كثيراً ما نقرأ في أعمال بعض الكتاب إنهم لا يريدون "شخصنة" موضوع كتاباتهم، ولا يقصدون الإشارة إلى فلان أو علان بذاته، بل يتحدثون بوجه عام عن أمور منتشرة بين الناس. ويريدون بهذا أن يُناقش موضوعهم من تلك الزاوية العامة، بل ويبذلون غاية الجهد –أحياناً- حتى لا يقعوا في شرك استعداء الآخر المقصود بكلامهم. ولعمري فإن من الإشارات ما يستعجم على القارئ معرفة القصد منه والمشار إليه. وحاول -عزيزي القارئ- أن تخمن المقصود في الموقف التالي:
حدث هذ الموقف معي منذ سنين طويلة حين كنت في دولة من الدول العربية، وأردت السفر لدولة أخرى لقضاء العمرة. ومن ثم احتجت إلى الذهاب إلى سفارتها للحصول على تأشيرة سفر لها. وكان علمي أن تلك السفارة في حي "غاردن سيتي" قريباً من النيل. فتوكلت على الله، واستأجرت سيارة أجرة، وانطلقنا. وكالمعتاد من سائقي تلك الدولة فإنهم لا يعرفون مكان أي مكان إلا بالشبه، والتوقف في الطريق تسعة عشر مرة -كعدد زبانية جهنم- لسؤال المارة، وسائقي الميكروباص.
الخلاصة، وصلنا إلى غاردن سيتي، وطلبت من السائق أن ينزلني في أي مكان، وسأبحت بنفسي عن تلك السفارة، ففعل. سرت قليلاً، ثم ما لبثت أن رأيت أحد حماة الوطن ورافعي رايتها خفاقة في العالمين، جندياً من جنود الأمن المركزي، يقف حارساً على إحدى البنايات. فسألته عن تلك السفارة، فاعتذر بأدب شديد وقال -باقتضاب شديد أيضاً وهو يمط شفتيه- إنه لا علم له. فأخذت في مواصلة رحلة البحث، وكنت كمن يسير حول نفسه. دخلت من شارع إلى شارع، ومن طريق فرعي إلى شارع رئيس. واستمر بحثي ما يقرب من الساعة لأجد نفسي في كل مرة أطالع سحنة جندي الأمن المركزي نفسه من جديد، حتى أني خشيت أن يظن بي الظنون، إلى أن شاء الله أن يدلني "فاعل خير" على مكان السفارة بالضبط والتحديد والموقع الجغرافي وفقاً لخطوط العرض والطول الكنتورية. يعني باختصار: لم يدع مجالاً للشك بأن تلك هي السفارة. وقد فعل ذلك بطريقة سهلة؛ إذ أخذ بيدي وسار بي في اتجاه ذلك الجندي -وساعتها بدا عليَّ التردد الشديد، وقد توقعت أن يطلق عليَّ النار وقد رآني من قبل أحد عشر مرة -كعدد أخوة يوسف- ولحسن الحظ لم يقف عنده، بل مر من أمامه وتجاوزه وأكمل سيره وهو لا يزال يسحبني، وأنا بين الاستسلام والتردد، وأخشى أن تصيبني الرصاصة في قفاي. وبعد بضعة أمتار وقف وقال: هذه هي. انظر إلى اللافتة "سفارة دولة العمرة". فنظرت إليها، وإلى سورها الممتد. وبالطبع مر بصري بمكان وقوف الجندي السابق متجاوزاً إياه إلى متداد السور. فقد كان حامل الكلاشنيكوف أحد حراس تلك السفارة وهو لا يدري.
علمت فيما بعد أن جنود الأمن المركزي يخضعون لاختبارات تفوق الخيال لإثبات جدارتهم وتفوقهم الحربي والفكري حتى يصبح الواحد منهم جديراً بلقبه جندياً من جنود الأمن المركزي. وأول هذه الاختبارات اختبار في الإملاء. نعم، الإملاء. فإذا نجح فيه لم يلتحق بالأمن المركزي. والعجيب أنه أثناء ذلك الاختبار ترى المتقدمين يحاولون استراق النظر إلى أوراق غيرهم في محاولة للغش. وصدقني -عزيزي القارئ- فهم يبذلون أقصى ما لديهم من جهد وحيل للغش، رغبة في الرسوب بجدارة، ويساعدهم المراقبون على القيام بذلك فلا يمنعونهم. ومن لا يستطيعُ الغش، ولا يحصل على الحد الأدنى للنجاح -وهو كتابة حرف واحد متميز الملامح- ينتقل تلقائياً للمرحلة الثانية، وهي اختبار أكثر صعوبة، وأشد وعورة. وفيه يُعطى كل فرد من نخبة الناجحين ورقة وعليها بعض الصور لإبريق وكوب، وقلم ودفتر، ورغيف خبز وصحن فول، ومواطن وخازوق، وما أشبه. وعلى كل واحد منهم أن يوصِّل ما بين كل صورتين متعلقتين بعضهما ببعض. فإن نجح في ذلك لم يلتحق بسرايا الأمن المركزي رفيعة المقام. والغش كذلك مسموح به في هذه المرحلة. وينتقل بعد ذلك الراسب إلى المرحلة التالية، ولكني أُرجِئ الحديث عن اختبارها لوقت آخر.
الخلاصة كما ترون نخبة جنود من الطراز الأوحل، أقصد الأول- اللهم اخزيك يا شيطان.
وبعد تدريبات هي بالفعل من أشق ما يمكن، يصبح الجندي في كتائب النخبة المنتقاة "على الفرازة" كما يقولون.
وحسبما يتقرر أن يكون في أي يوم، تأتي في الصباح مركبة كبيرة تأخذ الجنود من عنابرهم، وتنزلهم في أي مكان من أرض الله، مع أمر عسكري لا يمكن مخالفته -وإن يُّضْرَب بالنعال فوق أم رأسه- بأن هذا هو مكان خدمتك اليوم. ويقف الجندي حارساً للمكان، ومحامياً عن البلاد والعباد، بكل ما أوتي من قوة وعزم. وفي الأغلب الأعم لا يتحرك من موقعه قيد أنملة، ولا يطرف بعينه خشية أن تسقط على المكان قنبلة بيولوجية قبل أن يرتد إليه طرفه. ولا يتمتم بذكر الله، أو يذهب لصلاة، أو ينفخ ذبابة حطت على أنفه، أو حتى يخرج ريحاً. وبعد انتهاء نوبة حراسته تأتي المركبة ثانية لتنقله إلى عنبره من حيث أتى. وهكذا دواليك حتى تنتهي مدة خدمته البالغة ثلاثة سنوات.
الخلاصة -عزيزي القارئ- هي أنه كما ترى فقد تناولت موضوعي هذا بألفاظ عامة جداً، لا يمكني لأعتى عقل بشري أن يخمن في أي دولة كنت، ولا أي دولة قصدت. بل وقصة الأمن المركزي إنما هي "لتتويه" القارئ أيضاً حتى لا يُعمِل عقله في التفكير فيعرف ما قصدت.
ودُمْـــدُم سالميــن.
حدث هذ الموقف معي منذ سنين طويلة حين كنت في دولة من الدول العربية، وأردت السفر لدولة أخرى لقضاء العمرة. ومن ثم احتجت إلى الذهاب إلى سفارتها للحصول على تأشيرة سفر لها. وكان علمي أن تلك السفارة في حي "غاردن سيتي" قريباً من النيل. فتوكلت على الله، واستأجرت سيارة أجرة، وانطلقنا. وكالمعتاد من سائقي تلك الدولة فإنهم لا يعرفون مكان أي مكان إلا بالشبه، والتوقف في الطريق تسعة عشر مرة -كعدد زبانية جهنم- لسؤال المارة، وسائقي الميكروباص.
الخلاصة، وصلنا إلى غاردن سيتي، وطلبت من السائق أن ينزلني في أي مكان، وسأبحت بنفسي عن تلك السفارة، ففعل. سرت قليلاً، ثم ما لبثت أن رأيت أحد حماة الوطن ورافعي رايتها خفاقة في العالمين، جندياً من جنود الأمن المركزي، يقف حارساً على إحدى البنايات. فسألته عن تلك السفارة، فاعتذر بأدب شديد وقال -باقتضاب شديد أيضاً وهو يمط شفتيه- إنه لا علم له. فأخذت في مواصلة رحلة البحث، وكنت كمن يسير حول نفسه. دخلت من شارع إلى شارع، ومن طريق فرعي إلى شارع رئيس. واستمر بحثي ما يقرب من الساعة لأجد نفسي في كل مرة أطالع سحنة جندي الأمن المركزي نفسه من جديد، حتى أني خشيت أن يظن بي الظنون، إلى أن شاء الله أن يدلني "فاعل خير" على مكان السفارة بالضبط والتحديد والموقع الجغرافي وفقاً لخطوط العرض والطول الكنتورية. يعني باختصار: لم يدع مجالاً للشك بأن تلك هي السفارة. وقد فعل ذلك بطريقة سهلة؛ إذ أخذ بيدي وسار بي في اتجاه ذلك الجندي -وساعتها بدا عليَّ التردد الشديد، وقد توقعت أن يطلق عليَّ النار وقد رآني من قبل أحد عشر مرة -كعدد أخوة يوسف- ولحسن الحظ لم يقف عنده، بل مر من أمامه وتجاوزه وأكمل سيره وهو لا يزال يسحبني، وأنا بين الاستسلام والتردد، وأخشى أن تصيبني الرصاصة في قفاي. وبعد بضعة أمتار وقف وقال: هذه هي. انظر إلى اللافتة "سفارة دولة العمرة". فنظرت إليها، وإلى سورها الممتد. وبالطبع مر بصري بمكان وقوف الجندي السابق متجاوزاً إياه إلى متداد السور. فقد كان حامل الكلاشنيكوف أحد حراس تلك السفارة وهو لا يدري.
علمت فيما بعد أن جنود الأمن المركزي يخضعون لاختبارات تفوق الخيال لإثبات جدارتهم وتفوقهم الحربي والفكري حتى يصبح الواحد منهم جديراً بلقبه جندياً من جنود الأمن المركزي. وأول هذه الاختبارات اختبار في الإملاء. نعم، الإملاء. فإذا نجح فيه لم يلتحق بالأمن المركزي. والعجيب أنه أثناء ذلك الاختبار ترى المتقدمين يحاولون استراق النظر إلى أوراق غيرهم في محاولة للغش. وصدقني -عزيزي القارئ- فهم يبذلون أقصى ما لديهم من جهد وحيل للغش، رغبة في الرسوب بجدارة، ويساعدهم المراقبون على القيام بذلك فلا يمنعونهم. ومن لا يستطيعُ الغش، ولا يحصل على الحد الأدنى للنجاح -وهو كتابة حرف واحد متميز الملامح- ينتقل تلقائياً للمرحلة الثانية، وهي اختبار أكثر صعوبة، وأشد وعورة. وفيه يُعطى كل فرد من نخبة الناجحين ورقة وعليها بعض الصور لإبريق وكوب، وقلم ودفتر، ورغيف خبز وصحن فول، ومواطن وخازوق، وما أشبه. وعلى كل واحد منهم أن يوصِّل ما بين كل صورتين متعلقتين بعضهما ببعض. فإن نجح في ذلك لم يلتحق بسرايا الأمن المركزي رفيعة المقام. والغش كذلك مسموح به في هذه المرحلة. وينتقل بعد ذلك الراسب إلى المرحلة التالية، ولكني أُرجِئ الحديث عن اختبارها لوقت آخر.
الخلاصة كما ترون نخبة جنود من الطراز الأوحل، أقصد الأول- اللهم اخزيك يا شيطان.
وبعد تدريبات هي بالفعل من أشق ما يمكن، يصبح الجندي في كتائب النخبة المنتقاة "على الفرازة" كما يقولون.
وحسبما يتقرر أن يكون في أي يوم، تأتي في الصباح مركبة كبيرة تأخذ الجنود من عنابرهم، وتنزلهم في أي مكان من أرض الله، مع أمر عسكري لا يمكن مخالفته -وإن يُّضْرَب بالنعال فوق أم رأسه- بأن هذا هو مكان خدمتك اليوم. ويقف الجندي حارساً للمكان، ومحامياً عن البلاد والعباد، بكل ما أوتي من قوة وعزم. وفي الأغلب الأعم لا يتحرك من موقعه قيد أنملة، ولا يطرف بعينه خشية أن تسقط على المكان قنبلة بيولوجية قبل أن يرتد إليه طرفه. ولا يتمتم بذكر الله، أو يذهب لصلاة، أو ينفخ ذبابة حطت على أنفه، أو حتى يخرج ريحاً. وبعد انتهاء نوبة حراسته تأتي المركبة ثانية لتنقله إلى عنبره من حيث أتى. وهكذا دواليك حتى تنتهي مدة خدمته البالغة ثلاثة سنوات.
الخلاصة -عزيزي القارئ- هي أنه كما ترى فقد تناولت موضوعي هذا بألفاظ عامة جداً، لا يمكني لأعتى عقل بشري أن يخمن في أي دولة كنت، ولا أي دولة قصدت. بل وقصة الأمن المركزي إنما هي "لتتويه" القارئ أيضاً حتى لا يُعمِل عقله في التفكير فيعرف ما قصدت.
ودُمْـــدُم سالميــن.