بين أزمة التعريب وهجمة التغريب
أ.د.وفاء كامل فايد
اللغة أبرز مقومات الشخصية؛ فهي الإطار الذي يحفظ كيان أصحابها ويحدد هويتهم، وهي العمود الفقري للقومية، فضلا عن أنها مرآة العقل ووعاء الأفكار والمشاعر، وأداة التفكير وتحديد المقاصد، وأساس ولادة الحاسة العلمية والفنية وتكوين التصورات الذهنية. وهي ميراث اجتماعي متطاول، وخط اتصال للتجارب العامة والخاصة، كما أنها وسيلة النمو العاطفي والنضج الذهني، وأهم مظهر يتجلى فيه إبداع أبناء الأمة. فضلا عن أنها من أهم الوشائج الاجتماعية بين أبناء الأمة؛ إذ هي وسيلة تخاطبهم التي تقوم بها الصلات والروابط.
وبقاء الأمم وتقدمها مرتبط بتشبثها بأصولها المتمثلة في لغتها ودينها، وتهاونها في الحرص على هذه الأصول مدعاة لتقهقرها وتراجعها في كل ميادين الحياة.
وتمر الأمة العربية بمرحلة حضارية خطيرة في حياتنا المعاصرة، وإذا لم تتفهم هذه المرحلة وتهضم ما فيها من جديد، وتلحق بالتيارات الحديثة المتدفقة ضاعت شخصيتها بين تيارات الحضارة الجديدة، ونسيت تراثها وأصالتها؛ لأن الأمم القوية ستفرض عليها علمها وثقافتها وآدابها عن طريق التطور الحضاري المتقدم، والاختراعات الكثيرة التي تغلغلت في جميع مظاهر حياتنا.
ويمثل كتاب ( أزمة التعريب) للأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي صرخة مخلصة ترصد نقاط القوة والضعف في لغتنا العربية، وكيفية الخروج من عثرتها الراهنة. وحين تصدر هذه الصيحة من عالم متخصص في فرع من فروع الطب- الذي ما زال يدرس في مصر باللغة الأجنبية- يكون لها صداها الكبير، وتأثيرها المدوي؛ فكثيرا ما استندت المعارضة في وجه آراء غير أساتذة الطب أو التخصصات العلمية المختلفة في هذا المجال على أساس أن ( أهل مكة أدرى بشعابها).
هذا العالم الكبير يلخص تلك الأزمة بقوله:" إن النظام العالمي الجديد يمثل تحديا مباشرا لهويتنا العربية الثقافية والحضارية، وإن لم نسارع ونخرج من أزمة التعريب بمفهومها الشامل فسوف نتعرض لأخطار التبعية والهيمنة الثقافية، ونواجه محنة التغريب. إن العولمة تعزز سيطرتها على العالم العربي والإسلامي بشدة، وتتغلغل تغلغلا عميقا لتفكيكه وتشكيله على هواها؛ لأن الغرب يريد أن يفرض علينا أفكاره وقيمه وثقافته وحضارته. فإذا ارتطم بالإسلام عقيدة وفكرا وحضارة اتهمنا بالتطرف والإرهاب، وعوامل التفتت والانهيار تنخر في جسد الأمة العربية الإسلامية، تحكمها ظواهر اجتماعية متباينة بين غنى فاحش وفقر مدقع، وبين أمية وتعليم متخلف، وتعليم أجنبي بلغة يزهو بها أصحابها وتزيد من تغريب شبابنا وعدم انتمائه. إن العرب يعيشون الآن مرحلة العولمة وهم يعانون الضعف والوهن الواضح. إننا أمام تحد خطير فنحن- في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المستقبل بأمل المشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية- نضع أيدينا على قلوبنا خشية ضياع هويتنا. والخوف كل الخوف من عدم استعمال الأسلوب العلمي في مواجهة العولمة، وأن يكون رد الفعل عندنا يفتقر إلى العقلانية فيتجه إما إلى تطرف يتبنى الثقافة الغربية (التغريب) أو تطرف ينحو نحو الانغلاق ورفض التعامل، وكلاهما كارثتان محققتان".
هكذا لخص عالم الطب المحنة التي تعيشها العربية في أوطانها المختلفة، ثم رسم الخطوط العريضة لتجاوز هذه العثرة حين حدد الهدف، وهو الارتقاء باللغة العربية لتصبح لغة التعليم والتعلم. ونقل رأي أستاذنا الدكتور محمود محفوظ الذي بيّن أن العلوم ثابتة الأصل وتنتقل بلغة ناقلها ومستخدمها: فالطب في الصين باللغة الصينية، وفي ألمانيا باللغة الألمانية، وفي فرنسا باللغة الفرنسية،وهذا هو التعليم. ولكن النمو والتقدم العلمي يستلزم قدرة وتمكنا من لغة أجنبية شائعة في ربوع المعرفة العلمية. وعن طريق التمكن من هذه اللغة الأجنبية تكون القدرة على استيعاب المعرفة والمعلومات، وسرعة نقلها من اللغة الأجنبية إلى اللغة الوطنية، وهذا هو التعلم. فالتعليم يكون باللغة الأم أما التعلم والتقدم العلمي والتكنولوجي فلا يكون إلا بالتمكن من اللغة الأجنبية التي كتبت بها هذه المراجع نطقا وكتابة؛ حيث إن بها يكون الاطلاع على المراجع الأجنبية.
والتعليم والتعلم باللغة الأم من الأسس التي يؤيدها علم النفس اللغوي. وفي تقرير شامل أعده خبراء منظمة اليونسكو عن قضية استخدام اللغات الوطنية في التعليم أوصى واضعو التقرير باستخدام اللغة الأم في التعليم لأعلى مرحلة ممكنة. وشدد التقرير على ضرورة تعليم التلاميذ في المراحل الدراسية الأولى بلغتهم الوطنية؛ لأنهم يفهمونها ويتقنونها أكثر من غيرها.
إن اللغة الانجليزية تحتل مكانة متقدمة في العالم ، فهي اللغة الأولى حين نقدِّر عدد المتحدثين بها بوصفها لغة رسمية : إذ يستخدمها مليار وأربعمائة مليون من البشر. وهي اللغة الثانية بين اللغات العشرين التي تمثل القمة بالنسبة لعدد المتحدثين بها بوصفها اللغة الأم ( اللغة الأولى )؛ إذ يتحدث بها حوالى ثلاثمائة وخمسين مليونا. ولكنا لا نعرف بلدا واحدا – في غير العالم العربي- أقدم على تدريس مواد العلوم والرياضيات بغير لغته القومية من فرنسا إلى الصين واليابان والبرازيل وكوريا وألبانيا وإسرائيل.
ونحن نعيش في زمن نبكي فيه حال لغتنا العربية، التي هانت على ألسنة أبنائها، من المتعلمين وغيرهم، في عصر أعشى نظرنا فيه الانبهار بالحضارة والثقافة الغربية، وسخرت فيه كل الوسائل للتأثير على أبناء العربية ودفعهم إلى هجرها والتحدث بغيرها، أو تطعيم عاميتهم باللغات الأجنبية؛ في تجسيد حي لعقدة الخواجة التي تعكس انبهارنا بتفوق الآخر.
فنحن نلحظ استخدام اللهجة العامية في تدريس المواد غير الأجنبية في المدارس والجامعات. ويحدث ذلك حتى في تدريس المواد التخصصية كالنحو والبلاغة والأدب. وهو ما يُحوِّل اللغة العربية - في ذهن الطالب- إلى مادة ميتة غريبة على أذنه لا يحتاج منها إلا إلى معرفة عدد من الأمثلة للاستشهاد به، أو لإفراغه في ورقة الإجابة، أو لتطعيم لغته العامية بها إذا احتاج الأمر.
كما نلحظ حرص وسائل الإعلام – وخاصة التلفاز- على إذاعة الإعلانات والمسلسلات والبرامج التي تتشدق بالكلمات الأجنبية، ويكفي أن نشير إلى الفلاحات اللائي غنين للسمن ( الإيزي أوبن)، والعمة التي
كررت الكلمات والعبارات الإنجليزية على مسامع البسطاء في شهر رمضان حتى لقنتها لهم.
ونلحظ شيوع الحديث باللغات الأجنبية، حتى على ألسنة الصغار: فنجد الطفل دون السادسة ينطق الأرقام الأجنبية دون العربية، كما يعبر عن الألوان التي يراها أمامه باللغة الأجنبية التي تعلمها في (الحضانة). ونلحظ حرص المدارس الأجنبية على استخدام التلاميذ اللغة الأجنبية حتى في غير أوقات الدراسة؛ مما يجعل تلك اللغة هي الأقرب إلى تفكير التلميذ ولسانه من لغته الأم، فينشأ وفي ذهنه إحساس بهوان اللغة العربية وتميز ما سواها؛ مما يترتب عليه شعوره بعدم الانتماء، وبالدونية وتفوق الآخر. ويدعم ذلك الموقف قلة عدد المواد التي تدرس للطفل- في هذه المدارس- باللغة العربية ؛ مما يجعلها هي اللغةَ الثانية على لسان الطفل وفي فكره.
وكان ضعف المستوى العلمي واللغوي للمعلمين مما دعا أولياء الأمور إلى بذل جهدهم لإلحاق أبنائهم بمدارس اللغات الأجنبية؛ كي يضمنوا لهم مستوى علميا جيدا، يؤهلهم للالتحاق بالكليات الجامعية. ورفد ذلك تشجيع الدولة على التوسع في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات والأجنبية؛ تخفيفا للعبء الذي يثقل كاهل الدولة، بعد الزيادة الرهيبة في عدد السكان.
ولكن معظم هذه المؤسسات تتبع في تدريسها مناهج الدول الأجنبية، وكثيرا ما تستعين بهيئات التدريس من تلك البلاد الأجنبية؛ مما يعمق سيطرة اللغة الأجنبية، ويدفع العربية إلى التقوقع والانزواء، ويعيد إلى الأذهان صورة الاستعمار الأجنبي، بعد أن تطور فصار غزوا للعقول، وسيطرة على التفكير واللسان.
ويرتبط بذلك إنشاء فروع وأقسام خاصة، في عدد من الكليات الجامعية، تكون الدراسة فيها بإحدى اللغات الأجنبية. وتخرج شبابا يتحدث بطلاقة باللغة الأجنبية، في حين يتعثر لسانه عند نطق عبارة عربية. ويشجع على التهافت على هذه الأقسام فتح سوق العمل على مصراعيه للدارسين باللغات الأجنبية، في المؤسسات والشركات الأجنبية التي تسعى إلى تشغيل هؤلاء الخريجين– حتى قبل تخرجهم– أو في المؤسسات والشركات العربية. كما أدى انتشار البطالة إلى حرص أولياء الأمور على إلحاق أبنائهم بهذه الفروع ؛ حتى يضمنوا لهم فرص العمل المتميزة.
المشكلة إذن اجتماعية تحتاج إلى تشريع؛ فنسيان الذات خطر كبير يحدق بنا، وتعميق الانتماء والولاء الوطني واجب قومي. إن الوعي بالهوية القومية والعربية هو طوق النجاة الذي يعصمنا من الانجراف في مهاوي التبعية، ويحمينا من الانقياد الذليل وراء العولمة؛ فالعولمة واقع حي، وتأثيرها على النشاط الانساني والبشري بعيد المدى، ومن هنا يجب ألا ندخر جهدا في التخلص من سلبيات العولمة التي تؤثر في الوطنية والهوية الذاتية، وأن نعمل على إذكاء الشعور الوطني، وأن نحافظ على لغتنا بكل الوسائل والسبل ؛ حتى نحتفظ بكياننا أمام هذا التيار، ونحافظ على ثقافاتنا المحلية إزاءه؛ لكي لا نذوب فيه، وتضيع مقومات شخصيتنا، ونصبح صورا باهتة ممسوخة لا حياة فيها.
إن شبابنا يجب أن تتاح لهم السبل للتعامل مع الثقافة العالمية بمنهجية واعية نقدية، تستطيع الانتقاء والاختيار. ولن يتأتى هذا إلا بتعزيز الهوية الوطنية والذاتية الثقافية عن طريق تعزيز اللغة القومية والعقيدة
الدينية والثقافة التاريخية الوطنية.
والعولمة ليست موجهة نحو المال والاستهلاك فحسب؛ إذ هي غزو ثقافي متكامل، لأنها موجهة إلى فكر الإنسان ولغته وثقافته، بفضل حيازتها معرفة منظمة، ووسائل فاعلة لنشر هذه المعرفة. ومهندسو العولمة يستخدمون اللغة بوصفها وسيلة للاختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية، ثم خلخلتها من الداخل للقضاء على الموروث الحضاري الذي هو أهم مقومات الدول. ومن هنا يجب التأكيد على ضرورة الارتقاء باللغة والتمسك بالتعريب للحفاظ على ثقافاتنا وقيمنا الإيجابية المكتسبة على مر العصور. ولا بد أن يكون هناك إدراك واع لطبيعة الدور الخطير الذي يلعبه كل من التعريب والتغريب، وطرق التوفيق بينهما واضعين نصب أعيننا نمو أمتنا العربية ومستقبلها وهويتها، والتواؤم مع التطورات التقنية بالغة التأثير والسرعة، وسيادة تقنيات الاتصالات والحاسبات الإلكترونية والمعلومات والمصطلحات العلمية، والتأكيد على اندماج اللغة والعلم والتقنية مع جميع المنظومات المجتمعية؛ حتى يمكن التفاعل والتعامل الإيجابي مع متطلبات عصر المعرفة والتقنية والعولمة.
ولا ننسى أن الوعي بالهوية والقومية دفع فرنسا إلى تنقية لغتها من التلوث اللغوي الذي أصابها من مفردات الانجليزية: فقانون حماية اللغة الفرنسية الذي أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1994م نص على "حظر انعقاد المؤتمرات العلمية التي تتخذ الإنجليزية لغة للتداول". كما تدخَّل برلمانها لحماية اللغة حين وضع قائمة سوداء من الكلمات التي يحظر استخدامها في الإعلانات والمدارس والحكومة والمؤسسات، كما رسمت فرنسا سياسة لغوية لجأت فيها إلى سن القوانين بما يحفظ للأمة مظهر حياتها العقلية؛ فاستطاعت الحفاظ على اللغة الفرنسية. ونلحظ أن الانجليزية البريطانية تحرص على تنقية نفسها مما يصيبها من تلوث من الانجليزية الأمريكية. كما أن اللغة العبرية الحديثة لم تحقق ما حققته من مكانة لتصبح اللغة الوطنية لدولة إسرائيل إلا نتيجة لتنامي الشعور الوطني والإرادة الجماعية لليهود. ومما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها وفاعليتها، وشمولها كل مناحي الحياة داخل الدولة الحديثة، سواء كانت اجتماعية أو تقنية أو تعليمية. ولا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اجتمع فيها من الأجناس والأعراق ما لم يكن يسمح بأي تواؤم ثقافي، ولكن اللغة الانجليزية التي ربطت بينها حسمت هوية قومية ما كان لها أن تتشكل لولا التوحيد اللغوي.
إن تعريب العلوم والمصطلحات من القضايا المهمة التي يتأكد دورها، وتزداد أهميتها يوما بعد يوم؛ بسبب التسارع التكنولوجي الحديث، وضروررة معاصرة اللغة له. ولا بد في هذا المجال من اتباع سياسة ومنهجية عربية موحدة، تصب في قالب التضامن العربي، وتشد أواصر الوحدة العربية. ولم ينس الكاتب أن يحدد أساسيات التعريب، التي ذكر أهمها، وهي: وضوح الأهداف، وتأهيل المتخصصين، وإعداد الكفاءات، وتدريب العناصر الفاعلة المؤثرة، وإعداد المصطلحات التي تنهل من اللغة العربية وتعبر عن المفاهيم العلمية تعبيرا دقيقا.
ويتعين علينا- لمواجهة طوفان الكلمات والمصطلحات الأجنبية في مختلف نواحي الحياة- أن نلجأ إلى الترجمة الشاملة التي تنقل الحركة الحياتية الكاملة في مجال العلم- بوجه خاص - إلى اللغة العربية في مقدرة وسرعة وكفاءة؛ بحيث يصبح الذهن العربي متشبعا بحقائقها، مستوعبا ومتمثلا لها، قادرا على تطويرها؛ مما يتيح للعقل العربي الإسهام بنصيب في التقدم العلمي العالمي، مستثمرا ملكاتِه الخاصةَ وقدراته الذاتية؛ ليضمن للكيان العربي الرسوخ والانطلاق في مجال الحضارة العالمية، فنكون بهذا قد انخرطنا في مجال العولمة ودرنا في مدارها محتفظين بذاتنا وكِياننا وقوميتنا. إن المجهود المنشود كبير، والتضحيات اللازمة أكبر، ولكن آن الأوان لتلعب الترجمة دورها في نقل الثقافة والحضارة والمدنية والتقدم العلمي المعاصر من الغرب إلى الشرق. ومصر مؤهلة بموقعها وإمكاناتها البشرية للقيام بهذا الدورالكبير والخطير والمؤثر في يقظتنا العلمية ووثبتنا الحضارية.
والترجمة بهذا المعنى تستحق ما ينفق في سبيلها من جهد ومال، وما يبذل من أجلها من تضحيات. ولا ننسى ما كان يفعله الخليفة العباسي المأمون الذي كان يعطي لمن يترجم كتابا -عن الرومية أو الفارسية إلى العربية - وزنه ذهبا. وكان حصاد ذلك أن لعبت الترجمة في ذلك العهد دورا بارزا في الحضارة العربية الزاهرة. ولنذكر أيضا أنه في مطلع العصر الحديث كان العائدون من البعثات لا يغادرون القلعة حتى يترجم كل منهم كتابا في تخصصه.
أ.د.وفاء كامل فايد
اللغة أبرز مقومات الشخصية؛ فهي الإطار الذي يحفظ كيان أصحابها ويحدد هويتهم، وهي العمود الفقري للقومية، فضلا عن أنها مرآة العقل ووعاء الأفكار والمشاعر، وأداة التفكير وتحديد المقاصد، وأساس ولادة الحاسة العلمية والفنية وتكوين التصورات الذهنية. وهي ميراث اجتماعي متطاول، وخط اتصال للتجارب العامة والخاصة، كما أنها وسيلة النمو العاطفي والنضج الذهني، وأهم مظهر يتجلى فيه إبداع أبناء الأمة. فضلا عن أنها من أهم الوشائج الاجتماعية بين أبناء الأمة؛ إذ هي وسيلة تخاطبهم التي تقوم بها الصلات والروابط.
وبقاء الأمم وتقدمها مرتبط بتشبثها بأصولها المتمثلة في لغتها ودينها، وتهاونها في الحرص على هذه الأصول مدعاة لتقهقرها وتراجعها في كل ميادين الحياة.
وتمر الأمة العربية بمرحلة حضارية خطيرة في حياتنا المعاصرة، وإذا لم تتفهم هذه المرحلة وتهضم ما فيها من جديد، وتلحق بالتيارات الحديثة المتدفقة ضاعت شخصيتها بين تيارات الحضارة الجديدة، ونسيت تراثها وأصالتها؛ لأن الأمم القوية ستفرض عليها علمها وثقافتها وآدابها عن طريق التطور الحضاري المتقدم، والاختراعات الكثيرة التي تغلغلت في جميع مظاهر حياتنا.
ويمثل كتاب ( أزمة التعريب) للأستاذ الدكتور محمود فوزي المناوي صرخة مخلصة ترصد نقاط القوة والضعف في لغتنا العربية، وكيفية الخروج من عثرتها الراهنة. وحين تصدر هذه الصيحة من عالم متخصص في فرع من فروع الطب- الذي ما زال يدرس في مصر باللغة الأجنبية- يكون لها صداها الكبير، وتأثيرها المدوي؛ فكثيرا ما استندت المعارضة في وجه آراء غير أساتذة الطب أو التخصصات العلمية المختلفة في هذا المجال على أساس أن ( أهل مكة أدرى بشعابها).
هذا العالم الكبير يلخص تلك الأزمة بقوله:" إن النظام العالمي الجديد يمثل تحديا مباشرا لهويتنا العربية الثقافية والحضارية، وإن لم نسارع ونخرج من أزمة التعريب بمفهومها الشامل فسوف نتعرض لأخطار التبعية والهيمنة الثقافية، ونواجه محنة التغريب. إن العولمة تعزز سيطرتها على العالم العربي والإسلامي بشدة، وتتغلغل تغلغلا عميقا لتفكيكه وتشكيله على هواها؛ لأن الغرب يريد أن يفرض علينا أفكاره وقيمه وثقافته وحضارته. فإذا ارتطم بالإسلام عقيدة وفكرا وحضارة اتهمنا بالتطرف والإرهاب، وعوامل التفتت والانهيار تنخر في جسد الأمة العربية الإسلامية، تحكمها ظواهر اجتماعية متباينة بين غنى فاحش وفقر مدقع، وبين أمية وتعليم متخلف، وتعليم أجنبي بلغة يزهو بها أصحابها وتزيد من تغريب شبابنا وعدم انتمائه. إن العرب يعيشون الآن مرحلة العولمة وهم يعانون الضعف والوهن الواضح. إننا أمام تحد خطير فنحن- في الوقت الذي نتطلع فيه إلى المستقبل بأمل المشاركة الفعالة في الحضارة الإنسانية- نضع أيدينا على قلوبنا خشية ضياع هويتنا. والخوف كل الخوف من عدم استعمال الأسلوب العلمي في مواجهة العولمة، وأن يكون رد الفعل عندنا يفتقر إلى العقلانية فيتجه إما إلى تطرف يتبنى الثقافة الغربية (التغريب) أو تطرف ينحو نحو الانغلاق ورفض التعامل، وكلاهما كارثتان محققتان".
هكذا لخص عالم الطب المحنة التي تعيشها العربية في أوطانها المختلفة، ثم رسم الخطوط العريضة لتجاوز هذه العثرة حين حدد الهدف، وهو الارتقاء باللغة العربية لتصبح لغة التعليم والتعلم. ونقل رأي أستاذنا الدكتور محمود محفوظ الذي بيّن أن العلوم ثابتة الأصل وتنتقل بلغة ناقلها ومستخدمها: فالطب في الصين باللغة الصينية، وفي ألمانيا باللغة الألمانية، وفي فرنسا باللغة الفرنسية،وهذا هو التعليم. ولكن النمو والتقدم العلمي يستلزم قدرة وتمكنا من لغة أجنبية شائعة في ربوع المعرفة العلمية. وعن طريق التمكن من هذه اللغة الأجنبية تكون القدرة على استيعاب المعرفة والمعلومات، وسرعة نقلها من اللغة الأجنبية إلى اللغة الوطنية، وهذا هو التعلم. فالتعليم يكون باللغة الأم أما التعلم والتقدم العلمي والتكنولوجي فلا يكون إلا بالتمكن من اللغة الأجنبية التي كتبت بها هذه المراجع نطقا وكتابة؛ حيث إن بها يكون الاطلاع على المراجع الأجنبية.
والتعليم والتعلم باللغة الأم من الأسس التي يؤيدها علم النفس اللغوي. وفي تقرير شامل أعده خبراء منظمة اليونسكو عن قضية استخدام اللغات الوطنية في التعليم أوصى واضعو التقرير باستخدام اللغة الأم في التعليم لأعلى مرحلة ممكنة. وشدد التقرير على ضرورة تعليم التلاميذ في المراحل الدراسية الأولى بلغتهم الوطنية؛ لأنهم يفهمونها ويتقنونها أكثر من غيرها.
إن اللغة الانجليزية تحتل مكانة متقدمة في العالم ، فهي اللغة الأولى حين نقدِّر عدد المتحدثين بها بوصفها لغة رسمية : إذ يستخدمها مليار وأربعمائة مليون من البشر. وهي اللغة الثانية بين اللغات العشرين التي تمثل القمة بالنسبة لعدد المتحدثين بها بوصفها اللغة الأم ( اللغة الأولى )؛ إذ يتحدث بها حوالى ثلاثمائة وخمسين مليونا. ولكنا لا نعرف بلدا واحدا – في غير العالم العربي- أقدم على تدريس مواد العلوم والرياضيات بغير لغته القومية من فرنسا إلى الصين واليابان والبرازيل وكوريا وألبانيا وإسرائيل.
ونحن نعيش في زمن نبكي فيه حال لغتنا العربية، التي هانت على ألسنة أبنائها، من المتعلمين وغيرهم، في عصر أعشى نظرنا فيه الانبهار بالحضارة والثقافة الغربية، وسخرت فيه كل الوسائل للتأثير على أبناء العربية ودفعهم إلى هجرها والتحدث بغيرها، أو تطعيم عاميتهم باللغات الأجنبية؛ في تجسيد حي لعقدة الخواجة التي تعكس انبهارنا بتفوق الآخر.
فنحن نلحظ استخدام اللهجة العامية في تدريس المواد غير الأجنبية في المدارس والجامعات. ويحدث ذلك حتى في تدريس المواد التخصصية كالنحو والبلاغة والأدب. وهو ما يُحوِّل اللغة العربية - في ذهن الطالب- إلى مادة ميتة غريبة على أذنه لا يحتاج منها إلا إلى معرفة عدد من الأمثلة للاستشهاد به، أو لإفراغه في ورقة الإجابة، أو لتطعيم لغته العامية بها إذا احتاج الأمر.
كما نلحظ حرص وسائل الإعلام – وخاصة التلفاز- على إذاعة الإعلانات والمسلسلات والبرامج التي تتشدق بالكلمات الأجنبية، ويكفي أن نشير إلى الفلاحات اللائي غنين للسمن ( الإيزي أوبن)، والعمة التي
كررت الكلمات والعبارات الإنجليزية على مسامع البسطاء في شهر رمضان حتى لقنتها لهم.
ونلحظ شيوع الحديث باللغات الأجنبية، حتى على ألسنة الصغار: فنجد الطفل دون السادسة ينطق الأرقام الأجنبية دون العربية، كما يعبر عن الألوان التي يراها أمامه باللغة الأجنبية التي تعلمها في (الحضانة). ونلحظ حرص المدارس الأجنبية على استخدام التلاميذ اللغة الأجنبية حتى في غير أوقات الدراسة؛ مما يجعل تلك اللغة هي الأقرب إلى تفكير التلميذ ولسانه من لغته الأم، فينشأ وفي ذهنه إحساس بهوان اللغة العربية وتميز ما سواها؛ مما يترتب عليه شعوره بعدم الانتماء، وبالدونية وتفوق الآخر. ويدعم ذلك الموقف قلة عدد المواد التي تدرس للطفل- في هذه المدارس- باللغة العربية ؛ مما يجعلها هي اللغةَ الثانية على لسان الطفل وفي فكره.
وكان ضعف المستوى العلمي واللغوي للمعلمين مما دعا أولياء الأمور إلى بذل جهدهم لإلحاق أبنائهم بمدارس اللغات الأجنبية؛ كي يضمنوا لهم مستوى علميا جيدا، يؤهلهم للالتحاق بالكليات الجامعية. ورفد ذلك تشجيع الدولة على التوسع في إنشاء المدارس والمعاهد والجامعات والأجنبية؛ تخفيفا للعبء الذي يثقل كاهل الدولة، بعد الزيادة الرهيبة في عدد السكان.
ولكن معظم هذه المؤسسات تتبع في تدريسها مناهج الدول الأجنبية، وكثيرا ما تستعين بهيئات التدريس من تلك البلاد الأجنبية؛ مما يعمق سيطرة اللغة الأجنبية، ويدفع العربية إلى التقوقع والانزواء، ويعيد إلى الأذهان صورة الاستعمار الأجنبي، بعد أن تطور فصار غزوا للعقول، وسيطرة على التفكير واللسان.
ويرتبط بذلك إنشاء فروع وأقسام خاصة، في عدد من الكليات الجامعية، تكون الدراسة فيها بإحدى اللغات الأجنبية. وتخرج شبابا يتحدث بطلاقة باللغة الأجنبية، في حين يتعثر لسانه عند نطق عبارة عربية. ويشجع على التهافت على هذه الأقسام فتح سوق العمل على مصراعيه للدارسين باللغات الأجنبية، في المؤسسات والشركات الأجنبية التي تسعى إلى تشغيل هؤلاء الخريجين– حتى قبل تخرجهم– أو في المؤسسات والشركات العربية. كما أدى انتشار البطالة إلى حرص أولياء الأمور على إلحاق أبنائهم بهذه الفروع ؛ حتى يضمنوا لهم فرص العمل المتميزة.
المشكلة إذن اجتماعية تحتاج إلى تشريع؛ فنسيان الذات خطر كبير يحدق بنا، وتعميق الانتماء والولاء الوطني واجب قومي. إن الوعي بالهوية القومية والعربية هو طوق النجاة الذي يعصمنا من الانجراف في مهاوي التبعية، ويحمينا من الانقياد الذليل وراء العولمة؛ فالعولمة واقع حي، وتأثيرها على النشاط الانساني والبشري بعيد المدى، ومن هنا يجب ألا ندخر جهدا في التخلص من سلبيات العولمة التي تؤثر في الوطنية والهوية الذاتية، وأن نعمل على إذكاء الشعور الوطني، وأن نحافظ على لغتنا بكل الوسائل والسبل ؛ حتى نحتفظ بكياننا أمام هذا التيار، ونحافظ على ثقافاتنا المحلية إزاءه؛ لكي لا نذوب فيه، وتضيع مقومات شخصيتنا، ونصبح صورا باهتة ممسوخة لا حياة فيها.
إن شبابنا يجب أن تتاح لهم السبل للتعامل مع الثقافة العالمية بمنهجية واعية نقدية، تستطيع الانتقاء والاختيار. ولن يتأتى هذا إلا بتعزيز الهوية الوطنية والذاتية الثقافية عن طريق تعزيز اللغة القومية والعقيدة
الدينية والثقافة التاريخية الوطنية.
والعولمة ليست موجهة نحو المال والاستهلاك فحسب؛ إذ هي غزو ثقافي متكامل، لأنها موجهة إلى فكر الإنسان ولغته وثقافته، بفضل حيازتها معرفة منظمة، ووسائل فاعلة لنشر هذه المعرفة. ومهندسو العولمة يستخدمون اللغة بوصفها وسيلة للاختراق الحضاري للتأثير على الهوية الثقافية، ثم خلخلتها من الداخل للقضاء على الموروث الحضاري الذي هو أهم مقومات الدول. ومن هنا يجب التأكيد على ضرورة الارتقاء باللغة والتمسك بالتعريب للحفاظ على ثقافاتنا وقيمنا الإيجابية المكتسبة على مر العصور. ولا بد أن يكون هناك إدراك واع لطبيعة الدور الخطير الذي يلعبه كل من التعريب والتغريب، وطرق التوفيق بينهما واضعين نصب أعيننا نمو أمتنا العربية ومستقبلها وهويتها، والتواؤم مع التطورات التقنية بالغة التأثير والسرعة، وسيادة تقنيات الاتصالات والحاسبات الإلكترونية والمعلومات والمصطلحات العلمية، والتأكيد على اندماج اللغة والعلم والتقنية مع جميع المنظومات المجتمعية؛ حتى يمكن التفاعل والتعامل الإيجابي مع متطلبات عصر المعرفة والتقنية والعولمة.
ولا ننسى أن الوعي بالهوية والقومية دفع فرنسا إلى تنقية لغتها من التلوث اللغوي الذي أصابها من مفردات الانجليزية: فقانون حماية اللغة الفرنسية الذي أقرته الجمعية الوطنية الفرنسية عام 1994م نص على "حظر انعقاد المؤتمرات العلمية التي تتخذ الإنجليزية لغة للتداول". كما تدخَّل برلمانها لحماية اللغة حين وضع قائمة سوداء من الكلمات التي يحظر استخدامها في الإعلانات والمدارس والحكومة والمؤسسات، كما رسمت فرنسا سياسة لغوية لجأت فيها إلى سن القوانين بما يحفظ للأمة مظهر حياتها العقلية؛ فاستطاعت الحفاظ على اللغة الفرنسية. ونلحظ أن الانجليزية البريطانية تحرص على تنقية نفسها مما يصيبها من تلوث من الانجليزية الأمريكية. كما أن اللغة العبرية الحديثة لم تحقق ما حققته من مكانة لتصبح اللغة الوطنية لدولة إسرائيل إلا نتيجة لتنامي الشعور الوطني والإرادة الجماعية لليهود. ومما يلفت النظر في التجربة اليهودية السرعة المذهلة في تنفيذها وفاعليتها، وشمولها كل مناحي الحياة داخل الدولة الحديثة، سواء كانت اجتماعية أو تقنية أو تعليمية. ولا ننسى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد اجتمع فيها من الأجناس والأعراق ما لم يكن يسمح بأي تواؤم ثقافي، ولكن اللغة الانجليزية التي ربطت بينها حسمت هوية قومية ما كان لها أن تتشكل لولا التوحيد اللغوي.
إن تعريب العلوم والمصطلحات من القضايا المهمة التي يتأكد دورها، وتزداد أهميتها يوما بعد يوم؛ بسبب التسارع التكنولوجي الحديث، وضروررة معاصرة اللغة له. ولا بد في هذا المجال من اتباع سياسة ومنهجية عربية موحدة، تصب في قالب التضامن العربي، وتشد أواصر الوحدة العربية. ولم ينس الكاتب أن يحدد أساسيات التعريب، التي ذكر أهمها، وهي: وضوح الأهداف، وتأهيل المتخصصين، وإعداد الكفاءات، وتدريب العناصر الفاعلة المؤثرة، وإعداد المصطلحات التي تنهل من اللغة العربية وتعبر عن المفاهيم العلمية تعبيرا دقيقا.
ويتعين علينا- لمواجهة طوفان الكلمات والمصطلحات الأجنبية في مختلف نواحي الحياة- أن نلجأ إلى الترجمة الشاملة التي تنقل الحركة الحياتية الكاملة في مجال العلم- بوجه خاص - إلى اللغة العربية في مقدرة وسرعة وكفاءة؛ بحيث يصبح الذهن العربي متشبعا بحقائقها، مستوعبا ومتمثلا لها، قادرا على تطويرها؛ مما يتيح للعقل العربي الإسهام بنصيب في التقدم العلمي العالمي، مستثمرا ملكاتِه الخاصةَ وقدراته الذاتية؛ ليضمن للكيان العربي الرسوخ والانطلاق في مجال الحضارة العالمية، فنكون بهذا قد انخرطنا في مجال العولمة ودرنا في مدارها محتفظين بذاتنا وكِياننا وقوميتنا. إن المجهود المنشود كبير، والتضحيات اللازمة أكبر، ولكن آن الأوان لتلعب الترجمة دورها في نقل الثقافة والحضارة والمدنية والتقدم العلمي المعاصر من الغرب إلى الشرق. ومصر مؤهلة بموقعها وإمكاناتها البشرية للقيام بهذا الدورالكبير والخطير والمؤثر في يقظتنا العلمية ووثبتنا الحضارية.
والترجمة بهذا المعنى تستحق ما ينفق في سبيلها من جهد ومال، وما يبذل من أجلها من تضحيات. ولا ننسى ما كان يفعله الخليفة العباسي المأمون الذي كان يعطي لمن يترجم كتابا -عن الرومية أو الفارسية إلى العربية - وزنه ذهبا. وكان حصاد ذلك أن لعبت الترجمة في ذلك العهد دورا بارزا في الحضارة العربية الزاهرة. ولنذكر أيضا أنه في مطلع العصر الحديث كان العائدون من البعثات لا يغادرون القلعة حتى يترجم كل منهم كتابا في تخصصه.
تعليق