آدم الإلوري.. مناضل أفريقي من أجل التعريب
12/08/2004
الخضر عبد الباقي محمد**
عندما نتحدث عن عباقرة الفكر وجهابذة العلماء والدعاة المؤثرين في التاريخ الحديث والمعاصر لنيجيريا يأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ آدم عبد الله الإلوري الذي لمعت شخصيته في الفضاء الأفريقي والعربي معا، ونقشت بكتاباتها وجولاتها وحركاتها على جدران تاريخ الدعوة الإسلامية، ونشر الثقافة العربية والعمل الإسلامي والتصدي للأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية الفاسدة.
نضال أفريقي من أجل العربية
وتجسد شخصية الإلوري حياة أبرز نموذج لأحد أعمدة النضال الأفريقي بلغة الضادّ؛ فهو فارس المبارزة في التصدي للحملات المناهضة للثقافة العربية في غرب أفريقيا ونيجيريا بوجه خاص، ولو لم يكن له سوى مشروعه الطموح "تعريب لسان الدعاة الجدد وإعادة الاعتبار إلى العربية" لكفاه؛ إذ نجح في أن يخرج به عن إطار التجربة الشخصية أو حتى النطاق المحلي النيجيري إلى آفاق أفريقية رحبة؛ حتى أصبح نموذجا رائدا يقتدي به آلاف النيجيريين والأفارقة من الدول المجاورة؛ إذ نجح الرجل في تحويل حي "أغيغي" الذي أسس فيه قاعدته ومركزه التعليمي طوال فترة الخمسين عاما إلى جامعة روحية وقلعة إشعاع علمي لتدريب وتخريج كوادر نيجيرية وأفريقية من علماء ومعلمين ودعاة وخطباء ومثقفين؛ حتى أصبح الحي حاليا مزارا دينيا وحضاريا يقصده الناس بالألوف كرمز أسطوري لنضال فردي توّج بالعديد من الإنجازات العظيمة.
كانت بداية مشوار الإلوري في ميدان تدريس اللغة العربية والتوعية والدعوة منذ الأربعينيات من القرن العشرين، ووفقه الله بأن تخرج على يديه ما يربو عن نصف المليون من طلاب العلم في نيجيريا ومن بلاد غرب أفريقيا مثل بنين وساحل العاج والنيجر وتوغو وغيرها، عمل على إحياء كثير مما اندثر أو أوشك على الاندثار من التراث العربي الإسلامي في نيجيريا، وجمع عددا من قصائد العلماء الأقدمين وقام بطبعها، كما ترجم للفيف من العلماء النيجيريين المجهولين، وحرص على شرح عدد من كتب المتون وعلق عليها، إضافة إلى حرصه الشديد على تسجيل ما وقع لهم من المواقف العجيبة وما ظهر على أيديهم من الكرامات.
فهو أول كاتب من قبيلة اليوربا يفرد البحث عن علماء بلاد يوربا بجنوب نيجيريا، وأول عالم ينجح في جمع علماء المنطقة تحت راية واحدة وهي "رابطة الأئمة والعلماء"، وأول عالم يورباوي معاصر ينافس العلماء العرب بمؤلفاته الغزيرة ومصنفاته المطبوعة في عدة مجالات، وهو أول عالم نيجيري يحصل على شهادة إجازة التعليم من الأزهر الشريف بمصر العربية.
مولده ونشأته العلمية
ولد آدم عبد الله الإلوري في عام 1917م في قرية تابعة لمدينة إلورن بجنوب نيجيريا، وبدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم على يد والده ولازمه في أسفاره حتى صار ساعده الأيمن، وقد تتلمذ على أيدي علماء محليين نيجيريين، مثل الشيخ صالح محمد الأول الواعظ في مدينة إبادن، والشيخ عمر أحمد الأبجي في مدينة لاغوس، وقد تأثر برجال الطرق الصوفية خاصة القادرية التي كانت منتشرة في زمانه، ومنها تعرف على الشيخ آدم نمعاج في مدينة "كانو" شمال البلاد، وهو من أحفاد العرب المغاربة الذين نزلوا "كانو" في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد لقيه الإلوري في عام 1941م عندما كان يقصد الانتساب إلى الطريقة القادرية، ويصف في سيرته "من هنا نشأت وهكذا تعلمت حتى تخرجت" هذا اللقاء فيقول: "ولما أدركته بحرا لا ساحل له في العلوم انتظمت في سلك تلاميذه، وبدأت أتثقف عليه بتقويم الإنشاء الصحيح".
اتصالاته بالعالم العربي
وفي فترة مبكرة من حياته ترسخت قناعة لدى الإلوري بأنه لا بد له من السفر والاتصال بأعلام الفكر الإسلامي والثقافة العربية للاجتماع بهم والمناقشة العلمية المباشرة والاقتباس منهم، فخرج عام 1946م عازما على زيارة السعودية وجمهورية مصر العربية والسودان العربي، فالتقى في مكة المكرمة بالشيخ السيد علوي مالكي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ حسن المشط والشيخ موسى الكشناوي والشيخ عثمان عمر الفلاني والأمير بنو حفيد عثمان بن فودي، وفي المدينة المنورة اجتمع بالشيخ الكتاغنمي والشيخ محمد طاهر العقلي من المدرسة الشرعية، وفي السودان قابل السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي والشيخ محمد المبارك والشيخ أحمد الفاتح قريب الله، وفي مصر قابل شيخ الجامع الأزهر مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود أبو العيون والشيخ محمد شلتوت والشيخ حسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين.. فتركت تلك اللقاءات تأثيرا واضحا في مسار تفكير الإلوري واتجاهاته.
النضال ضد التغريب
وبعد عودته خاض الإلوري عدة معارك فكرية ضارية في سبيل الدفاع عن لغة كتاب الله العظيم، واشتبك مع أعداء العربية والمعارضين ليكون لها وجود أو كيان داخل الأراضي النيجيرية؛ حتى صار قائدا لجبهة الدفاع عن العربية في هذه المنطقة الأفريقية، وقد حارب في ثلاث جبهات قتال في وقت واحد: الأولى جبهة الصراع التنصيري الإسلامي المعادي للإسلام وثقافته العربية. والثانية جبهة القوى الاستعمارية التي سعت إلى سيادة الإنجليزية لغة وحيدة للمنطقة. والثالثة جبهة صراع داخلية مع بعض أهل اللغة العربية الذين انضموا إلى موكب الإنجليزية، وبدءوا يُسبحون بحمدها، ويقدسون لمجدها، وينظرون بعين الاحتقار إلى من لا يعرفها، ويحسبونه نصف إنسان ونصف حيوان!!
بواعث وأسباب الانتصار للعربية
يفسر الإلوري دوافع انتصاره للعربية رغم كونه أفريقيا من قبيلة اليوربا فيجملها في ثلاثة دوافع هي:
"أولا: اعتقادنا بأن العربية جزء من الإسلام لا يتجزأ؛ لأنها لغة القرآن ولغة العبادات في الصلوات اليومية ونسك الحج السنوية.
ثانيا: اعتقادنا بأن تجريد العربية عن الإسلام واعتبارها لغة حية من لغات العالم مؤامرة يدبرها العدو للقضاء على الإسلام وعلى العربية معا.
ثالثا: أن العربية إضافة لكونها لغة حضارة روحية بإمكانها مسايرة التطورات العلمية كما كانت في الماضي لغة العلم والأدب والتاريخ والفلسفة في القرون الوسطى.
آليات تنفيذ مشروع التعريب
كان تركيز الإلوري في آليات تنفيذ مشروعه التعريبي على ثلاثة مداخل أساسية هي:
أولا: آلية التعليم والتربية من خلال إنشائه لمركز التعليم العربي الإسلامي.
ثانيا: آلية الإنتاج العلمي والفكري لبث الأفكار والآراء ونشر التوجيهات المرتبطة بالمشروع؛ حيث عمل على إخراج مؤلف جديد في كل مناسبة دينية، وجعله جزءا من الثقافة العامة لجمهوره.
ثالثا: آلية عقد اللقاءات وسلسلة من الدروس الدينية والعلمية للتواصل المباشر مع تلاميذته وأنصاره ومؤيديه.
وقد حرص على استخدام أسلوب استقطاب أبناء الشخصيات المهمة والزعامات الدينية والاجتماعية بالتركيز على أبناء كبار العلماء والأئمة المشهورين بتعليمهم العربية كخطوة تكتيكية لتوسيع دائرة التأييد الشعبي للمشروع وتكثير سواد أنصار حركة التعريب.
من آرائه وأفكاره ومواقفه
ومن الطريف أن الإلوري كان يرى أن الانبهار بالثقافة الغربية واللهث وراء الإنجليزية وظاهرة شحن تعبيرات بعض من العلماء بكلمات إنجليزية وفرنسية يمثل شيئا من الميوعة والرعونة والمجون، فكان يقول: "وأنا لا أعرف الميوعة والمجون والخلاعة والرعونة التي أصابت طائفة من حماة الدعوة أو بعض العرب في التفاخر بغير لغة القرآن ولغة الإسلام".
كما كان يرى أن نزول مكانة العربية من الصدارة والقيادة العلمية لا يسوّغ الخضوع والاستسلام للاستلاب الثقافي، وكان يردد "فما بال العرب حتى لو زالت مكانتهم في الصدارة والقيادة اليوم؟ ألم يكونوا أساتذة الدنيا قبل اليوم؟ فكيف لا يفتخرون بلغتهم؟".
وقد كان شديد التفاخر بثقافته العربية، ويثني على تصرف الآباء المسلمين الذين منعوا أولادهم من دخول المدارس الإنجليزية، وكثيرا ما ردد قوله: "أشكر آباءنا الذين منعونا من دخول المدارس الإنجليزية بل أجبرونا على تعلم العربية مع كثرة مشاكلها وعقباتها وعراقيلها، ولولا عملهم هذا لشغر اليوم المكان الذي شغلناه في المجتمع الإسلامي، وسنظل على العهد والميثاق الذي تعهدنا، وهو التزود بالإنجليزية لاستعمالها عند الضرورة غير التفاخر بها لمباهاة الناس، إننا راقون مثقفون متحضرون".
وقد كان من أوائل المنادين بجعل العربية لغة نقاش ومداولة في مجلس العلماء النيجيري، وكان يصرّ على الحديث بها ويرفض بشدة القبول بالإنجليزية فيها.
انتقادات وجهت للإلوري
وقد أثارت آراء الإلوري كثيرا من المثقفين المستغربين؛ فكانوا يصفون منهجه وأنصاره بالرجعية والجهل والأمية، وبأنهم "نصف إنسان ونصف حيوان؛ لأنهم يتعلمون العربية وحدها دون غيرها ولا يبالون بالإنجليزية"! وكان رد الإلوري ساخرا؛ حيث رفض فكرة أن العلم والثقافة رهن على من يعرف الإنجليزية فقط، وكان يردد ساخرا: "إن كل من يعرف الإنجليزية ولكنه إذا دخل بلاد فرنسا وبلاد الألمان أو الطليان أو بلاد العرب يحتاج إلى ترجمان فهو جاهل؛ فإن كان عالما يجب عليه أن يحيط بجميع اللغات".
وقد كان موقف الإلوري المعادي للإنجليزية ينطلق من النظرة الدونية التي ينظر بها أصحابها إلى العربية وأهلها، ورغم أنه يجيدها ويتقن الحديث بها؛ فإنه كان يمتنع عن الحديث بها في غير الحاجة، وقال عن ذلك: "الحمد لله أعرف من الإنجليزية ما أقرأ به الصحف والجرائد اليومية والمجلات، وأستطيع أن آخذ وأرد بها عند الضرورة، ولكن كثيرا ما أمتنع أن أتحدث بها للتفاخر، وأكثر تلاميذي دخلوا الجامعات، وحصلوا على الدرجات العلمية في الإنجليزية بإذني وتوجيهاتي، ولكنهم قد تبحروا في العربية حسب طاقتهم وعلى ضوء إرشادي".
وقد أنكر الإلوري أن تكون دعوته ومشروعه للتعريب يهدف لسلخ الشعوب الإفريقية من لغاتها الوطنية كما اتهمه بعض خصومه، وقال: "لسنا ندعو كل مسلم إلى التعريب وترك لسان أمته وقومه أو حكومته إلى العربية، ولكننا ندعوه أن يتعلم ما يناسب وضعه؛ فالمسلم العادي يتعلم ما يؤدي به عباداته وصلواته اليومية، وغيره ممن يحمل مسؤولية محددة يتعلم ما يكفيه لأداء تلك المسؤولية، أما من يتحمل مسؤولية دينية كالإمامة والقضاء والتعليم العالي فيجب أن يجيد العربية إجادة تخصص".
وبعد أن انطلق مشروع الإلوري بإنشائه لمركز التعليم العربي الإسلامي عام 1952م وتوسعت نشاطات المركز الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية مما جلب له جماهير عريضة من مختلف شرائح المجتمع ذكورا وإناثا، ثارت ضده العديد من التساؤلات والانتقادات، من بينها: لماذا قام هذا العمل على عاتق رجل واحد ولم يسلم إلى الحكومة؟ ولماذا اقتصر العمل على اللغة العربية ولم يأخذ معها الإنجليزية؟ ولماذا لم يجعل العمل تحت إدارة دولة من الدول العربية؟
ورد الإلوري على كل هذه الانتقادات بقوة فكان يقول: "إسناد العمل إلى إحدى الجمعيات ليس مجديا وطالما جربنا ذلك، وهم يريدون الجمع بين العربية والإنجليزية وقد فشلت المحاولات من هذا النوع، ولماذا لم يطالبوا المدارس الإنجليزية بفرض العربية فيها كما يطالبوننا بالإنجليزية؟! وأما إسناد أمر المركز إلى الحكومة الوطنية فهي غير مسلمة وكثيرا ما تحاصر وتضايق العربية، إضافة إلى أنها تدعي العلمانية. وأما إسناده إلى إحدى الحكومات العربية فالعمل الإسلامي ليس بضاعة تعرض على الحكومات العربية لنيل حظوظ فانية؛ فالدفاع عن العربية مسؤولية كل مسلم وعالم على الأخص؛ فكلنا مسئولون على السواء".
مؤلفاته وتراثه
حفلت حياة الإلوري بالعديد من الإنجازات العلمية والفكرية، وقد كتب ما يربو على الخمسين كتابا باللغة العربية في مجالات شتى ما بين التاريخ والدعوة والأدب والتربية والسيرة والترجمة للأعلام والفلسفة والسياسة الشرعية والتصوف، ومنها: "الدين النصيحة" 1950م، و"الإسلام في نيجيريا وعثمان بن فودي" 1950م، و"موجز تاريخ نيجيريا" 1964م، و"تاريخ الدعوة إلى الله بين الأمس واليوم" 1967م، و"مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية" 1967م، و"نظام التعليم العربي وتاريخه في العالم الإسلامي" 1971م، و"الإسلام وتقاليد الجاهلية" 1977م، و"آثار العلم والفلسفة والتصوف في مسيرة الدعوة الإسلامية" 1983م، و"فلسفة التوحيد والأديان".
غير أن كتابه "الإسلام اليوم وغدا في نيجيريا"، وكتابه "فلسفة النبوة والأنبياء في ضوء الكتاب والسنة" من أكثر مؤلفاته التي أثارت ضجة وجدلا كبيرين في الأوساط المحلية والإقليمية والعالمية. وقد تناول في الكتاب الأول قضايا ومشكلات التمييز والخلافات القبائلية بين مسلمي الهوسا واليوربا، وظاهرة احتكار المناصب الدينية في أسر وبيوت معينة، كما انتقد بعض الرموز والزعامات في شمال البلاد، كما حمل بشدة على بعض الدعاة السلفيين المغالين ومنهجهم في الدعوة.
وفي الكتاب الثاني أثار قضايا في غاية من الأهمية، مثل: لماذا ينكر البعض نبوة النساء؟ وأسباب عدم ظهور الأنبياء في اليونان والرومان؟ الأمر الذي حرك مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر وبعض الجامعات الإسلامية في ليبيا وغيرها للاشتباك مع بعض أطروحاته.
في فجر يوم الأحد الخامس من إبريل من العام 1992م لحق الشيخ الإلوري بالرفيق الأعلى أثناء علاجه بأحد مستشفيات العاصمة البريطانية لندن؛ لينهي بذلك رحلة نضال استمرت قرابة الخمسين عاما بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح والإنجازات، تغمده الله بواسع رحمته.
المراجع:
آدم عبد الله الإلوري (1950) الإسلام في نيجيريا وعثمان بن فودي.
آدم عبد الله الإلوري (1990) الصراع بين العربية والإنجليزية في نيجيريا.
آدم عبد الله الإلوري (1990) من هنا نشأت وهكذا تعلمت حتى تخرجت (سيرة ذاتية).
--------------------------------------------------------------------------------
** كاتب وصحفي نيجيري.
المصدر: http://www.islamonline.net/arabic/famous/2004/08/article01.SHTML
12/08/2004
الخضر عبد الباقي محمد**
عندما نتحدث عن عباقرة الفكر وجهابذة العلماء والدعاة المؤثرين في التاريخ الحديث والمعاصر لنيجيريا يأتي في مقدمة هؤلاء الشيخ آدم عبد الله الإلوري الذي لمعت شخصيته في الفضاء الأفريقي والعربي معا، ونقشت بكتاباتها وجولاتها وحركاتها على جدران تاريخ الدعوة الإسلامية، ونشر الثقافة العربية والعمل الإسلامي والتصدي للأوضاع الاجتماعية والسياسية والثقافية الفاسدة.
نضال أفريقي من أجل العربية
وتجسد شخصية الإلوري حياة أبرز نموذج لأحد أعمدة النضال الأفريقي بلغة الضادّ؛ فهو فارس المبارزة في التصدي للحملات المناهضة للثقافة العربية في غرب أفريقيا ونيجيريا بوجه خاص، ولو لم يكن له سوى مشروعه الطموح "تعريب لسان الدعاة الجدد وإعادة الاعتبار إلى العربية" لكفاه؛ إذ نجح في أن يخرج به عن إطار التجربة الشخصية أو حتى النطاق المحلي النيجيري إلى آفاق أفريقية رحبة؛ حتى أصبح نموذجا رائدا يقتدي به آلاف النيجيريين والأفارقة من الدول المجاورة؛ إذ نجح الرجل في تحويل حي "أغيغي" الذي أسس فيه قاعدته ومركزه التعليمي طوال فترة الخمسين عاما إلى جامعة روحية وقلعة إشعاع علمي لتدريب وتخريج كوادر نيجيرية وأفريقية من علماء ومعلمين ودعاة وخطباء ومثقفين؛ حتى أصبح الحي حاليا مزارا دينيا وحضاريا يقصده الناس بالألوف كرمز أسطوري لنضال فردي توّج بالعديد من الإنجازات العظيمة.
كانت بداية مشوار الإلوري في ميدان تدريس اللغة العربية والتوعية والدعوة منذ الأربعينيات من القرن العشرين، ووفقه الله بأن تخرج على يديه ما يربو عن نصف المليون من طلاب العلم في نيجيريا ومن بلاد غرب أفريقيا مثل بنين وساحل العاج والنيجر وتوغو وغيرها، عمل على إحياء كثير مما اندثر أو أوشك على الاندثار من التراث العربي الإسلامي في نيجيريا، وجمع عددا من قصائد العلماء الأقدمين وقام بطبعها، كما ترجم للفيف من العلماء النيجيريين المجهولين، وحرص على شرح عدد من كتب المتون وعلق عليها، إضافة إلى حرصه الشديد على تسجيل ما وقع لهم من المواقف العجيبة وما ظهر على أيديهم من الكرامات.
فهو أول كاتب من قبيلة اليوربا يفرد البحث عن علماء بلاد يوربا بجنوب نيجيريا، وأول عالم ينجح في جمع علماء المنطقة تحت راية واحدة وهي "رابطة الأئمة والعلماء"، وأول عالم يورباوي معاصر ينافس العلماء العرب بمؤلفاته الغزيرة ومصنفاته المطبوعة في عدة مجالات، وهو أول عالم نيجيري يحصل على شهادة إجازة التعليم من الأزهر الشريف بمصر العربية.
مولده ونشأته العلمية
ولد آدم عبد الله الإلوري في عام 1917م في قرية تابعة لمدينة إلورن بجنوب نيجيريا، وبدأ حياته العلمية بحفظ القرآن الكريم على يد والده ولازمه في أسفاره حتى صار ساعده الأيمن، وقد تتلمذ على أيدي علماء محليين نيجيريين، مثل الشيخ صالح محمد الأول الواعظ في مدينة إبادن، والشيخ عمر أحمد الأبجي في مدينة لاغوس، وقد تأثر برجال الطرق الصوفية خاصة القادرية التي كانت منتشرة في زمانه، ومنها تعرف على الشيخ آدم نمعاج في مدينة "كانو" شمال البلاد، وهو من أحفاد العرب المغاربة الذين نزلوا "كانو" في القرن الثامن عشر الميلادي، وقد لقيه الإلوري في عام 1941م عندما كان يقصد الانتساب إلى الطريقة القادرية، ويصف في سيرته "من هنا نشأت وهكذا تعلمت حتى تخرجت" هذا اللقاء فيقول: "ولما أدركته بحرا لا ساحل له في العلوم انتظمت في سلك تلاميذه، وبدأت أتثقف عليه بتقويم الإنشاء الصحيح".
اتصالاته بالعالم العربي
وفي فترة مبكرة من حياته ترسخت قناعة لدى الإلوري بأنه لا بد له من السفر والاتصال بأعلام الفكر الإسلامي والثقافة العربية للاجتماع بهم والمناقشة العلمية المباشرة والاقتباس منهم، فخرج عام 1946م عازما على زيارة السعودية وجمهورية مصر العربية والسودان العربي، فالتقى في مكة المكرمة بالشيخ السيد علوي مالكي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ حسن المشط والشيخ موسى الكشناوي والشيخ عثمان عمر الفلاني والأمير بنو حفيد عثمان بن فودي، وفي المدينة المنورة اجتمع بالشيخ الكتاغنمي والشيخ محمد طاهر العقلي من المدرسة الشرعية، وفي السودان قابل السيد على الميرغني والسيد عبد الرحمن المهدي والشيخ محمد المبارك والشيخ أحمد الفاتح قريب الله، وفي مصر قابل شيخ الجامع الأزهر مصطفى عبد الرازق والشيخ محمود أبو العيون والشيخ محمد شلتوت والشيخ حسن البنا مرشد جماعة الإخوان المسلمين.. فتركت تلك اللقاءات تأثيرا واضحا في مسار تفكير الإلوري واتجاهاته.
النضال ضد التغريب
وبعد عودته خاض الإلوري عدة معارك فكرية ضارية في سبيل الدفاع عن لغة كتاب الله العظيم، واشتبك مع أعداء العربية والمعارضين ليكون لها وجود أو كيان داخل الأراضي النيجيرية؛ حتى صار قائدا لجبهة الدفاع عن العربية في هذه المنطقة الأفريقية، وقد حارب في ثلاث جبهات قتال في وقت واحد: الأولى جبهة الصراع التنصيري الإسلامي المعادي للإسلام وثقافته العربية. والثانية جبهة القوى الاستعمارية التي سعت إلى سيادة الإنجليزية لغة وحيدة للمنطقة. والثالثة جبهة صراع داخلية مع بعض أهل اللغة العربية الذين انضموا إلى موكب الإنجليزية، وبدءوا يُسبحون بحمدها، ويقدسون لمجدها، وينظرون بعين الاحتقار إلى من لا يعرفها، ويحسبونه نصف إنسان ونصف حيوان!!
بواعث وأسباب الانتصار للعربية
يفسر الإلوري دوافع انتصاره للعربية رغم كونه أفريقيا من قبيلة اليوربا فيجملها في ثلاثة دوافع هي:
"أولا: اعتقادنا بأن العربية جزء من الإسلام لا يتجزأ؛ لأنها لغة القرآن ولغة العبادات في الصلوات اليومية ونسك الحج السنوية.
ثانيا: اعتقادنا بأن تجريد العربية عن الإسلام واعتبارها لغة حية من لغات العالم مؤامرة يدبرها العدو للقضاء على الإسلام وعلى العربية معا.
ثالثا: أن العربية إضافة لكونها لغة حضارة روحية بإمكانها مسايرة التطورات العلمية كما كانت في الماضي لغة العلم والأدب والتاريخ والفلسفة في القرون الوسطى.
آليات تنفيذ مشروع التعريب
كان تركيز الإلوري في آليات تنفيذ مشروعه التعريبي على ثلاثة مداخل أساسية هي:
أولا: آلية التعليم والتربية من خلال إنشائه لمركز التعليم العربي الإسلامي.
ثانيا: آلية الإنتاج العلمي والفكري لبث الأفكار والآراء ونشر التوجيهات المرتبطة بالمشروع؛ حيث عمل على إخراج مؤلف جديد في كل مناسبة دينية، وجعله جزءا من الثقافة العامة لجمهوره.
ثالثا: آلية عقد اللقاءات وسلسلة من الدروس الدينية والعلمية للتواصل المباشر مع تلاميذته وأنصاره ومؤيديه.
وقد حرص على استخدام أسلوب استقطاب أبناء الشخصيات المهمة والزعامات الدينية والاجتماعية بالتركيز على أبناء كبار العلماء والأئمة المشهورين بتعليمهم العربية كخطوة تكتيكية لتوسيع دائرة التأييد الشعبي للمشروع وتكثير سواد أنصار حركة التعريب.
من آرائه وأفكاره ومواقفه
ومن الطريف أن الإلوري كان يرى أن الانبهار بالثقافة الغربية واللهث وراء الإنجليزية وظاهرة شحن تعبيرات بعض من العلماء بكلمات إنجليزية وفرنسية يمثل شيئا من الميوعة والرعونة والمجون، فكان يقول: "وأنا لا أعرف الميوعة والمجون والخلاعة والرعونة التي أصابت طائفة من حماة الدعوة أو بعض العرب في التفاخر بغير لغة القرآن ولغة الإسلام".
كما كان يرى أن نزول مكانة العربية من الصدارة والقيادة العلمية لا يسوّغ الخضوع والاستسلام للاستلاب الثقافي، وكان يردد "فما بال العرب حتى لو زالت مكانتهم في الصدارة والقيادة اليوم؟ ألم يكونوا أساتذة الدنيا قبل اليوم؟ فكيف لا يفتخرون بلغتهم؟".
وقد كان شديد التفاخر بثقافته العربية، ويثني على تصرف الآباء المسلمين الذين منعوا أولادهم من دخول المدارس الإنجليزية، وكثيرا ما ردد قوله: "أشكر آباءنا الذين منعونا من دخول المدارس الإنجليزية بل أجبرونا على تعلم العربية مع كثرة مشاكلها وعقباتها وعراقيلها، ولولا عملهم هذا لشغر اليوم المكان الذي شغلناه في المجتمع الإسلامي، وسنظل على العهد والميثاق الذي تعهدنا، وهو التزود بالإنجليزية لاستعمالها عند الضرورة غير التفاخر بها لمباهاة الناس، إننا راقون مثقفون متحضرون".
وقد كان من أوائل المنادين بجعل العربية لغة نقاش ومداولة في مجلس العلماء النيجيري، وكان يصرّ على الحديث بها ويرفض بشدة القبول بالإنجليزية فيها.
انتقادات وجهت للإلوري
وقد أثارت آراء الإلوري كثيرا من المثقفين المستغربين؛ فكانوا يصفون منهجه وأنصاره بالرجعية والجهل والأمية، وبأنهم "نصف إنسان ونصف حيوان؛ لأنهم يتعلمون العربية وحدها دون غيرها ولا يبالون بالإنجليزية"! وكان رد الإلوري ساخرا؛ حيث رفض فكرة أن العلم والثقافة رهن على من يعرف الإنجليزية فقط، وكان يردد ساخرا: "إن كل من يعرف الإنجليزية ولكنه إذا دخل بلاد فرنسا وبلاد الألمان أو الطليان أو بلاد العرب يحتاج إلى ترجمان فهو جاهل؛ فإن كان عالما يجب عليه أن يحيط بجميع اللغات".
وقد كان موقف الإلوري المعادي للإنجليزية ينطلق من النظرة الدونية التي ينظر بها أصحابها إلى العربية وأهلها، ورغم أنه يجيدها ويتقن الحديث بها؛ فإنه كان يمتنع عن الحديث بها في غير الحاجة، وقال عن ذلك: "الحمد لله أعرف من الإنجليزية ما أقرأ به الصحف والجرائد اليومية والمجلات، وأستطيع أن آخذ وأرد بها عند الضرورة، ولكن كثيرا ما أمتنع أن أتحدث بها للتفاخر، وأكثر تلاميذي دخلوا الجامعات، وحصلوا على الدرجات العلمية في الإنجليزية بإذني وتوجيهاتي، ولكنهم قد تبحروا في العربية حسب طاقتهم وعلى ضوء إرشادي".
وقد أنكر الإلوري أن تكون دعوته ومشروعه للتعريب يهدف لسلخ الشعوب الإفريقية من لغاتها الوطنية كما اتهمه بعض خصومه، وقال: "لسنا ندعو كل مسلم إلى التعريب وترك لسان أمته وقومه أو حكومته إلى العربية، ولكننا ندعوه أن يتعلم ما يناسب وضعه؛ فالمسلم العادي يتعلم ما يؤدي به عباداته وصلواته اليومية، وغيره ممن يحمل مسؤولية محددة يتعلم ما يكفيه لأداء تلك المسؤولية، أما من يتحمل مسؤولية دينية كالإمامة والقضاء والتعليم العالي فيجب أن يجيد العربية إجادة تخصص".
وبعد أن انطلق مشروع الإلوري بإنشائه لمركز التعليم العربي الإسلامي عام 1952م وتوسعت نشاطات المركز الاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية مما جلب له جماهير عريضة من مختلف شرائح المجتمع ذكورا وإناثا، ثارت ضده العديد من التساؤلات والانتقادات، من بينها: لماذا قام هذا العمل على عاتق رجل واحد ولم يسلم إلى الحكومة؟ ولماذا اقتصر العمل على اللغة العربية ولم يأخذ معها الإنجليزية؟ ولماذا لم يجعل العمل تحت إدارة دولة من الدول العربية؟
ورد الإلوري على كل هذه الانتقادات بقوة فكان يقول: "إسناد العمل إلى إحدى الجمعيات ليس مجديا وطالما جربنا ذلك، وهم يريدون الجمع بين العربية والإنجليزية وقد فشلت المحاولات من هذا النوع، ولماذا لم يطالبوا المدارس الإنجليزية بفرض العربية فيها كما يطالبوننا بالإنجليزية؟! وأما إسناد أمر المركز إلى الحكومة الوطنية فهي غير مسلمة وكثيرا ما تحاصر وتضايق العربية، إضافة إلى أنها تدعي العلمانية. وأما إسناده إلى إحدى الحكومات العربية فالعمل الإسلامي ليس بضاعة تعرض على الحكومات العربية لنيل حظوظ فانية؛ فالدفاع عن العربية مسؤولية كل مسلم وعالم على الأخص؛ فكلنا مسئولون على السواء".
مؤلفاته وتراثه
حفلت حياة الإلوري بالعديد من الإنجازات العلمية والفكرية، وقد كتب ما يربو على الخمسين كتابا باللغة العربية في مجالات شتى ما بين التاريخ والدعوة والأدب والتربية والسيرة والترجمة للأعلام والفلسفة والسياسة الشرعية والتصوف، ومنها: "الدين النصيحة" 1950م، و"الإسلام في نيجيريا وعثمان بن فودي" 1950م، و"موجز تاريخ نيجيريا" 1964م، و"تاريخ الدعوة إلى الله بين الأمس واليوم" 1967م، و"مصباح الدراسات الأدبية في الديار النيجيرية" 1967م، و"نظام التعليم العربي وتاريخه في العالم الإسلامي" 1971م، و"الإسلام وتقاليد الجاهلية" 1977م، و"آثار العلم والفلسفة والتصوف في مسيرة الدعوة الإسلامية" 1983م، و"فلسفة التوحيد والأديان".
غير أن كتابه "الإسلام اليوم وغدا في نيجيريا"، وكتابه "فلسفة النبوة والأنبياء في ضوء الكتاب والسنة" من أكثر مؤلفاته التي أثارت ضجة وجدلا كبيرين في الأوساط المحلية والإقليمية والعالمية. وقد تناول في الكتاب الأول قضايا ومشكلات التمييز والخلافات القبائلية بين مسلمي الهوسا واليوربا، وظاهرة احتكار المناصب الدينية في أسر وبيوت معينة، كما انتقد بعض الرموز والزعامات في شمال البلاد، كما حمل بشدة على بعض الدعاة السلفيين المغالين ومنهجهم في الدعوة.
وفي الكتاب الثاني أثار قضايا في غاية من الأهمية، مثل: لماذا ينكر البعض نبوة النساء؟ وأسباب عدم ظهور الأنبياء في اليونان والرومان؟ الأمر الذي حرك مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر وبعض الجامعات الإسلامية في ليبيا وغيرها للاشتباك مع بعض أطروحاته.
في فجر يوم الأحد الخامس من إبريل من العام 1992م لحق الشيخ الإلوري بالرفيق الأعلى أثناء علاجه بأحد مستشفيات العاصمة البريطانية لندن؛ لينهي بذلك رحلة نضال استمرت قرابة الخمسين عاما بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح والإنجازات، تغمده الله بواسع رحمته.
المراجع:
آدم عبد الله الإلوري (1950) الإسلام في نيجيريا وعثمان بن فودي.
آدم عبد الله الإلوري (1990) الصراع بين العربية والإنجليزية في نيجيريا.
آدم عبد الله الإلوري (1990) من هنا نشأت وهكذا تعلمت حتى تخرجت (سيرة ذاتية).
--------------------------------------------------------------------------------
** كاتب وصحفي نيجيري.
المصدر: http://www.islamonline.net/arabic/famous/2004/08/article01.SHTML
تعليق