المصطلحاتُ العربيّة وهمجيّة النّقل والمنهجيّات:
أو إجازة ما لا يجوز في الاستعارة والمجاز
أو إجازة ما لا يجوز في الاستعارة والمجاز
بقلم الدكتور علي درويش
25 أيار مايو2012
شرطان أساسيّانِ من شروط وضع المصطلحات في أيّ لغةٍ هما الدّقة والوضوح. وانتفاءُ هذين الشّرطين يُصيب المصطلح بالخلل والغموض والتواصلَ بالضعف والتشويش. وقد أجمع أهلُ الاختصاص قديمًا وحديثًا في الشّرق والغرب على ضرورة استيفاء هذين الشّرطين، وعلى ضبط المصطلحات وتحديد معانيها وحصرها في دلالات محدّدة لا لبس فيها ولا غموض، واتفقوا على أهميّة تقييسها، وذلك كشرط أساسيّ من شروط تقييس المعلومات التّقنية والعلميّة وتقنينها، وكضابط للغة واستعمالاتها بُغية التّواصل الواضح والفعّال بين البشر، وتناقل المعرفة والمعلومات الموثوق بها وتفادي ما تَلاحَظَ وتشابه وتشاكل منها.
وتكمنُ أهميّة الدّقة والوضوح في المصطلحات في تنظيم المعلومات والمعرفة وفقًا لعلاقات المفاهيم وتصنيفها في كل حقل معرفي أو ميدان، وكذلك في نقل المعرفة والمهارات والتقنيات، ونشر المعارف العلمية، وترجمة النصوص العلمية والتقنية، وتخزين واسترجاع المعلومات وغيرها. ولا يخلو نشاط إنساني أو حقل من حقول المعرفة من المفاهيم المتعلقة بعضاً ببعض أو بالمفاهيم الأخرى في حقول الاختصاص الأخرى.
ولقد أدركتِ الأممُ الغربيّة في القرن العشرين أنَّ التّقدم في العلوم والتكنولوجيا والاقتصاد وغيرها من النّشاطات الفكريّة والعلميّة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بوضع مصطلحات دقيقة وواضحة، لا غموض فيها، يمكن الاعتماد عليها في التواصل وتبادل المعلومات والاكتشافات، وفي وصف تلك المعلومات والاكتشافات وتوثيقها. فسعت إلى وضع قواعد علميّة للعمل المصطلحيّ. وتكثّفت الجهودُ بشكل خاص في ألمانيا في العقدين الأول والثاني من القرن العشرين، لتحقيق هذه الغاية، وشهدت الثلاثينيات من ذلك القرن بداية اتجاه جديد في الفكر العلميّ في ألمانيا والنمسا وما كان يعرف بتشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفياتي آنذاك، أسفر عن تأسيس ما يعرف اليوم بمدارس فيينا وبراغ والاتحاد السوفياتي للمصطلحات.
وسارعت الهيئات المتخصِّصة إلى وضع أسس وقواعد وأحكام وشروط تكفل تحقيق ذلك وعمدت إلى بناء نظريات ومنهجيّات واضحة في علم المصطلح، فقطعت أشواطًا كبيرة وحقّقت تقدّمًا هائلاً في هذا المجال. وشهدت العقود الثّلاثة الأخيرة من القرن المنصرم نشاطًا محمومًا وتعاونًا جادًا بين المنظّمات الدّولية والمحليّة والإقليميّة في علم المصطلح فأقيمت النّدوات والمؤتمرات والبحوث والشَّراكات الّتي خلصت إلى ضرورة تقييس المصطلحات بما يستوفي الشَّرطين الأساسيين: الدّقة والوضوح، وإنشاء "مخازن"، بل "مكانز مصطلحات"، أو "بنوك مصطلحات"، في السّتينيّات من القرن المنصرم، نمت بحيث أصبحت اليومَ أهمَّ فرع من فروع وضع المصطلحات. وكان للتّقدم الكبير في التّكنولوجيا شأنٌ في تقدّمها وانتشارها. وكانت الغاية منها تصنيف المصطلحات وتحديد صيغتها بهدف تقييسها وتقنينها.
و"بنك المصطلحات" ترجمة لـ (term banks)، وهي ما ذهب إليه المترجمون العرب آنذاك، كعادتهم في التّرجمة الحرفيّة، والّتي ما تزال تتحكم فيهم وتسيطر على جلِّ نشاطهم في التّرجمة والنقل. ومن المفارقات أن منظّماتٍ تُعنى بالمصطلحات العربية، قد تبنت هذه التّرجمة، فتجد اليوم هذه التسمية وقد صارت معتمدة لدى الجامعة العربية ومكتب تنسيق التعريب في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، و(بنك المصطلحات الموحدة)، وما شابه ذلك. فمن يقرضني مصطلحًا بلا فائدة أو ربا؟
ولقد تمخّض عن ذاك الحَراك المصطلحي والأَرَنِ الفكريّ نظرياتٌ ومنهجياتٌ ومواقفُ انتحت مناحيَ لسانيةً أو فلسفيةً أو موضوعية. ركّزت الأولى على استيفاء الشّروط اللغوية في وضع المصطلحات وعلى تطبيق الأدوات الّلسانية في صياغتها؛ وركّزت الثانية على تصنيف المصطلحات وَفْقَ التصنيفات الفلسفيّة للمفاهيم، وتعريف المفهوم تعريفًا فلسفيًا قوامه نظرية معنوية للمفاهيم تفسّر المواقف الخَبَريّــة التي تحتمل الصدق والكذب، وتفسّر أسباب محتوى أفكارنا، بل فِكَرنا. أمّا الثالثة فقد ركّزت على تصنيف المصطلحات وَفْقَ الموضوعات وميادينها المعرفية وعلاقة المفاهيم في ميدان معين بالمفاهيم في الميادين المجاورة، وكذلك بعلاقة المصطلح بالمفهوم ودرجة تطابقه، ضمن نظام متكامل للمفاهيم والمصطلحات. ولا تختلف الأخيرة عن الثانية كثيرًا.
ويُجمعُ أهل الاختصاص على اختلاف أهوائهم ومناهجهم ومواقفهم الفكريّة والعقديّة على ضرورة بَدء العمل المصطلحي بتحديد المفاهيم تحديدًا واضحًا ودقيقًا بما يكفل تحديد المصطلحات المصاحبة لتلك المفاهيم والمقترنة بها والمعبرة عنها تحديدًا واضحًا ودقيقًا أيضًا. ويُعنون في سعيهم لتحقيق ذلك بالمفاهيم لا بمعاني الكلمات والمفردات فحسب، بل كذلك وبدرجة أكبر بالعلاقات المنطقية بين اللفظ والمفهوم، والانسجام والاتساق والتوافق بين أجزاء المصطلح الواحد.
وتنطبق قاعدة البدء بتحديد المفهوم على المصطلحات الموضوعة أصلاً في اللغة، ولا تنطبق على المصطلحات المترجمة من لغات أخرى، ذلك أن نقل المصطلحات من لغة إلى أخرى لا يتمُّ في المجمل إلاّ عبر الترجمة وباستبدال أدوات لسانية بأدوات لسانية أخرى، إذ إنَّ المفاهيم قد سبق تحديدها وتعريفها في اللغة المنقول منها، ولا حاجة لتحديد مفاهيم سبق تحديدها في اللغة الأصلية وفي منبت المعرفة والبيئة التي اكتشفتها واستنبطتها، بل إنّ الأساس هو نقل معاني تلك المفاهيم المعبّر عنها بالمصطلحات إلى اللغة المنقول إليها وفهم تلك المفاهيم كما حدّدها أهلُ الاختصاص في لغتها. وهذا لا يعني إهمال البحث في المفهوم ودراسته للتّأكد من مكانه الذي يحتلّه في منظومة المفاهيم وتصنيفاتها ورتبته فيها، بحيث يتمكن الناقل من اختيار الألفاظ المناسبة في ترجمته للمصطلحات.
وتخضع صياغةُ المصطلحات بهذه الطريقة للترجمة بغضِّ النظر عن الطريقة أو النهج المتبع. من هنا جاء تركيزنا على الترجمة وطرائقها ونتائجها بشكل عامّ وفيما يتعلق بالمصطلحات بشكل خاص، من حيث الدّقة والوضوح والأمانة في نقل المعاني المقصودة دون الإضرار بمنطق اللغة المنقول إليها ومخالفة أحكامها وشروطها. ففيها تكمن أهميّة المهارات والكفاءة في الترجمة واعتماد الطرائق السّليمة في الترجمة ونقل المصطلحات. ولقد أثبتت الدراسات أنّ المصطلحات تشكل ما يقاربُ 60 بالمئة من أخطاء الترجمة. ويصرفُ المترجم قرابة 40 بالمئة من الوقت في البحث عن المصطلحات في المراجع المتوافرة لديه وعند أهل الاختصاص. فالمراجع المتوافرة على كثرتها لا يمكن التعويل عليها كثيرًا للنقص الحاصل فيها والعيوب التي تحتوي عليها. أمّا المراجع الحيّة على الإنترنت فتعاني مشكلات شتى. ولقد انبرى المترجمون والمشتغلون في الترجمة وطلابها في الآونة الأخيرة يستخدمون وسيلة الترجمة الآلية المتوافرة على موقع غوغل، اقتصادًا للجهد والوقت، دون دراية وعلم، وتحايلاً يؤدي إلى ترجمات رديئة جدًا. من هنا تظهر لنا مدى أهمية الترجمة في صياغة المصطلحات وأهمية دور المترجم فيها ووعيه وكفاءته.
بيد أن المثقفين والمتعلمين العرب وأنصافهم وأشباههم، من مشتغلين في اللغة والترجمة والإعلام والمهن الأخرى التي تتطلب وضع مصطلحات وتعابير جديدة تستند في جلّها إلى الترجمة والنقل من لغات أخرى، ما زالوا يتخبطون، ومعظمهم يهرف فيما لا يعرف، بين الجهل والفوضى والفلسفة والإيديولوجيا والسياسة والتحامل، ونجدهم اليوم مازالوا بين منادٍ باقتراض المصطلحات الأجنبية على حالها، ومنادٍ بالترجمة التامة للمصطلحات، ومنادٍ بحلٍّ وسط بين الاقتراض عند الضرورة والترجمة عند الاقتضاء. وهي مواقف نابعة من أطر فكريّة وسياسيّة وإيديولوجية تنم عن جهل وفوضى ذهنية، أو حقد وضغينة ولؤم وسمّ، أو استكانة وانبطاح وذلٍّ وخنوع، أو تعبّرُ عن التزام باللغة العربية ومقتضياتها، حرصًا على سلامتها وصونًا لها وللهوية العربية من الضياع والتشرذم والتشتت والاندثار.
ولمّا كانت الغاية الكبرى من الكلام هي ربط المقاصد والمعاني بالألفاظ والمباني فقد خصّص النحاة والفقهاء القدامى، على اختلاف مذاهبهم ومناهجهم وطرائقهم وأهوائهم، حيزًا كبيرًا لفصاحة الكلمة والكلام في اللغة العربية وحدّدوا شروطًا لها. ودرسوا طرائق تلك اللغة الرائعة ونهجها الفريد في توليد المفردات وتكثيرها، وحدّدوا ما يخالف أوزانها ونظمها والخفة والسلاسة والطلاوة التي بنيت عليها، وما يخالف القياس فيها وأركانه وقوانينه. وبحثوا في علاقة اللفظ بالمعنى وعلاقة الاسم بمسماه. وبحثوا في المجاز وعلاقته بالألفاظ والتعابير، وفهموا علاقة المشابهة بين ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي وضرورة وجود القرينة المانعة. وأدركوا أنَّ الغاية الأساس من الّلغة هي التواصل الواضح والفعّال، فسَعوا إلى وضع قواعد تفسّر عبقريّة تلك اللغة في الفصاحة والبلاغة وقوة التعبير والوقوف على أسرار السليقة العربية.
ولكنَّ العربَّ المحدثين والجُدد، ومن سلك مسالكهم، ونهج مناهجهم، ترجموا اللفظ الإنجليزي (metaphor) بالمجاز، وعلى أساس هذه الترجمة بنوا نظرياتهم وفلسفاتهم في الترجمة والنقل والمصطلحات، وترجموا كذلك تصنيفات المفهوم (metaphor) على أساس هذه الترجمة، فراحوا يتحدثون عن (مجاز حي)، و(مجاز ميت)، و(مجاز مهمل)، و(مجاز ممات)! وخلطوا بين أوجه المجاز، كالاستعارة والتشبيه والكناية، وبين المجاز. وراحوا يبرّرون ترجمات تتناقض في أجزائها وتتعارض ونظم التصنيف والاقتران والمجاورة والمساكنة والانسجام المنطقي، إمّا تبريرًا فلسفيًا واهنًا يعوزه المنطق ورجاحة الفكر، لا علاقة له باللغة أو العلم أو الأصول والفروع، أو سفسطةً وجهلاً وحماقةً. وضاعوا بين لغة العلوم ولغة الشعر والفوضى الفكرية، فصار كلُّ لفظٍ مركبٍ جوازًا جائزًا عندهم. ونسوا أو لم يدركوا في تقليدهم وترجمتهم الحرفية للألفاظ دون فهم مفاهيمها أنَّ المجاز يجب أن يستوفي شروط المجاز قبل أن ينتقل إلى دنيا الأموات. فإذا ما تُرجم مصطلحٌ بما يخالف شروط المجاز في المقام الأول، فلا يجوز لنا أن ندّعي بأنّه مجازٌ مهملٌ أو مجاز ميت أو ما يسمّى في الإنجليزية (dead metaphor)، كما هي الحال بالنّسبة إلى ترجمة (media coverage) بتغطية إعلامية، وقد تناولناها في مقالة سابقة، وسنعود إليها بعد قليل. وهنا تكمن خطورة ترجمة المصطلحات دون العناية بالمفاهيم ومنظومتها في اللغة الأصلية قبل نقلها إلى اللغة بصورة اعتباطية، كما يحدث في الأغلب. ولا يعني موت المجاز أنّه لم يعد مجازًا، ولكن "موته" يعني أنّه لكثرة الاستعمال والتكرار والتواتر قد فقد قوته أو وظيفته البلاغية والبديعية، ولم يفقد وظيفته البيانية، فيصبح معناه اصطلاحًا وفي المتعارف عليه عند الناطقين بالّلغة ذاتها ومفردة من المفردات العاديّة في الّلغة غايتها البيانُ والإفصاح. ولقد عالجنا مشكلة المجاز في كتبٍ ومقالاتٍ أُخرى، وعرضنا لمشكلة إحياء المجازات الميتة عند ترجمتها إلى لغةٍ أُخرى.
والأصل في لفظ (metaphor) هو (استعارة). وهذا ما فطن له صاحبُ (القاموس العصري) القديم، وجاء في المعجم الفرنسي (الكامل الكبير)، وتجاوزته المعاجم الأخرى. وواقع الأمر أنَّ المجاز هو الّلفظ المستعمل في غير ما وضع له في الأصل لعلاقة معيّنة مع وجود قرينة مانعة دالّة على عدم إرادة المعنى الأصلي. وسُمّي المجاز مجازًا لتجاوزه المعنى الحقيقي إلى معنى آخر لعلاقة معيّنة بين المعنى الأصلي والمعنى المتجاوز إليه. وقد حدّد الفقهاء شرطين للمجاز هما: العلاقة والقرينة المانعة. أمّا العلاقة فهي ربط المعنى بين المنقول عنه والمنقول إليه على أساسٍ منطقيّ واضح يقبله العقل، "لأن انعدام الحدود والنسب بينهما يؤدي إلى الغموض والإبهام واللبس"[i]. وقد تكون العلاقةُ فيه علاقةَ مُشابَهةٍ، فيسمّى المجاز استعارة وإلاّ ، فهو مجاز مرسل ، وتكون علاقة سببية أو مسببة أو جزئية أو كلية، أو اعتبار ما كان، أو اعتبار ما سيكون، أو المحليّة، أو الحالية، أو الآليّة. ولن ندخل في تفاصيلها وأمثلتها هنا، بل نكتفي بأصنافها وأنواعها تلك. والمراجع القديمة والحديثة كثيرة في هذا المجال ويمكن الرّجوع إليها لمن يريد الاطلاع على دقائق الموضوع والتعمق فيه.
ولا نبالغ في القولِ إنَّ اللغة كلّها مجاز تختصر المعاني الإدراكيّة والمنطقيّة وتختزلها في كلمات تعبّر عن دقائقها بدلالات واضحة. فعلى سبيل المثال، فإنَّ كلمة (قال) مجاز، و(مشى) مجاز، و(أكل) مجاز، إلى ما هنالك، لأنها كلها تختزل الفعل (أي ما هو واقع) بلفظ، لولاه لاحتجنا إلى مجلدات لوصفه، لتفسير المجاز بمجاز يحتاج إلى تفسير، بلا نهاية.
وأمّا القرينة المانعة، فهي ما يُفصح عن المراد لا بالوضع، بل هي الأمر الذي يصرف الذهن عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي. وقد تكون القرينة لفظيةً أو حالية. ولا تنفك المجازات عن القرائن المانعة، فإذا لم تتوافر القرينة المانعة فسد المجاز ولم يستوفِ أحد شرطيه.
ولمّا كنا نتحدث عن المجاز في اللغة وفي المصطلح، فلا بد لنا هنا من الوقف قليلاً أمام المصطلح (بنك مصطلحات)، والذي أتينا على ذكره في مطلع الكلام. فالخلل الضارب في هذا المصطلح يتمثل في حرفية نقلهم للفظ (bank). ولو نظرنا إلى معاني هذا اللفظ في الإنجليزية، على سبيل المثال، لوجدنا أن المعنى المتعارف عليه في تلك اللغة للدلالة على (المصرف) هو ضرب من ضروب المجاز فيها. وأوردته المعاجم الإنجليزية إلى جانب معانيه المعروفة الأخرى، بمعنى: مؤسسة تقدم الخدمات المالية من حفظ الأموال وتحويل العملات ومنح القروض بفائدة وغيرها. وأضافت إلى ذلك الاستخدامات الجديدة للفظ (bank)، مثــل (data bank) و(blood bank). فإذا بالناقلين العرب، الذين يعنون بالمصطلحات وتوحيدها وتقييسها في اللغة العربية، يترجمون الّلفظ في سياق علاقته بـ(term) دون الالتفات إلى الاتّساق المنطقي والانسجام وشروط الاقتران بين طرفي المصطلح. فهل يمكن التعويل على ذلك؟ ولقد اكتسب اللفظ في اللغة الإنجليزية معناه المالي الحديث من الطاولة أو المنضدة (banc) الّتي كانت تستخدم في أول عهد المصارف لإجراء المعاملات مع الزبائن. وتوسّعوا في الّلفظ وفي المجاز حتّى أصبح لفظ (bank) يعني ما يعنيه في العصر الحديث. والسؤال الّذي يطرح نفسه هنا: هل للفظ (بنك) في العربيّة هذا المعنى الجديد؟ فالبنك، ويأبى كثيرٌ منهم استخدام كلمة (مصرف) ويؤثرون استخدام (بنك)، هو تلك المؤسسة المالية، ولا يعني ما يعنيه الّلفظ الموسَّع في اللغات الأوربية، اللَّهم إلاّ في عقول تلك النّخب المستنخبة التي تقرأ النصوص العربيّة من نوافذ أجنبيّة. ومن الطّريف أنَّ المؤسّسات النّقدية الرّسمية العربيّة عكست تلك المواقف الثّلاثة من المصطلحات والّتي أشرنا إليها في مستهلّ حديثنا، فنجد الألفاظ (بنك) و(مصرف) و(مجلس) في أوراقها المالية.
ولقد أشرنا في مقالات وكتب سابقة، إلى هذه المشكلة المزمنة في المصطلحات العربيّة الحديثّة، وإلى التَّناقض الحاصل، على سبيل المثال والتّذكير، بين أجزاء المصطلح (مغامرة محسوبة)، أي بين (مغامرة) و(محسوبة)، فالمغامرة لا تكون إلاّ غير محسوبة. ولكنّهم ترجموا المصطلح (calculated risk) كما هو، وكلُّ جزء من جزئي التّرجمة ينتمي إلى منظومة من المعاني والمفاهيم تختلف عمّا يُظنّ أنّه المقابل في الّلغة المنقول منها.
ويكثر اللَّغط بين صفوف المثقفين والباحثين الأكاديميين فيما يتعلق بالمصطلحات وقراءتهم للمعاجم العربيّة وعدم تفريقهم بين المعاني الحقيقيّة والمعاني المجازيّة، وبين الأصول والفروع في المفردات، والمعاني الرّئيسة والمعاني الثانويّة، فتجدهم يطلقون الأحكام جزافًا وبهتانًا وجهلاً، ودون دراية وتمحيص، فإذا وجدوا جذرًا للفظ يناسبُ أهواءهم ظنوا أن له دلالاتٍ تدعم حججهم الواهية وجهلهم المطبق. ويخفقون في تفريقهم بين التّعريف والوصف والتّفسير والتّأويل، ويخلطون بينها. فإذا بهم ينطبق عليهم قوله تعالى: ﴿الّذينَ كانتْ أَعيُنُهم في غِطَاءٍ عَنْ ذِكري وكانوا لا يَستَطِيعُونَ سَمْعا﴾ (سورة الكهف، الآية 18).
فلو عدنا إلى المصطلح المترجم (تغطية إعلامية)، الذي أشرنا إليه آنفًا وتناولناه في مقالة سابقة،فإن لفظ الغِطاء ومشتقاته كلها تفيد السّتر لا الكشف أو الإحاطة والشّمول. وقد أخطأ من ظنَّ أنَّ معنى التغطية هو الاشتمال، بالاستناد إلى الاستعمال المجازي في (غَطَتْ الشجرة وأَغْطتْ: طالَتْ أَغْصانُها وانْبَسَطَت على الأَرض فأَلْبَسَت ما حولها، فسترته)، فقد اختلط الأمرُ عليهم والتبس كذلك في معنى (لبس وألبس)، فألْبَسَهُ: غَطَّاهُ، وغَطَاهُ: ستره! وقد التبس عليهم كذلك الفرق بين جذرين مختلفين هما (غطو) و(غطي)، فرغم اشتراكهما في المعنى، فإنَّ الأوّل غطا يغطو غطيًا وغطّى يغطّي تغطيةً وأغطى يُغطي إغطاءً، الشيءَ: ستر وراءه. وهو ما استندت إليه (تغطية). والثّاني، غطيَ يغطي غَطيًا وغُطيًا الليل: أظلم، وغَطيَ الشيءَ وعلى الشيءِ: ستره، وأغطى الشجرُ: امتدت أغصانه. وهذا المعنى الأخير هو ما يعول عليه المعللون.
أمّا لفظ (الإعلام)، فهو من الإفصاح عن الشيء. وما يزال التناقض قائمًا بين شقي المصطلح بنسخته العربيّة، بين السّتر والكشف، ولكنَّ أكثرهم لا يعقلون، بل يستغربون، ولا يستشعرون التناقض الحاصل بين شقّي المصطلح العربي المنقول والمنحول، وعدم جواز اقترانهما.
وكيف لا، وهم ينتمون إلى العقول المنغلقة ذاتها الّتي ما برحت تفرز هذه الحماقات والسّخافات اللّغوية وتنتج تلك التّراكيب المنافية للمنطق والعقل والذّوق السليم، وقد آثروا الساقط من الكلام والضعيف من التعبير والغث من المصطلحات والمفردات، في زمن الذّل والمسكنة والتبعيّة اللّغوية والفكريّة والثقافيّة والاجتماعيّة. فإذا كانوا لم يُدركوا الخلل والعيب في ترجماتهم الأولى بادئ ذي بدء، فأنّى لهم أن يدركوها وقد تأصّلت في نفوسهم، واستوطنت عقولهم، وأقامت في قلوبهم، وعششت في ألبابهم، وتفشّت في وجدانهم؟ والأنكى من ذلك أنّهم ينصّبون أنفسهم ولاة على اللغة والترجمة والمصطلحات، وكلما كثر حديثهم عن هذه الأمور وزادت حججهم الواهية، ثبت جهلهم بأصولها وأحكامها وقواعدها، وبأصول البحث والدراسة والتحليل. وتجدهم يتخبطون في إنشاء جملة واحدة تعبّر عن فكرهم المشوش والمضطرب، فلا يجدون إليها سبيلا.
إنّ استيفاء الدّقة والوضوح في الكلام عامةً وفي المصطلحات بشكل خاص يتحقّق باختيار الألفاظ الفصيحة الصّريحة والمفردات البيّنة الدّالة على المقصود. والدّقة هي أن تكون المفردات دقيقة المعاني لا لبس فيها ولا غموض وأن تخلو الجمل من التعقيد اللفظي والمعنوي، فإذا خلت المفردات من المعاني الواضحة وافتقر الكلام إلى الفصاحة أصاب التعبيرَ خللٌ وتشويش. ويحدث الغموضُ في الّلغة عندما يخفى مأخَذُ الكلام ومعناه على السّامع أو القارئ وذلك لخلوّه من الفصاحة والبلاغة والانسجام والمنطق الفكري واللغوي. والغموض نوعان: غموض معنوي، أي يختصُّ بمعنى الكلمة، وغموض نحوي تركيبي، أي يختصُّ بموقع الكلمة في العبارة أو الجملة. والغموض المعنوي هو أن يحمل الّلفظ أو المفردة أو العبارة أكثر من معنى واحد في السّياق العام للجملة. والغموض النحوي هو أن يحتمل تأويل الكلمة أو العبارة في سياق معين بأكثر من معنى ضمن السياق نفسه. ولمّا كانت الغاية الرئيسة من المصطلحات هي الدقة والوضوح، فإنَّ حمل اللَّفظ على المعنى والمجاورة، وهو من سنن العرب في الكلام، قاعدة أساسية في استيفائهما. و"للجوار حقٌّ في كلام العرب"[ii]، "فأحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه، بسدى معانيه"[iii].
لقد شُغف العربُ باستعمال المجاز لما فيه من دقّة في التعبير فكثر في كلامهم "حتى أتوا فيه بكل معنى رائق، وزينوا به خطبهم وأشعارهم."[iv] وأدركوا استعمالاته ودلالاته وسياقاته. وتكمن أهميّة المجاز في قدرته على اختزال الألفاظ والتوسع في معاني اللفظ، فينقله من مدلوله الأصلي إلى مدلول جديد، وفي قدرته على ضبط المعاني الجديدة في علاقات منطقية يدركها العقل، وفي مراعاته مبدأ الاقتصاد والإيجاز في اللَّغة. ذلك أنَّ اللَّغة ليست مجموعة من الألفاظ يضم بعضها إلى بعض عشوائيًا واعتباطيًا، بل هي عبارة عن نظام يخرج الكلام صحيحًا، واضحًا، لا لبس فيه ولا غموض، ولا قبح ولا شذوذ.
أمّا العرب الجدد المحدثون والمستحدثون فقد ضلوا سبيلهم وشذّوا وتأثروا تأثرًا شديدًا بالأشكال اللفظية والأنماط الفكرية للغات الأجنبية، فلم يعد بمقدورهم تمييز الخلل والعيب والقبح في الألفاظ المترجمة ترجمة اعتباطيّة، بل ما فتئوا يبررون ما لا يمكن تبريره بأساليب ملتوية وغوغائية ودهمائية ونوايا شريرة وإجراميّة، وبالتشكيك والتآمر، وإثارة نعرات وأحقاد دفينة لا علاقة لها بالموضوع ولا تمتُّ بصلة إلى مقاصد الكلام وغاياته، كلما نبّه أحدهم إلى مشكلة أو لفت إلى مسألة تتعلق باللغة والترجمة، وباللجوء إلى ستر ما لا يمكن ستره. و﴿لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (سورة ق، الآية 22).
ومثل المصطلحات المتناقضة كمثل من أراد أن يشرب ويصفر في الوقت ذاته. ولكنْ كما يُقال في الإنجليزية: (you can’t whistle and drink at the same time)، أي لا يمكنك أن تصفر وتشرب في آن معًا. ولكنّ هؤلاء العباقرة يعملون بقول الشاعر: ولا تشرب بلا نغم، ويسري عليهم قول المتنبّي:
ومِنْ يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ يجدْ مُرًّا بهِ الماءَ الزُّلالا
المراجع
· كتاب الأعاجيب في كلام الأعاريب، لمؤلفه الدكتور علىّ محمّد الدّرويش، ملبورن، رايتسكوب، 2007.
· أزمة اللغة والترجمة والهوية، لمؤلفه الدكتور علىّ محمّد الدّرويش، ملبورن، رايتسكوب، 2005.
· كتاب فقه اللغة وأسرار العربية، تأليف أبي منصور الثعالبي المتوفى سنة 430 هـ.
· المجاز وقوانين اللغة، لمؤلفه عليّ محمّد عليّ سلمان، دار الهادي، الطبعة الأولى، 2000.
· جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، لمؤلفه السيد أحمد الهاشمي، المكتبة العصرية، 2003.
· دليل المترجم، لمؤلفه الدكتور عليّ محمّد الدّرويش، ملبورن، رايتسكوب، 2000.
المراجع الأجنبية
· Darwish, A. (1988 and 2009). Terminology and Translation: A Phonological-Semantic Approach to Arabic Terminology, Melbourne, Writescope.
· Darwish, A. (2010). Translation and News Making in Contemporary Arabic Television, Melbourne, Writescope.
· Darwish, A. (2009).Social Semiotics of Arabic Satellite Television, Melbourne, Writescope.