تعريب لغة التعليم العالي
أ.د.وفاء كامل– أ.د.عبد الحافظ حلمي
اللغة قوام الفكر والثقافة، وهي علاقة تاريخية، وميراث اجتماعي متواصل، كما أنها تذهب إلى أبعد من المعاني المعجمية؛ إذ هي موقف وسياق حياة دافقة فياضة، زاخرة بالعلاقات والتفاعلات والمعاني المضمرة، بل والخافية. واللغة من أهم مقومات وحدة الشعوب. ولغتنا العربية من الركائز الأساسية للوجود العربي، بل لعل اللغة العربية هي أقوى الروابط التي تجمع بين أقطار العالم العربي؛ إذ هي الجامع النهائي لنا بوصفنا أمة وتاريخا وحضارة وثقافة، وهي الدرع الواقي لأمتنا في مواجهة جحافل الغزو الثقافي إبان عصر المعلومات.. العصر الذي صار فيه التفوق المعلوماتي قادرا على تحييد القوة العسكرية، أو هزيمتها بتكلفة أقل.
والتعليم باللغة الوطنية أمر طبيعي ، تحرص عليه جميع الأمم ، مهما اتسع- أو ضاق- نطاق المتحدثين بلغتها. لا يخرج على هذا الإجماع إلا أصحاب اللغات البدائية الفقيرة، أو أصحاب اللغات المحلية التي بلغت من التشتت والتعدد ما جعلها متدابرة ؛ مما أجبر أهلها على استخدام لغة أجنبية. واستخدام مثل هذه اللغة البديلة ضار باللغة الوطنية، وبالمجتمع نفسه.
ولا يمكن أن تقوم للعلم المتميز عندنا قائمة إلا إذا تعلمناه ورسخ في فكرنا بلغتنا القومية ، وغرست بذرته وترعرعت في أعماقنا ؛ فصار منا علماء ينتجون العلم ، ويضيفون إليه، وفي هذه الحالة لو انقطعت الصلة بيننا وبين العالم كله لبقي العلم مزدهرا عندنا.
ويشهد التاريخ على صدق هذه المقولة : فعندما دخل الفتح الإسلامي بلاد فارس وما جاورها، وعرَّب لغتها قام جانب كبير من الحضارة الإسلامية على أكتاف علماء من أصل فارسي وتركي كالبخاري وابن سينا والفارابي وسيبويه والبيروني والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي وغيرهم. وقد أضافوا علما كثيرا إلى ما ترجموه عن علماء اليونان. ولعبت الترجمة إلى العربية دورا كبيرا في العصر العباسي الأول، حين كان الخليفة هارون الرشيد يتقاضى الجزية كتبا، وكان المأمون يعطي لمن يترجم كتابا وزنه ذهبا.
وقد قامت الحضارة الأوربية الحديثة على ما ترجم عن العلماء المسلمين في مدارس المدن الأندلسية في أسبانيا وغيرها. ومن ثم نلحظ أن العلم في أوروبا اتكأ على الكتب العربية المترجمة ؛ فدرسها واستوعبها وتمثلها، ثم انطلق بعدها إلى آفاق أوسع.
وباللغة الأم وحدها يتم للأمة التقدم العلمي والثقافي والحضاري ، والذين ينبغون بغير لغاتهم في مواطن غريبة قلة نادرة لا يقاس عليها ، ولو توافرت لهم الإمكانات في بلادهم لكان تفوقهم أعظم وأكبر. ومهما بلغنا مما نظنه تقدما علميا ، وخاصة في مجالات العلوم والطب والهندسة باللغات الأجنبية فهذا المدى العلمي يظل محصورا تحت مظلة العلم الأجنبي، تابعا له ، يستعمله ويستفيد منه، ولكنه لا يتخطاه ولا يضيف إليه؛ لأن عقول علمائنا تابعة له ومحكومة بما تتلـقاه من علم أجنبي اللغة . ومن المعلوم أن الشخص الذي يتعلم علما ما بلغته يعمل على نقل ما تعلمه إلى هذه اللغة ، أما إذا تعلم هذا العلم بلغة أجنبية فإنه ينتقـل من محيطه الحضاري والثقافي والفكري واللغوي إلى محيط آخر أدواته أجنبية : لغة وفكرا وثقافة وحضارة. ولعل هذا هو ما دعا بلدا مثل إيران إلى تدريس العلوم بالفارسية، وتكريس جهود علمائها لترجمة الكتب الطبية العالمية إلى اللغة الفارسية.
واللغة العربية تواجه في عصرنا الحالي تحديات كبيرة : تربويةً وثقافيةً وسياسيةً واقتصادية ؛ وأمام هذه التحديات فلا مناص لنا من أن نتعلم العلم بلغتنا القومية إذا كنا نعمل جادين على المحافظة على قوميتنا، ووضع أجيالنا القادمة على الطريق الصحيح لاكتساب العلم وامتلاك أدواته. ذلك أننا قد نقبل أن تدخل اللغة الأجنبية بيوتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية، لكننا لن نستطيع تعويض ضياع لغتنا القومية ؛ لذا فالمعادلة الصعبة هي أن ننفتح على الحضارات والثقافات والعلوم الحديثة والمتطورة مع الحفاظ على هويتنا وذاتيتنا وشخصيتنا ولغتنا ، وهو ما يحفظ لنا قوميتنا وكرامتنا.
وهكذا نرى أن قضية التعريب لم تعد نابعة من الحمية القومية أو المحافظة على الهوية الثقافية فحسب، بل صارت أداة لا غنى عنها لصقل أدوات التفكير، وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية. وقد أشار تقرير التنمية الإنسانية في الوطن العربي ، الصادر في نهاية عام 2003- ببلاغة غير مسبوقة- إلى أن " طريق التنمية لا يتحقق عبر الثقافات الوافدة ، كما لا يؤتي ثماره من خلال لغات الآخرين، وإن كان يَثرى من تجارب الآخرين بعد ترجمتها إلى اللغة الأم ".
وتعريب لغة التعليم العالي في بلادنا يعد مدخلا إلى تأصيل العلم عندنا، وتعريب فكرنا، ونهضة أمتنا. فلغة تدريس العلوم في الجامعات والمعاهد العليا عندنا موضوع بالغ الخطر، وهو من أحق قضايانا بالدراسة الجادة ، والمناقشة المستفيضة ، والمواجهة الواقعية ، إذا ما أردنا أن نتلمس طريقنا إلى تعليم عال حيّ فعال ، يسهم في بناء المجتمع وتدعيمه، ونهضة حضارية شاملة تعمل على صنع مستقبل الوطن.
وتتلخص عناصر قضية التعريب في أربع نقاط ، هي : ضرورات مُلزِمة ، واعتراضات مُفّنَّدَة، وتسويفات مفتعلة ، ومنافع مؤكَّدة .
الضرورات الملزمة :
المناداة بأن تكون اللغة العربية لغة تلقي العلوم في المرحلة الجامعية الأولى ليس مبعثه نُعرةً قومية أو اعتزازا باللغة العربية وغيرةً عليها- وهي جديرة بهما ولا ريب- وإنما هو استجابة لضرورات ملزمة يكابدها المعلِّمون والمتعلمون، وليست خيارا يجوز تركه.
أما عن وظيفة اللغة الانجليزية من حيث اكتساب الطالب مقدرة على التعبير البيِّن الصحيح والمُحاجَّة وتقليب الآراء، وإعمال الفكر، فيتجلى كونها قيدا على الطالب- في هذا كله- حين نجد الطالب ملجم اللسان ، يعجز عن النقاش ، ويحجم عن الاستفسار أو الإجابة.
واللغة ليست أمرا ثانويا في حياة الإنسان ، أو مجرد أداة تواصل في مجتمعه ، بل هي قوام فكره وخياله ووجدانه، وصيغة قيمه وعقائده. ودراسة العلوم بلغة أجنبية تضفي هذا الوصف (الأجنبي) على العلوم نفسها ؛ فما يحس الطالب إحساسا عميقا بأنها شيء ينتمي إليه أو إلى بني قومه، بل إنها أقحمت على ذاكرته وفكره إقحاما ، فآثارها سرعان ما تزول. وحتى إذا احتاج الخريج إلى استعمال ما تعلَّم استعمله فنيا ومهنيا ، ولا يكوِّن العلم والأسلوب العلمي جزءا عضويا من كيانه الفكري والسلوكي.
وهذه القيود المحدِّدة ، وتلك الغربة، قد تقتل في الطالب ما فطر عليه من مقدرة على الإبداع والابتكار، إن لم تكن أساليب التعليم العام قد أجهزت عليها قبل التحاقه بالجامعة.
الاعتراضات المفندة والتسويفات المفتعلة :
أول هذه الاعتراضات أن اللغة العربية تعجز عن استيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة. وهذا الزعم يمكن تفنيده بأكثر من حجة كما يلي:
فقد أجمع الباحثون على أن اللغة العربية أغنى اللغات السامية وأوسعها أفقا، وقد نزل القرآن الكريم بها إعلاء لشأنها وتثبيتا لأركانها، كما انتصرت اللغة العربية في جميع البلاد التي فتحها العرب: فحلَّت محل اليونانية والقبطية والسريانية وغيرها. وقد استطاعت اللغة العربية أن تكون أداة طيعة لكل ما نقل من علوم الفرس والهنود واليونان، فدونت خلاصة هذه الثقافات باللغة العربية. كما استطاع العرب في فترة زمنية قصيرة أن يعبِّروا بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وفلسفة أرسطو, وطب جالينوس, وفلك بطليموس. فضلا عن أن الشعوب التي احتفظت بلغتها رغم خضوعها لحكم العرب واعتناقها للإسلام- الترك والفرس- اتخذت اللغة العربية أداة للعلم والأدب.
كما أن هذا الزعم دليل على عدم إدراك القوى البشرية من ناحية، وقوة اللغة من ناحية أخرى، فضلا عن عدم معرفة بتاريخ العربية. فلا توجد لغة تعجز عن التعبير ، وإنما يوجد بشر يعجزون عن التعبير. وليس الواقع العلمي للعربية اليوم بأسوأ ولا أفقر من واقعها في بداية الإسلام، حين استطاعت أن تنقل كل ما وجدته عند الأمم المجاورة من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون إليها، ثم استطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهما، ولم ينقض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار. وشهادة التاريخ حاسمة في هذا الصدد
ويكفي أن نسجل رأي البروفيسور ج. أ. رَسِّل ( من معهد ولكوم لتاريخ الطب ، بلندن) في مرجع حديث عن تاريخ العلم، حين يقول ( بعد استعراض أهم جوانب العلوم الإسلامية ): " ... وكانت العربية هي أداة هذا النشاط العلمي كله. ولما كانت اللغة العربية لغة القرآن، أصبح لها أهمية خاصة في الإسلام ، بيد أن طبيعة هذه اللغة نفسها هي التي قامت بالدور الحاسم : فمرونتها الرائعة قد مكنت المترجمين – ثم المشتغلين بالعلم الأصيل بعدهم- من سك مفردات محددة دقيقة للمصطلحات العلمية والتكنولوجية أو ابتكارها ، وهكذا اُتخذت لغةٌ شعرية اللغةَ العالمية للعلم والحضارة ! ".
فكل ما تُرمَى به اللغةُ العربية اليوم من عجز وقصور، إنما هو – في واقع الأمر- عجز ممن يتهمها بذلك في العلم ، والعمل ، واللغة جميعا.
ومن الاعتراضات المكررة مشكلة المصطلحات العلمية العربية ، وهذه المشكلة مبالغ فيها كثيرا؛ فقد توافر من هذه المصطلحات ألوف وألوف ، وصنف كثير منها في معجمات . وتعريب التعليم سوف يُربي هذه الألوف ، ويروِّج هذه المعجمات. ويكفي أن نشير إلى ما أنتجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة من هذه وتلك ، وقد ساعد المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالقاهرة على جمعها مُوثَّقَة ومصنفة ، في نسخة ورقية تتألف من سبعة آلاف ورقة تملأ صندوقا كاملا ، وفي نسخة إلكترونية في قرص مدمج بقدر راحة الكف. كما يمكن أن نشير إلى قوائم المصطلحات التي أقرها مكتب تنسيق التعريب بالرباط، في فروع العلوم المختلفة.
ويجب أن نعرف أن المصطلحات، بأية لغة كانت ، ليست هي- على أهميتها- جوهر قضية التعريب، حتى إن ظلت، أو ظل بعضها غير مترجم أو معرب- فيمكننا الإبقاء على المصطلح باللغة التي وضع بها إلى أن نتفق على مقابل له باللغة العربية- وإنما المشكلة – كل المشكلة- هي اللغة من حيث هي وسيلة الطالب في التلقي – قراءة أو سماعا- وفي الاستيعاب والتعبير، بل في التفكير والتصور أيضا.
ويحتج أيضا بغرابة بعض المصطلحات العربية ، كأسماء العظام والعضلات. ولكن عجبا! أهي أشد غرابة من مقابلاتها الإغريقية أو اللاتينية ؟ إنما هي ألفة الاستعمال التي تُذهِب هذه الغربة. وثمة وهم آخر، هو أن المصطلح العربي لا يؤدي في بعض الأحيان المعنى الذي يؤديه المصطلح الأجنبي. ويبدو أنهم يتناسون، أن المصطلح لا يعدو أن يكون عنوانا أو رمزا لفكرة شاملة ، أو صورة مملوءة بالتفاصيل التي لا يعبر المصطلح ، بمجرد
معناه الحرفي، إلا عن أدنى شيء من هذا كله، بل إنه قد يتجاوز معناه اللغوي تماما.
ومما يساق من الاعتراضات أن الإنجليزية تتخذ لغة لتدريس العلوم؛ لأنها توفر لقارئها مددا غنيا من المراجع، فضلا على مصادر المعلومات الأخرى. ولكننا إذا تأملنا واقع الحال وجدنا أن اللغة الإنجليزية تصبح - لقدرة الطالب المحدودة للغاية فيها - أغلالا يرسف فيها الطالب مقيدا في متن واحد ضيق ، حاول أستاذه جاهدا أن يذللـه له ، ولا تمكنه قدراته اللغوية من ارتياد سواه . وعلى نقيض ذلك تماما ، لن تكون اللغة عائقا أمامه للاستزادة من مراجع متعددة باللغة العربية لو أنه تعلم بها.
ويؤيد ذلك أن عدد الأطباء العرب في أمريكا يزيد على عشرة آلاف طبيب ، يشكل السوريون ما يقرب من نصفهم ، وقد درسوا الطب بالعربية في الجامعات السورية ، ونجد أن العشرات منهم قد تبوأوا مراكز مرموقة ورفيعة المستوى ، وصاروا رؤساء لعدد من المراكز الطبية في الولايات والمدن الأمريكية. وليس من شك أن نسبة العرب السوريين تماثل أو تزيد معرفة وممارسة عن نسبة باقي الخريجين العرب ، كما أنها تتميز عن الخريجين من أصل هندي أو باكستاني أو فيلبيني ، وهم الذين يدرسون الطب في بلادهم بالإنجليزية.
وقد يعترض بعدم وجود عدد كاف من المؤلفات في العلوم باللغة العربية، وبافتقار المكتبة العربية إلى المراجع والمصادر العلمية العربية المؤلفة أو المترجمة التي تدرس في الكليات العلمية كالعلوم والهندسة والطب. ولا شك أنه ينبغي إثراء مكتباتنا بتراجم جيدة لأمهات الكتب العلمية ، وبكتب مؤلفة تقدم آخر منجزات العلوم ومستحدثاتها ، معروضة عرضا حسنا يناسب مستويات الطلاب الذين تقدم لهم ، ومتضمنة أمثلة من بيئاتها ، ومتعرضة لمشاكلنا الإقليمية الخاصة ، ثم تحدَّث طبعاتها المتلاحقة. والواقع يشهد أن هناك جهودا كثيرة مبعثرة ، قد أجهض عدم تعريب التدريس كثيرا منها، أو أهدر ثمارها... وهكذا تدور الدائرة المفرغة .
ويتعلل بعض المعترضين على تعريب التدريس بعدم استطاعتهم التدريس باللغة العربية، ونقص معرفة بعضهم بالمعاجم العربية ، وعدم قدرة بعضهم على الاطلاع على المصطلحات العلمية في تراثنا العلمي العربي. ولكنها حجج تعكس اختيارهم الطريق الأقصر والأيسر لهم؛ فهم قد تعلموا بالإنجليزية ومراجعهم بها ، والتعريب يفرض عليهم عبئا إضافيا. ولكن هذه الدائرة المفرغة ينبغي أن تكسر في حزم ؛ إذ يمكن– عن طريق تكنولوجيا المعلومات- توفير نظم لدعم المؤلفين، مزودة بالمعاجم ، وقوائم المترادفات ، والتعابير الاصطلاحية ؛ كي تساعد على التأليف والتعليم بالعربية، عندما توجد الإرادة والاقتناع.
الفوائد المؤكَّدة :
إذا عنَّ للمرء أن يتساءل : ما هي المنافع المؤكدة لهذا التعريب ؟ فإننا نوجز أهمها في النقاط التالية :
1- أثبتت التجارب العلمية المقصودة أنه عند تدريس مقرر جامعيّ بعينه لجماعتين متكافئتين من الطلاب، تلقته إحداهما بالعربية ، وتلقته الأخرى بالانجليزية ، كانت حصيلة طلاب المجموعة الأولى أكبر، وفهمهم للموضوع أتمّ وأعمق، في وقت أقصر وبجهد أقل.
2- اللغة عنصر رئيسي للكيان الذهني والعاطفي للإنسان ، ولذلك كان من مزايا التدريس بلغة المتعلم الأصلية أنه يجعل عملية التعلم أقرب إلى التمثيل البيولوجي السوي للغذاء ؛ إذ تُحيل العلم جزءا من صميم البناء الذهني للمتعلم له آثار أبقى وأقوى وآصل وأعمق ، فتجتمع عنده أدوات المقدرة على التحليل والمناقشة والنقد ، وعدة الابتكار الأصيل. كذلك يصبح تعلم العلم عنده معرفةً وثقافة ، فضلا عن كونه تخصصا ومهنة.
3- ويمكننا أن نتصور العلم مركزا لأربع دوائر متداخلة : في الأعمال والمهن العلمية ، وفي نشر الثقافة العلمية، وفي تدريس العلوم ، ثم - رابعا- في البحث العلمي ونشر نتائجه.
وتدريس العلوم بالعربية يزيد من تآزر الدوائر الثلاث الأولى : فمن (تعلَّم) بالعربية لن يكون عسيرا عليه أن (يعمل) بالعربية ، وأن (يُعَلِّم) بالعربية، وأن يقوم بدوره في العطاء والإسهام في نشر الثقافة العلمية بين بني وطنه .
4- إن تدريس العلوم في الجامعة باللغة العربية سوف يزيل الحواجز بين طبقة المتخصصين الجامعيين ومن يليهم من الفنيين وأمناء المعامل والمساعدين. وهذا سوف يزيد من كفاءة الأعمال العلمية بصفة عامة ، ويوجد طبقة وسيطة بين العامل القديم والمتخصص الجامعي ذي التعليم العالي ، طبقة تلقت قدرا من العلوم المتقدمة، يجعلها قادرة على العمل بالأجهزة الحديثة المتطورة، وعلى صيانتها وإصلاحها. ثم إنه يتيح لطبقة الفنيين الوسطى أن تفيد من خبرات رؤسائهم الجامعيين وعلمهم، ويفتح لهم أبواب الاطلاع على الكتب الجامعية المنشورة بالعربية، فيستكملون ما ينقصهم ويحرزون تقدما أصيلا في فنونهم ؛ فتعريب لغة التعليم هو دعوة إلى تجويده ، وإلى ديمقراطية العلم ، وإشاعته بين الجماهير العريضة.
5- نحن الآن نعيش في عصر العلم ، ومن المؤكد أن شيوع تدرُّب اللسان القومي والقلم القومي والفكر القومي على تناول قضايا العلم ضرورة من ضرورات العصر، إذ إنه يتيح للهواة والطامحين- من غير المتخصصين- أن يطلعوا على العلوم ؛ فيتسع نطاق الثقافة العلمية في المجتمع ويرسخ الميل إليها، ويتمكّن المواطنون، في جملتهم وعلى تنوع مراتب ثقافتهم وتباينها، من أن يعيشوا عصرهم ويحسنوا فهم قضاياه. وهذا يسهم بدوره أيضا في عبور الفجوة ، أو (الجفوة) بين أهل (الثقافتين)؛ مما يعني زيادة في ترابط الأمة.
6- وتدريس العلوم بالعربية في الجامعة فيه خدمة جليلة للغة العربية نفسها. فهذه اللغة المشرفة قد حفظها الله بحفظ قرآنه الكريم ، ولكن خدمتها وإغناءها وتجديد حيويتها بحسن توظيفها في قضايا الحياة المتجددة في عصورها المتعاقبة ... يظل هذا كله أمانة مفروضة على أبنائها في كل عصر. والحق أن أسلافنا في عصور الإسلام الزاهرة قاموا بحقوق هذه الأمانة على خير وجه ، وينبغي ألا نقصِّر نحن في إسهامنا بدورنا التاريخي نحوها.
7- التعريب اللغوي للعلوم هو الخطوة الأساسية نحو ( تعريب العلم ) بمعناه الشامل وتأصيله في مجتمعنا، أخذا وعطاء وتطبيقا . أما الخـطوات التالية فهي قضية أخرى ، فيها جوانب اقـتصاديـة واجتماعية ، وهي مسئولية الجامعات والأكاديميات العلمية ومراكز البحوث.
أ.د.وفاء كامل– أ.د.عبد الحافظ حلمي
اللغة قوام الفكر والثقافة، وهي علاقة تاريخية، وميراث اجتماعي متواصل، كما أنها تذهب إلى أبعد من المعاني المعجمية؛ إذ هي موقف وسياق حياة دافقة فياضة، زاخرة بالعلاقات والتفاعلات والمعاني المضمرة، بل والخافية. واللغة من أهم مقومات وحدة الشعوب. ولغتنا العربية من الركائز الأساسية للوجود العربي، بل لعل اللغة العربية هي أقوى الروابط التي تجمع بين أقطار العالم العربي؛ إذ هي الجامع النهائي لنا بوصفنا أمة وتاريخا وحضارة وثقافة، وهي الدرع الواقي لأمتنا في مواجهة جحافل الغزو الثقافي إبان عصر المعلومات.. العصر الذي صار فيه التفوق المعلوماتي قادرا على تحييد القوة العسكرية، أو هزيمتها بتكلفة أقل.
والتعليم باللغة الوطنية أمر طبيعي ، تحرص عليه جميع الأمم ، مهما اتسع- أو ضاق- نطاق المتحدثين بلغتها. لا يخرج على هذا الإجماع إلا أصحاب اللغات البدائية الفقيرة، أو أصحاب اللغات المحلية التي بلغت من التشتت والتعدد ما جعلها متدابرة ؛ مما أجبر أهلها على استخدام لغة أجنبية. واستخدام مثل هذه اللغة البديلة ضار باللغة الوطنية، وبالمجتمع نفسه.
ولا يمكن أن تقوم للعلم المتميز عندنا قائمة إلا إذا تعلمناه ورسخ في فكرنا بلغتنا القومية ، وغرست بذرته وترعرعت في أعماقنا ؛ فصار منا علماء ينتجون العلم ، ويضيفون إليه، وفي هذه الحالة لو انقطعت الصلة بيننا وبين العالم كله لبقي العلم مزدهرا عندنا.
ويشهد التاريخ على صدق هذه المقولة : فعندما دخل الفتح الإسلامي بلاد فارس وما جاورها، وعرَّب لغتها قام جانب كبير من الحضارة الإسلامية على أكتاف علماء من أصل فارسي وتركي كالبخاري وابن سينا والفارابي وسيبويه والبيروني والخوارزمي وابن النفيس والزهراوي وغيرهم. وقد أضافوا علما كثيرا إلى ما ترجموه عن علماء اليونان. ولعبت الترجمة إلى العربية دورا كبيرا في العصر العباسي الأول، حين كان الخليفة هارون الرشيد يتقاضى الجزية كتبا، وكان المأمون يعطي لمن يترجم كتابا وزنه ذهبا.
وقد قامت الحضارة الأوربية الحديثة على ما ترجم عن العلماء المسلمين في مدارس المدن الأندلسية في أسبانيا وغيرها. ومن ثم نلحظ أن العلم في أوروبا اتكأ على الكتب العربية المترجمة ؛ فدرسها واستوعبها وتمثلها، ثم انطلق بعدها إلى آفاق أوسع.
وباللغة الأم وحدها يتم للأمة التقدم العلمي والثقافي والحضاري ، والذين ينبغون بغير لغاتهم في مواطن غريبة قلة نادرة لا يقاس عليها ، ولو توافرت لهم الإمكانات في بلادهم لكان تفوقهم أعظم وأكبر. ومهما بلغنا مما نظنه تقدما علميا ، وخاصة في مجالات العلوم والطب والهندسة باللغات الأجنبية فهذا المدى العلمي يظل محصورا تحت مظلة العلم الأجنبي، تابعا له ، يستعمله ويستفيد منه، ولكنه لا يتخطاه ولا يضيف إليه؛ لأن عقول علمائنا تابعة له ومحكومة بما تتلـقاه من علم أجنبي اللغة . ومن المعلوم أن الشخص الذي يتعلم علما ما بلغته يعمل على نقل ما تعلمه إلى هذه اللغة ، أما إذا تعلم هذا العلم بلغة أجنبية فإنه ينتقـل من محيطه الحضاري والثقافي والفكري واللغوي إلى محيط آخر أدواته أجنبية : لغة وفكرا وثقافة وحضارة. ولعل هذا هو ما دعا بلدا مثل إيران إلى تدريس العلوم بالفارسية، وتكريس جهود علمائها لترجمة الكتب الطبية العالمية إلى اللغة الفارسية.
واللغة العربية تواجه في عصرنا الحالي تحديات كبيرة : تربويةً وثقافيةً وسياسيةً واقتصادية ؛ وأمام هذه التحديات فلا مناص لنا من أن نتعلم العلم بلغتنا القومية إذا كنا نعمل جادين على المحافظة على قوميتنا، ووضع أجيالنا القادمة على الطريق الصحيح لاكتساب العلم وامتلاك أدواته. ذلك أننا قد نقبل أن تدخل اللغة الأجنبية بيوتنا وجامعاتنا ومعاهدنا العلمية، لكننا لن نستطيع تعويض ضياع لغتنا القومية ؛ لذا فالمعادلة الصعبة هي أن ننفتح على الحضارات والثقافات والعلوم الحديثة والمتطورة مع الحفاظ على هويتنا وذاتيتنا وشخصيتنا ولغتنا ، وهو ما يحفظ لنا قوميتنا وكرامتنا.
وهكذا نرى أن قضية التعريب لم تعد نابعة من الحمية القومية أو المحافظة على الهوية الثقافية فحسب، بل صارت أداة لا غنى عنها لصقل أدوات التفكير، وتنمية القدرات الذهنية والملكات الإبداعية. وقد أشار تقرير التنمية الإنسانية في الوطن العربي ، الصادر في نهاية عام 2003- ببلاغة غير مسبوقة- إلى أن " طريق التنمية لا يتحقق عبر الثقافات الوافدة ، كما لا يؤتي ثماره من خلال لغات الآخرين، وإن كان يَثرى من تجارب الآخرين بعد ترجمتها إلى اللغة الأم ".
وتعريب لغة التعليم العالي في بلادنا يعد مدخلا إلى تأصيل العلم عندنا، وتعريب فكرنا، ونهضة أمتنا. فلغة تدريس العلوم في الجامعات والمعاهد العليا عندنا موضوع بالغ الخطر، وهو من أحق قضايانا بالدراسة الجادة ، والمناقشة المستفيضة ، والمواجهة الواقعية ، إذا ما أردنا أن نتلمس طريقنا إلى تعليم عال حيّ فعال ، يسهم في بناء المجتمع وتدعيمه، ونهضة حضارية شاملة تعمل على صنع مستقبل الوطن.
وتتلخص عناصر قضية التعريب في أربع نقاط ، هي : ضرورات مُلزِمة ، واعتراضات مُفّنَّدَة، وتسويفات مفتعلة ، ومنافع مؤكَّدة .
الضرورات الملزمة :
المناداة بأن تكون اللغة العربية لغة تلقي العلوم في المرحلة الجامعية الأولى ليس مبعثه نُعرةً قومية أو اعتزازا باللغة العربية وغيرةً عليها- وهي جديرة بهما ولا ريب- وإنما هو استجابة لضرورات ملزمة يكابدها المعلِّمون والمتعلمون، وليست خيارا يجوز تركه.
أما عن وظيفة اللغة الانجليزية من حيث اكتساب الطالب مقدرة على التعبير البيِّن الصحيح والمُحاجَّة وتقليب الآراء، وإعمال الفكر، فيتجلى كونها قيدا على الطالب- في هذا كله- حين نجد الطالب ملجم اللسان ، يعجز عن النقاش ، ويحجم عن الاستفسار أو الإجابة.
واللغة ليست أمرا ثانويا في حياة الإنسان ، أو مجرد أداة تواصل في مجتمعه ، بل هي قوام فكره وخياله ووجدانه، وصيغة قيمه وعقائده. ودراسة العلوم بلغة أجنبية تضفي هذا الوصف (الأجنبي) على العلوم نفسها ؛ فما يحس الطالب إحساسا عميقا بأنها شيء ينتمي إليه أو إلى بني قومه، بل إنها أقحمت على ذاكرته وفكره إقحاما ، فآثارها سرعان ما تزول. وحتى إذا احتاج الخريج إلى استعمال ما تعلَّم استعمله فنيا ومهنيا ، ولا يكوِّن العلم والأسلوب العلمي جزءا عضويا من كيانه الفكري والسلوكي.
وهذه القيود المحدِّدة ، وتلك الغربة، قد تقتل في الطالب ما فطر عليه من مقدرة على الإبداع والابتكار، إن لم تكن أساليب التعليم العام قد أجهزت عليها قبل التحاقه بالجامعة.
الاعتراضات المفندة والتسويفات المفتعلة :
أول هذه الاعتراضات أن اللغة العربية تعجز عن استيعاب المفاهيم والمصطلحات العلمية الحديثة. وهذا الزعم يمكن تفنيده بأكثر من حجة كما يلي:
فقد أجمع الباحثون على أن اللغة العربية أغنى اللغات السامية وأوسعها أفقا، وقد نزل القرآن الكريم بها إعلاء لشأنها وتثبيتا لأركانها، كما انتصرت اللغة العربية في جميع البلاد التي فتحها العرب: فحلَّت محل اليونانية والقبطية والسريانية وغيرها. وقد استطاعت اللغة العربية أن تكون أداة طيعة لكل ما نقل من علوم الفرس والهنود واليونان، فدونت خلاصة هذه الثقافات باللغة العربية. كما استطاع العرب في فترة زمنية قصيرة أن يعبِّروا بالعربية عن أدق نظريات إقليدس، وفلسفة أرسطو, وطب جالينوس, وفلك بطليموس. فضلا عن أن الشعوب التي احتفظت بلغتها رغم خضوعها لحكم العرب واعتناقها للإسلام- الترك والفرس- اتخذت اللغة العربية أداة للعلم والأدب.
كما أن هذا الزعم دليل على عدم إدراك القوى البشرية من ناحية، وقوة اللغة من ناحية أخرى، فضلا عن عدم معرفة بتاريخ العربية. فلا توجد لغة تعجز عن التعبير ، وإنما يوجد بشر يعجزون عن التعبير. وليس الواقع العلمي للعربية اليوم بأسوأ ولا أفقر من واقعها في بداية الإسلام، حين استطاعت أن تنقل كل ما وجدته عند الأمم المجاورة من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون إليها، ثم استطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهما، ولم ينقض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار. وشهادة التاريخ حاسمة في هذا الصدد
ويكفي أن نسجل رأي البروفيسور ج. أ. رَسِّل ( من معهد ولكوم لتاريخ الطب ، بلندن) في مرجع حديث عن تاريخ العلم، حين يقول ( بعد استعراض أهم جوانب العلوم الإسلامية ): " ... وكانت العربية هي أداة هذا النشاط العلمي كله. ولما كانت اللغة العربية لغة القرآن، أصبح لها أهمية خاصة في الإسلام ، بيد أن طبيعة هذه اللغة نفسها هي التي قامت بالدور الحاسم : فمرونتها الرائعة قد مكنت المترجمين – ثم المشتغلين بالعلم الأصيل بعدهم- من سك مفردات محددة دقيقة للمصطلحات العلمية والتكنولوجية أو ابتكارها ، وهكذا اُتخذت لغةٌ شعرية اللغةَ العالمية للعلم والحضارة ! ".
فكل ما تُرمَى به اللغةُ العربية اليوم من عجز وقصور، إنما هو – في واقع الأمر- عجز ممن يتهمها بذلك في العلم ، والعمل ، واللغة جميعا.
ومن الاعتراضات المكررة مشكلة المصطلحات العلمية العربية ، وهذه المشكلة مبالغ فيها كثيرا؛ فقد توافر من هذه المصطلحات ألوف وألوف ، وصنف كثير منها في معجمات . وتعريب التعليم سوف يُربي هذه الألوف ، ويروِّج هذه المعجمات. ويكفي أن نشير إلى ما أنتجه مجمع اللغة العربية بالقاهرة من هذه وتلك ، وقد ساعد المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالقاهرة على جمعها مُوثَّقَة ومصنفة ، في نسخة ورقية تتألف من سبعة آلاف ورقة تملأ صندوقا كاملا ، وفي نسخة إلكترونية في قرص مدمج بقدر راحة الكف. كما يمكن أن نشير إلى قوائم المصطلحات التي أقرها مكتب تنسيق التعريب بالرباط، في فروع العلوم المختلفة.
ويجب أن نعرف أن المصطلحات، بأية لغة كانت ، ليست هي- على أهميتها- جوهر قضية التعريب، حتى إن ظلت، أو ظل بعضها غير مترجم أو معرب- فيمكننا الإبقاء على المصطلح باللغة التي وضع بها إلى أن نتفق على مقابل له باللغة العربية- وإنما المشكلة – كل المشكلة- هي اللغة من حيث هي وسيلة الطالب في التلقي – قراءة أو سماعا- وفي الاستيعاب والتعبير، بل في التفكير والتصور أيضا.
ويحتج أيضا بغرابة بعض المصطلحات العربية ، كأسماء العظام والعضلات. ولكن عجبا! أهي أشد غرابة من مقابلاتها الإغريقية أو اللاتينية ؟ إنما هي ألفة الاستعمال التي تُذهِب هذه الغربة. وثمة وهم آخر، هو أن المصطلح العربي لا يؤدي في بعض الأحيان المعنى الذي يؤديه المصطلح الأجنبي. ويبدو أنهم يتناسون، أن المصطلح لا يعدو أن يكون عنوانا أو رمزا لفكرة شاملة ، أو صورة مملوءة بالتفاصيل التي لا يعبر المصطلح ، بمجرد
معناه الحرفي، إلا عن أدنى شيء من هذا كله، بل إنه قد يتجاوز معناه اللغوي تماما.
ومما يساق من الاعتراضات أن الإنجليزية تتخذ لغة لتدريس العلوم؛ لأنها توفر لقارئها مددا غنيا من المراجع، فضلا على مصادر المعلومات الأخرى. ولكننا إذا تأملنا واقع الحال وجدنا أن اللغة الإنجليزية تصبح - لقدرة الطالب المحدودة للغاية فيها - أغلالا يرسف فيها الطالب مقيدا في متن واحد ضيق ، حاول أستاذه جاهدا أن يذللـه له ، ولا تمكنه قدراته اللغوية من ارتياد سواه . وعلى نقيض ذلك تماما ، لن تكون اللغة عائقا أمامه للاستزادة من مراجع متعددة باللغة العربية لو أنه تعلم بها.
ويؤيد ذلك أن عدد الأطباء العرب في أمريكا يزيد على عشرة آلاف طبيب ، يشكل السوريون ما يقرب من نصفهم ، وقد درسوا الطب بالعربية في الجامعات السورية ، ونجد أن العشرات منهم قد تبوأوا مراكز مرموقة ورفيعة المستوى ، وصاروا رؤساء لعدد من المراكز الطبية في الولايات والمدن الأمريكية. وليس من شك أن نسبة العرب السوريين تماثل أو تزيد معرفة وممارسة عن نسبة باقي الخريجين العرب ، كما أنها تتميز عن الخريجين من أصل هندي أو باكستاني أو فيلبيني ، وهم الذين يدرسون الطب في بلادهم بالإنجليزية.
وقد يعترض بعدم وجود عدد كاف من المؤلفات في العلوم باللغة العربية، وبافتقار المكتبة العربية إلى المراجع والمصادر العلمية العربية المؤلفة أو المترجمة التي تدرس في الكليات العلمية كالعلوم والهندسة والطب. ولا شك أنه ينبغي إثراء مكتباتنا بتراجم جيدة لأمهات الكتب العلمية ، وبكتب مؤلفة تقدم آخر منجزات العلوم ومستحدثاتها ، معروضة عرضا حسنا يناسب مستويات الطلاب الذين تقدم لهم ، ومتضمنة أمثلة من بيئاتها ، ومتعرضة لمشاكلنا الإقليمية الخاصة ، ثم تحدَّث طبعاتها المتلاحقة. والواقع يشهد أن هناك جهودا كثيرة مبعثرة ، قد أجهض عدم تعريب التدريس كثيرا منها، أو أهدر ثمارها... وهكذا تدور الدائرة المفرغة .
ويتعلل بعض المعترضين على تعريب التدريس بعدم استطاعتهم التدريس باللغة العربية، ونقص معرفة بعضهم بالمعاجم العربية ، وعدم قدرة بعضهم على الاطلاع على المصطلحات العلمية في تراثنا العلمي العربي. ولكنها حجج تعكس اختيارهم الطريق الأقصر والأيسر لهم؛ فهم قد تعلموا بالإنجليزية ومراجعهم بها ، والتعريب يفرض عليهم عبئا إضافيا. ولكن هذه الدائرة المفرغة ينبغي أن تكسر في حزم ؛ إذ يمكن– عن طريق تكنولوجيا المعلومات- توفير نظم لدعم المؤلفين، مزودة بالمعاجم ، وقوائم المترادفات ، والتعابير الاصطلاحية ؛ كي تساعد على التأليف والتعليم بالعربية، عندما توجد الإرادة والاقتناع.
الفوائد المؤكَّدة :
إذا عنَّ للمرء أن يتساءل : ما هي المنافع المؤكدة لهذا التعريب ؟ فإننا نوجز أهمها في النقاط التالية :
1- أثبتت التجارب العلمية المقصودة أنه عند تدريس مقرر جامعيّ بعينه لجماعتين متكافئتين من الطلاب، تلقته إحداهما بالعربية ، وتلقته الأخرى بالانجليزية ، كانت حصيلة طلاب المجموعة الأولى أكبر، وفهمهم للموضوع أتمّ وأعمق، في وقت أقصر وبجهد أقل.
2- اللغة عنصر رئيسي للكيان الذهني والعاطفي للإنسان ، ولذلك كان من مزايا التدريس بلغة المتعلم الأصلية أنه يجعل عملية التعلم أقرب إلى التمثيل البيولوجي السوي للغذاء ؛ إذ تُحيل العلم جزءا من صميم البناء الذهني للمتعلم له آثار أبقى وأقوى وآصل وأعمق ، فتجتمع عنده أدوات المقدرة على التحليل والمناقشة والنقد ، وعدة الابتكار الأصيل. كذلك يصبح تعلم العلم عنده معرفةً وثقافة ، فضلا عن كونه تخصصا ومهنة.
3- ويمكننا أن نتصور العلم مركزا لأربع دوائر متداخلة : في الأعمال والمهن العلمية ، وفي نشر الثقافة العلمية، وفي تدريس العلوم ، ثم - رابعا- في البحث العلمي ونشر نتائجه.
وتدريس العلوم بالعربية يزيد من تآزر الدوائر الثلاث الأولى : فمن (تعلَّم) بالعربية لن يكون عسيرا عليه أن (يعمل) بالعربية ، وأن (يُعَلِّم) بالعربية، وأن يقوم بدوره في العطاء والإسهام في نشر الثقافة العلمية بين بني وطنه .
4- إن تدريس العلوم في الجامعة باللغة العربية سوف يزيل الحواجز بين طبقة المتخصصين الجامعيين ومن يليهم من الفنيين وأمناء المعامل والمساعدين. وهذا سوف يزيد من كفاءة الأعمال العلمية بصفة عامة ، ويوجد طبقة وسيطة بين العامل القديم والمتخصص الجامعي ذي التعليم العالي ، طبقة تلقت قدرا من العلوم المتقدمة، يجعلها قادرة على العمل بالأجهزة الحديثة المتطورة، وعلى صيانتها وإصلاحها. ثم إنه يتيح لطبقة الفنيين الوسطى أن تفيد من خبرات رؤسائهم الجامعيين وعلمهم، ويفتح لهم أبواب الاطلاع على الكتب الجامعية المنشورة بالعربية، فيستكملون ما ينقصهم ويحرزون تقدما أصيلا في فنونهم ؛ فتعريب لغة التعليم هو دعوة إلى تجويده ، وإلى ديمقراطية العلم ، وإشاعته بين الجماهير العريضة.
5- نحن الآن نعيش في عصر العلم ، ومن المؤكد أن شيوع تدرُّب اللسان القومي والقلم القومي والفكر القومي على تناول قضايا العلم ضرورة من ضرورات العصر، إذ إنه يتيح للهواة والطامحين- من غير المتخصصين- أن يطلعوا على العلوم ؛ فيتسع نطاق الثقافة العلمية في المجتمع ويرسخ الميل إليها، ويتمكّن المواطنون، في جملتهم وعلى تنوع مراتب ثقافتهم وتباينها، من أن يعيشوا عصرهم ويحسنوا فهم قضاياه. وهذا يسهم بدوره أيضا في عبور الفجوة ، أو (الجفوة) بين أهل (الثقافتين)؛ مما يعني زيادة في ترابط الأمة.
6- وتدريس العلوم بالعربية في الجامعة فيه خدمة جليلة للغة العربية نفسها. فهذه اللغة المشرفة قد حفظها الله بحفظ قرآنه الكريم ، ولكن خدمتها وإغناءها وتجديد حيويتها بحسن توظيفها في قضايا الحياة المتجددة في عصورها المتعاقبة ... يظل هذا كله أمانة مفروضة على أبنائها في كل عصر. والحق أن أسلافنا في عصور الإسلام الزاهرة قاموا بحقوق هذه الأمانة على خير وجه ، وينبغي ألا نقصِّر نحن في إسهامنا بدورنا التاريخي نحوها.
7- التعريب اللغوي للعلوم هو الخطوة الأساسية نحو ( تعريب العلم ) بمعناه الشامل وتأصيله في مجتمعنا، أخذا وعطاء وتطبيقا . أما الخـطوات التالية فهي قضية أخرى ، فيها جوانب اقـتصاديـة واجتماعية ، وهي مسئولية الجامعات والأكاديميات العلمية ومراكز البحوث.
تعليق