[align=center]الكاتب والمعجمي علي القاسمي: مقياس تطوّر أيّ أمة معاجمها
[/align]
[align=justify]محمود عبد الغني
[/align][align=justify]
التأليف الأدبي، والترجمة وتصنيف المعاجم، وتأثير كل ذلك على الأديب في التراكيب والمفردات والرؤية، وصياغة العالم الفني للأديب، هي بعض القضايا التي تناولها هذا الحوار مع الأديب والمترجم والمعجمي العراقي علي القاسمي، المعروف لدى القارئ العربي بتعدد اختصاصاته وإنتاجه في اللغة والأدب والترجمة. هنا الحوار:
*علي القاسمي أنت كاتب ومعجمي ومترجم، تكتب الرواية والقصة القصيرة، وتعمل في تصنيف المعاجم، ما الرابط، أو الفاصل، بين هذه الحقول؟
المعرفة شجرة معمِّرة ذات جذور راسخة، وأغصان متشابكة متعانقة، وثمار يانعة. ونسغها الذي يجري في عروقها وفروعها هو اللغة. فباللغة يفكِّر الإنسان ويعبِّر، وباللغة يتبادل الناس الأفكار والمعلومات، وباللغة يدوِّنون نتائج خبراتهم وأبحاثهم، لتنتقل إلى الأجيال الجديدة، وتؤدي إلى التراكم المعرفي. فللغة علاقة مباشرة بجميع الآداب والعلوم والفنون.
ولهذا لا أجد فاصلاً بين المعجم الذي يضمّ متن اللغة من ألفاظ ودلالاتها واستعمالاتها، وبين القصة والرواية اللتين أكتبهما أو أترجمهما. فالكاتب هو مثقَّف ذو رسالة معرفية يتعامل مع المفردات والتعبيرات التي تجسد أفكاره ويصوغها بأساليب تؤثِّر في المتلقي.
*ذلك ظاهر فعلاً في لغتك وتراكيبك اللغوية.
فعلا، لقد لاحظ بعض النقّاد أن نصوصي السردية تشتمل على نسبة عالية من الكلمات المختلفة والتراكيب النحوية المتنوعة. ولعل ذلك ناتج عن اشتغالي في علم المعجم وصناعته. ويتضح ذلك من إلقاء نظرة على "المعجم العربي الأساسي" الذي اضطلعتُ بوضع منهجيته وتنسيق عمل فريق كبار اللغويين العرب الذين صنَّفوه، وكذلك على معاجم الاستشهادات الثلاثة التي ألّفتها بنفسي.
المعجم التاريخي للعربية
*تعملون، مع عدد من علماء اللغة على إنجاز معجم للغة العربية، حدثنا عن هذا المشروع؟
هذا صحيح. فأنا أُسعد وأتشرف بالعمل في المجلس العلمي لمشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية". وهو مشروع ثقافي ضخم يؤمَل أن يُتوَّج، بعد حوالي عشرين عاماً، بصدور أول معجم تاريخي للغة العربية. وكما تعلم فإن اللغات الحية الكبرى تتوفر على معاجم تاريخية استغرق إنجازها بين ثمانين عاماً مثل "معجم أكسفورد للغة الإنجليزية"، ومئة عام مثل "المعجم التاريخي للغة الألمانية". ولا يوجد حتى الآن معجم تاريخي للغة العربية على الرغم من كونها أعرق اللغات العالمية وأشرفها.
*ما هي أهم ملامح هذا العمل؟ ما الذي يميزه؟
يُعدُّ المعجم التاريخي سجلاً للغة وثقافتها؛ فهو يتتبع تطوُّر الألفاظ ودلالاتها واستعمالاتها منذ أن وُجِدت حتى يومنا هذا في جميع الأصقاع التي استُعملت فيها اللغة، وفي جميع المجالات الأدبية والعلمية والفنية، سواء بقيت تلك الألفاظ ودلالاتها حيَّة أو انقرضت أو سبتت في عصر من العصور ثم عادت إلى الاستعمال. وهكذا يبيّن لنا المعجم التاريخي أواصر القرابة بين الألفاظ، والعلاقة بين المفاهيم، والروابط بين الناطقين بتلك اللغة.
وللإسراع في إنجاز "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" عملت الإدارة التنفيذية للمشروع على بناء مدوَّنة حاسوبية لنصوص اللغة العربية منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، وشكّلت عشرات الفرق من اللغويين الأساتذة الجامعيين في مختلف الأقطار العربية، الذين يعكفون على معالجة النصوص المحوسبة، وتتبع ما طرأ على ألفاظها ومعانيها واستعمالاتها من تغيُّر وتطوُّر عبر العصور.
اختلاف عن مجامع اللغة
*هل يختلف هذا المعجم عن مشروع عمل ومهام المجامع اللغوية العربية؟
هذا المشروع يختلف في منهجيته والمدة المقدّرة لإنجازه، عن مشروع اتحاد المجامع اللغوية العربية في القاهرة لصناعة معجم تاريخي للغة العربية الذي سيستغرق إنجازه حوالي مئة عام؛ وكان لي شرف إعداد مسودة خطته العلمية التي ناقشها الاتحاد وعدّلها، وقمتُ بنشرها في كتابي "صناعة المعجم التاريخي للغة العربية" الذي صدر في بيروت سنة 2014.
*الترجمة حقل واسع وزاخر بالمفاهيم والأفكار، ماذا يستفيد الكاتب من الترجمة؟
الترجمة هي عملية نقل الأفكار والمعلومات من ثقافة إلى أخرى. وينبئُنا التاريخ أن الترجمة لعبت دوراً رئيساً في حدوث النهضات الحضارية الكبرى. فقد قامت الحضارة العربية الإسلامية بفضل بزوغ الإسلام في جزيرة العرب، واضطلاع الدولة العباسية بترجمة فلسفة الإغريق وعلوم الهند وآداب الفرس إلى اللغة العربية، بحيث يسّرت الظروف اللازمة لقيام مجتمع المعرفة القادر على إنجاز التنمية البشرية وأساسها المعرفة. وبدأت النهضة الأوروبية المعاصرة خلال القرون الوسطى عندما احتك الأوربيون بالعرب في إسبانيا وأثناء الحروب الصليبية في المشرق، وقاموا بترجمة العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية، لغة التعليم في أوروبا آنذاك.
المترجم وسيط بين اللغة الأصل وثقافتها وبين اللغة المستقبِلة وثقافتها. وتتطلَّب هذه الوساطة تمكُّناً من اللغتيْن، وإلماماً بأساليبهما، ومعرفةً بسياقاتهما الاجتماعية والفكرية. وفي أثناء عمله، يكتسب المترجم خبرةً ومعرفةً جديدتيْن. أضرب مثليْن من خبرتي الشخصية:
كلَّفتني الأمم المتحدة بمراجعة الترجمة العربية لـ "تقرير التنمية البشرية" الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة سنوياً منذ سنة 1990، ويبيِّن فيه كيف تستطيع الدول تحقيق التنمية البشرية عن طريق التعليم باللغة القومية، وتحسين الخدمات الطبية والصحية، وبناء البنية التحتية اللازمة لرفع الدخل الفردي بحيث يستطيع المواطن أن يعيش بصورة لائقة بكرامته الإنسانية. فتعلَّمتُ من هذه التقارير أن أجعل دراساتي اللسانية ذات علاقة بالتنمية البشرية، فتكون هذه الدراسات نفعية عملية لا لفظية فحسب.
<table id="captionTable" style="width: 120px; padding-left: 10px; padding-right: 10px; margin-right: 10px;" align="left" border="0" bgcolor="#bbbbd3"> <tbody> <tr> <td class="TextCaption" align="center"><label style="font-size: 17px;">"
اللغة كائن حي، فهي في نموٍ مستمر وتغيُّرٍ دائب، في ألفاظها ودلالاتها وأساليبها؛ ففي كل يوم تشيخ كلمات قديمة أو تموت، وفي كل يوم تولد كلمات جديدة أو تتغيَّر، وأساليب العربية في القرن التاسع عشر المثقلة بالسجع والمرهقة بالحوشي الغريب من المفردات، لا تلائم عصرنا الحاضر
"</label></td> </tr> </tbody> </table>
*وماذا عن تجربتك الترجمية في مجال الإبداع الأدبي؟
لقد ترجمت عدداً من الروايات العالمية، مثل رواية "أحلام أنشتاين" للعالم الأديب الدكتور ألَن لايتمَن، أستاذ الفيزياء الفضائية وفي الوقت نفسه أستاذ الكتابة الإبداعية في أرقى جامعة أميركية هي "أم آي تي". فقد أفدت من ترجمتي هذه، تقنياتٍ سرديةَ مبتكرة، حاولتُ استخدام بعضها في روايتي "مرافئ الحب السبعة" وقصصي القصيرة.
*ترجمت مؤخراً كتاباً شبه أوتوبيوغرافي لإرنست همنغواي "باريس عرس متنقل"، علماً أنك ترجمت له من قبل رواية "الشيخ والبحر"، هل من ضرورة الآن لهمنغواي؟
فعلاً، أصدر المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء هذا العام الطبعة السابعة من ترجمتي لرواية "باريس عيد متنقل" والطبعة السابعة من ترجمتي لرواية "الشيخ والبحر"، وكلتاهما للكاتب الأميركي الأشهر إرنست همنغواي الذي توفي منتحراً سنة 1961 بعد أن حاز أرقى الجوائز الأدبية الأميركية وجائزة نوبل للآداب. وسؤالك وجيه: هل من ضرورة لهمنغواي الآن؟
أجبتُ على هذا السؤال في دراسة عنوانها "في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقاً"، وهي ملحقة في ترجمتي لرواية "الشيخ والبحر". وهذه الدراسة تُدرَّس في جُلّ معاهد الترجمة في الوطن العربي. وفي مقدمة الأسباب أن رواية همنغواي هذه من الأعمال الأدبية الخالدة التي تمجِّد القيم الإنسانية الرفيعة، كمثابرة الإنسان على العمل من أجل تحكّمه في الطبيعة وترقية حياته. وهي قيمٌ نحرص على غرسها في أبنائنا من الأجيال الصاعدة. ولهذا ينبغي أن نوفّر هذا الكتاب في الأسواق في حالة نفاد ترجماته السابقة.
إضافة إلى ذلك، فإن اللغة كائن حي، فهي في نموٍ مستمر وتغيُّرٍ دائب، في ألفاظها ودلالاتها وأساليبها؛ ففي كل يوم تشيخ كلمات قديمة أو تموت، وفي كل يوم تولد كلمات جديدة أو تتغيَّر، وأساليب العربية في القرن التاسع عشر المثقلة بالسجع والمرهقة بالحوشي الغريب من المفردات، لا تلائم عصرنا الحاضر الذي يستلزم الرشاقة في اللفظ والخفة في التركيب ليواكب السرعة في الحياة. ولهذا يتوجَّب علينا إعادة ترجمة الأعمال الأدبية العالمية الخالدة، بين آونة وأخرى، بلغة معاصرة وأسلوب حداثي.
بالنسبة لرواية همنغواي السيرذاتية، "وليمة متنقلة" أو كما اختار لها المترجم الفرنسي عنوان "باريس عيد"، فهي تضم ذكريات همنغواي عن باريس خلال إقامته فيه بين سنة 1922 و 1926، حيث تعلّم الكتابة السردية في شبابه، وكتب هناك أجمل قصصه القصيرة، وأنجز روايته "وما تزال الشمس تشرق" التي تدور حول اشتراكه في الحرب العالمية الأولى وجرحه جرحاً بليغاً. وذكرياته عن باريس تتناول ثلة من المبدعين الذين كانوا يؤمون باريس في "سنوات الجنون" تلك أو "الحقبة الجميلة"، كما يسميها الفرنسيون، حينما كانت باريس مركزَ المدارس الفنية والفكرية في العالم مثل الانطباعية والسوريالية والوجودية، وقبلة كبار الشعراء والروائيين والرسامين البريطانيين والأميركيين والإسبان وغيرهم.
فهذه الرواية عمل أدبي مؤسِّس كتبه أكبر الأدباء الأميركان قبيل وفاته بعد أن نضجت أدواته الفنية وتمكَّن من الأسلوب الساخر الجذّاب، ويستمتع المثقفون بقراءته في كل العصور.
دروس همنغواي
*لماذا اخترت همنغواي؟ قد يتساءل القارئ والمهتم هذا السؤال، وماذا أفادك بوصفك كاتباً ومبدعاً؟
يتفق النقاد على أن همنغواي من أعظم الكتاب الأميركيين المجددين في مطلع القرن العشرين، وهو ذو أسلوب مبتكر، فقد نقل النثر الإنكليزي من البلاغة القديمة التي تبحث عن فخامة اللفظ إلى البلاغة الحديثة التي تسعى إلى التأثير في القارئ بلغة حديثة ذات تراكيب ميسرة وألفاظ بسيطة. وأنه ترك بصمته على الآداب باللغة الإنكليزية واتخذه الكتّاب الآخرون نموذجا يُحتذى. وفي نظري، إن همنغواي أشهر الكتاب الأميركيين. واختياري له نابع من القيم الإنسانية التي يروّجها في قصصه ورواياته: الصدق، الإخلاص، التسامح، العمل الجاد، حب الوطن، التضحية في سبيل الآخرين، إلخ. ومن خصائص أدبه أنه نابع من خبراته الشخصية، ولهذا فإنه يحتفظ بحرارة التجربة وأصالتها.
وهمنغواي أفادني كثيراً في كتاباتي السردية. فكما ذكرتُ لك أن روايته السيرذاتية "وليمة متنقلة" تكشف لنا كيف استقال من وظيفته مراسلاً صحافياً في باريس ليتفرغ لتعلّم الكتابة الإبداعية، ويمكن وصف هذه الرواية بأنها سيرة للأدب، وليس لهمنغواي فقط. فهو يتحدث فيها عن كتابته وأسلوبها: أين يكتب، متى يكتب، كيف يكتب، ماذا يكتب، وما هي التقنيات التي تعلمها من المدارس الفنية، خاصة الفنون التشكيلية، وطبّقها في الكتابة، وما هي المبادئ الواجب مراعاتها في الكتابة. وقد تعلمتُ منه بعض تقنياته، كما حاولتُ أن أتوصل إلى تقنيات تخصني من خلال تجربتي.
عِشْرة المعاجم
*بعد الترجمة، هناك المعاجم، وهي بمثابة محك ومختبر وعلم للكاتب. ماذا أفادكم الاشتغال بالمعاجم وعِشرة المفردات؟
إن اللغة نظام رمزي تحاكي في بنيتها ومفرداتها فكر الجماعة الناطقة بها، وثقافتهم، وتعبّر عن أوضاعهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. فإذا أردتَ أن تقف على التطور الحضاري لأية مجموعة إنسانية فما عليك إلا أن تُلقي نظرة على معاجمها اللغوية. فاللغة هي وعاء الثقافة، ووسيلة التواصل بين أبنائها، وخزان تراثها وتراكم معارفها عبر الأجيال. ونحن لا نستطيع أن نفكّر أو نبدع بدون لغة. فاللغة والفكر وجهان لقطعة نقد واحدة. ولهذا قيل لم تبدع أمة بغير لغتها. ونظام اللغة من أكثر الأنظمة المعرفية علمية، فاللغة أشبه بالموسيقى والرياضيات من حيث التآلف بين أصواتها، واشتقاقاتها الصرفية، وقواعدها النحوية. اللغة ومعجمها يعلمان الدقّة والانضباط في العمل.
وتعزو تقارير التنمية البشرية وتقارير التنمية الإنسانية التي أصدرتها الأمم المتحدة، تخلّفَ معظم البلدان العربية في العصر الحاضر إلى عدم عناية هذه البلدان بالتعليم وبالصحة ـ وإلى استمرارها في استخدام لغة أجنبية ـ وليس لغتها الوطنية ـ في التعليم العالي العلمي والتقني، وفي المؤسسات التجارية والمالية والاقتصادية، بل وحتى في بعض الدوائر الرسمية. فطلابنا لا يستطيعون استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة لأنهم يتعلمونها بلغة أجنبية فلا يتمكنون من إضافة مضامينها إلى منظومتهم المفهومية دون صعوبات. ولا يتمكنون من تبادل هذه المضامين وتنميتها والإبداع فيها بسرعة وسهولة. فالطالب العربي الذي يستمع لمحاضرة علمية باللغة الإنكليزية أو الفرنسية في بلاده يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: أولاً تلقي المعلومة باللغة الأجنبية، وثانياً ترجمتها في ذهنه إلى لغته الوطنية العربية، وثالثاً فهمها لإضافتها إلى منظومته المفهومية. ولهذا فإنه يصعب علينا أيجاد مجتمع المعرفة القادر على إحداث التنمية البشرية. ولهذا كذلك فإن اللغة العربية من حيث توافرها على الشابكة (الإنترنت) أقل من لغات أخرى لا تتمتع بما للغة العربية من عالمية وعراقة. فاللغة العربية من حيث وجودها على الشابكة تأتي بعد الكورية والفارسية والتركية والبرتغالية. لأن الطبيب العربي الذي تلقى دراسته باللغة الإنكليزية أو الفرنسية لا يستطيع أن ينقل معرفته إلى الممرضة، والمريض، والمساعد التقني، وإلى عامة المتعلمين عن طريق وسائل الاتصال السمعية البصرية. فهو لا يستطيع أن يُنشئ موقعاً له على الشابكة باللغة العربية لإفادة أبناء وطنه. وتبادل المعلومات بسرعة ويسر وتنميتها والإبداع فيها شرط من شروط تكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية في البلاد.
لقد تمكنت بلدان كثيرة كانت أكثر تخلفاً من بلداننا العربية، في أواسط القرن الماضي، من تحقيق التنمية البشرية. فكوريا الجنوبية مثلاً كانت عام 1960 أفقر دولة في آسيا وثالث أفقر دولة في العالم. أما اليوم فترتيبها 17 في سلم التنمية البشرية الذي تصدره سنوياً منظمة الأمم المتحدة، وهي سابع دولة صناعية في العالم. ويعود الفضل في ذلك إلى قيام الدولة الكورية بنشر تعليم ذي جودة على نفقتها لفائدة جميع أبنائها وباللغة الكورية من رياض الأطفال إلى ما بعد الدكتوراه وفي البحوث العلمية. وكذلك الحال بالنسبة لإيران، فعندما قررت الدولة سنة 1979 استبدال الفارسية بالإنكليزية لغة لتلقين العلوم والتقنيات، أخذ الطلاب يستوعبونها ويشتغلون بفهمٍ في علوم الذرة والنانو وغيرهما. وأصبحت إيران تخطو خطوات حثيثة في التنمية البشرية.
ومن ناحية أخرى فإن العلاقة بين المجتمع والمعجم علاقة تفاعلية، كما يقول صديقي المعجمي الدكتور جورج عبد المسيح. فتطور المجتمع وارتقاؤه يؤديان إلى تطوير صناعة المعاجم. والمعجم العلمي يُسهم بدوره في تطور المجتمع لأنه يُشيع فيه وفراً من المعلومات الصحيحة ويعمم روحية البحث العلمي، وأسلوب التخطيط والتنفيذ.
وكما تعلم فإن كل كتابة إبداعية تخضع إلى تخطيطٍ وتنفيذ. فكل قصة أو رواية لها معمارها السردي، وتخضع إلى خطة محكمة لتكون ناجحة، وينبغي أن يستخدم الكاتب الأسلوب اللغوي المناسب في كل جزء من أجزائها، فلكل مقام مقال، كما يقولون. فاللغة هي لحمة الأدب وسداه.
*أستاذ علي بعد هذه الجولة في منجزاتك، ما هو جديدك في الرواية، والدراسة؟
انتهيتُ مؤخراً من إعداد كتاب عن الأدب الأميركي المعاصر بعنوان "روائع القصص الأمريكية المعاصرة: دراسات ونماذج". ويقوم المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء بطباعته وسيُنشر قريباً. ويضم هذا الكتاب دراسات كتبتُها عن تطور الفن القصصي في الولايات المتحدة الأميركية، وأجيال الأدباء الذين أثروا فيه كالجيل الضائع من الأدباء الذين عاشوا في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، مثل همنغواي وفتزجيرالد، وكالجيل المتعب من الأدباء الذين عاشوا في نيويورك وطنجة وسان فرنسيسكو، مثل وليم باروز وجاك كيرواك. ويضم الكتاب إضافة إلى الدراسات أكثر من عشرين قصة اخترتها وترجمتها إلى اللغة العربية.
[/align]
[align=justify]محمود عبد الغني
[/align][align=justify]
التأليف الأدبي، والترجمة وتصنيف المعاجم، وتأثير كل ذلك على الأديب في التراكيب والمفردات والرؤية، وصياغة العالم الفني للأديب، هي بعض القضايا التي تناولها هذا الحوار مع الأديب والمترجم والمعجمي العراقي علي القاسمي، المعروف لدى القارئ العربي بتعدد اختصاصاته وإنتاجه في اللغة والأدب والترجمة. هنا الحوار:
*علي القاسمي أنت كاتب ومعجمي ومترجم، تكتب الرواية والقصة القصيرة، وتعمل في تصنيف المعاجم، ما الرابط، أو الفاصل، بين هذه الحقول؟
المعرفة شجرة معمِّرة ذات جذور راسخة، وأغصان متشابكة متعانقة، وثمار يانعة. ونسغها الذي يجري في عروقها وفروعها هو اللغة. فباللغة يفكِّر الإنسان ويعبِّر، وباللغة يتبادل الناس الأفكار والمعلومات، وباللغة يدوِّنون نتائج خبراتهم وأبحاثهم، لتنتقل إلى الأجيال الجديدة، وتؤدي إلى التراكم المعرفي. فللغة علاقة مباشرة بجميع الآداب والعلوم والفنون.
ولهذا لا أجد فاصلاً بين المعجم الذي يضمّ متن اللغة من ألفاظ ودلالاتها واستعمالاتها، وبين القصة والرواية اللتين أكتبهما أو أترجمهما. فالكاتب هو مثقَّف ذو رسالة معرفية يتعامل مع المفردات والتعبيرات التي تجسد أفكاره ويصوغها بأساليب تؤثِّر في المتلقي.
*ذلك ظاهر فعلاً في لغتك وتراكيبك اللغوية.
فعلا، لقد لاحظ بعض النقّاد أن نصوصي السردية تشتمل على نسبة عالية من الكلمات المختلفة والتراكيب النحوية المتنوعة. ولعل ذلك ناتج عن اشتغالي في علم المعجم وصناعته. ويتضح ذلك من إلقاء نظرة على "المعجم العربي الأساسي" الذي اضطلعتُ بوضع منهجيته وتنسيق عمل فريق كبار اللغويين العرب الذين صنَّفوه، وكذلك على معاجم الاستشهادات الثلاثة التي ألّفتها بنفسي.
المعجم التاريخي للعربية
*تعملون، مع عدد من علماء اللغة على إنجاز معجم للغة العربية، حدثنا عن هذا المشروع؟
هذا صحيح. فأنا أُسعد وأتشرف بالعمل في المجلس العلمي لمشروع "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية". وهو مشروع ثقافي ضخم يؤمَل أن يُتوَّج، بعد حوالي عشرين عاماً، بصدور أول معجم تاريخي للغة العربية. وكما تعلم فإن اللغات الحية الكبرى تتوفر على معاجم تاريخية استغرق إنجازها بين ثمانين عاماً مثل "معجم أكسفورد للغة الإنجليزية"، ومئة عام مثل "المعجم التاريخي للغة الألمانية". ولا يوجد حتى الآن معجم تاريخي للغة العربية على الرغم من كونها أعرق اللغات العالمية وأشرفها.
*ما هي أهم ملامح هذا العمل؟ ما الذي يميزه؟
يُعدُّ المعجم التاريخي سجلاً للغة وثقافتها؛ فهو يتتبع تطوُّر الألفاظ ودلالاتها واستعمالاتها منذ أن وُجِدت حتى يومنا هذا في جميع الأصقاع التي استُعملت فيها اللغة، وفي جميع المجالات الأدبية والعلمية والفنية، سواء بقيت تلك الألفاظ ودلالاتها حيَّة أو انقرضت أو سبتت في عصر من العصور ثم عادت إلى الاستعمال. وهكذا يبيّن لنا المعجم التاريخي أواصر القرابة بين الألفاظ، والعلاقة بين المفاهيم، والروابط بين الناطقين بتلك اللغة.
وللإسراع في إنجاز "معجم الدوحة التاريخي للغة العربية" عملت الإدارة التنفيذية للمشروع على بناء مدوَّنة حاسوبية لنصوص اللغة العربية منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحاضر، وشكّلت عشرات الفرق من اللغويين الأساتذة الجامعيين في مختلف الأقطار العربية، الذين يعكفون على معالجة النصوص المحوسبة، وتتبع ما طرأ على ألفاظها ومعانيها واستعمالاتها من تغيُّر وتطوُّر عبر العصور.
اختلاف عن مجامع اللغة
*هل يختلف هذا المعجم عن مشروع عمل ومهام المجامع اللغوية العربية؟
هذا المشروع يختلف في منهجيته والمدة المقدّرة لإنجازه، عن مشروع اتحاد المجامع اللغوية العربية في القاهرة لصناعة معجم تاريخي للغة العربية الذي سيستغرق إنجازه حوالي مئة عام؛ وكان لي شرف إعداد مسودة خطته العلمية التي ناقشها الاتحاد وعدّلها، وقمتُ بنشرها في كتابي "صناعة المعجم التاريخي للغة العربية" الذي صدر في بيروت سنة 2014.
*الترجمة حقل واسع وزاخر بالمفاهيم والأفكار، ماذا يستفيد الكاتب من الترجمة؟
الترجمة هي عملية نقل الأفكار والمعلومات من ثقافة إلى أخرى. وينبئُنا التاريخ أن الترجمة لعبت دوراً رئيساً في حدوث النهضات الحضارية الكبرى. فقد قامت الحضارة العربية الإسلامية بفضل بزوغ الإسلام في جزيرة العرب، واضطلاع الدولة العباسية بترجمة فلسفة الإغريق وعلوم الهند وآداب الفرس إلى اللغة العربية، بحيث يسّرت الظروف اللازمة لقيام مجتمع المعرفة القادر على إنجاز التنمية البشرية وأساسها المعرفة. وبدأت النهضة الأوروبية المعاصرة خلال القرون الوسطى عندما احتك الأوربيون بالعرب في إسبانيا وأثناء الحروب الصليبية في المشرق، وقاموا بترجمة العلوم العربية إلى اللغة اللاتينية، لغة التعليم في أوروبا آنذاك.
المترجم وسيط بين اللغة الأصل وثقافتها وبين اللغة المستقبِلة وثقافتها. وتتطلَّب هذه الوساطة تمكُّناً من اللغتيْن، وإلماماً بأساليبهما، ومعرفةً بسياقاتهما الاجتماعية والفكرية. وفي أثناء عمله، يكتسب المترجم خبرةً ومعرفةً جديدتيْن. أضرب مثليْن من خبرتي الشخصية:
كلَّفتني الأمم المتحدة بمراجعة الترجمة العربية لـ "تقرير التنمية البشرية" الذي يصدره البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة سنوياً منذ سنة 1990، ويبيِّن فيه كيف تستطيع الدول تحقيق التنمية البشرية عن طريق التعليم باللغة القومية، وتحسين الخدمات الطبية والصحية، وبناء البنية التحتية اللازمة لرفع الدخل الفردي بحيث يستطيع المواطن أن يعيش بصورة لائقة بكرامته الإنسانية. فتعلَّمتُ من هذه التقارير أن أجعل دراساتي اللسانية ذات علاقة بالتنمية البشرية، فتكون هذه الدراسات نفعية عملية لا لفظية فحسب.
<table id="captionTable" style="width: 120px; padding-left: 10px; padding-right: 10px; margin-right: 10px;" align="left" border="0" bgcolor="#bbbbd3"> <tbody> <tr> <td class="TextCaption" align="center"><label style="font-size: 17px;">"
اللغة كائن حي، فهي في نموٍ مستمر وتغيُّرٍ دائب، في ألفاظها ودلالاتها وأساليبها؛ ففي كل يوم تشيخ كلمات قديمة أو تموت، وفي كل يوم تولد كلمات جديدة أو تتغيَّر، وأساليب العربية في القرن التاسع عشر المثقلة بالسجع والمرهقة بالحوشي الغريب من المفردات، لا تلائم عصرنا الحاضر
"</label></td> </tr> </tbody> </table>
*وماذا عن تجربتك الترجمية في مجال الإبداع الأدبي؟
لقد ترجمت عدداً من الروايات العالمية، مثل رواية "أحلام أنشتاين" للعالم الأديب الدكتور ألَن لايتمَن، أستاذ الفيزياء الفضائية وفي الوقت نفسه أستاذ الكتابة الإبداعية في أرقى جامعة أميركية هي "أم آي تي". فقد أفدت من ترجمتي هذه، تقنياتٍ سرديةَ مبتكرة، حاولتُ استخدام بعضها في روايتي "مرافئ الحب السبعة" وقصصي القصيرة.
*ترجمت مؤخراً كتاباً شبه أوتوبيوغرافي لإرنست همنغواي "باريس عرس متنقل"، علماً أنك ترجمت له من قبل رواية "الشيخ والبحر"، هل من ضرورة الآن لهمنغواي؟
فعلاً، أصدر المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء هذا العام الطبعة السابعة من ترجمتي لرواية "باريس عيد متنقل" والطبعة السابعة من ترجمتي لرواية "الشيخ والبحر"، وكلتاهما للكاتب الأميركي الأشهر إرنست همنغواي الذي توفي منتحراً سنة 1961 بعد أن حاز أرقى الجوائز الأدبية الأميركية وجائزة نوبل للآداب. وسؤالك وجيه: هل من ضرورة لهمنغواي الآن؟
أجبتُ على هذا السؤال في دراسة عنوانها "في إعادة ترجمة الأعمال الأدبية المترجمة سابقاً"، وهي ملحقة في ترجمتي لرواية "الشيخ والبحر". وهذه الدراسة تُدرَّس في جُلّ معاهد الترجمة في الوطن العربي. وفي مقدمة الأسباب أن رواية همنغواي هذه من الأعمال الأدبية الخالدة التي تمجِّد القيم الإنسانية الرفيعة، كمثابرة الإنسان على العمل من أجل تحكّمه في الطبيعة وترقية حياته. وهي قيمٌ نحرص على غرسها في أبنائنا من الأجيال الصاعدة. ولهذا ينبغي أن نوفّر هذا الكتاب في الأسواق في حالة نفاد ترجماته السابقة.
إضافة إلى ذلك، فإن اللغة كائن حي، فهي في نموٍ مستمر وتغيُّرٍ دائب، في ألفاظها ودلالاتها وأساليبها؛ ففي كل يوم تشيخ كلمات قديمة أو تموت، وفي كل يوم تولد كلمات جديدة أو تتغيَّر، وأساليب العربية في القرن التاسع عشر المثقلة بالسجع والمرهقة بالحوشي الغريب من المفردات، لا تلائم عصرنا الحاضر الذي يستلزم الرشاقة في اللفظ والخفة في التركيب ليواكب السرعة في الحياة. ولهذا يتوجَّب علينا إعادة ترجمة الأعمال الأدبية العالمية الخالدة، بين آونة وأخرى، بلغة معاصرة وأسلوب حداثي.
بالنسبة لرواية همنغواي السيرذاتية، "وليمة متنقلة" أو كما اختار لها المترجم الفرنسي عنوان "باريس عيد"، فهي تضم ذكريات همنغواي عن باريس خلال إقامته فيه بين سنة 1922 و 1926، حيث تعلّم الكتابة السردية في شبابه، وكتب هناك أجمل قصصه القصيرة، وأنجز روايته "وما تزال الشمس تشرق" التي تدور حول اشتراكه في الحرب العالمية الأولى وجرحه جرحاً بليغاً. وذكرياته عن باريس تتناول ثلة من المبدعين الذين كانوا يؤمون باريس في "سنوات الجنون" تلك أو "الحقبة الجميلة"، كما يسميها الفرنسيون، حينما كانت باريس مركزَ المدارس الفنية والفكرية في العالم مثل الانطباعية والسوريالية والوجودية، وقبلة كبار الشعراء والروائيين والرسامين البريطانيين والأميركيين والإسبان وغيرهم.
فهذه الرواية عمل أدبي مؤسِّس كتبه أكبر الأدباء الأميركان قبيل وفاته بعد أن نضجت أدواته الفنية وتمكَّن من الأسلوب الساخر الجذّاب، ويستمتع المثقفون بقراءته في كل العصور.
دروس همنغواي
*لماذا اخترت همنغواي؟ قد يتساءل القارئ والمهتم هذا السؤال، وماذا أفادك بوصفك كاتباً ومبدعاً؟
يتفق النقاد على أن همنغواي من أعظم الكتاب الأميركيين المجددين في مطلع القرن العشرين، وهو ذو أسلوب مبتكر، فقد نقل النثر الإنكليزي من البلاغة القديمة التي تبحث عن فخامة اللفظ إلى البلاغة الحديثة التي تسعى إلى التأثير في القارئ بلغة حديثة ذات تراكيب ميسرة وألفاظ بسيطة. وأنه ترك بصمته على الآداب باللغة الإنكليزية واتخذه الكتّاب الآخرون نموذجا يُحتذى. وفي نظري، إن همنغواي أشهر الكتاب الأميركيين. واختياري له نابع من القيم الإنسانية التي يروّجها في قصصه ورواياته: الصدق، الإخلاص، التسامح، العمل الجاد، حب الوطن، التضحية في سبيل الآخرين، إلخ. ومن خصائص أدبه أنه نابع من خبراته الشخصية، ولهذا فإنه يحتفظ بحرارة التجربة وأصالتها.
وهمنغواي أفادني كثيراً في كتاباتي السردية. فكما ذكرتُ لك أن روايته السيرذاتية "وليمة متنقلة" تكشف لنا كيف استقال من وظيفته مراسلاً صحافياً في باريس ليتفرغ لتعلّم الكتابة الإبداعية، ويمكن وصف هذه الرواية بأنها سيرة للأدب، وليس لهمنغواي فقط. فهو يتحدث فيها عن كتابته وأسلوبها: أين يكتب، متى يكتب، كيف يكتب، ماذا يكتب، وما هي التقنيات التي تعلمها من المدارس الفنية، خاصة الفنون التشكيلية، وطبّقها في الكتابة، وما هي المبادئ الواجب مراعاتها في الكتابة. وقد تعلمتُ منه بعض تقنياته، كما حاولتُ أن أتوصل إلى تقنيات تخصني من خلال تجربتي.
عِشْرة المعاجم
*بعد الترجمة، هناك المعاجم، وهي بمثابة محك ومختبر وعلم للكاتب. ماذا أفادكم الاشتغال بالمعاجم وعِشرة المفردات؟
إن اللغة نظام رمزي تحاكي في بنيتها ومفرداتها فكر الجماعة الناطقة بها، وثقافتهم، وتعبّر عن أوضاعهم الفكرية والاجتماعية والاقتصادية. فإذا أردتَ أن تقف على التطور الحضاري لأية مجموعة إنسانية فما عليك إلا أن تُلقي نظرة على معاجمها اللغوية. فاللغة هي وعاء الثقافة، ووسيلة التواصل بين أبنائها، وخزان تراثها وتراكم معارفها عبر الأجيال. ونحن لا نستطيع أن نفكّر أو نبدع بدون لغة. فاللغة والفكر وجهان لقطعة نقد واحدة. ولهذا قيل لم تبدع أمة بغير لغتها. ونظام اللغة من أكثر الأنظمة المعرفية علمية، فاللغة أشبه بالموسيقى والرياضيات من حيث التآلف بين أصواتها، واشتقاقاتها الصرفية، وقواعدها النحوية. اللغة ومعجمها يعلمان الدقّة والانضباط في العمل.
وتعزو تقارير التنمية البشرية وتقارير التنمية الإنسانية التي أصدرتها الأمم المتحدة، تخلّفَ معظم البلدان العربية في العصر الحاضر إلى عدم عناية هذه البلدان بالتعليم وبالصحة ـ وإلى استمرارها في استخدام لغة أجنبية ـ وليس لغتها الوطنية ـ في التعليم العالي العلمي والتقني، وفي المؤسسات التجارية والمالية والاقتصادية، بل وحتى في بعض الدوائر الرسمية. فطلابنا لا يستطيعون استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة لأنهم يتعلمونها بلغة أجنبية فلا يتمكنون من إضافة مضامينها إلى منظومتهم المفهومية دون صعوبات. ولا يتمكنون من تبادل هذه المضامين وتنميتها والإبداع فيها بسرعة وسهولة. فالطالب العربي الذي يستمع لمحاضرة علمية باللغة الإنكليزية أو الفرنسية في بلاده يواجه ثلاث صعوبات في آن واحد: أولاً تلقي المعلومة باللغة الأجنبية، وثانياً ترجمتها في ذهنه إلى لغته الوطنية العربية، وثالثاً فهمها لإضافتها إلى منظومته المفهومية. ولهذا فإنه يصعب علينا أيجاد مجتمع المعرفة القادر على إحداث التنمية البشرية. ولهذا كذلك فإن اللغة العربية من حيث توافرها على الشابكة (الإنترنت) أقل من لغات أخرى لا تتمتع بما للغة العربية من عالمية وعراقة. فاللغة العربية من حيث وجودها على الشابكة تأتي بعد الكورية والفارسية والتركية والبرتغالية. لأن الطبيب العربي الذي تلقى دراسته باللغة الإنكليزية أو الفرنسية لا يستطيع أن ينقل معرفته إلى الممرضة، والمريض، والمساعد التقني، وإلى عامة المتعلمين عن طريق وسائل الاتصال السمعية البصرية. فهو لا يستطيع أن يُنشئ موقعاً له على الشابكة باللغة العربية لإفادة أبناء وطنه. وتبادل المعلومات بسرعة ويسر وتنميتها والإبداع فيها شرط من شروط تكوين مجتمع المعرفة القادر على تحقيق التنمية البشرية في البلاد.
لقد تمكنت بلدان كثيرة كانت أكثر تخلفاً من بلداننا العربية، في أواسط القرن الماضي، من تحقيق التنمية البشرية. فكوريا الجنوبية مثلاً كانت عام 1960 أفقر دولة في آسيا وثالث أفقر دولة في العالم. أما اليوم فترتيبها 17 في سلم التنمية البشرية الذي تصدره سنوياً منظمة الأمم المتحدة، وهي سابع دولة صناعية في العالم. ويعود الفضل في ذلك إلى قيام الدولة الكورية بنشر تعليم ذي جودة على نفقتها لفائدة جميع أبنائها وباللغة الكورية من رياض الأطفال إلى ما بعد الدكتوراه وفي البحوث العلمية. وكذلك الحال بالنسبة لإيران، فعندما قررت الدولة سنة 1979 استبدال الفارسية بالإنكليزية لغة لتلقين العلوم والتقنيات، أخذ الطلاب يستوعبونها ويشتغلون بفهمٍ في علوم الذرة والنانو وغيرهما. وأصبحت إيران تخطو خطوات حثيثة في التنمية البشرية.
ومن ناحية أخرى فإن العلاقة بين المجتمع والمعجم علاقة تفاعلية، كما يقول صديقي المعجمي الدكتور جورج عبد المسيح. فتطور المجتمع وارتقاؤه يؤديان إلى تطوير صناعة المعاجم. والمعجم العلمي يُسهم بدوره في تطور المجتمع لأنه يُشيع فيه وفراً من المعلومات الصحيحة ويعمم روحية البحث العلمي، وأسلوب التخطيط والتنفيذ.
وكما تعلم فإن كل كتابة إبداعية تخضع إلى تخطيطٍ وتنفيذ. فكل قصة أو رواية لها معمارها السردي، وتخضع إلى خطة محكمة لتكون ناجحة، وينبغي أن يستخدم الكاتب الأسلوب اللغوي المناسب في كل جزء من أجزائها، فلكل مقام مقال، كما يقولون. فاللغة هي لحمة الأدب وسداه.
*أستاذ علي بعد هذه الجولة في منجزاتك، ما هو جديدك في الرواية، والدراسة؟
انتهيتُ مؤخراً من إعداد كتاب عن الأدب الأميركي المعاصر بعنوان "روائع القصص الأمريكية المعاصرة: دراسات ونماذج". ويقوم المركز الثقافي العربي في بيروت والدار البيضاء بطباعته وسيُنشر قريباً. ويضم هذا الكتاب دراسات كتبتُها عن تطور الفن القصصي في الولايات المتحدة الأميركية، وأجيال الأدباء الذين أثروا فيه كالجيل الضائع من الأدباء الذين عاشوا في باريس بعد الحرب العالمية الأولى، مثل همنغواي وفتزجيرالد، وكالجيل المتعب من الأدباء الذين عاشوا في نيويورك وطنجة وسان فرنسيسكو، مثل وليم باروز وجاك كيرواك. ويضم الكتاب إضافة إلى الدراسات أكثر من عشرين قصة اخترتها وترجمتها إلى اللغة العربية.
[/align]