمرك حتى أوقعت كل هذه المصائب؟ فأجاب بأن الأمور بعد موته ستزداد سوءا. عندئذ قال سيد خان:" لقد أعطاك القائد لواء الرها ولولدك لواء الحلة . فما كان منه إلا أن نهض وافقا وأمر رجاله بطرده ، عندئذ تدخل الدفتردار عمر أفندي فتشفع له وأخذه إلى داره. فبعث من ورائه أمرا بإبقائه تحت المراقبة . فتقدمه عمر أفندي حتى أخرجه ، وحقيقة الحال أنه جاء إلى القائد بالسيف والقفطان وامره المقرر (؟) فسر حافظ باشا من حيث الصورة.
(تعيين بكر صوباشى على ولاية بغداد)
وجاء الخبر من الداخل أن المنادين أعلنوا بأن بغداد للشاه وأن بكر خان من أتباع الشاه. وأن السكة ضربت باسم الشاه . كما أعلن بأن من كان تابعا للشاه عباس فله البقاء ، ومن لم يكن كذلك فليرحل. ولما تأكد هذا الخبر شاور من معه ثم كتب أمر تعيين بكر صوباشى على ولاية بغداد وأرسله مع إبراهيم بك الصغير رئيس خربوت . ففتحوا له الأبواب وأدخلوه ، ثم أخذوه إلى بكر صوباشى ، فقدم له رسالة حافظ باشا، فقرأها وسر منها وورد في الرسالة :" لقد فوضنا أمر ولاية بغداد كي تبذل قصارى جهدك للحفاظ عليها وحمايتها على هدى وبصيرة. فأمر بكر صوباشى من ساعته باستدعاء القزلباش الثلاثمائة ، فلما جاءوا رمى التاج الذي أتوا به من الشاه وقال :" لقد عفا حضرة السلطان عن جرمنا وأعطانا ولاية بغداد ، فاذهبوا وبلغوا شاهكم بالأحوال ، وليحذر من إرسال الجيش فإنه لا أمل لهم بالحياة ، وسيندم على ذلك . وأراد بعض القزلباش أن يقفوا في وجهه وقالوا كلاما سيئا ، فأمر بشق بطونهم وتعليقهم من أرجلهم على جدار القلعة ، وخرج الباقون. وفي ذلك اليوم نادى المنادي بأنه صار واليا على بغداد بأمر السلطان ،وأقيمت احتفالات عظيمة . وبعد التكريم البالغ لإبراهيم بك كلفه بإيصال رسائله إلى القائد وبعد الثناء عليه والدعاء للسلطان قال في رسالته :" كي أثق بما تفضلت به ، عليك أن تغادر إلى ديار بكر. فرحل الباشا في ذلك اليوم من مكانه ، وخيم في مشارف الإمام موسى .وأرسل بكر صوباشى مع أحد رجاله واسمه علي آغا المصري طنين من القطيفة وفرسين هدية . فقبل حافظ باشا الهدية وفي اليوم التالي غادر إلى جهة الموصل. ولما وصل القزلباش .. سنبين في السنة الآتية كيف جاء قرجغاى خان وبعده الشاه وكيف أخذوها .
سنة 1033 (استيلاء الشاه عباس علىبغداد)
ولما أخرجهم بكر صوباشى من بغداد غادروا على شكل جماعات وأبلغوا الخانات بما جرى . فقاموا بدورهم بإبلاغ ذلك للشاه فبقي هو في درتنك، وتوجه الخانات نحو بغداد. واستعد بكر صوباشى للحصار، فلما وصلوا أغلق الأبواب ، فعاد قرجغاي إلى ظاهر بغداد وأرسل سفيره إلى الداخل وأرسل معه كتابا سريا قال فيه:" لقد جاء رجالك في وقت سابق إلى الشاه قائلا إنك على استعداد لإعطائك بغداد . فكلفنا بهذا الأمر، فجئنا، حتى الجنود الذين جاؤوا لمحاربتك انهزموا أمامنا ، فتعال إلينا وسلم بغداد ، فرد الباشا في كتابه مع السفير :"مرحبا بكم، كونوا ضيوفنا هذه الليلة في الخارج وغدا نرد على الرسالة بإذن الله" فسر العجم من ذلك واستعدوا لاستضافة عطا خان . وفي اليوم التالي جاء رجل وقدم رسالة إلى قره خان، فأعطى الرسالة للكاتب . قال الكاتب أ أقرأه علنا؟ لأنها تبدو على غير العادة . وكتب فيها :" صحيح أننا طلبنا منكم المدد لكن سيدنا عفا عنا . لقد وفيتم بحق الجوار فجزاكم الله خيرا. ولكي لا تعودوا وأيديكم خالية فإنني أرسلت لكم عشرة أرتال من الإبل وعشرة آلاف قرش مصاريف السفر ،فتفهموا الأمر وعودوا وإلا فإنه محال علينا أن نعطيكم بغداد ولو جاء عشرة آلاف شاه ، ولم ترد في رسالته عبارة إن شاء الله. فأرسل الخان من يبلغه بتسليم القلعة مهددين إياه بأوخم العواقب وكان بكر باشا قد أعد المافع فأطلقها وقتل كثيرا من الإيرانيين ، فقلع الإيرانيون خيامهم ونزلوا في محل بعيد عن مرمى النيران وأبلغوا الشاه بالوضع. ومضى أربعة عشر يوما ولم يأت الخبر . ومن جانب آخر ، فإن رسالة بكر باشا وصلت إلى حافظ باشا وهو بالموصل ، وفيها :"إن قرجغاي خان جاء بثلاثين ألف جندي كما أرسلوا رسالة إلى الشاه ، فأنجدنا بالمؤن ، فأرسل الباشا مع عثمان آغا رئيس البوابين إلى بغداد عن طريق البادية كميات من المؤن ، فأوصل المذكور المؤن وعاد إلى الموصل . وبلغ الشاه ما أرسله الخانات فأعلن عن عزمه القيام بالهجوم على بغداد . وركب فرسه على عجل فلحقه رجاله وحاشيته وفي اليوم الرابع عشر وصل إلى بغداد وحاصرها في شوال السنة السابقة ، فكتب بكر صوباشي إلى القائد رسالة أخرى وأبلغه بمجيء الشاه، وهو بدوره أبلغ استنبول
(سفر حسين باشا إلى بغداد واستشهاد بحيلة الشاه)
ولما كان القائد مقيما في الموصل جاءته رسالة بكر صوباشى يقول فيها:" لا داعي للحزن ،يكفي أن ترسل إلينا باسم الوالي طبلا وصاحب علم ،كي يأتي ويدخل ، فيظنون بأن المدد قد وصل . وجاء الجواسيس إلى بغداد وأخبروا بأن عساكر إيران يبيتون للهجوم وأنهم تشاوروا فيما بينهم وقالوا طالما إن ذلك الطبل عندهم فلن ننتصر على بغداد ، وأنهم عينوا حوالي عشرين ألف جندي . وكان الجنود قد تفرقوا من حول الباشا ، ولما جاءت الرسالة الأخرى من بكر صوباشى بطلب إرسال حسين باشا الأعور والي الموصل، كلفه القائد بهذه المهمة وكافأ كل سكبان بعشرة قروش وأرسلهم مددا وفي اليوم التالي توجهوا إلى بغداد . وجاءت رسالة من متسلم ديار بكر والقاضي وفيها أن هناك احتمال بهجوم الأباظة على ديار بكر وطلب من القائد القدوم إلى ديار بكر. فغادر حافظ باشا الموصل متوجها إلى ماردين . وبينما كان حسين باشا في الطريق اعترضه قرجغاي خان بعدة آلاف من العدو فاحتمى الباشا بقيزيل خان وحاربهم وكان هذا الخان غير مسقوف على اليابسة بعيدا عن الشط ، فحفروا بئرا في وسطه فخرج منه ماء آسن . وطالت الاشتباكات بين الجانبين ،فأرسل جيش العدو سفيرا إلى الباشا طالبا التدخل لإتمام الصلح الذي اتفق عليه الطرفان في عهد السلطان عثمان. وكان حسين باشا شركسيا ومعروفا بين الناس لكنه كان أيضا طيب القلب لا يعرف الحيلة والكذب ، فغفل عن مكر العدو وظن أن ما يقولونه صحيح فأرسل محمد آغا رئيس الطباخين إلى الخارج وبعد يومين عاد رئيس الطباخين بكتاب أمان وسيف وقفطان من الشاه . وقد ورد في كتاب الأمان :" أماننا أمان ومرادنا إتمام الصلح ،إنك باشا عجوز، فكن وسيطا بيننا " فوثق الباشا بما يقوله وأرسل مع سفر غازي (؟) ما جاء إليه من تلك الهدايا إلى الموصل وكتب كتابا بهذا المفهوم وأعطاه لعلي بك رئيس الأدلاء ليسلمه إلى حافظ باشا . أدرك حافظ باشا الحيلة ، وأرسل إليه كتاب قال فيه:" حذار من مغادرة الخان ، فنحن سننجدك، أو بادر بالقتال ليلا كي تتمكن من الخروج والابتعاد عنهم " لكن المقدر كائن، فما أن وصل سفر غازي إلى الآبار المالحة حتى خرج إليه من الكمين حوالي مائة وخمسين من الأعداء ونهبوا أحماله وقتل من قتل وفر من فر إلى الصحراء وسقط سفر غازي أثناء القتال ، حتى إن الباشا خرج ووقف أمام قرجغاي خان وقال له بلهجة معاتبة " أينما كان عسكر الشاه وجدوا امامهم حسين باشا أليس هناك خان غيرك؟" فحبسه وعرض الأمر على الشاه فأرسل إليه الشاه أمرا شفويا أن اقطع رأسه وأرسله مع طبله وعلمه إلينا ، وكأني لا أعلم من الأمر شيئا. فنفذ قرجغاي أمر الشاه ولف رأس الباشا بثوب أحمر وأرسله مع عدد من رجاله الذين بقوا على قيد الحياة. فلما وصل الموكب إلى بغداد ، تظاهر الشاه بالغضب وقال :" كيف يجرؤ قرجغاي خان على قطع رأس هذا الغازي العجوز الذي أعطيناه الأمان؟ ، ثم أطلق سراح حوالي خمسة عشر من رجاله الذين بقوا أحياء . ووصل هذا الخبر السيء إلى حافظ باشا وهو في الطريق ، فاسترجع ودخل ماردين. وكان الجو شتاء باردا. وبعد أن مكث فيها أكثر من عشرين يوما جاءه كتاب من بكر باشا يطلب فيه إيصال المدد من استنبول ورد فيه " إن الشاه يحاصر بغداد ويقوم بهجمات كبيرة ، وقد فتح أربعة وخمسين أخدودا للتلغيم ، واستطعنا اكتشافها جميعا.ولن أنسحب من بغداد ، فاطلب المدد من الآستانة " فأكرم الباشا وفادة الرجال وألبسهم الخلع ، كما أرسل إلى الآستانة بتكرار طلب المدد ، ثم بعث إلى بكر صوباشي مع الرجال القادمين خبرا يفيد بأن الوزير الأعظم على وشك المجيء . ومكث في ماردين شهرين ينتظر الآستانة ولكن لم يظهر شيء. وأخيرا جاء الخبر بعودة باشا الأباظة إلى دياره.
( استيلاء شاه العجم على قلعة بغداد واستئصال أهل السنة )
لم يتمكن الشاه المحتال من الانتصار على القلعة بالمحاصرة والهجوم ،فأكد عجزه ويأسه، وأوشك على الرحيل محروما، ولكن ما لبث أن لجأ إلى الحيلة ، حيث استطاع اجتذاب درويش محمد بن بكر صوباشي بتوسط من بعض الروافض ـ وكان مكلفا بضبط الأمور الداخلية في القلعة، فوعده بحكم بغداد ، وكان هذا ساذجا وغافلا عن مكر الشاه وخداعه. فظن أنه صادق الوعد ،فأرسل أحد رجاله المدعو عباس إلى الشاه سرا من غير أن يعلم أبوه بذلك وأخذ منشور حكومة بغداد . وكان بكر صوباشى لابسا درعه يتفقد حماة القلعة بين الباب الأبيض وبرج العجم ،يشجعهم ويرفع معنوياتهم قائلا بأن الشاه سيرحل غدا ، وفي فجر اليوم الثاني من صفر دخلت من باب القلعة أعداد كبيرة من جنود العدو خلسة . وبدأت أصوات الناي والطبول فوق أسوار القلعة فطار صواب بكر صوباشى ، فاحتمى الناس في بيوتهم وقام جنود العدو بفتح الأبواب فدخلت أعداد كبيرة من الروافض . وأمروا مناديا ينادي بأن المدينة هي للشاه فعلى أهل المدينة والرعايا والمتعيشين أن يلزموا أماكنهم ولا يتحركوا، فلن يتعرض أحد لأي ضرر، فلهم الأمان من الشاه ، ولتفتح الأسواق والمتاجر ، ولن يصاب أحد من السنة أو الشيعة بأي أذى. عندئذ اطمأن الناس قليلا وساد السكون. ولما قبض على بكر صوباشى وجيء به إلى الشاه، وجد ابنه جالسا بجانب الشاه. قال الشاه معاتبا:" لماذا قمت بهذا العمل السيء؟" فأجاب:" لم أقم بأي عمل سيء ، بل إن ابن الزانية هذا هو الذي قام بالعمل السيء وأشار إلى ولده وصار يدعو عليه. فقال له ذلك الشقي:" لقد أعطيت عهدا بتسليم بغداد ولم تف بعهدك، فقمت أنا بتنفيذ العهد ، والآن قدم كل ما تملك من مال وخلص نفسك كي يعتقك الشاه . وأمر الشاه بحبسه. ومضت ثلاثة أيام لم يتعرض أحد فيها لأي أذى.وفي اليوم الرابع نادى المنادي بأن يأتي كل من كان يعمل لدى السلطان ويسجل نفسه جنديا لدى الشاه. ولما جاءوا جميعا، بدءوا أولا بتسجيل أسماء غير الجنود فسر الناس من ذلك فسجل الناس أسماءهم حتى دخل الليل. فأخذ الشاه الأسماء المسجلة ووزعها على الخانات وعين على كل أربعة أو خمسة رجلا من الأعداء كي يبحثوا عن أموالهم ويستخرجونها. وبأمر من الشاه بدأ كل واحد بتعذيب المأسورين عنده ، وأخذوا كل ما عندهم من أموال ، وقد مات بعضهم تحت التعذيب ، وصار بعضهم معوقا. وبعد ذلك أقعدوهم مطأطئي الرؤوس، فتقتلوا من كان سنيا بأمر من الشاه سود الله وجهه وأطلقوا سراح من كان شيعيا. وجاءوا بنوري أفندي قاضي بغداد ومحمد أفندي خطيب الجامع الكبير وعرضوا عليهما شتم الشيخين(أبي بكر وعمر) ، وقالوا :" تقدم أيها القاضي واشتم" وفكوا قيد يديه فتقدم القاضي وقال:" لعنة الله عليك وعلى كل من كان مثلك وكل من يتبعك أشد من الكفار وتلا ماتذكره من آيات وأحاديث تتعلق بصحابة رسول الله الأربعة. فأخذ الخبيث الغضب ، فأمر بثقب ذقن القاضي وتعليقه على نخلة. واشتكى الشيعة من الخطيب، فقال له الشاه :" اشتم كي أعفو عنك " فطلب الخطيب أن يفكوا قيده أولا، ثم صعد إلى مكان عال وبدأ يخطب كعادته، فاستشاط الشاه غضبا فأمر بتعليقه من رأسه بجانب القاضي وبعد ذلك أمر كل من يحمل بارودة بإطلاق النار عليهما فماتا شهيدين. ثم جيء ببكر باشا ، فأمر الشاه التعيس بإيقاد النار، وخلعت ملابسه وعرض على النار حتى بدأت شحوم جسمه تذوب كي يعترف بمكان أمواله، حتى اعترف بها جميعا . وكان ابنه يشرب الخمر وهو ينظر إلى أبيه. ثم وضعوه في قفص حديدي ، وعذبوه سبعة أيام بلياليها، فلما يئسوا من ماله ، أمر الشاه بوضعه في زورق وقاموا بطلاء أطراف الزورق بالنفط ،وأشعلوا فيه النار ودفعوه إلى مياه الشط فاحترق داخل الزورق أمام أعين الناس . أما ولده الذي كان يطمح بحكم بغداد فقد خذل ونكب ولقي جزاءه ، وأعطى الشاه حكم بغداد لصاري خان ، وأرسل رسائل وعد ووعيد للعربان والأكراد ودعاهم للطاعة. كما أرسل قرجغاي خان للهجوم على جهات ماردين ، فوصل إلى الوادي الأسود بنصيبين وبعث السرايا إلى المناطق المجاورة فسلب من عشيرة الشقاقي وحدها مائتي ألف غنم . واختارت قبيلة طيء العربية مائة من فرسانها فاعترضوا جيش العدو وأخذوا منهم مائتي ناقة ومثل هذا العدد من الخيول والبغال ودخلوا الصحراء ثم عادوا إلى بيوتهم قرب ماردين. فلما علم الشاه بذلك اغتم. وفي أول رجب قام بزيارة الإمام علي . أما حافظ باشا فقد علم بسقوط بغداد فغادر ماردين متوجها إلى ديار بكر ، وأبلغ الدار العلية بما جرى.
(مشاورات حافظ باشا حول محاصرة بغداد)
1035 وفي محرم نزلت العساكر المنصورة في صحراء كركوك واجتمع في خيمة القائد الباشوات والأمراء وضباط القطعات وتشاوروا فيما بينهم. قال حافظ باشا : " كان من الأفضل أن يذهب مراد باشا ويمنع الإيرانيين الموجودين في أطراف بغداد من دخول القلعة، لكنه فضل أن يجابه الجيش كله فقام صاروخان ومير فتاع مع سبعة أو ثمانية آلاف من الإيرانيين ودخلا بغداد. لا نملك المدافع اللازمة للمحاصرة ، والشاه سيخف للنجدة . ثم هل من المعقول التوجه إلى بغداد قبل الدخول في بلاد أحمد خان ابن جلوه خان والاستيلاء عليها والوصول إلى درنه ودرتنك والاستيلاء عليهما؟ " البعض رأى الأمر معقول والبعض الآخر لم يوافق على ذلك وتعددت الآراء وأخيرا قالوا " نتوجه مباشرة إلى بغداد ونحاصرها، إذ لا تقاس الحملة على بغداد على الحملات الأخرى ، وبغداد الآن في موسم الشتاء. أما في موسم الصيف فلا يمكن البقاء في بغداد لشدة حرارتها. ونحن مستعدون جميعا للتضحية بأرواحنا من أجل بغداد " فوافقهم حافظ باشا ، وتفرقوا على ذلك. وفي اليوم التالي جاء ثلاثة أو أربعة من العجم برسالة من أحمد خان ،يقول فيها إن بغداد بلادكم ، فلا تبدءوا أولا بتخريبها، بل أرسلوا سفيرا إلى الشاهواطلبوها منه بطريقة معقولة ، فلعله يعطيكم . وكان السفير القادم بياله بك فسألوه عن أحوال الشاه ، فقال إنه سيلاقيكم خلال عشرين يوما. وفي ذلك الوقت أرسل سليمان باشا والي الموصل لتأمين المؤن من الموصل كما كلف بستان باشا بحماية كركوك . وفي اليوم التالي رحل الجميع ، وفي اليوم العاشر من شهر صفر نزلوا قرب الإمام الأعظم. وقبض على عدد من الأعداء فضربت أعناقهم. وفي اليوم التالي رحلوا من هناك ونزلوا إلى الجهة الجنوبية من بغداد حيث يشتد جريان مياه الشط أمام البئر الأسود ،وظهرت أماكن المتاريس ، وبينما كانت المواكب تسير أطلقت المدافع من القلعة بينما كان الأراذل من جنودهم يهزءون بالقائد قائلين :" هذا هو المفتاح فخذه" . وفي تلك الليلة تم بناء مواقع ثلاثة مدافع وفي اليوم الثاني عشر دخلوا في المتاريس . حيث كانت على الشاطئ بعد برج العجم في اتجاه حي الباب الأبيض فدخل في هذه المتاريس كل من والي حلب مصطفى باشا بجانب الماء والوزير القبطان آغا الانكشارية قرب برج العجم. ودخل في المتاريس كل من محمد باشا الكورجي والي الروميلي والحاج إلياس باشا والي الأناضول ونوغاي باشا والي مرعش ومحمد باشا الطيار والي سيواس وحسين باشا الشركسي والي قرمان مع جنوده من السكبان. وأرسلوا الرجال إلى ديار بكر والبصرة مرة أخرى لإحضار المهمات ، وتم ضرب القلعة بتلك المدافع الثلاثة عدة أيام والواقع فإن أسوار بغداد لم تكن شديدة المتانة ،فضربة المدفع تهدمها، لكنهم كانوا يسدون الثغرات بزنابيل التمر فتصير محكمة. وكان حافظ باشا يقضي ليله ونهاره في المتاريس لبناء أبراج المدافع وحفر التراب والكشف عن الألغام ، وقد فتح باب العطاء للجنود ، وزاد في رعاية واستمالة الضباط والجنود.كما إن الجنود لم يألوا جهدا في العمل ليلا ونهارا . حيث يبقى في الليل ست كتائب يحرسون المتاريس، واستمرت هذه الحالة مدة شهرين كاملين استطاعوا فيها كشف اثنين وخمسين لغما وأبطلوها بالماء. وكان الشاه سود الله وجهه قد انتخب خيرة جنوده لحماية القلعة ،فكان الفدائيون منهم يصطفون على شاطئ النهر حتى البئر الأبيض يحاربون بالبواريد نهارا ويوقدون المشاعل في الأحياء بالليل ، ويرفعون أصوات النداء لا إله إلا الله.أما رعايا فيعملون على حفر التراب بحثا عن الألغام تحت الأرض. وقطعوا آلافا من أشجار النخيل الضخمة ودفعوها مع التراب إلى الخنادق . وكانوا يحولون دون سحبها وإزالتها . ولما صار الجيش في وضع صعب وتأكد من وصول مدد من مئات من الفرسان إلى القلعة ليلا من جهة الإمام الأعظم واستحالة المحاصرة التامة وتحقيق النصر ، أزال الخيام من منطقة الإمام الأعظم ، وتوجه إلى أسفل الشط ،فسدوا جانب البر وبذلك تحقق الحصار الكامل ، وأقاموا جسرا إلى الضفة الأخرى كما وضع عدد من الجنود في قلعة الطيور.
1035 (وصول بعض السفن والمدافع إلى البصرة)
وبعد يوم القتال جاء بكر آغا وعلي آغا البصريين مع عدة مئات من الرجال وبعض النجارين ولبسوا الخلع ونزلوا بحي الإمام الأعظم. وجاءت ثلاث سفن حربية من نوع غراب، فهي من طراز قدرغه لا أجنحة لها في نهايتها وقد رفعوا جدران السفن عالية وفتحوا ثقوب دهليز فهم يحركون المجاديف من هذه الثقوب وسواريها مثل القدرغة . وجاءوا بكميات وافرة من التمر وقالوا بأن مدافع كبيرة على وشك الوصول من البصرة . وذات يوم ذاع خبر قدوم العجم ، فخرجت الكتائب ونظمت صفوفها وانتظرت حتى المساء ولم يأت أحد، وتبين فيما بعد أن العجم بدلوا أماكنهم. وفي اليوم التالي عين مراد باشا على المدافع وقاموا بعملية عبور مدفع البصرة إلى هذه الضفة وهيئوا الذخائر ووضعوها أمامه . كما وضعت المدافع غير المرتدة التي جاءت من عاصمة الدولة على رؤوس الخاندق وسهل نقلها ووضعها في المتاريس ، فقد تشاور القادة وقالوا:" إذا نقلناها إلى المتاريس فستحتاج إلى آلاف الجنود ،وفضل الولاة أن تبقى هذه المدافع ضمن الجيش.
(رحلة عمر باشا لحماية الشط)
ولما جاء شاه الروافض إلى ضفاف ديالة، أرسل جنوده إلى المناطق المجاورة ،فاقتادوا جميع المهور والبهائم التي كانت ترعى هناك ، كما اتخذ التدابير لقطع طريق القوارب والذخائر القادمة عبر مياه دجلة والفرات .ولما امتد زمن الحصار أرسل العساكر خيولهم وبغالهم وجمالهم لترعى وبقوا مشاة في الخيام . إلا أن أرباب المناصب والمتعينين أبقوا في خيامهم بعض الخيول.وكانت هذه الخيول ترعى بعض الحشائش الصحراوية. وذات يوم جاء الخبر باستيلاء الروافض على القوارب القادمة من الموصل ، وبإغارتهم على اق شرعه ونهبهم المؤن ،فعادت باقي القوارب فوصلت إلى قزل خان. وأرسل حافظ باشا أحد أتباعه المسمى عمر باشا الأرناؤوطي لحماية تكريت ، فلقي جيش العدو وهو في الطريق ، فقاتلهم فغلب وفقد كل ما ملك والقافلة التي كانت معه ، فتوجه مع عدد من رجاله نحو الموصل . كما علم حافظ باشا بخبر نهب الروافض تسعة وعشرين قافلة تابعة للوزير الأعظم كانت متجهة لنقل المؤن من مزرعته ، وأنهم أغاروا على مرسى فلوجة على نهر مراد صو ونهبوا كل مافيها من مؤن ، عندئذ عين حافظ باشا علي آغا الخادم وكوجك أحمد على الضفة الأخرى كما أمر يعقوب الذي كان على رأس الجسر باشا بحماية تلك المنطقة.
(وصول سفير الشاه وجواب من القائد)
وفي هذه الأثناء جاء سفير من قبل الشاه ومعه رسالة يقول فيها:" لقد أخذت بغداد من يد رجل متمرد . وأرسلت إلى حضرة السلطان سفيرا ورسالة وطلبتها لابني . فإن لم يعطها فسنسلمها لكم ،فلا تتعبوا أنفسكم حاليا بالقتال والجدال." فرد حافظ باشا قائلا:" لازلت أنا الوكيل المطلق عن حضرة السلطان فجوابه عندنا ولا حاجة لإرسال كتاب إليه ، ولن نسحب يدنا اعتمادا على مثل هذه الأقوال" . وفي هذه الأثناء هبت رياح شديدة ، فكسر الجسر واستمر هبوب الرياح لليوم التالي فامتلأت الخيام بالغبار والرمال بحيث لم يعد يرى أحد أحدا والتزم الجميع خيامهم وتوجه خسرو آغا نحو الجسر وجاء الجنود لسحب السفن الموجودة على الضفتين وربطها ، فهبت رياح شديدة وكانت هناك ثلاث سفن وفيها خسروا آغا ويعقوب باشا فسارت مسرعة نحو بغداد ، وصار الناس يقذفون بأنفسهم في الماء ويربطون هذه السفن ويسحبونها بمساعدة الرياح إلى الضفة الأخرى . ولما هدأت الرياح ربطوا الجسر بصعوبة بالغة.
( المعركة الثانية)
ولما ورد الخبر بعزم الروافض على وضع الذخائر في قلعة الطيور ، فأمر الباشا بأن يتوجه العزاب( رماة البحرية) لحمايتها . كما أرسل إلى كوجك أحمد وحسن باشا والي قرمان يستدعيهم . وبينما هم كذلك ظهرت كتائب العدو وهاجمت من ثلاث جهات. فعين حافظ باشا مساعده على الجيش وخرج مع بعض الكتائب . وتقابل الجانبان وقت الظهر فنصب الشاه عريشة فوقه ومكث نصف ساعة . وكان العدو قد ظهر من الضفة الأخرى أيضا. فلما جاء الخبر بتراجعه اجتاز حسن باشا إلى هذه الضفة وهاجم جيش الروافض كما اشترك الباشا الكورجي والي الروميلي في القتال ، ودوت أصوات المدافع والرصاص ، فتراجع جيش الروافض خطوة فخطوة إلى الوراء وعادت من حيث أتت . وبقيت الكتائب في أماكنها حتى المساء ثم عادت إلى خيامها وفي اليوم التالي وبينما كان حافظ باشا وعثمان زاده رئيس بولى عائدين من زيارة الإمام الأعظم أطلق عليه مدفع فسقط شهيدا. وفي الليل تسلل إلى متاريس مصطفى باشا حوالي خمسين من الروافض ، وقتل أكثر وفر الباقون إلى داخل القلعة. وفي هذه الأثناء جاء مراد باشا إلى حافظ وصار يقول "سأحرق القلعة بزيت النفط وأستولي عليها" وغير ذلك من الكلام الجزاف ، فأخذ شيئا من النفط من المستودع وأدخل الجنود في الخنادق فحفروا أسفر السور وصبوا على الجدران النفط ثم أشعلوا النار ، فأضاءت السور ، فأطلقوا الرصاص على الروافض وقتلوا منهم مائة. وانسحب الباقون، وظهرت ثمرة الجنون وفي اليوم التالي خرج الباشا بكباشى اوغلى من خيمة الوزير الأعظم فأصابته طلقة مدفع وهو يمهم ركوب فرسه فسقط شهيدا. وذات مرة أعدوا سلالم وتطوع أكثر من ألف للصعود من هذه السلالم وفي الليل نصبوا عددا من السلالم على جدران القلعة وبينما هم كذلك أحس بهم العدو فأوقدوا المشاعل وهجموا على ذلك المكان وأمطروا كل من كان في الخندق بوابل من الرصاص فاستشهد الرئيس وحوالي ثلاثين من الجنود.
(إمداد الشاه المحاصرين بالمؤن)
وذات يوم كان خسروا آغا في خيمة الوزير الأعظم داخل المتاريس جاء أحد جنود الإنكشارية بحمامة ووضعها أمامه. وقد ربطت في أحد جناحيها ورقة .قال الجندي بأن الحمامة حطت فوق عمود الراية في المتاريس .فضوا الورقة وإذا بها رسالة وفيها:" جاءني منك أن في الداخل شح في المؤن . وأريد أن أرسل المؤن في عدد من السفن من الجهة الأخرى." والرسالة مختومة بختم الشاه. وعاد الرجال الذين أرسلوا للسفن( الغراب) وأخبروا بأنهم لم يتمكنوا من اللحاق بها . وقد نصب مدفعان من المدافع المرسلة من عاصمة الدولة على ضفة الشط . وفي الليل تم القبض على أربعة سفن في كل سفينة ثلاثة أو أربعة من الرجال ، فجيء بهم إلى الباشا ولما سئلوا أجابوا بأن شيخ الشاه دعي من قبل الشاه لزيارة الإمام الرضا ولما كنا في الطريق إليه قبض علينا وتمكن هو من الهرب. وأمر الباشا بقتلهم. وبعد يومين جاء حوالي ألف وخمسمائة من العدو أرسلهم الشاه حاملين خلفهم المؤن وليأخذوا معهم ثلاث سفن لتحمل المؤن من الضفة الأخرى . والحقيقة أن تلط المناطق كانت تعاني من المحل. المحاصرين في الداخل نضبت عندهم المؤن فصاروا يأكلون أوراق النخل ، حتى إن أشجار النخل صارت عارية . ومن جهة أخرى خرج كل من حسن باشا والانكشاري الفدائي المعروف بقره أوغلان ومعهما سبعمائة وخمسون من الجنود إلى البر ولما لحق بهم مراد باشا كان الروافض قد أدخلوا بعض المؤن ووقع وقت الظهر قتال شديد سقط فيه بعض الرجال وتم الاستيلاء على قسم من المؤن واستطاع العدو أخذ الباقي.
(المعركة الثالثة بين الشاه عباس والعثمانيين)
وفي آخر شعبان شاع الخبر بأن الروافض قادمون للقتال فإما لهم وإما عليهم. وفي اليوم الثاني عشر من رمضان تحرك جنود الشاه من شرقي بغداد وبعض الروافض من غربيها فنادى آمروا القطعات بأن يتسعد الجميع فعين يعقوب باشا على المدافع الخمسة على رأس الجسر وحسن باشا وكوجك أحمد على الضفة الأخرى وقبل طلوع الفجر تحركت قوات العدو من ضفة الشط في اتجاه قوات الروميلي ولما أسفر الصباح كان محمد باشا الكورجي قد شعر بالضيق والحاجة إلى المدد. فلما وصل طلب المدد نفخ في البوق فخرجت الطوابير جميعا ووقف جنود المشاة بجانب الخندق صفوفا وقد كنت أنا كاتب هذه الحروف خلف طوابير الانكشارية فوق قلة مرتفعة . وكان خلف الوزير الأعظم فرق الفرسان وعلى يمينه السلحدار. وخرج محمد الرومي وغيرهم وغيرهم مع عدد من الفرسان ونظموا كتيبة ولم يبق في الكتائب الأخرى مايحملهم من خيول أو حمير وكان الولاة في حالة من الحزن. ولكن عدد الجنود الذين اصطفوا فوق أتربة الخنادق وأمامها كان وافرا . وقد وقف خلفهم الفرسان القادمون من المناطق المجاورة . وأما المدافع التي أطلقها العجم فقد كانت بعيدة لكنها كانت تمر من فوقنا حتى تصل إلى الكتائب القادمة من المناطق وحدث مناوشات واشتباكات في المواقع الأمامية ولكن ما إن حان وقت الظهر حتى توقفت . وخرج من الباب الأبيض بعض الأعداء وأخذوا وضعية القتال فأفرز لهم (صاغ علوفة وصول علوفة) . أما الشاه فقد أقيمت له عريشة فكان يشرب من الكؤوس الذهبية. ومن هذه الجهة صار العزاب يحرضون الباشا على الخروج من الخنادق ليلقنوا الشاه درسا ويعرفوه نفسه. فرد عليهم حافظ باشا قائلا:" إنكم لاتعرفون شيئا، فالزموا اماكنكم ، فقد بسحبكم العدو إلى الفلاة فلا تستطيعون مجاراته . فنحن نبقى في أماكننا نقاتله إذا هاجمنا. وأخيرا تقدموا بعض المسافات حتى بقيت بين الكتيبة والخندق رمية سهم. وكلما تقدم هؤلاء تراجع العدو. حتى إذا وصلوا إلى الساحة تقدم العدو من جهة الإمام الأعظم مستهدفا المنطقة الكائنة بين الماء والخندق. ووقعت الاشتباكات في ثلاثة أماكن حتى صرنا نرى كثيرا من الخيول تجوب ميدان القتال من غير أن يكون عليها أحد. وبعد ذلك دفع مراد باشا برماته نحو تلة معتقدا بأن العدو قد انهزم. وأمر حافظ باشا أتباعه بالاستعداد وتلقيم المدافع ، وفي هذه الأثناء عادت قوات العدو فجأة ودفع بسبعة آلاف من الروافض حاملي السيوف كالقطيع ، عندئذ تصاعد غبار بأمر الله فلم يعد أحد يرى أمامه، وأعملت السيوف في رماة مراد باشا ، ثم جاء دور قوات سيواس فاندحروا أيضا واستشهد أحمد آغا مساعد الباشا واختلط الفرسان ببعضهم حتى إذا صار أمام الخندق أمطرهم المشاة المتمركزين في الخنادق بوابل من السهام والحجارة. وقتل عدد من جنود العدو . والحصل لم يبق عند القائد من العساكر سوى عدد ضئيل من حاملي الرايات والخدم وأغوات الانكشارية. لكن تصاعد الغبار حماهم من سيوف العدو، فتراجع الشاه معتقدا بأنهم انهزموا. ولما رأى العساكر الرايات والقائد بين الغبار عادوا إلى أماكنهم وانقشع الغبار وانسحب العدو بعيدا. وكان صوت حافظ باشا قد بح من شدة النداء وبيده القوس والسهم. وبلطف الله تعالى حال الغبار دون رؤية العدو انهزام العسكر. وإلا لكانت الحالة سيئة. وقد قتل في هذه المعركة الكثير من الجانبين، وبعد الظهر عادت القوات إلى خيامها.
وصول العجم إلى بغداد
وفي يوم السبت الثاني من شوال عبر جنود العجم نهر دجلة وهاجموا فوق جسر الإمام موسى ، وحدثت معارك شديدة وجرح في هذه المعارك يعقوب باشا والي الموصل وتقدم حوالي خمسمائة من الأعداء مردفين نحو قلعة الطيور وزودوها بالمؤن من الزوارق وقت الظهر وعلى الملأ. وكانت المدافعى تطلق نيرانها من الأطراف لكنها لم تصبهم وبعد أن أتموا عملهم عادوا . وقد تألم العسكر من هذا الوضع كثيرا.
وصول سفير الشاه
وبعد هذا قدم إلى والي الروميلي سفير من الشاه،ومعه رسالة إلى القائد. ولما سأله الوالي عن الهدف من الرسالة ، أجاب السفير :" إن الشاه يطلب منكم رجلا كبير السن كي يكون وسيطا ، يتشاور مع الجانبين فيما يوافق المصلحة ولم اتفق الجميع على أنه لاضرر من إرسال مثل هذا الوسيط .فأرسل الوزير الأعظم سلام شاويش ومن الفرسان رئيس الملازمين إبراهيم الأدرنوي وعادوا إلى حرب القلاع من جديد .وبعد عدة أيام جاء رجل من العجم ليخبر بقدوم سفير مهم اسمه توخته خان. فنصبوا الخيام قبالة خيمة القيادة . وفي ذلك اليوم توفي مصطفى باشا والي حلب وعين مكانه نوغاي باشا وأعطيت مرعش لزور باشا . وفي اليوم التالي جاء سلام شاويش وتوختمش خان ، وبعد يومين عقد الاجتماع وبعد ساعتين من الاجتماع خرج الوزير ووقف أركان الديوان وحيا الشاويش . ولما جلسوا جاء السفير وقبل اليد وحياه ، ثم قدم رسالة الشاه فوضع الوزير الرسالة على المخدة وقال للسفير أنت اليوم ضيفي وغدا نتحادث. وأذن له بالانصراف (وفيها) لقد هلكت الرعايا، فما الباعث على النزاع بين أمتي محمد ،لقد أخذت بغداد من متمرد. أرجو من أخي السلطان منحه لإبني. لقد وكلت توخته خان في كل شيء.فكر الوزير الأعظم ثم قال:" لقد وكلك الشاه فماذا تقول؟ أجاب:" لقد جئت لأصالح الطرفين، لأن الصلح خير" فقال الباشا:" على أي شيء يكون الصلح؟ لقد قال لي حضرة السلطان بأن الشاه قدم لزيارة الإمام علي، فكن وكيلي في القيام بزيارة الشيخ صفي. فالصلح لايكون إلا بعد أن تعطوا الولايات التي أخذتموها. أجاب توخته:" والله إنني لم آت كي أعطي قلعة. فقد أرسلني الشاه كي نرجو السلطان بإعطاء بغداد لولده. عندئذ قال حافظ باشا:" إن سلطاننا هو سلطان القبلتين مكة والمدينة ، فهو أكبر من كل السلاطين، وأنا وكيله ، فما أقوله مقبول لديه. وما قلته أنت ليس بالكلام المقبول ، فإذا كان لديك قول آخر فقل . عندئذ تحدث أعيان الجيش الذين كانوا في الاجتماع فقالوا ،لن نتنازل عن هذه القلعة طالما أن فينا عرق ينبض . فإذا أعطيت القلعة فبها وإلا فعد من حيث أتيت، فإننا لسنا مستعدين لسماع الحكايات منك. ولانريد منك أن تذكرنا بين حين وآخر بأنك سفير . فإذا كان هناك ماتعمله فاعمل. فأجاب توخته خان:" لست كسائر السفراء. ، لم آت لأعطي القلعة. لنرسل إلى الشاه رجلا اليوم أو غدا، ثم نتحادث على أساس مايرد من الشاه من جواب." وانفض الاجتماع بعد ذلك. وكان العساكر مشاة، والقحط والجوع سائدان في الداخل والخارج. ولما جاء مبعوث السفير جاء معه بفواكه وافرة . واجتمع الأعيان والأركان بالسفير مرة أخرى. وافتتح الوزير الأعظم الجلسة. وبعد أن رحب بتوخته خان قال:
- إن كان عندك كاتقوله فقل، وإلا فإننا لن نتنازل عن بغداد . قال السفير:
-" إذا أهدى الأخ لأخيه شيئا أفلا يقابله بشيء؟
-" بلى" عندئذ قال السفير:" إذا أعطيناكم بغداد فما تعطونا؟
- ماذا نعطيكم ؟ إن بغداد هي لنا. ولن نعطيها بمال الدنيا. فأعطونا مال الدنيا، أعطونا مقابلها تربة الإمام علي . وشدد على قوله:" مستعدون للتضحية بألف رأس في سبيل حجرة من أحجارها ، إننا نطلب بغداد من أجلها. "
قال السفير:" ننسحب من بغداد ، على أن تعطونا الإمام علي والحلة وميناء فلوجه أو بالأحرى الضفة الأخرى من الماء . فهذا هو الممكن. أما غير ذلك فتعرفونه أنتم. . فأجاب الوزير:" حسنا، إن رضيت أنا بذلك فلن يرض العساكر . وانفض الاجتماع. وبعد ذلك دعا الوزير خسرو آغا وسائر الأركان للتشاور معهم ومعرفة رأيهم فيما يقول السفير . قال الآغا إن العساكر في حالة سيئة . إن لنا خطة فإذا اكتملت فسننظر ، فاطلب مهلة، وبعد المهلة إذا كانت الحرب فبها وإلا فليكن مايكون.
البحث في أحوال الصلح
وفي اليوم التالي دعي السفير للإجتماع . قال الوزير:" إذا أعطيناكم الإمام علي والجانب الآخر ، فإن أصحاب الأملاك والمزارع لايعطونكم ، فماذا تقولون؟ " أجاب توخته خان:" ليحكم كل واحد في مكانه وليأخذ منهم حق الفروسية " عندئذ قال الوزير:" ياصاحب السعادة! فإذا أعطيت تلك الأماكن نتيجة الصلح فلا يمكن لأحد أن يتدخل ملكه ومكانه. ولايستطيع عثماني أن يدخل إلى هناك. إذا أردنا نحن فسنبني قلعة فماذا تفعل؟ " عندئذ تخلى السفير عن ذلك ورضي بالإمام علي والحلة والجوازر والفلوجة. وأبلغ بأنه سيرسل رسالة بهذا الصدد إلى الشاه . وفي اليوم التالي ذهب مبعوثه إلى الشاه. ثم جاء خبر من الشاه يطلب رجلا عاقلا. فأرسل مصطفى آغا شاويش السلام.
(ظهور أثر سحر وغرايم)
وفي هذه الأثناء دعا الباشا توخته خان إلى عشاء. وقال له:" إن العثمانيين لن يتركوا بغداد لكم. فإذا أخليتموها بواسطتي فإني سأرعاك بصورة غير عادية. " أجاب توخته خان:" لتكتب العهود بذلك، فإذا جاء مصطفى شاويش فإننا سنخلي بغداد ، ولكن أرجو ألا يصاب أحد من الجنود الخارجين منها بأي ضرر " ثم خرج واتجه نحو خيمته. وفي صباح اليوم التالي عثر حول خيمة الباشا على قطع من الأوراق على شكل مثلثات بقدر قطع النقود وكتبت عليها بعض الطلاسم ، فقيل بأنها سحر فأحرقت.
(ثورة العساكر)
وفي الصباح التالي ثار الجنود لعدم وجود أي نوع من الطعام في الجيش ونفوق الخيول والحمير. وتوجهوا إلى خيمة القيادة ، فهدموا الخيمة وقبضوا على الوزير بعد اتهامه بالاتفاق مع الأعداء ، وأرسلوه للسجن في قلعة الإمام الأعظم. وكان السفير وأتباعه من الأعداء يتفرجون على مايحدث. ولما قال أتباع مراد باشا:" خذوا العلم الشريف إلى خيمة مراد باشا، وليكن مراد باشا هو الوزير الأعظم، قام العلمدار عثمان آغا وتمسك بالعلم وقال ما من أحد غير السلطان له القدرة على عزل الوزير هذه الخيمة هي السلطان ، والعلم لايغادر هذا المكان مادمت حيا. ومن يكون وزيرا يأت إليه، وأخذوه خارجا. وخلال المشادة سرقوا سيف السفير وفرسه وأوقعوه ، ثم أخذوه إلى خيمته. وبينما كان الوزير الأعظم ذاهبا تقدم بعض كبار السن(ضوربة) وقالوا إن قائدنا هو وكيل السلطان ، فكيف نحبسه وجنود الشاه بين ظهرانينا ، فلو هجم العدو علينا فلا قائد لنا ، فمن يجيب على ذلك، فمنعوا بعضهم بعضا وعادوا أدراجهم. ونصبوا خيمة وأنزلوا الباشا من فرسه . سألهم الباشا:" أيها الرفاق ماذا تريدون؟ أين الذين قالوا لن نتنازل عن بغداد حتى الموت؟ عندئذ صرخ الجميع:"لقد انقطعت طرق الإمدادات، ولم نعد نثوى على البقاء. فأجر استعدادك كي نذهب" قال الباشا:" ننتظر قدوم سفيرنا من عند الشاه وننظر ماذا جرى ثم نذهب بعد يوم أو يومين. وحتى جنود الانكشارية في المتاريس قد مرض أكثرهم وأصيبوا بألم في أرجلهم. ولما سأل حافظ باشا توخته خان عن مصير مصطفى شاويش . أجاب السفير: ولماذا تسأل ؟ وصار يقول:" إن كان لكم سيوف ،تأخذون بغداد وإلا فعليكم استعطاف العدو كي لايصيبونكم بأذى، فارحلوا "
(حركة الجنود وحادثة اللغم)
كان واضحا أن الشكوك دبت في الجنود، وأنه لم يعد هناك مجال للبقاء. وفي اليوم الثالث من الحادثة ، تقرر الرحيل، وفي يوم الخميس السابع من شوال دعا حافظ باشا آغا الانكشارية ، وسأله عن لغم الانكشارية في المتاريس ، فأجاب بأنه تم وضع أكثر من ثلاثمائة كيسة من البارود ،واكتمل اللغم . فإذا أصبح الصباح ، وحصل أي شيء ، وإذا كان الأمر مقدرا فليكن وإن لم يكن مقدر بالأمر لله ،ثم جمع الوزير الأعظم أتباعه ووضعهم في التاريس وانتظر الصباح. وفي اليوم التالي خرج الجنود من خيامهم ، وقام البعض بإحراق هذه الخيام وتركها البعض الآخر، وأخذ كل واحد عصا وبينما هم ذاهبون طلب منهم بعض الضباط السير ثم التوقف ، فوقف عدد من الفرسان حاملي الرايات قبالة القلعة ، وكان الانكشارية قد خرجوا من المتاريس ودخل رماة الباشا ولما وصلوا في الصباح إلى البارود ،كان هناك كيس من البارود أمام الباب من غير أن يشعر به أحد فاشتعلت فيه النيران فخرب باب اللغم وانفجر على الملغمين فهلكوا ، وظهرت نار عظيمة على جدار القلعة وصعدت نحو السماء. وغطى المنطقة سحاب من الدخان فلم يتضرر منه أحد ، حتى إن الوزير قال الحكم لله، وترك المتاريس مع رجاله وخرجوا جميعا. وأمر بالرحيل. ونهب (كيلا زور خائري) وأحرقوا ماثقل وزنه وسحبوا المدافع إلى الخيام ونقلوا مافي الخيام إلى الإمام الأعظم وبعد أن وصل جميع عساكر الإسلام إلى الإمام الأعظم ، وصل الوزير الأعظم إلى خيمة القيادة ليلا. واضطر أكثر جنود الانكشارية للبقاء في الإمام الأعظم بسبب آلام أقدامهم .
(توجه العسلكر إلى جهة الموصل)
وفي يوم الجمعة عسكر الجنود في الإمام الأعظم وانكسربعض المدافع غير المرتدة ، وكان بين هذه المدافع مدفع ششخانه السلطان سليمان خلف خيمة القيادة ذو فوهة طويلة يساوي وزنه ذهبا. فدفنوه ، فعثر عليه الشاه فيما بعد ونقله إلى إصفهان. وفي هذه الأثناء وردت الأخبار بهجوم سيد خان الأعور مع عدد من رجاله وتجاوز الحد فجاء به الوزير الأعظم وقطع رأسه. وفي يوم السبت رحلوا مشاة متكئين على العصي، مقتاتين الأشواك بجانب الماء ، وتأخر واليا الروميلي وسيواس وجاؤوا بتوخته خان معهم وفي الإمام الأعظم ظهر العجم فساعدوهم وعاملوهم معاملة حسنة عدة أيام.
(جواب الشاه عباس)
ولما وصل مصطفى الشاويش إلى الشاه وأبلغ بواقع الحال، أكرمه الشاه ، وقال له:" سأزود غدا بالرسائل فتذهب بها. وكان اليوم التالي هو الخامس من شوال. فأعطاه الرسالة مع بعض الهدايا. وورد في الرسالة أن الصلح مقبول على النحو المتفق عليه بحيث لن يتعرض أحد من العساكر الخارجين لأي أذى وقد أمرتهم بأن يجتازوا الماء ويأتوا إلي. ولما ركب الشاويش فرسه ورحل ، أرسلوا إليه من يخبره بأن الشاه يريده ، فلما وصل قال له الشاه إن هناك أمورا سأضيفها إلى الرسالة. فأخذها الشاه ومزقها. ثم قال له: يامصطفى آغا لقد رفع القائد حصاره عن بغداد ورحل ، ولا يليق بنا أن نعطي القلعة للعساكر الراحلين ، فأبلغ هذا كل من تلقاه ، ثم أرسله. وبعد ذلك جاء الشاه وخيم في جهة قره كو قبو فلما وصل الشاويش إلى حيث الجيش بكى وقال لقد صبرتم كل هذا ، ألم يكن بوسعكم أن تصبروا يومين آخرين؟ فأجابه الباشا بأن المقدر كان ، وأن أثر السحر قد بان.
(تتمة التوجه)
وفي المرحلة الثانية، أرسل الشاه رجلا يطلب توخته خان. فأرفقه الوزير بمصطفى آغا مع كافة الأسرى العجم. وفي المرحلة الثالثة توقف الوزير الأعظم لظهور كتائب العدو من الخلف وأخذ الاستعداد للقتال وشكل الفرسان رتلا ، فانحاز القزلباش وعادوا. وفي الليل ، تناوب الحراس ،وظهر فيما بعد أنهم أرادوا غارة ليليلة ،فلم يجدوا الفرصة لذلك. وفي اليوم التالي، وصل خبر إلى الوزير الأعظم ،بأن العدو أرسل قواته نحو والي الروميلي ، فأرسل إلى مراد باشا أمرا بالتخلف وانتظار محمد باشا لكن مراد باشا لم يطع الأمر فاتجه إلى المنزل (المرحلة) وكان ذلك المنزل صعبا فهو جزء متفرع من الشط على شكل خندق يمتد حتى الصحراء . حيث قام عسكر العجم بالتقدم خلف الجيش فنزل الجيش بعد الخندق وأمر الوزير الأعظم بأن تأخذ التشكيلات أماكنها بشكل نظامي ، وقدموا سبعة مدافع واجتزوا الخندق إلى هذه الجهة وبدأوا بالقتال . وباشر القتال عدد من المشاة ، فوجد العساكر الإيرانيون القوة فيهم مع ضعفهم ، ولما هاجم حسن باشا وانطلقت المدافع فر العدو إلى الخلف وتفرق. وأسر خمسة عشر منهم، ولم يصب أحد من الجيش . ولم يجرؤ الإيرانيون على الهجوم مرة أخرى ، فعادوا أدراجهم. ولدى الوصول إلى المرحلة التالية، دعا الوزير الأعظم مراد باشا ،فجاء إليه قائلا إن الأمر للسلطان، فوثبوا إليه وقطعوا رأسه. ، وأسندت ولاية ديار بكر إلى رئيس البوابين خسروا آغا. ولدى الوصول إلى قزلخان، تقدم العساكر آملا في الحصول على بعض المؤن وتبين أن العرب نهبوها . وهناك تركت المدافع وكل شيء ثقيل. وكانت أوقية البكسمات بعشرة قروش والشعير....... وتساقط أكثر العساكر في الطريق من شدة الجوع، فكانوا يأكلون الخيول التي لا تقوى على السير ، كما يأكلون ثمرات بعض الأشجار الشوكية مع إنها لم يكن أكلها مألوفا. ولم يذق بعضهم الطعام عشرة أيام وبعضهم عشرين يوما والكتفى بالماء. ولم يحدث في التاريخ أن لقي الجيش الإسلام مشقة مثل هذه المشقة. فبعد تسعة شهور من الحصار ضاعت كل المدافع والذخائر ، وعاد الجنود وهم في أسوأ حال يلوذون بالأنهار حتى اجتازوا ماء الذهب على أرجلهم ولما وصلوا إلى ماء الزاب قام العساكر الفرسان بتحميل العساكر المشاة واجتياز النهر. وبعد استراحة يوم وصلت المؤن من المناطق المجاورة وسرت الدماء في عروق الجنود بعض الشيء ثم رحلوا حتى إذا وصلوا إلى الموصل ، ووزعت الرواتب للعساكر العتقاء من الأموال التي جاءت إليها، وقتلت طائفة العتقاء ملازم الفرسان مره حسين . وأعطى الوزير الأعظم لبكر آغا القادم من البصرة ولاية الموصل. وعين حسن باشا الشركسي لمحافظة الموصل وكلف الملازمين بالخدمة في الشيخ أزول، وأجاز للعسكر في ديار بكر ، وكلف محمد باشا بولاية الشام وعين مكانه سليمان باشا وأرسل تقرير بواقع الحال إلى عاصمة الدولة مع علي آغا الخادم ولما وصل إلى هناك دعي علي آغا لمقابلة السلطان وسئل عن حقيقة الحال وبعد الاطلاع على الحقيقة، أمر بإرسال الخلع مع الخط الهمايوني للباشا بأن يقضي الشتاء في حلب. فلما وصل الأمر الهمايوني أقام بضعة أيام في ديار بكر ثم توجه إلى حلب. وبعد طي المراحل دخل المدينة واستقر الأعيان والأركان فيها. وقد نقلنا عن حملة بغداد بصورة إجمالية بالقدر الذي شاهدناه. أما التفصيل فيه فيحتاج إلى كتاب مستقل. لكننا اختصرناه بهذا القدر. وحاصل الأمر أن عساكر الإسلام خلال تسعة شهور ردوا على الشاه ، كما قاموا بمحاصرة القلعة ، فلو لم تنقطع المؤن لما تأخروا في أخذها . وبالرغم من حالة الضعف هذه ، فقد جاء الشاه وبذل جهده ، حتى استبد به اليأس من القلعة . ومع ذلك فقد استطاع أكثر العساكر العودة بوسيلة من الوسائل ، وتفرق الجنود هنا وهناك سيرا على الأقدام . وحتى في هذه الحالة لم يغلبهم العدو . فقس قوة العثمانيين .