عادل زعيتر.. المترجم البليغ
أحمد تمام **
2005/01/31
شهدت الحضارة العربية الإسلامية في عمرها المديد ثلاث حركات كبرى للترجمة، بدأت الحركة الأولى والدولة الأموية في ذروة شبابها؛ حيث تمت ترجمة لغة الإدارة إلى العربية، وهو ما عُرف بتعريب الدواوين، وكان هذا ذا أثر بالغ في مسيرة الحضارة الإسلامية، ثم بلغت حركة الترجمة قمة ازدهارها وتألقها في العصر العباسي، وارتقت الذروة في عهد الخليفة المأمون؛ حيث أشرفت الدولة على تنظيم الترجمة والتخطيط لها، واشترك القادرون من رجال الدولة ومحبو المعرفة من ذوي الغنى واليسار في إثراء هذه الحركة، حتى صارت رافدًا ثقافيًا يصبّ في نهر الحضارة العربية، ويمدها بألوان مختلفة من العلم والمعرفة.
أما الحركة الثانية للترجمة فقامت مع ظهور محمد علي، وتبنّي الدولة خطة للترجمة، عينت فيها مجموعة العلوم والمعارف الضرورية لإنشاء مؤسساتها الحديثة في الطب والهندسة، والزراعة والري، والإدارة والعلوم العسكرية وغيرها، واختارت الدولة أصلح المترجمين للقيام بمهمة الترجمة إلى العربية.
وفي الوقت نفسه قامت في الشام حركة للترجمة رعتها المؤسسات التعليمية والثقافية الأهلية، غير أن الحركة الثانية لم يكن لها تأثير الحركة الأولى ولا فعاليتها؛ لأن البلاد العربية لم تكن مطلقة اليد في تصريف شئونها، وهو ما ربطها بمصالح القوى الاستعمارية التي عرقلت تقدمها، وحالت دون استفادتها من العلوم والمعارف الحديثة.
وبدأت الحركة الثالثة في أوائل القرن العشرين مع بداية إنشاء الجامعات في مصر والشام، واشتدت هذه الحركة في فترة الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، واشترك في قيامها المؤسسات التعليمية، ودور النشر، وبعض الوزارات، غير أن هذه الحركة لم تكن مؤثرة لغياب التخطيط السليم لتحديد ما ينبغي ترجمته. وتجاوز طوفان العلم والمعرفة خارج الوطن العربي كله ما لدى البلاد العربية من إمكانات بشرية قادرة على الترجمة، وقد أفرزت الحركة الثالثة عددًا من المترجمين العظام من أمثال: أحمد فتحي زغلول، ومحمد بدران، ومحمد فريد أبو حديد، وعبد العزيز توفيق جاويد، وعادل زعيتر.
المولد والنشأة
ولد عادل بن عمر بن حسن زعيتر، بمدينة نابلس بفلسطين المحتلة سنة (1314 هـ= 1897م) وأتم دراسته الابتدائية، ثم التحق بالمكتب السلطاني في بيروت وبالمكتب السلطان في الأستانة؛ حيث استكمل دراسته، وتعلم اللغتين التركية والفرنسية، وأجادهما تمام الإجادة.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (1333 ـ 1337هـ = 1914 – 1918م) عُيّن ضابطًا احتياطيا في الجيش العثماني، ثم ترك الخدمة حين نشبت الثورة العربية الكبرى في (8 من شعبان 1334هـ = 10 من يونيو 16-1916م)، وانضم إلى فيصل بن الحسين الذي كان يقود الجيش العربي، الذي خرج من الحجاز لإجلاء العثمانيين عن سوريا، ثم لم يلبث أن غادر نابلس إلى القاهرة لإكمال دراسته، لكنه عاد مرة ثانية إلى بلده إثر احتلال القوات البريطانية له، وانتخب هو ومحمد عِزّة دروزة، وإبراهيم القاسم عبد الهادي ممثلين عن نابلس في المؤتمر السوري العام الذي تم عقده في دمشق سنة (1338هـ= 1919م)، وبايع الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا، لكنه عاد مرة أخرى إلى نابلس بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق وإنهاء حكم فيصل.
العمل بالمحاماة
ذهب عادل زعيتر سنة (1340هـ= 1921م) إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق في جامعة السربون، ونال شهادة الحقوق، وبدأ في الشروع لإعداد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، لكن وفاة والده دفعته إلى العودة إلى فلسطين، ليخوض معترك الحياة، فعمل بالمحاماة، وقام بالتدريس في معهد الحقوق بالقدس، وكان يقوم بتدريس الفقه الدستوري والدولي، والاقتصاد السياسي، وقانون المرافعات المدنية والجزائية، واستطاع في أثناء ذلك ترجمة كتاب "أصول الفقه الدستوري" للدكتور إيسمان أستاذه في جامعة السربون.
وعُرف عن عادل زعيتر أنه كان يقوم بالدفاع دون مقابل عن المتهمين العرب الذين كانت تقبض عليهم سلطات الاحتلال البريطاني، لقيامهم بإشعال الثورات ضدها، كما عهد إليه المجلس الإسلامي الأعلى بالدفاع عن قضايا الأرض التي كان الصهيونيون يحاولون انتزاعها من الوقف الإسلامي.
التفرغ للترجمة
وعلى الرغم من انشغال عادل زعيتر بالحركة الوطنية في فلسطين، فإنه كان يصدر أعمالاً مترجمة عن الفرنسية لكبار المؤلفين الغربيين، ثم انصرف تمامًا إلى الترجمة بعد نكبة (1368هـ = 1948م)، وترك التدريس في معهد الحقوق بالقدس، واستقر نهائيًا في نابلس متفرغًا لما نذر نفسه له.
وقد بلغت الكتب التي ترجمها عن الفرنسية 37 كتابًا تدور كلها حول التشريع والاجتماع والتاريخ الذي استأثر بمعظم ما ترجم، وكان يختار من الكتب، التي يميل مؤلفوها إلى إنصاف المسلمين وحضارتهم، فنقل إلى العربية كتاب "حضارة العرب" لـ "جوستاف لوبون"، وكتاب "تاريخ العرب" لـ "سيدبو"، و"حياة محمد" لـ "إميل درمنهجهام"، و"مفكرو الإسلام" لـ"كرادفو".
واختار عدة كتب للأديب الألماني الكبير إميل لودفيج، فنقلها إلى العربية، مثل: كتاب "النيل"، و"البحر المتوسط"، و"نابليون"، و"بسمارك"، ونقلها عن الترجمة الفرنسية؛ لأنه لم يكن يجيد الألمانية، ويجدر بالذكر أن الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي، قد نقل إلى العربية كتابي: نابليون وبسمارك عن الأصل الألماني.
وكانت أعمال جوستاف محببة إلى نفسه، فترجم منها إلى العربية -بالإضافة إلى حضارة العرب- حضارات الهند، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والثورة الفرنسية، وفلسفة التاريخ، وروح السياسة.
وتتميز ترجمات عادل زعيتر بأنها صيغت بأسلوب عربي مبين، مشرق الديباجة بليغ العبارة، واضح الفكرة؛ ولذا لم يكن يلتزم أحيانًا بالترجمة الحرفية، فكان يعيد سبك العبارة حتى تتفق مع البيان العربي، وإن اقتضى ذلك إيجازا أو تقديما وتأخيرا.
وأنقل لك ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب نابليون حتى يتضح منهجه في الترجمة: "... ثم أعدت النظر في الترجمة بعد سنة فرأيت أن أهذبه وأصقله وأوجز القليل من فقراته ونصوصه مع تقديم وتأخير في بعضها أحيانًا، فجعلته أكثر انسجامًا وارتباطًا، وأقل إبهامًا وأحسن أسلوبًا وأجزل عبارة، وأسهل منالاً، ولا ضير في ذلك ما دام الكتاب أدبيًا وما حافظت على جميع مناحي المؤلف فيه".
وقد استُقبلت ترجماته البليغة بالقبول، فأثنى عليها النقاد والأدباء، فتصف الدكتورة بنت الشاطئ هذه الترجمات بأن صاحبها رد إلى الترجمة اعتبارها بعد أن هبط بها المرتزقة والمأجورون وصنائع الاستعمار الفكري. وقدرت المجامع اللغوية صاحب هذا القلم البليغ، فاختاره مجمعا اللغة العربية في دمشق وبغداد عضوا فيهما؛ تقديرًا لجهده وكفاءته.
وفاته
وظل عادل مقيمًا في نابلس منصرفًا إلى الترجمة انصرافًا تمامًا حتى تُوفي في (27 من ربيع الآخر 1377هـ = 21 نوفمبر 1957م)، وقد جُمع أكثر ما كُتب عنه بعد وفاته في كتاب "ذكرى عادل زعيتر".
-----------------------------------------------------------
** كاتب وباحث مصري.
المصدر: http://www.islamonline.net/Arabic/In_Depth/Translation_Bridges/Pioneer/2005/01/07.shtml
أحمد تمام **
2005/01/31
شهدت الحضارة العربية الإسلامية في عمرها المديد ثلاث حركات كبرى للترجمة، بدأت الحركة الأولى والدولة الأموية في ذروة شبابها؛ حيث تمت ترجمة لغة الإدارة إلى العربية، وهو ما عُرف بتعريب الدواوين، وكان هذا ذا أثر بالغ في مسيرة الحضارة الإسلامية، ثم بلغت حركة الترجمة قمة ازدهارها وتألقها في العصر العباسي، وارتقت الذروة في عهد الخليفة المأمون؛ حيث أشرفت الدولة على تنظيم الترجمة والتخطيط لها، واشترك القادرون من رجال الدولة ومحبو المعرفة من ذوي الغنى واليسار في إثراء هذه الحركة، حتى صارت رافدًا ثقافيًا يصبّ في نهر الحضارة العربية، ويمدها بألوان مختلفة من العلم والمعرفة.
أما الحركة الثانية للترجمة فقامت مع ظهور محمد علي، وتبنّي الدولة خطة للترجمة، عينت فيها مجموعة العلوم والمعارف الضرورية لإنشاء مؤسساتها الحديثة في الطب والهندسة، والزراعة والري، والإدارة والعلوم العسكرية وغيرها، واختارت الدولة أصلح المترجمين للقيام بمهمة الترجمة إلى العربية.
وفي الوقت نفسه قامت في الشام حركة للترجمة رعتها المؤسسات التعليمية والثقافية الأهلية، غير أن الحركة الثانية لم يكن لها تأثير الحركة الأولى ولا فعاليتها؛ لأن البلاد العربية لم تكن مطلقة اليد في تصريف شئونها، وهو ما ربطها بمصالح القوى الاستعمارية التي عرقلت تقدمها، وحالت دون استفادتها من العلوم والمعارف الحديثة.
وبدأت الحركة الثالثة في أوائل القرن العشرين مع بداية إنشاء الجامعات في مصر والشام، واشتدت هذه الحركة في فترة الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، واشترك في قيامها المؤسسات التعليمية، ودور النشر، وبعض الوزارات، غير أن هذه الحركة لم تكن مؤثرة لغياب التخطيط السليم لتحديد ما ينبغي ترجمته. وتجاوز طوفان العلم والمعرفة خارج الوطن العربي كله ما لدى البلاد العربية من إمكانات بشرية قادرة على الترجمة، وقد أفرزت الحركة الثالثة عددًا من المترجمين العظام من أمثال: أحمد فتحي زغلول، ومحمد بدران، ومحمد فريد أبو حديد، وعبد العزيز توفيق جاويد، وعادل زعيتر.
المولد والنشأة
ولد عادل بن عمر بن حسن زعيتر، بمدينة نابلس بفلسطين المحتلة سنة (1314 هـ= 1897م) وأتم دراسته الابتدائية، ثم التحق بالمكتب السلطاني في بيروت وبالمكتب السلطان في الأستانة؛ حيث استكمل دراسته، وتعلم اللغتين التركية والفرنسية، وأجادهما تمام الإجادة.
وفي أثناء الحرب العالمية الأولى (1333 ـ 1337هـ = 1914 – 1918م) عُيّن ضابطًا احتياطيا في الجيش العثماني، ثم ترك الخدمة حين نشبت الثورة العربية الكبرى في (8 من شعبان 1334هـ = 10 من يونيو 16-1916م)، وانضم إلى فيصل بن الحسين الذي كان يقود الجيش العربي، الذي خرج من الحجاز لإجلاء العثمانيين عن سوريا، ثم لم يلبث أن غادر نابلس إلى القاهرة لإكمال دراسته، لكنه عاد مرة ثانية إلى بلده إثر احتلال القوات البريطانية له، وانتخب هو ومحمد عِزّة دروزة، وإبراهيم القاسم عبد الهادي ممثلين عن نابلس في المؤتمر السوري العام الذي تم عقده في دمشق سنة (1338هـ= 1919م)، وبايع الأمير فيصل بن الحسين ملكًا على سوريا، لكنه عاد مرة أخرى إلى نابلس بعد الاحتلال الفرنسي لدمشق وإنهاء حكم فيصل.
العمل بالمحاماة
ذهب عادل زعيتر سنة (1340هـ= 1921م) إلى باريس، والتحق بكلية الحقوق في جامعة السربون، ونال شهادة الحقوق، وبدأ في الشروع لإعداد أطروحته لنيل درجة الدكتوراه، لكن وفاة والده دفعته إلى العودة إلى فلسطين، ليخوض معترك الحياة، فعمل بالمحاماة، وقام بالتدريس في معهد الحقوق بالقدس، وكان يقوم بتدريس الفقه الدستوري والدولي، والاقتصاد السياسي، وقانون المرافعات المدنية والجزائية، واستطاع في أثناء ذلك ترجمة كتاب "أصول الفقه الدستوري" للدكتور إيسمان أستاذه في جامعة السربون.
وعُرف عن عادل زعيتر أنه كان يقوم بالدفاع دون مقابل عن المتهمين العرب الذين كانت تقبض عليهم سلطات الاحتلال البريطاني، لقيامهم بإشعال الثورات ضدها، كما عهد إليه المجلس الإسلامي الأعلى بالدفاع عن قضايا الأرض التي كان الصهيونيون يحاولون انتزاعها من الوقف الإسلامي.
التفرغ للترجمة
وعلى الرغم من انشغال عادل زعيتر بالحركة الوطنية في فلسطين، فإنه كان يصدر أعمالاً مترجمة عن الفرنسية لكبار المؤلفين الغربيين، ثم انصرف تمامًا إلى الترجمة بعد نكبة (1368هـ = 1948م)، وترك التدريس في معهد الحقوق بالقدس، واستقر نهائيًا في نابلس متفرغًا لما نذر نفسه له.
وقد بلغت الكتب التي ترجمها عن الفرنسية 37 كتابًا تدور كلها حول التشريع والاجتماع والتاريخ الذي استأثر بمعظم ما ترجم، وكان يختار من الكتب، التي يميل مؤلفوها إلى إنصاف المسلمين وحضارتهم، فنقل إلى العربية كتاب "حضارة العرب" لـ "جوستاف لوبون"، وكتاب "تاريخ العرب" لـ "سيدبو"، و"حياة محمد" لـ "إميل درمنهجهام"، و"مفكرو الإسلام" لـ"كرادفو".
واختار عدة كتب للأديب الألماني الكبير إميل لودفيج، فنقلها إلى العربية، مثل: كتاب "النيل"، و"البحر المتوسط"، و"نابليون"، و"بسمارك"، ونقلها عن الترجمة الفرنسية؛ لأنه لم يكن يجيد الألمانية، ويجدر بالذكر أن الأستاذ محمود إبراهيم الدسوقي، قد نقل إلى العربية كتابي: نابليون وبسمارك عن الأصل الألماني.
وكانت أعمال جوستاف محببة إلى نفسه، فترجم منها إلى العربية -بالإضافة إلى حضارة العرب- حضارات الهند، وروح الاشتراكية، وروح الثورات، والثورة الفرنسية، وفلسفة التاريخ، وروح السياسة.
وتتميز ترجمات عادل زعيتر بأنها صيغت بأسلوب عربي مبين، مشرق الديباجة بليغ العبارة، واضح الفكرة؛ ولذا لم يكن يلتزم أحيانًا بالترجمة الحرفية، فكان يعيد سبك العبارة حتى تتفق مع البيان العربي، وإن اقتضى ذلك إيجازا أو تقديما وتأخيرا.
وأنقل لك ما كتبه في مقدمة ترجمته لكتاب نابليون حتى يتضح منهجه في الترجمة: "... ثم أعدت النظر في الترجمة بعد سنة فرأيت أن أهذبه وأصقله وأوجز القليل من فقراته ونصوصه مع تقديم وتأخير في بعضها أحيانًا، فجعلته أكثر انسجامًا وارتباطًا، وأقل إبهامًا وأحسن أسلوبًا وأجزل عبارة، وأسهل منالاً، ولا ضير في ذلك ما دام الكتاب أدبيًا وما حافظت على جميع مناحي المؤلف فيه".
وقد استُقبلت ترجماته البليغة بالقبول، فأثنى عليها النقاد والأدباء، فتصف الدكتورة بنت الشاطئ هذه الترجمات بأن صاحبها رد إلى الترجمة اعتبارها بعد أن هبط بها المرتزقة والمأجورون وصنائع الاستعمار الفكري. وقدرت المجامع اللغوية صاحب هذا القلم البليغ، فاختاره مجمعا اللغة العربية في دمشق وبغداد عضوا فيهما؛ تقديرًا لجهده وكفاءته.
وفاته
وظل عادل مقيمًا في نابلس منصرفًا إلى الترجمة انصرافًا تمامًا حتى تُوفي في (27 من ربيع الآخر 1377هـ = 21 نوفمبر 1957م)، وقد جُمع أكثر ما كُتب عنه بعد وفاته في كتاب "ذكرى عادل زعيتر".
-----------------------------------------------------------
** كاتب وباحث مصري.
المصدر: http://www.islamonline.net/Arabic/In_Depth/Translation_Bridges/Pioneer/2005/01/07.shtml