الأدب الفارسي

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • omtarek
    عضو مؤسس
    • May 2006
    • 728

    الأدب الفارسي


    حافظ الشيرازي

    ولد حافظ الشيرازي في شيراز حدود سنة 729 للهجرة وتوفي بها في حدود 791. اسمه الأصلي هو شمس الدين محمد بهاء الدين، ولقب حافظاً نظراً لحفظه القرآن ونُسب إلى مسقط رأسه ومدينته شيراز في بلاد الفرس. كما لُقب أيضاً بــ (لسان الغيب وترجمان الأسرار).

    حافظ الشيرازي هو أصغر أخوانه وقد تفرق عنه اخوانه بعد وفاة والده ووقع ووالدته في براثن الفقر مما اضطره للعمل خبازاً يعمل من منتصف الليل حتى ساعات الفجر الأولى. وفي النهار كان يذهب إلى المدرسة للدرس والتحصيل الذي كان يُنفق عليه من أجره اليومي.

    صار حافظ فيما بعد أستاذاً في اللغتين العربية والفارسية وفي معارف الدين. ويتمتع هذا الشاعر بمكانة مرموقة في الثقافة الشعبية الايرانية، رغم مرور أكثر من ستة قرون على وفاته عام 1389، اذ لا يخلو اي بيت ايراني من كتبه . وهناك من اعتبر حافظ الشيرازي عارفاً وليس شاعراً، اذ أن "العرفانية" أو "العرفان" له مقام أعلى من مقام الشعر.

    وقد عاش حافظ الشيرازي في زمن هجمة التتار المغول على العالم الاسلامي وتدميرهم لبغداد واحراقهم لكنوز الفكر والفن والمعرفة الاسلامية. وعكس في شعره تطورات عهده السياسية والفكرية، ولكنه لم ينشد شعراً سياسياً بل تخصص في الغزليات العرفانية.

    وصف الشاعر اللبناني محمد علي شمس الدين في كتابه "شيرازيات" شعر حافظ الشيرازي أنه شعر تعبد إسلامي بأدوات من تاريخ وثني ومن طبيعة غناء وطقوس خمرة وشراب. إلا أن روحانيته الإسلامية وجوهر الحب الذي ينطوي عليه يطهران ما يلوح للناظر من شوائب الظاهر. من أجل ذلك سُمي هذا الشعر عرفانياً ولم يُنبذ ولم تلحقة الادانة. ويقول أن شعر حافظ الشيرازي هو شعر معان ومفردات اسلامية وقرآنية في الجوهر حيث ترد عبارات العبادة والتوحيد والصلاة والزكاة والصيام والطواف والزهد والرسول والصحابة، ألخ.... [جريدة أخبار اليوم].

    تأثر حافظ الشيرازي بالشعر العربي الجاهلي والأموي والعباسي وخاصة بشعر المتنبي. ويتميز شعره، والذي يسمى بالغزليات، بالذوق الرفيع والخيال الجامح والصور الشعرية البديعة والسلاسة والفلسفية والعذوبة. وهو متمكن من اللغة الفارسية، يشكلها وينحتها كما يشاء لتصبح مادة شعرية تصل إلى القلوب، فينتقي أجمل المفردات المتجانسة والمتناسقة حرفاً وإيقاعاً.

    تنازع رجال الدين في شيراز في السير خلف جنازته، فقد رأي بعضهم أنه ملحد ورأى البعض الآخر أن هذا اتهام وافتراء. فاستشهدوا بأبيات من شعره وبعدها دفن في روضة المصلي والتي صارت بعد ذلك مزاراً له وتدعى اليوم بالحافظية.

    قدم دريغ مدار كه جنازه حافظ
    كه گرچه غرق گناهست می رود بهشت

    ومعناها

    لا تؤخر قدمك أو تتردد عن جنازة حافظ
    فهو غريق في الاثم لكنه ذاهب الى الجنة

    المصدر: شيرازيات للشاعر محمد على شمس الدين
    جريدة أخبار اليوم
    www.iran-arab.net


    وسلام من أم طارق :-)
  • omtarek
    عضو مؤسس
    • May 2006
    • 728

    #2
    القواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي

    من القواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي ـــ د.حسين جمعة(*)

    حدود وأبعاد ومنهج:

    لم يعرف التاريخ الإنساني التقاء أكثر غنىً وشمولاً من التقاء العرب والإيرانيين على مستويات عديدة سياسية واجتماعية؛ وفكرية وثقافية؛ فلسفية ودينية؛ أدبية وفنية, لغوية وبلاغية...

    وترجع علاقة التفاعل الوطيدة إلى عصور تاريخية عريقة تجسدت في الحياة والفن والأدب... إذ تجلى في الأدبين العربي والفارسي مفاهيم التصور الديني والفلسفي الممزوجة ببحر العزة والعظمة الإلهية؛ والموشاة بكل المودة والمحبة على الصعيد الاجتماعي. فقد برزت أشكال التمازج الحضاري منذ البعثة المحمدية لتؤكد مفهوم الوصول "إلى المساواة بين الشعوب على السلطة القائمة, وعلى الثقافة العربية الإسلامية"([1]) من خلال علاقة الرحمة والتقوى والعدل، لا من خلال العرق والجنس واللون.

    وليس هذا غريباً ولا بدعاً من القول فقد تأسس ذلك في النفوس كما لدى البحتري إذ قال في مدح عبيد الله بن خرداذبة([2]):

    إِنْ كان من فارسٍ في بيتِ سُؤْدَدِها



    وكنتُ من طيِّئٍ في البيت ذي الحَسَبِ



    فلم يَضْرِنا تنائي المَنْصِبَيْن وقد



    رُحْنا نَسيبين في خُلْق وفي أَدبِ




    فالقواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي إنما انبثقت من التمازج المشترك بين الشعبين العربي والإيراني منذ العصور التاريخية ثمَّ ازدادت إحكاماً وارتقاء حضارياً بعد الإسلام, إذ دخل أبناء إيران فيه طوعاً وإرادة ورغبة؛ وانصهروا في بوتقة تعاليمه ومبادئه... وعملوا على نشرها...

    ولما كانت العربية لغة القرآن والدين الجديد الذي اعتنقوه أقبلوا على تعلّمها وإتقانها كأهلها. وقد تضافر إلى هذا رغبة علمية جامحة وملحة في خدمة الحضارة الإسلامية... صار كثير منهم يتقن اللسانين حديثاً وكتابة. ومن ثمَّ أخذوا ينقلون بوساطة اللغة العربية كثيراً من معارفهم القديمة المكتوبة بلغاتها الأصلية؛ في التاريخ والفن والطب والكيمياء والفلك واللغة والحساب والأدب... وقد شاركهم في هذا عدد من علماء العرب والبلدان المفتوحة الأخرى...

    وحينما كانت القواسم المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي تزداد اتساعاً وتنوعاً كانت تتخذ لنفسها أنماطاً عدة عب‍ّرت عنها المصادر التي استندت إليها؛ بمثل ما تركزت في الترجمة والتأليف الأدبي والبلاغي... ومن ثمَّ وجدت بأشكال وموضوعات محددة في كليهما...

    وبناء على ذلك كله كان لزاماً علينا أن نلجأ إلى مبدأ الاختيار والإيجاز والتكثيف في معالجة القواسم المشتركة التي يقوم عليها البحث... لأنَّ الحديث عنها كلها يحتاج إلى مجلدات كثيرة, علماً أن بعض الدارسين قبلنا سبقنا إلى ذكر نتف منها كما نلمسه عند محمد غنيمي هلال الذي اتكأ عليه كل من جاء بعده.

    ولما كان القرآن الكريم هو أهم المصادر آثرنا أن نتوقف عند قصةٍ واحدة من قصصه؛ مع إيماننا اليقيني بأن هناك مصادر أخرى لتلك القواسم كالسُنَّة المطهرة, والأحداث التاريخية والاجتماعية, والكتب الدينية والفلسفية والتاريخية, مثل كتاب الشاهنامه للفردوسي الطوسي, وتاريخ الطبري, وتاريخ ابن الأثير؛ وكتب أدب الرحلات, وأدب التصوف الذي تصدره من الإيرانيين الغزالي وجلال الدين الرومي.

    ولعل هذا ينقلنا إلى حركة الترجمة وأثرها في إطلاق تفاعل أدبي بين العرب والإيرانيين لا يضاهيه في عناصر الالتقاء ما نجده عند غيرهم, كما وقع في كتاب (كليلة ودمنة) ورباعيات الخيام والمقامات, ممَّا اخترناه. ولهذا عقد ابن خلدون في مقدمته فصلاً عن "حملة العلم في الإسلام" فوجد أكثرهم من الإيرانيين([3]).

    ومن هنا نتوقف عند القواسم المشتركة اللغوية والفنية في الأدبين كالألفاظ والمصطلحات والأساليب والاقتباس الحرفي والأوزان والقافية والقصة... فكلها مثلت ملامح مشتركة في الأدب العربي والإيراني. وهي الملامح التي تحققت في موضوعات تعاور عليها الأديان, وكيف تغيّرت وظائفها في بعض الاتجاهات الأدبية, كما نجده في قصص الحب العذري؛ ولا سيما حكاية ليلى والمجنون, وموضوع وصف الأطلال والممالك الزائلة.

    فعظمة المادة وتنوعها لم يترك لنا المجال إلا أن نتبنى المنهج الذي أشرنا إليه... وسنتوقف عند القرآن الكريم؛ باعتباره أعظم مصدر التقى عليه المسلمون, وعند واحدة من قصصه؛ وهي قصة المعراج.

    1 ـ القرآن الكريم؛ قصة المعراج النبوي:

    أكدت مبادئ الدين الحنيف العودة الأصيلة والنبيلة إلى الهويّة الإنسانية دون تشويه للذات الفردية وللانتماء الاجتماعي والبيئي والوطني... وهذا حمل الناس ـ قديماً وحديثاً ـ على اعتناق الإسلام؛ لأنه يتفق مع الفطرة والعقل معاً... ثمَّ ارتبطوا بحبل الله المتين, وطفقوا يبنون الحضارة الإسلامية التي تنشد التقدم والحق والعدل...

    وقد جسَّد القرآن الكريم شكلاً ومضموناً قواسم مشتركة عظمى بين المسلمين، ليس من جهة العقيدة والعبادة والتبرك فقط، بل من جهة أنه كتاب معجز في أساليبه وأفكاره وأخباره وقصصه... وهذا ما جعلهم ينصهرون في آياته ولغته، يقتبسون منها ما وسعهم الجهد؛ أو يضمّنون أفكارهم العديد من أفكارها؛ أو ينتهجون طرائقه في التأليف والكتابة والإبداع...

    ولما كان مقام الاحتذاء بالنص القرآني عظيم الحجم وكثير التنوع رغبنا في الوقوف عند قصة المعراج النبوي التي احتفل بها الأدب العربي والفارسي, وجعلها "منطلقاً إلى فضاء الفكر الأرحب؛ حيث تعالج مسائل فلسفية أو صوفية أو أدبية أو وطنية"([4])؛ فكانت توظف توظيفاً مجازياً يؤدي الغرض الذي يرمون إليه. وهذا لا يعني أن الأدب العربي والفارسي لم يحفل بغيرها, ولا سيما قصة يوسف (u) وزليخا التي شاع أمرها في الأدب الفارسي([5]).

    وتتلخص قصة المعراج بأن النبي الكريم عرج إلى السموات السبع يصحبه جبريل (u) هادياً ومرشداً... وقد رأى (e) في السماء الأولى (آدم) وفي الثانية (يحيى وعيسى) وفي الثالثة (يوسف) وفي الر ابعة (إدريس) وفي الخامسة (هارون) وفي السادسة (موسى) وفي السابعة (إبراهيم) ـ عليهم صلوات الله أجمعين ـ. وكان (e) قد رأى في كل سماء أشياء تأسس في ضوئها جملة من الأوامر والنواهي...

    ومن ثمَّ انتهت رحلة المعراج إلى سِدْرة المنتهى على وفق قوله تعالى: ]لقد رأى من آيات ربه الكبرى[ (النجم 53/18).

    فالوقوف بين يدي الحضرة الإلهية كان المرحلة الأخيرة في قصة المعراج ثمَّ العودة إلى الأرض...

    ولسنا الآن في صدد الحديث عن أول من تأثر بقصة المعراج وعمن تناولها وإنما في صدد إثبات أنها غدت مدار التقاء أدبي وفكري وفلسفي بين الأدبين العربي والفارسي...فالأديب الإيراني فريد الدين العطار (545 ـ 627هـ) ترجم في كتابه (تذكرة الأولياء) أول معراج صوفي لأبي يزيد البسطامي طيفور بن عيسى؛ الملقب بسلطان العارفين؛ (ت 261هـ). وقد كتبه البسطامي بالعربية في إطار رؤية منامية يتخيل فيها الطريق إلى الله. أمَّا الشيخ الرئيس أبو علي حسين بن عبد الله بن سينا (338 ـ 428هـ) فقد ألف (رسالة الطير) ورأى أنه "يطير مع الطيور وأن الطريق مليء بالصيادين الذين تمكنوا من الإيقاع بالطيور فطارت الطيور وعبرت الكثير من الصعاب ومنها ثمانية جبال وكان هدفها الوصول إلى المليك الذي يخلصها من الشباك"([6]).

    وتحظى الطيور بلقاء الملك ويخلصها من الشباك وتعود أدراجها...

    وبهذا يلتقي ابن سينا مع البسطامي في الحديث عمَّا يستوجب على السالك الصوفي أن يفعله في حياته ليصل إلى مقام المشاهدة والالتقاء بالحضرة الإلهية.

    ومن هنا نشير إلى رسالة (التوابع والزوابع) لابن شُهَيد الأندلسي أبي عامر أحمد بن أبي مروان عبد الملك بن مروان (382 ـ 426/992 ـ 1034م)...

    وفيها عقد رحلته إلى العالم الآخر وهو يرمي إلى مفاضلة أنداده ومنافسيه من الأدباء والوزراء وأهل السياسية والانتقاص منهم ونقدهم وإظهار مناقبه... وفيها عرض لعدد من الشعراء وتوابعهم في وادي عبقر, فضلاً عن بعض الأدباء والنقاد كعبد الحميد الكاتب والجاحظ وبديع الزمان...([7]) وبهذا فهي رحلة إلى العالم الآخر, صاحب فيها أبو عامر هادياً له يتمتع بصفات خارقة.

    وتتوافق رسالة التوابع و الزوابع مع قصص المعراج ورسالة الغفران لأبي العلاء المعري (363 ـ 449هـ) بأنها رحلة معراجية إلى العالم الآخر, بعد أن اجتمع فيها اثنان يرشد أحدهما الآخر ويبين له سبيل الحق... وبعد الوصول إلى مقام الشهود في قصص المعراج وإلى الجنة أو النار في رسالتي الغفران والتوابع والزوابع تنتهي الرحلة بالعودة إلى عالم الوجود.

    فرسالة الغفران تجعل من ابن القارح قائداً للرحلة, وإن كانت شخصية السارد (أبي العلاء) لا تغيب في كثير من الأحيان عنها. ويزور فيها الجنة والنار ويقابل الشعراء والأدباء والقرّاء والنحويين وغيرهم فيسأل أحدهم عن سبب دخوله النار أو دخوله الجنة, وبمَ غُفر له؟. ويشبهها في هذا البناء رحلة الموبد الزرادشتي (أرده ويراف) إلى الجحيم والأعراف والجنة, ولعل المعري تأثر بها([8]) إنْ كان يعرف الفارسية, وهو مستبعد. ويبقى الفرق بين رسالتي المعري وابن شهيد وقصص المعراج في الأدب العربي والفارسي أنهما تعبير عن الذات بخلاف الأخرى التي تحقق للصوفي ما يصبو إليه من مشاهدة أو اتحاد.

    وإن كانت قصص المعراج في الأدب الفارسي عديدة مثل (سير العباد إلى المعاد) لسنائي الغزنوي (ت 545هـ) و(رسالة الطير) لحجة الإسلام زين العابدين أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (450 ـ 505هـ) فإننا سنتوقف عند منظومة (منطق الطير) لكبير مشايخ التصوف الفارسي فريد الدين العطار (545 ـ 627هـ)؛ إذ عُدّ ثالث ثلاثة فيه بعد جلال الدين الرومي وسنائي الغزنوي...

    ومنظومة (منطق الطير) المبنية على المزدوج/المثنوي في قالب شعري قصصي؛ تعد من أعظم ما نظم في الأدب الصوفي خاصة؛ إذ بلغت (4650 بيتاً) وكان قد نظمها سنة (583هـ)([9]). ولعل فيما يدل عليه مصطلح المثنوي أنه بني على المقابلة الثنائية شكلاً ومعنى؛ في الإيمان والاعتقاد بالجنة والنار, والليل والنهار...

    وليست مهمة البحث عرض طبيعتها وماهيتها فقد انعقدت فُصول في كتب شتّى لهذا الغرض؛ ولكن مهمته الأصلية إثبات أن فريد الدين العطار تأثر على نحو كبير برسالة الطير لكل من ابن سينا والغزالي, في الوقت الذي اتفق فيه مع رسالتي الغفران والتوابع والزوابع في منطلق الرحلة, وهو المنطلق الذي قامت عليه قصة المعراج النبوي في استصحاب هادٍ ومرشد.

    وإذا كان ابن سينا قد عبَر جبالاً ثمانية لمقابلة الملك فإن الأودية والطرق عند الغزالي وسنائي والعطار سبعة, وهي ترمز إلى المقامات السبعة في التصوف, وطرقها...

    وإذا كان سنائي الغزنوي قد اتفق مع ابن سينا والغزالي والعطار في تجاوز الطيور للوديان والجبال فإنه اتفق مع رسالة الغفران ورحلة الموبد الزرادشتي في كونه رافق مرشده وهاديه في رحلته إلى الجنة والأعراف والنار...

    وكان العطار قد نظم الرحلة على ألسنة طيور حقيقية كالهدهد والنَّهْس والصقر وغيرها؛ ولم يختر إلا طيراً خرافياً واحداً هو (السِّيْمُرغ) ورمز فيه إلى ملك قوي... وتعني (سي) ثلاثين (مُرغ) الطائر, أي الثلاثين طيراً. وهو عند الإيرانيين بمنزلة العنقاء عند العرب. وهنا نثبت أن الغزالي استخدم العنقاء في (رسالة الطير) على حين استعمل مصطلح (الطيور) لأنواعها كلها...

    وما يعنينا ـ هنا ـ أن الأودية السبعة: وادي الطلب والعشق والمعرفة والاستغناء والتوحيد والحَيْرة وأخيراً وادي الفقر والغناء كناية عن السموات السبع في قصة المعراج النبوي, على حين ترمز إلى المقامات السبعة عند أهل التصوف كمراحل لتصفية أرواحهم ليحظوا في نهاية المطاف بعد اجتياز الوادي السابع (الفقر والغناء) بالحَضْرة الإلهية.. علماً أن الهدهد يرمز إلى جبريل, والسيمرغ يرمز إلى ملك قوي صابر يتجلى في المرآة عن توحده مع الله. فهو يمثل الطيور الثلاثين التي سلكت الأودية السبعة ووصلت إلى جبل (قاف) وحظيت بلقاء الحضرة الإلهية.

    وهذا يعني أن السالك من المتصوفة ـ الطيور ـ قد صمم على قطع الأودية؛ مهما كانت صعوباتها ووعورتها ـ لأنَّ اليأس لا يتسرب إلى نفوس المؤمنين([10]) ـ لينتهي به المطاف في مقام الشهود إلى التجلي والاتحاد...

    أمَّا منظومة (جاويد نامه) أي (رسالة الخلود) للمفكر الإسلامي الكبير محمد إقبال (1873 ـ 1938م) التي كتبها بالفارسية عام (1932م) فقد ترجمها إلى العربية محمد السعيد جمال الدين، وفيها نرى جلال الدين الرومي هادياً ومرشداً لمحمد إقبال الذي تاقت نفسه للعروج والاتجاه إلى الله وحده بعد اجتياز الزمان والمكان من خلال أفلاك سبعة ليصل إلى جنة الفردوس... ويشكو إقبال "تشتت العالم الإسلامي لضعف في نفوس المسلمين, وبسبب مصائب الاستعمار والشيوعية" ثمَّ يرى أن العالم الإسلامي أصيب بحالة موت ولن ينقذه منها إلا عالم القرآن الكريم([11]).

    وقد وقع التجلي الإلهي في معراج إقبال بعد انتهاء الرحلة إلى مقام الشهود عن طريق العشق الإلهي...

    ومن بين القواسم المشتركة بين رسالة الخلود ورسالة الغفرانِ محاكمةُ الزنادقة؛ فإذا كان المعري قد حاكم بشاراً وأمثاله فإن محمد إقبال حاكم ثلاثة من الزنادقة حين وصل إلى فلك المشتري وهم المنصور الحلاج, والشاعر الهندي أسد الله غالب وشاعرة المذهب البابي في إيران قُرّة العين الطاهرة التي أُعدمت سنة (1852م) لاعتناقها هذا المذهب... أمَّا التقاؤهما بالمعراج النبوي فتجسد بعدم الرضا بهذا العالم ولا بد من التوجه أبداً إلى الذات الإلهية... وهي الفكرة التي يلتقي فيها الصوفي الكبير محيي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي (560 ـ 638هـ), ولا سيما في كتابه المخطوط (الإسرا إلى المقام الأسرى). ويعد أحد الكتب في تزكية النفس, وفيه أفاد من قصة المعراج النبوي, بمثل ما أفاد منها عدد من أدباء الغرب كما نراه في (الكوميديا الإلهية) للشاعر الإيطالي دانتي (1265 ـ 1331م), و(الفردوس المفقود) للشاعر الإنكليزي ملتون (1608 ـ 1674م)([12]).

    وفي ضوء ذلك كله ثبت لنا أن قصة المعراج النبوي أحدثت حركة أدبية عظيمة, وأثرت الخيال الخصب للشعراء والأدباء في الأدبين العربي والفارسي فكانت قاسماً مشتركاً عظيماً بينهما...

    وهذا يجعلنا ننتقل إلى مظهر آخر من مظاهر العلاقة الوطيدة بين الأدبين ويتمثل في الترجمة والتأليف.

    2 ـ الترجمة والتأليف:

    ليس المقصود في هذا المقام أن نتحدث عن الترجمة باعتبارها تعني نقل الكلام من لغة إلى أخرى؛ أو أن اللغة الأقوى تؤثر في الأضعف... وإنما المقصود ما أنتجته الترجمة من تكوين قواسم مشتركة عديدة بين العرب والإيرانيين على الصعيد الاجتماعي والسياسي والثقافي والأدبي... وقد حمل أعباء ذلك كل من أبناء الشعبين على السواء, فأكدوا عظمة التفاعل المتبادل بينهم وأتاحوا للأدباء والباحثين والشعراء الاطلاع على ثقافة الشعبين؛ فازدادت إبداعاتهم غنىً وارتقاء... وربَّما أحدثت بعض الكتب المترجمة حركة أدبية عظيمة الأشكال والأفكار والموضوعات والمؤلفات, علماً أن كثيراً من الأدباء والمؤرخين والفقهاء واللغوين صاروا من أصحاب اللسانين العربي والفارسي, ألفوا فيهما ونظموا الأشعار بمثل ما ترجموا منهما... فابن سينا ـ مثلاً ـ ألّف كتباً بالعربية منها (الشفاء والقانون والإشارات) وكتباً بالفارسية منها (دانشنامه علائي) وله شعر عربي كقصيدة (النفس) وثنتان وعشرون قطعة من الشعر الفارسي... وأبو الريحان البيروني كتب نسختين من كتابه (التفهيم لأوائل صناعة التنجيم) واحدة بالعربية والأخرى بالفارسية... أمَّا الشاعر الصوفي الشهير سعدي الشيرازي (ت 691هـ) فله أشعار بالفارسية, وقصائد بالعربية منها قصيدته في رثاء بغداد على إثر تخريبها بيد المغول سنة (656هـ)([13]).

    وإذا كنا سنأتي على ذكر عدد آخر في الأشكال الأدبية المشتركة بين الأدبين العربي والفارسي فإننا سنشير ـ بإيجاز ـ إلى كتابين أحدثا حركة التقاء كبرى بينهما وهما كتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع (106 ـ 142هـ) ورباعيات الخيّام؛ لعمر الخيام, وكلاهما إيرانيان من أصحاب اللسانين.

    أمَّا (كليلة ودمنة) فهو أشهر الكتب التي ترجمها ابن المقفع سنة (133هـ) وكان رأس المترجمين العشرة؛ فضلاً عن أنه ألف في العربية عدداً من الكتب مثل (الأدب الصغير, والأدب الكبير, واليتيمة في الرسائل) كما ترجم من الفارسية عدداً آخر لم يصل إلينا منها شيء حتَّى الآن, ومنها (خُداي نامه في السِّيَر, وآيين نامه: القواعد والرسوم, والتاج في سيرة أنو شروان)([14]).

    ويعد كتاب (كليلة ودمنة) أحد الكتب التي قرّبت بين الأدبين العربي والفارسي في الوقت الذي أحدث فيهما حركة فنية وفكرية... وكان ابن المقفع قد ترجمه عن الفارسية القديمة (الفهلوية) التي نُقل إليها من اللغة الهندية؛ ولما ضاع الأصل الفارسي والهندي صارت الترجمة العربية أصلاً ولا سيما أن ابن المقفع أضاف إليها بعض الأبواب..., وأشهر من ترجمها بعد ذلك إلى الفارسية أبو المعالي نصر الله (سنة 539هـ) ثمَّ ترجمت غير مرّة إلى الفارسية وغيرها من اللغات العالمية([15]).

    وإذا كانت قصص مشهد الحيوان معروفة في الشعر الجاهلي فإن السرد القصصي لكليلة ودمنة يختلف كل الاختلاف عمَّا هو في مشاهد الحيوان تلك, فضلاً عن أن ابن المقفع تصرّف في أسلوب السرد ومعانيه بما يتوافق والذوق العربي...

    ومن ثمَّ فإن كثيراً من الأدباء واللغويين أخذوا ينقلون منها حكايات وأمثالاً كما نجده في (عيون الأخبار) لابن قتيبة, أو يؤلفون على منوالها كما حُكي عن كتاب (القائف) للمعري الذي ما زال مفقوداً, وكتاب ابن الهبّارية في الشعر (الصادح والباغم) الذي طُبع مرات عدة, وغيرهما([16]).

    وإذا كان الدكتور طه حسين قد أعجب بجودة عبارات كليلة ودمنة؛ فإن كثيراً من الأدباء احتذوا ابن المقفع في الكتابة والأساليب وغزارة المعاني, واقتباس الأمثال والحكم من أ فواه البهائم والطير ومن ثمَّ نسجها في أشكال شعرية ونثرية... فأبان بن عبد الحميد اللاحقي نظم كليلة ودمنة شعراً ـ ولكن منظومته ضاعت ـ ونظمها عدد آخر مثل سهل بن نوبخت عام (165هـ)([17]).

    ولم تقتصر العلاقة بين الأدبين العربي والفارسي على الأدب القديم وإنما امتدت إلى الأدب الحديث. وكان أنوار سهيلي قد ترجم (كليلة ودمنة) إلى الفارسية, ومن ثمَّ ترجمت إلى الفرنسية فتأثر بها لافونتين (1621 ـ 1695م) وحاكاها, ثمَّ تأثر الأدب العربي الحديث بها, إذ ترجمها من العرب المحدثين محمد عثمان جلال (ت 1898م)؛ فقد ضمّ كتابه (العيون اليواقظ في الحكم والأمثال والمواعظ) كثيراً من حكاياتها وأفكارها..., واتسمت حكاياته بالإيجاز واستخدام بعض الألفاظ العامية فضلاً عن تأثره بحكايات لافونتين... ومن أبرز التقاطع بين حكايات محمد عثمان جلال والشعر الفارسي أنه نظمها على فن المزدوج/المثنوي عند الإيرانيين؛ في وحدة القافية بين البيتين دون التزامها في القصيدة كلها كما في قصة (الثعلب مقطوع الذنب)([18]).

    وفي هذا المقام لا ننسى أن نشير إلى أمير الشعراء أحمد شوقي الذي كتب خمسين قطعة على لسان الحيوان تؤكد تأثره بحكايات (كليلة ودمنة) وأفكارها كقصيدته (الثعلب والديك), ومنها تظاهرُ الثعلب بالتقوى والصلاح, وتخلّيه عن كل مكائده وفتكه بالطيور...([19]). وإذا كانت الخرافات والأساطير إحدى نقاط الالتقاء بين العرب والإيرانيين فإن كليلة ودمنة جمعت هذا إلى جوانب أخرى.

    وليس هناك كتاب يتفوق على (كليلة ودمنة) إلا رباعيات الخيام لأبي الفتح غياث الدين عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري (430 ـ 526هـ) التي نظمها بالفارسية, فضلاً عمَّا قيل: إنَّ له أشعاراً حسنة بالعربية والفارسية؛ وكذلك كتب بالعربية (مقالة في الجبر والمقابلة) و(رسالة في الوجود) وغيرها([20])؛ فهو أحد أصحاب اللسانين...

    ولعل مقام البحث ومنهجه يتأبّى عن الإفاضة برباعيات الخيام وترجماتها؛ وما قيل في شأنها وشأن صاحبها, فقد تكفلت فيه دراسات شتى شرقاً وغرباً... ولكننا نتوقف عند قيمة الرباعيات باعتبار ما انتهت إليه من بناء علاقة كبرى بين الأدب الفارسي والأدب العربي ولا سيما الحديث.

    وإذا كان كتاب (جَهار مقاله) للعروضي السمرقندي أقدم وثيقة تاريخية عُنيت بالخيام وفلسفته وطبه وفلكه فإن صاحب حواشي ذلك الكتاب قد أثبت رباعية للخيّام, كما أثبت كتاب (فردوس التواريخ) رباعية لا بأس بها...([21]).

    ثمَّ وثّق المحققون له رباعيات تراوحت بين (16 و56) وربَّما زاد عددها, فاشتهرت به كما اشتهر بها فأضيفت إليه (رباعيات الخيام) علماً أن فن الرباعيات معروف منذ أواخر القرن الثالث الهجري لدى الشعراء الإيرانيين, ونظم عليه ـ مثلاً ـ شهيد البلخي (ت 325هـ) والرودكي السمرقند (ت 329هـ) والدقيق الطوسي (ت 368هـ) وغيرهم([22]).

    ولعل التقاء الرباعيات بفنون عربية كالمشطرات والمربعات والمخمسات لم يكن عرضاً علماً أنها نظمت على وزن الهزج وغيره... وإن تفردت عنها بتكرار المعاني وتفتيق الأفكار... أمَّا التقاؤها بالأدب العربي الحديث فقد كان معنياً؛ إذ أحدثت الرباعيات نشاطاً أدبياً وفكرياً ونفسياً عظيماً, في الوقت الذي دلت على نزوع عقلي امتزج بحس مرهف, وبعاطفة شفافة في معالجتها للبحث عن سر الوجود: الحياة/الموت.

    ولهذا فإن ترجماتها العربية زادت على خمس عشرة ترجمة منذ ترجمة وديع البستاني لها سنة (1912م) عن الترجمة الإنكليزية التي قام بها فيتز جيرالد عن الفارسية؛ سواء كانت ترجمة شعرية أم نثرية؛ فضلاً عن دراسات كثيرة وأبحاث أكثر عدداً. وإذا كان البستاني قد أحال الرباعية إلى سباعية فإن ترجمته دفعت من يتقن الفارسية إلى ترجمتها عنها مباشرة كما دفعت الناس إلى تعلم الفارسية لينقلوا الرباعيات عنها كما حدث مع الشاعر أحمد رامي...

    ولا مراء في أن ترجمة أحمد الصافي النّجفي تتميز بشفافية عالية سكب فيها روحه ورؤاه؛ فقرَّب الرباعيات إلى الذوق العربي, وما سبقه في هذا إلا أحمد رامي الذي كان يقع تحت تأثير أحزانٍ وهموم لفقده أحد ذويه حين ترجمها سنة (1924م).... دون أن ننسى صوت أم كلثوم الذي أشاع بين العامة عدداً من الرباعيات من ترجمة أحمد رامي([23]).

    ولا نرتاب لحظة واحدة في أن فلسفة الخيام في الرباعيات تتقاطع في بعض ملامح منها بما نجده عند الشاعر المعري؛ ولا سيما ما يدور حول مفهوم الوجود ودورة الحياة؛ فالإنسان من تراب وسيعود إليه([24]), أو حول مبدأ الشك واليقين([25])... ويبدو أن هذا كله امتد إلى شعر إيليا أبي ماضي ولا سيما قصيدته (الطلاسم) التي أنشدها بعد أن اطلع على ترجمة فيتز جيرالد للرباعيات, ومنها([26]):

    جئت لا أعلم من أين؛ ولكني أتيت

    ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيت

    وسأبقى ماشياً إنْ شئت هذا أم أبيت

    كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟

    لست أدري.

    ولما انطلق الخيام من المبدأ المادي باعتباره شرطاً لوجود العالم وهو بخلاف الموجود الأزلي القديم رأينا إيليا أبا ماضي يحذو حذوه في غير ما مكان من قصيدته السابقة([27]).

    ولم يقتصر الأمر على المعري وأبي ماضي بل امتد ـ أيضاً ـ إلى جماعة الديوان كعباس محمود العقاد (1889 ـ 1984م) الذي بدأ أولى مقالاته عن الرباعيات سنة (1908م) وأتبعها بدراسات أخرى فضلاً عن معارضته إياه برباعيات أخرى؛ وعبد الرحمن شكري (1886 ـ 1958م) الذي ترجم ثلاث رباعيات وكتب عنها؛ وإبراهيم عبد القادر المازني (1890 ـ 1949م) الذي كان أكثر تأثراً بالرباعيات من صاحبيه, وردَّ عن الخيام تهمة النزعة الأبيقورية ونزعة التصوف([28]).

    ولعل ما أرسته رباعيات الخيّام من قواسم مشتركة بين الأدبين العربي والفارسي فناً وأسلوباً, فكراً ونقداً يدفع بنا إلى إحياء مؤسسات مشتركة بين العرب والإيرانيين لترجمة آدابهما وتراثهما ومؤلفاتهما المختلفة في كل اتجاه... فلماذا لا نجدّد روح (بيت الحكمة) الذي أنشئ في العصر العباسي في بغداد؟!!

    ونكتفي بما أشرنا إليه دون أن ننسى عوامل الالتقاء الأخرى التي أدت ازدياد التقارب بين العرب والإيرانيين, وتمازجهما في الحياة والفكر... ويعد الجاحظ (ت 255هـ) أحد الأدباء الذين مارسوا ذلك قولاً وفعلاً... فلما أهدى كتابه (الحيوان) إلى الوزير ابن الزيات أهدى (البيان والتبيين) إلى قاضي القضاة ابن أبي دؤاد, وكتاب (الزرع والنخيل) إلى إبراهيم بن العباس الصولي...

    ومن يقرأ كتابه (البخلاء) الذي قدمه إلى أحد الأعيان يجد تمازجاً حضارياً فكرياً واجتماعياً مدهشاً سيق بأسلوب أدبي طريف لكل من بخلاء العرب والفرس([29]).

    وفي نهاية هذا الاتجاه من الترجمة والتأليف لا يمكننا أن نغفل التنويه بفضل المقامات الأدبية التي نشأت عند العرب وأبدعها بديع الزمان الهمذاني (ت 398هـ) وأبي محمد القاسم بن علي الحريري (446 ـ 516هـ) ثمَّ انتقلت إلى الأدب الفارسي على يد القاضي أبي بكر حميد الدين عمر بن محمود البلخي (ت 559هـ). وقلَّد في مقاماته المقامات العربية أسلوباً ومادة؛ وإن ظهر فيها تأثير الروح الفارسية كالتفنن في الأساليب, وسميت بأسماء بعض مناطق فارس كالمقامة البلخية, والسجستانية, والأذربيجانية والجرجانية والأصفهانية وغيرها... دون أن ننسى أن مقامات الحريري تقاسمت الروح الفارسية في الموضوعات والأساليب مع المقامات الفارسية؛ علماً أن حميد الدين كان أكثر تأثراً بها... وقد عرض لذلك عدد من الدارسين والباحثين([30]).

    ولعل أهم ما فعلته المقامات من تقاسم مشترك بين الأدبين العربي والفارسي, ومن ثمَّ في الحياة, أن استخدام الألفاظ العربية قد كثر على الألسنة, وشاع استعمال أنماط من التراكيب العربية الكاملة في سياق ما يستدعيه موضوع ما...

    ونكتفي بما ذكرناه لننتقل منه إلى القواسم المشتركة في اللغة والأشكال الفنية وفي بعض الموضوعات الأدبية...

    3 ـ القواسم اللغوية والفنية

    يعدُّ الالتقاء الحضاري اللغوي والبلاغي والأسلوبي والفني من أبرز وجوه التفاعل بين الأدبين العربي والفارسي منذ القديم؛ وذلك لعظمة التمازج التاريخي والاجتماعي بين الشعبين العربي والإيراني.

    فمن منا ينسى استنجاد ملك اليمن سيف بن ذي يزن (ت 50 ق.هـ) بكسرى أنوشروان (ت سنة 1 ق. هـ) لطرد الأحباش, فأسرع إلى تلبية رغبته؟ وظل لهذه الحادثة التاريخية أصداؤها في الحياة والأدب؛ وممن أشار إليه البحتري (ت 284هـ) في قوله([31]):

    أَيّدوا مُلكنا وشدُّوا قواه



    بكُمَاة تحت السَّنَوَّر حُمْسِ



    وأعانوا على كتائب أَرْيا



    طٍ بطَعْن على النحور ودَعْسِ




    ومن ثمَّ ما جمعت حادثة تاريخية بين الشعبين كتلك التي جرت أحداثها بعد الإسلام بمقتل سبط رسول الله (e) الحسين بن علي (u) في كربلاء, فألهبت عواطف الأدباء والشعراء فكانت مصدراً ثراً للأدبين.

    ونكتفي بهذين المثالين لنثبت القواسم المشتركة في اللغة ألفاظاً ومصطلحات وتراكيب وصوراً... فكان أبناء العربية يتداولون الألفاظ الفارسية ويتعلمون لغتها, بمثل ما كان أبناء إيران يسعون منذ القديم إلى تقليد الحياة العربية؛ ويتعلمون لغتها ويقرضون أشعارها... وكلّنا يذكر أن الملك الساساني بَهْرام كَور (جور) أرسله أبوه إلى الحِيْرة, ليقوم النعمان بن المنذر على تربيته وتعليمه العربية... وقد تمَّ له ذلك؛ وقيل: إنه تجاوز تعلم اللغة وقرض الشعر... وكذلك كان الشاعر عدي بن زيد وابنه زيد مترجمين لكسرى أنوشروان, وظهرت كثير من الألفاظ الفارسية في شعره وشعر غيره كطرفة بن العبد وأعشى بني قيس...([32])

    وكان عدد من العرب قد سمَّوا أبناءهم وبناتهم بأسماء فارسية مثل (قابوس) بن النعمان بن المنذر, ودختنوس بنت لقيط بن زُرَارة, فضلاً عن تسمية بعض بطون قبائلهم بتلك الأسماء, كالأَسْبذيين الذين ينتسبون إلى (أَسْبذ). وهو لفظ مأخوذ من كلمة فارسية (أسب) وتعني (الفَرس) وذكر ذلك طرفة في قوله([33]):

    خذوا حِذْركم أهل المُشَقَّر والصَّفا



    عبيدَ اسْبَذٍ والقرضُ يُجْزى من القرضِ




    وفي ضوء ذلك يمكننا أن نستدعي شاهداً واحداً من شعر الأعشى ليؤكد عظمة دوران الألفاظ الفارسية على ألسنة الأدباء والناس في العصر الجاهلي؛ وهو قوله([34]):

    لنا جَلَّسان عندها وبَنفسجٌ



    وسيْسَنْبرٌ والمَرْزجوشُ مُنَمْنَما



    وآسٌ وخِيريٌّ ومَرْوٌ وسوسن



    إذا كان هِنْزَ مَنْ ورحت مُخَشَّما



    وشاهَسْفِرم والياسمين ونرجسٌ



    يُصبّحنا في كل دَجْن تَغَيَّما



    ومُسْتقُ سينين ووَنٌّ وبَرْبَط



    يجاوبه صَنْج إذا ما ترنَّما




    فأصل (جَلّسان) في الفلاسية: (كَلشن) و(بنفسج: بنفشه) و(سيسَنْبر: سيسنمر) و(مرزجوش: مرزن كَوشَ) و(شاهسفرم: شاه سبرغم) و(ياسمين: ياسمن) و(وَنّ: وَنَكَث) و(بربط: بربت) و(صنج: جَنكث) على حين اتفقت العربية والفارسية بالألفاظ الأخرى (آس, خيري, سوسن؛ مستق).

    ويبدو لي أن لفظ (ناهد) ومعناه الفتاة التي برز ثدياها انتقلت إلى الفارسية بالمعنى ذاته, وورد استعمالها في كتاب (الأَفستا)؛ أما أستاذ اللغات القديمة في جامعة طهران (بَهرام فره وش) فذهب إلى العكس([35]).

    ثمَّ جاء الإسلام؛ فاستعمل القرآن الكريم عدداً من الألفاظ الفارسية المعربة مثل (سُنْدس واستبرق, ومَرْجان ومسك؛ وزنجبيل, وسِجِلّ وسُرَادق...).

    ولما انتشرت اللغة العربية بانتشار الدين الجديد ازداد دوران الألفاظ العربية على الألسنة وصارت لغة الآداب الفارسية في كثير من العلوم والفنون وتغلغلت في كل مجال؛ ثمَّ في كل كتاب فارسي... وهذا أكثر شهرة من أن يقف الباحث عنده؛ فلو تصفح أحدنا أي كتاب في الشعر أو غيره لتأكد له ذلك... فضلاً عن أسماء الكتب؛ والعنوانات العربية, وعن وضع المعاجم اللغوية الفارسية على غرار المعاجم العربية. ولعل أقدم معجم فارسي هو (لغة الفرس) لعلي بن أحد الأسدي الطوسي (ت 465هـ).

    وامتد الأمر إلى المصطلحات اللغوية في الأدب والفن والعمارة والفقه والحديث وعلوم القرآن والفلسفة والتصوف... وهذا ميدان عريض لا يحدُّ, وهو ما يجعلنا ننتقل إلى استمرار استعارة العرب للألفاظ الفارسية من العامة والخاصة ولا سيما في العصر العباسي... وشاعت في الحياة والأدب كأسماء الأعياد والنرد وغيرها, كما نراه في شعر البحتري, ومنه قوله([36]):

    يرمي فما يشوي ويقتل من رمَى



    بسِهامِ لا هَدَفٍ ولا بُرْجاسِ




    ويتردد في شعر البحتري ـ مثلاً ـ ألفاظ فارسية لأعلام وأماكن وجماعات وغير ذلك...، ولم يقتصر الأمر على ذلك فهناك من أدخل في شعره ألفاظاً فارسية على سبيل التملّح كقول العُمَانيّ للرشيد يمدحه([37]):

    لمّا هوى بين غياض الأُسْدِ



    وصار في كفِّ الهِزَبْر الوَرْدِ




    آلى يذوق الدَّهْرَ آبِ سَرْدِ






    والتملح في لفظ (آب سَرْد) وآب: يعني (الماء) وسَرْد: يعني (البارد).

    ومن هنا ننتقل إلى بعض الأساليب اللغوية والبلاغية التي تبادلها الأدبان العربي والفارسي... فقد كثر اقتباس القوالب اللغوية والأسماء بعينها؛ سواء كان ذلك من لغة القرآن والحديث أم لغة الأدب وعلوم اللغة وغيرها, فضلاً عن استبدال بعض المصطلحات بما يوازيها معنى ولفظاً, فالمزدوج هو المثنوي عند الفرس, والتجنيس المطلق يطلق عليه لدى البلاغيين الفرس (المتشابه)([38]) وعلوم البلاغة ومصطلحاتها وشواهدها عند العرب نجدها بدقائقها في كتاب (حدائق السحر في دقائق الشعر) لرشيد الدين البلخي.... أمَّا كتاب (أنوار البلاغة) لمحمد هادي بن محمد صالح المازندراني ـ أحد علماء المسلمين في القرن الحادي عشر ـ فقد تأثر كثيراً بكتابي (المطول) و(المختصر) للتفتازاني([39]).

    وأساليب البلاغة ومصطلحاتها التي تبادلها الأدباء والبلاغيون والنقاد كانت تشكل قاسماً مشتركاً كبيراً بين الأدبين؛ علماً أن الأدب الفارسي أفاد في هذا الشأن من الأدب العربي... فلن يبلغ الأديب شأواً بعيداً إذا لم يكن على دراية بها... ولم يقع الاختلاف إلا في أساليب قليلة؛ فلما فضّل الشعراء العرب صنعة (التصريع, والترصيع, والإيجاز والتكثيف) فضّل الشعراء الفرس صنعة (السؤال والجواب؛ وتفريع الأفكار) كما رآه الوطواط([40]).

    وهذا يفرض علينا الإشارة السريعة إلى الأساليب الفنية الأدبية التي غدت قاسماً مشتركاً بين الأدبين... فلما شاع إنشاد الأشعار باللغتين العربية والفارسية أخذ الشعراء ينظمون الشعر مزاوجين بينهما؛ فإما أن يكون شطر لكل منهما وإما أن يكون بيت وأطلق على هذا الصنيع (المُلَمَّعات) وهذا ما نجده عند الشاعر حافظ الشيرازي (ت 791هـ)؛ إذ يستهلّ أشهر مُلمَّعة عند العرب والفرس بقوله من الهزج([41]):

    ألا يا أيها الساقي



    أَدر كأساً وناولها



    كه عشق آسان نمود



    أوّل ولى افتاد مشكلها




    وترجمة البيت الفارسي: إنَّ الحب سهل وممتنع في أوله ولكن متاعبه تكمن فيما بعد... ومن يتأمل البيت الأول يستشف أنه متأثر فيه بأبيات ليزيد بن معاوية... فالاستشهاد بنصٍّ كامل لم يعد مقتصراً على القرآن والحديث بل انتقل إلى الشعر العربي, وهو ما عرف بالاقتباس اللفظي ويعرف اليوم في النقد الحديث بالتناص اللفظي... وهذه الظواهر من الاشتراك الأدبي "أشهر وأرحب من أن نمثل لها ببضعة أمثلة. ونكتفي بأن نقرر أنها تكثر في الأجناس" الأدبية الفارسية والعربية المستحدثة([42]). فالكتابات الديوانية والرسائل الديوانية والعلمية, والتوقيعات والتعليقات كلها انتقلت من بلاد فارس إلى العربية, وأفادت من أساليبهم الفنية فيها, ولا سيما العناية بالمقدمات والإطناب, والشرح في أنواع من الرسائل... وغدا ذلك كله قاسماً عاماً في الأدبين العربي والفارسي ابتداءً من عهد عبد الملك بن مروان, وخلفائه. وكان عبد الحميد الكاتب ـ الفارسي الأصل ـ تلميذاً بارعاً لسالم مولى هشام بن عبد الملك؛ فقدّم للأشكال الفنية والكتابية في الأدب العربي خدمات جُلَّى([43]).

    أمَّا ما يتعلق بوصف الخمر التي أولع بها أبو نواس وأمثاله في العصر العباسي فقد تطور كثيراً نتيجة التأثر بطبيعة حياة اللهو والأدب الفارسي([44])؛ على الرغم من أن العرب منذ القديم كانوا يتفنّنون في أوصافها كالأعشى.

    ومن ثمَّ فقد أخذت الخمر اتجاهاً جديداً دخل في باب التصوف الذي اشتهر به العرب والفرس على السواء... ودخلت ألفاظ الخمر في باب الرموز الصوفية ودرجاتها عند عدد من شعراء الطرفين, بل إنَّ أبا نواس ارتقى في درجات عشقها ارتقاء المتصوفة في مقاماتهم.

    ولعل فيما أشرنا إليه كفاية عن هذه الأنماط الفنية الأدبية لدى العرب والإيرانيين شكلت عظمة الالتقاء فيما بينهم... بيد أن المرء لا يمكنه أن يهمل ما يتعلق بالأوزان والقافية, وهو حديثنا الأخير في القواسم الفنية المشتركة لننتقل بعدها إلى الموضوعات لنوجز القول فيها.

    وقد تناول باحثون عديدون ما يتصل بالأوزان والقافية في الشعر؛ فرأوا أن الأدب الفارسي القديم لم يعرف إلا الملاحم التي نظمت على بحر المتقارب المزدودج/المثنوي (وقد ظهر أول ما ظهر في الفارسية الحديثة بعد الفتح في شعر دقيق المتوفى عام (230هـ/940م) الذي بدأ نظم (الشاهنامه) وفي شعره كثرت الرباعيات والمنظومات المثنوية من بحر الرمل والخفيف؛ كما بدأ نظم (كليلة ودمنة) ـ أيضاً ـ في مثنوي بحر الرمل"([45]).

    ومن ثمَّ نتبين أن الوزن لم يأخذ طريقه إلى الأدب الفارسي قبل القرن الثالث الهجري, ولا عرف القافية الواحدة, وإن وقعت في الشعر الفارسي الإسلامي في المزدوج والرباعيات, والقصيدة العادية... والملمعات... وهذا يعني أن الأوزان والقافية انتقلت من الأدب العربي إلى الأدب الفارسي؛ وغدت قاسماً مشتركاً بينهما. ويقع (المتقارب) في الدرجة الأولى عند الشعراء الإيرانيين؛ ويليه الهزج والرمل والخفيف, على حين ندر استعمال بقية الأوزان؛ علماً أن الطويل والكامل والبسيط ثمَّ الوافر والسريع والمتقارب أكثر شيوعاً في الأدب العربي من البحور السابقة...

    ويظن الدكتور محمد غنيمي هلال أن الإيرانيين ربَّما عرفوا في العصور القديمة قبل الإسلام أوزاناً شعبية قريبة من الهزج أو من الرجز([46])؛ وهما بحران مستعملان بكثرة في الشعر العربي منذ القديم...

    وليس هناك مراء في أن الأدب الفارسي أنتج فن (المثنوي) ذي القافية الواحدة بين مصراعي البيت الواحد دون باقي القصيدة؛ كما أبدع فن (الرباعي) المكون من أربع شطرات ذات قافية موحدة, وكل رباعية مستقلة بذاتها عمَّا قبلها وبعدها... وإن كان العرب قد عرفوا المشطرات والمربعات والمُخَمّسات, ثمَّ أبدعوا الموشحات ذات النهج الجديد في البناء والقافية, وهي التي أثرت في نشأة شعر التروبادور الأوربي. وما يشبه الموشحات إلا فن الزجل, وكلاهما فن شعبي([47]) يعالج موضوعات مختلفة كالمدح والغزل, على حين تحاول الأناشيد الدينية المشتركة أنْ تعالج موضوعات صوفية.

    هكذا يسلمنا الحديث إلى سمة عالمية مشتركة بين آداب الأمم المختلفة بما فيها الأدب العربي والفارسي وهي سمة القصة والسرد؛ وإذا كان أول ظهور لها في النثر اليوناني القصصي, علماً أن هناك عناصر قصصية في ملاحم اليونان وبعض أشعار العرب القدماء وسير ملوك فارس وحكمائها فإن أول ظهور لها في النثر العربي والفارسي كان في العصر الحديث وقبلها ظهرت المسرحية والمقالة باعتبارهما فنين جديدين.... اللهم إذا استثنينا من ذلك قصص الفروسية والعشق, والسِّيَر الشعبية كسيرة عنترة وسيرة كسرى أنو شروان وأمثالهما؛ وقصة ألف ليلة وليلة, وحي بن يقظان...([48])

    وبناء على ما تقدم كله يتضح لدينا بعض القواسم المشتركة اللغوية والفنية الأدبية والأسلوبية بين الأدب العربي والفارسي... وهي تلزمنا بتكثيف الكلام على الموضوعات من جهة المضمون أو الفكرة...

    4 ـ الموضوعات المشتركة

    هناك موضوعات أدبية عدة تبادلها الأدبان العربي أو الفارسي, أو انتقلت من أحدهما إلى الآخر, ثمَّ رجعت إليه بصورتها الفكرية الجديدة؛ لتغدو قاسماً مشتركاً بينهما؛ وكانت في كل مرة تتخذ وظائف جديدة على نحو كبير.

    ولعل موضوع وصف الطبيعة الجامدة والمتحركة, ووصف الممالك الزائلة والأطلال الدارسة من الموضوعات المشتركة والمهمة بين الأدبين العربي والفارسي... وتطور موضوع الأطلال كما هو في العصر الجاهلي إلى وصف الآطام والحصون والقصور الخربة؛ كإيوان كسرى, والصروح الرومانية القديمة أو الآثار الإسلامية التي تهدمت... وغدت موضوعات الوصف في هذا الاتجاه تحمل بُعداً عاطفياً ذاتياً, ووطنياً في بعض الأحيان...([49])

    وإذا كان البحتري قد بكى إيوان كسرى ووصفه وصفاً رائعاً, وكأنه ببكائه يبكي خراب هذه المباني العظيمة؛ كما نجده في سينيته المشهورة؛ ومطلعها([50]):

    صنْتُ نفسي عمّا يُدنِّسُ نفسي



    وترفَّعْتُ عن جَدا كلِّ جِبْسِ




    ثمَّ عارضه فيها أحمد شوقي في العصر الحديث ورثى آثار العرب في الأندلس, ثمَّ بكى أمجاد العرب الغابرة في قصيدته, ومطلعها([51]):

    اختلاف النهار والليل يُنْسي



    اذكرا لي الصِّبا وأَيَّامَ أُنسي




    ومن قبلُ حذا حذوه الشاعر الإيراني منو جهري ـ أحد شعراء القرن الخامس الهجري ـ فوقف على الأطلال حين مدح عظيماً من العظماء, وكذلك فعل الشاعر الإيراني الآخر خاقاني وهو أفضل الدين إبراهيم بن علي الشيرواني المتوفى نهاية القرن الثاني عشر الميلادي, ووصف إيوان كسرى([52]).

    وأخيراً نتوقف عند موضوع الحب العذري, وبخاصة قصة عشق قيس بن الملوح؛ مجنون بني عامر؛ لليلى العامرية... فهي من أعظم القصص في الأدبين العربي والفارسي في موضوع الحب والتدله والحرمان... وإذا كانت قصة المجنون عند العرب تجسد أخباراً مثيرة تناقلها الناس؛ فإنها لقيت لدى أدباء إيران رواجاً لا نظير له؛ ثمَّ اتّخذت شكل العمل الأدبي المتكامل بعد أن كانت مجرد أخبار متفرقة تعبر عن الحرمان والعذاب والمعاناة والعشق. وكان فضل الريادة في هذا للشاعر الإيراني (نظامي الكنجوي 530 ـ 595هـ). وقد نظم قصة (ليلى والمجنون) في (4700) بيت عام (584هـ) في أربعة أشهر([53]).

    ومن ثمَّ كان الحب العذري منطلقاً إلى الحب الصوفي في الأدب الفارسي؛ وهذا ما ظهر في صنيع (نظامي) ثمَّ نسج أحمد شوقي مسرحيته (مجنون ليلى) على منوال ما حيك عن المجنون في الأدب الفارسي الذي نقل إلى التركية؛ التي كان شوقي يجيدها([54]).

    وهذا لا ينسينا أن الأدب الصوفي نفسه "نشأ في الأدب العربي وعني به الكتاب عناية فائقة, ثمَّ نقل بعد ذلك إلى الأدب الفارسي, فعُني به الكتاب؛ ثمَّ انتقلت تلك العناية إلى الشعراء. وهكذا دخل عليه تطور في الأدب الفارسي حتَّى جاء وقت غلبت فيه التأليفات الصوفية الشعرية على النثرية في الأدب الفارسي؛ على حين كان العكس في الأدب العربي؛ إذ ظلت الغلبة للمؤلفات الصوفية النثرية على المؤلفات الشعرية الصوفية"([55]).

    ويعد الشاعر الإيراني جلال الدين الرومي: محمد بن محمد البلخي (604 ـ 672هـ) من أعظم شعراء التصوف الإسلامي. وقد حدثنا عن طريق السالكين المملوءة بالمصاعب والدم, وهو يقص علينا عشق المجنون... وينتهي إلى ذكر عدد من مقامات الصوفية في قصيدته (شكوى الناي). فالناي لديه رمز للروح التي كانت في عالم الذر, فلمّا تجلى الله للروح سكنت الجسد([56]). وهي في ثمانية عشر بيتاً افتتحها بالمثنوي, فقال[57])

    بشنو أين نى جون شكايت في كند



    ازجدا بى ها حكايت في كند




    والمعنى: استمع للناي كيف يقص حكايته. إنه يشكو آلام الفراق. وترجمها محمد الفراتي شعراً فقال:

    اسمع النايَ مُعْرِباً عن شكاتِهْ



    بعد أن بات نائياً عن لِداتِهْ




    ووظّف الشاعر الكبير محمد إقبال حكاية المجنون في الأدب الصوفي الحديث في قوله([58]):

    ما زال قيسٌ والغرام كعهده



    وربوعُ ليلى في ربيع جمالها



    وهضاب نجدٍ في مراعيها المها



    وظباؤها الخفرات ملءُ جبالها



    والعشق فيّاض وأُمَّة أحمد



    يتحفّز التاريخُ لاستقبالها




    هكذا أدّى العشق العذري والحرمان فيه إلى إثارة خيال المتصوفة, وأوقد ذاكرتهم فأبدعت أفكاراً شتى دخلت العرفان الفارسي من الباب الواسع, ومن ثمَّ أخذت تنتقل إلى الأدب العربيّ فنتج عنها قواسم مشتركة فناً وفكراً.

    وهذا ما ينطبق على موضوعات أخرى كأغراض المدح والغزل وغيرهما. إذ يضيق المجال بهذه الموضوعات لو تتبعناها؛ وحسبنا ما وقفنا عنده ممَّا يؤكد عظمة الالتقاء بين الأدبين العربي والفارسي؛,,, ولعل هذا يطرد من نفوسنا أي استشعار بالفرقة والعداوة؛ لأنَّ المودة والمحبة كانت وراء ذلك التمازج قبل أن تكون الأحداث التاريخية والاجتماعية وراء عملية التقارب والتمازج لنعيد إلى ذاتنا جوهرها الأصيل الذي أسسه قوله تعالى: ]كنتم خير أمة أخرجت للناس[ فنحن شعبان في أمة واحدة...

    المصادر والمراجع

    (1) ـ إبداع ونقد ـ قراءة جديدة للإبداع في العصر العباسي ـ د. حسين جمعة ـ دار النمير ـ دمشق ـ 2003م.

    (2) ـ الأدب المقارن ـ د. محمد غنيمي هلال ـ دار العودة ـ بيروت ـ ط5 ـ د/ت.

    (3) ـ الأعلام ـ خير الدين الزركلي ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ط7 ـ 1986م.

    (4) ـ إيليا أبو ماضي: شاعر المهجر الأكبر ـ زهير ميرزا ـ نشر دار اليقظة العربية ـ ومطبوعات المطبعة التعاونية اللبنانية ـ بيروت ـ ط2 ـ 1963م.

    (5) ـ تاريخ الأدب في إيران ـ إدوارد براون ـ ترجمة إبراهيم أمين الشواربي ـ دار السعادة ـ مصر ـ 1954م.

    (6) ـ تاريخ الترسل النثري عند العرب في العصر الأموي ـ د. محمد المقداد ـ مكتبة الفرسان ـ الكويت 1997م.

    (7) ـ تأثر جماعة الديوان برباعيات الخيام ـ د. يوسف بكار ـ أبحاث ندوة (العلاقات الأدبية واللغوية العربية ـ الإيرانية) ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ 1999م.

    (8) ـ ترجمان البلاغة ـ بالفارسية ـ لمحمد بن عمر الرادوياني ـ به تصحيح واهتمام أحمد آتش ـ جاب دوم, شركت انتشارات أساطيرـ تهران ـ 1362 هـ. ش.

    (9) ـ حدائق السحر في دقائق الشعر ـ رشيد الدين محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي ـ المعروف بالوطواط ـ ترجمة د. إبراهيم الشواربي ـ 1945م.

    (10) ـ دراسات في الأدب المقارن ـ د. بديع محمد جمعة ـ دار النهضة العربية ـ بيروت ـ ط2 ـ 1980.

    (11) ـ ديوان الأعشى ـ تحقيق د. محمد محمد حسين ـ المكتب الشرقي ـ بيروت ـ 1968م.

    (12) ـ ديوان البحتري ـ شرح د. محمد التونجي ـ دار الكتاب العرب ـ بيروت ـ ط2 ـ 1999م.

    (13) ـ ديوان حافظ الشيرازي ـ تصحيح د. حسين إلهي ـ خط غلام حسين أمير خاني ـ انتشارات سروس ـ تهران ـ 1374 هـ. ش.

    (14) ـ ديوان طرفة بن العبد ـ دار صادر ـ بيروت, والبيت المستشهد به لا يوجد إلا في هذه الطبعة من طبعات الديوان.

    (15) ـ ديوان أبي نواس ـ تحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي ـ دار الكاتب العربي ـ بيروت ـ د/ت.

    (16) ـ رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية ـ د. عبد الحفيظ محمد حسن ـ كلية العلوم ـ جامعة القاهرة ـ ط1 ـ 1989م.

    (17) ـ رباعيات عمر الخيام ـ ترجمة أحمد الصافي النجفي ـ دار طلاس ـ دمشق ـ ط5 ـ 1998م.

    (18) ـ رباعيات عمر الخيام ـ ترجمة الشاعر الأردني عَرار: مصطفى وهبي التل ـ تحقيق د. يوسف بكار ـ مكتبة الرائد العلمية ـ عمّان ـ الأردن ـ ط2 ـ 1999م.

    (19) ـ رسالة التوابع والزوابع ـ لابن شهيد الأندلسي ـ تحقيق بطرس البستاني ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1967م.

    (20) ـ رسالة الغفران ـ لأبي العلاء المصري ـ تحقيق د. بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن ـ دار المعارف بمصر ـ ص 8 ـ 1990م.

    (21) ـ الشاهنامه ـ لأبي القاسم الفردوسي ـ ترجمة سمير مالطي ـ دار العلم للملايين ـ بيروت ـ ط2 ـ 1979م.

    (22) ـ شرح مقامات بديع الزمان الهمذاني ـ تأليف محمد محيي الدين عبد الحميد ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1979م.

    (23) ـ شروح سقط الزند ـ تحقيق مصطفى السقا ورفاقه ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ نسخة عن طبعة دار الكتب المصرية ـ 1945م.

    (24) ـ شكوى الشكوى: تأملات في قصيدة (شكوى الناي) ـ د. عيسى علي العاكوب ـ ضمن أبحاث ندوة العلاقات الأدبية ـ انظر رقم 7 ـ.

    (25) ـ الشوقيات ـ أحمد شوقي ـ المكتبة التجارية الكبرى بمصر ـ 1970م.

    (26) ـ الظواهر المسرحية عند العرب ـ علي عقلة عرسان ـ اتحاد الكتاب العرب ـ دمشق ـ ط3 ـ 1985م.

    (27) ـ العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل ـ مجموعة من الباحثين ـ مركز دراسات الوحدة العربية ـ بيروت ـ ط1 ـ 1996م.

    (28) ـ فرهنك وازهاي فارسي عربي إي ـ بهرام فره وش ـ تهران ـ 1968م.

    (29) ـ قصة الأدب الفارسي ـ حامد عبد القادر ـ مكتبة نهضة مصر ـ القاهرة ـ 1951م.

    (30) ـ القيان والغناء ـ د. ناصر الدين الأَسد ـ دار المعارف بمصر ـ القاهرة ـ ط2 ـ 1968م.

    (31) ـ كشف اللثام عن رباعيات الخيام ـ لأبي النصر مبشر الطرازي الحسيني ـ دار الكاتب العربي ـ ط1 ـ القاهرة ـ.

    (32) ـ لسان العرب ـ لابن منظور ـ دار صادر ـ بيروت ـ 1955 ـ 1956م.

    (33) ـ ليلى والمجنون ـ للشاعر الفارسي نظامي الكنجوي ـ ترجمة عائشة عفة زكريا ـ دار المنهل للطباعة والنشر ـ دمشق ـ 2001م.

    (34) ـ مختارات من الشعر الفارسي ـ د. محمد غنيمي هلال ـ الدار القومية للطباعة ـ القاهرة ـ 1965م.

    (35) ـ مروج الذهب ـ للمسعودي ـ تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد ـ المطبعة التجارية الكبرى بمصر ـ ط 4 ـ 1964م.

    (36) ـ المعجم في معايير أشعار العجم ـ بتصحيح محمد قزويني ومدرس رضوي ـ جاب سوم ـ كتابفروشي ـ تهران ـ 1360هـ. ش.

    (37) ـ المقامات الأدبية ـ لأبي محمد الحريري ـ مطبعة مصطفى البابي الحليب ـ مصر ـ ط5 ـ 1950م.

    (38) ـ مقدمة ابن خلدون ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ـ لبنان ـ ط4 ـ د/تا.

    (39) ـ ابن المقفع بين حضارتين ـ د. حسين جمعة ـ منشورات المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق ـ 2003م.

    (40) ـ يوسف وزليخا ـ لعبد الرحمن الجامي ـ ترجمة عائشة عفة زكريا ـ دار المنهل للطباعة والنشر ـ دمشق ـ 2003م.



    --------------------------------------------------------------------------------

    (*)باحث وأستاذ في كلية الآداب في جامعة دمشق.

    ([1]) العلاقات العربية الإيرانية: الاتجاهات الراهنة وآفاق المستقبل 113.

    ([2]) ديوان البحتري 1/146.

    ([3]) انظر مقدمة ابن خلدون 451 ـ 453.

    ([4]) دراسات في الأدب المقارن 99 وانظر الظواهر المسرحية عند العرب 491 ـ 588.

    ([5]) انظر مثلاً (يوسف وزليخا) لعبد الرحمن الجامي.

    ([6]) انظر دراسات في الأدب المقارن100 والظواهر المسرحية عند العرب 523.

    ([7]) انظر رسالة التوابع والزوابع 72 ـ 74 والظواهر المسرحية 276 وما بعدها.

    ([8]) انظر رسالة الغفران 129 و132و139 ـ 141 والأدب المقارن 230 والظواهر المسرحية عند العرب 518 ـ 520 و525 وإبداع ونقد 135 ـ 136.

    ([9]) انظر دراسات في الأدب المقارن 115 ـ 117.

    ([10]) انظر دراسات في الأدب المقارن 143 ـ 150.

    ([11]) انظر المرجع السابق 105 ومختارات من الشعر الفارسي 445.

    ([12]) انظر الأدب المقارن 149 ـ 158 والأعلام 6/281 والظواهر المسرحية عند العرب 519 ـ 521 و525.

    ([13]) انظر دراسات في الأدب المقارن 84 ـ 86.

    ([14]) انظر ابن المقفع بين حضارتين 65 ـ 165 والظواهر المسرحية عند العرب 391 وما بعدها.

    ([15]) انظر دراسات في الأدب المقارن 172 وما بعدها و194 وما بعدها والأدب المقارن 183 ـ 187.

    ([16]) انظر دراسات في الأدب المقارن 186 ـ 192.

    ([17]) انظر المرجع السابق 178 و187.

    ([18]) انظر المرجع السابق 205 ـ 207 والأدب المقارن 189 ـ 193.

    ([19]) انظر الشوقيات 4/150 والأدب المقارن 193 ـ 195.

    ([20]) انظر كشف اللثام عن رباعيات الخيام 9 ـ 11 و27 و64 ـ 65.

    ([21]) انظر المرجع السابق 70 ـ 87.

    ([22]) انظر رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية 38 و41 و68 و124.

    ([23]) انظر كل ما ورد أعلاه في المرجع السابق 67 ـ 68 وما بعدهما و124 و295 وما بعدها.

    ([24]) انظر المرجع السابق 143 ـ 144 وشروح سقط الزند 974 ـ 975.

    ([25]) انظر مثلاً رباعيات الخيام بين الأصل الفارسي والترجمة العربية 318 ورباعيات عمل الخيام ـ ترجمة النجفي ـ 43 و77.

    ([26]) إيليا أبو ماضي 193.

    ([27]) انظر المرجع السابق 193 ورباعيات عمر الخيام ـ ترجمة عرار ـ 65.

    ([28]) تأثر جماعة الديوان برباعيات الخيام 67 وما بعدها.

    ([29]) انظر مقدمات كتب الجاحظ المذكور ة في المتن؛ وفي مواضعها.

    ([30]) انظر دراسات في الأدب المقارن 223 وما بعدها و247 وما بعدها, وتاريخ الأدب في إيران 2/439 وما بعدها والأدب المقارن 200 و261 والظواهر المسرحية عند العرب 437 وما بعدها وعُد إلى المقامات الأدبية للحريري؛ وشرح مقامات بديع الزمان الهمداني, وتأمل فيهما.

    ([31]) ديوان البحتري 2/635.

    ([32]) انظر القيان والغناء 45 والشاهنامه 151 و153 و161 ومروج الذهب 1/161.

    ([33]) ديوان طرفة بن العبد 66 وانظر لسان العرب (أسبذ ـ دخدنس ـ قبس).

    ([34]) ديوان الأعشى 329.

    ([35]) انظر فرهنك وازهاي فارسي عربي إي ـ ص 3.

    ([36]) ديوان البحتري 2/638 والبُرْجاس: غرض في الهواء يُرْمى به.

    ([37]) انظر المعجم في معايير أشعار العجم 418 وترجمان البلاغة 11.

    ([38]) انظر المرجعين السابقين والصفحات نفسها, ثمَّ انظر حدائق السحر 18 وما بعدها.

    ([39]) انظر الأدب المقارن 284 ـ 285.

    ([40]) انظر حدائق السحر 18.

    ([41]) ديوان حافظ الشيرازي 33.

    ([42]) انظر الأدب المقارن 284.

    ([43]) انظر تاريخ الترسل النثري 434 و438 ـ 441 و445.

    ([44]) انظر ديوان أبي نواس ـ (ف) وما بعدها, وانظر فيه باب الخمريات ـ الفهرس ـ 731 ـ 746.

    ([45]) انظر الأدب المقارن 269 ـ 270 وراجع فيه 265 ـ 268 ودراسات في الأدب المقارن 73.

    ([46]) انظر الأدب المقارن 267 ـ 268.

    ([47]) انظر الأدب المقارن 270 ـ 273.

    ([48]) انظر المرجع نفسه 201 ـ 203 و220 ـ 223 و240 ـ 246.

    ([49]) انظر الأدب المقارن 195 ـ 197 وقصة الأدب الفارسي 1/193.

    ([50]) ديوان البحتري 2/631 وانظر الأدب المقارن 198.

    ([51]) الشوقيات 2/45 وانظر الأدب المقارن 199.

    ([52]) انظر الأدب المقارن 199.

    ([53]) انظر ليلى والمجنون ـ نظام الكنجوي 3 ـ 14 ودراسات في الأدب المقارن 291 ـ 293 و307.

    ([54]) انظر دراسات في الأدب المقارن 333 وما بعدها و342 وما بعدها.

    ([55]) دراسات في الأدب المقارن 25 ـ 26.

    ([56]) شكوى الشكوى: تأملات في قصيدة شكوى الناي 50 ـ 51.

    ([57]) المرجع نفسه والصفحة ذاتها.

    ([58]) المرجع نفسه 60.



    المصدر، مجلة التراث العربي العدد 97
    وسلام من أم طارق :-)

    تعليق

    • persiantranslator
      عضو منتسب
      • Mar 2008
      • 4

      #3
      _md_re: الأدب الفارسي

      ما شاء الله الله يبارك فيك

      أرسلت بتاريخ: 2008/11/16 10:58
      التعديل الأخير تم بواسطة Moderator-2; الساعة 07-19-2009, 03:50 PM.

      تعليق

      يعمل...