ضحايا الترجمة!
من يقلب صفحات التاريخ سيجد وقائع عديدة لأشخاص دفعوا اثمان غالية مقابل افكار يؤمنون بها . والترجمة من المجالات التي شهدت أحداث محزنة لأناس فقدوا حياتهم و اخرين تعرضوا لمضايقات بسبب المنهج الترجمي الذي يتبعونه . سنلقي الضوء في هذا المقال على حادثتين تبينان التضحيات التي قدمها بعض المشتغلين بالترجمة. العامل المشترك في الواقعتين انهما حدثتا في القرن السادس عشر الذي شهد صدامات كثيرة و عنيفة بين ممثلي عصر النهضة و ممثلي تيار الاصلاح من جهة و السلطة الدينية من جهة أخرى . تجدر الاشارة هنا الى ان تيار الاصلاح ارتبط باسم الالماني مارتن لوثر الذي دعى في القرن السادس عشر الى ٳتباع إستراتيجية جديدة في ترجمة الانجيل ، آلا وهي ترجمة الانجيل بلغة المانية مبسطة يفهمها عامة الناس ، وهو ما كانت ترفضه الكنسية الكاثوليكية التي كانت ترغب في ان يظل الانجيل مكتوبا بلغة يصعب على عامة الناس فهمها (وهي اللاتينية) وذلك لكي يكون لها وحدها الحق في تفسيره وشرح محتواه للعامة.
ويمكن تلخيص منهج لوثر الترجمي في ما قاله لوثر نفسه : الترجمة لا تعني ان تفهم انت (أي المترجم) النص الاصلي ، ولكن الترجمة تعني ان تجعل النص مفهوما للآخرين.
جدير بالذكر ، أنه بالإضافة الى النشاط الترجمي التطبيقي الذي كان يقوم به مارتن لوثر ، فقد تناول الجانب النظري العلمي للترجمة في مصنفه : رسالة حول الترجمة ، والذي الفه في عام1540.
أما الحادثة الأولى : فهي مرتبطة باسم وليم تنديل ، أحد تلاميذ لوثر. قام تنديل بترجمة الانجيل الى اللغة الانجليزية مسترشدا بالمبادئ الترجمية التي وضعها لوثر ، وهي ترجمة الانجيل بلغة "شعبية". بعد أن أتم تنديل ترجمة العهد الجديد من الانجيل حاول نشر الترجمة في انجلترا و لكن محاولاته باءت بالفشل، فتوجه الى المانيا خوفا على حياته و نشر فيها ترجمته . في عام 1536 عاد الى انجلترا ، فقبض عليه واتهم بالهرطقة و أحرق! ومن ما يثير الدهشة أنه بعد اعدام تنديل بفترة ليست بالطويلة اعترفت الكنسية الكاثوليكية بترجمة تنديل التي اعدم بسببها!
اما الحادثة الثانية فقد وقعت في فرنسا ، و يصفها ٳتكيند بشكل معبر قائلا: تاريخ الترجمة في فرنسا يبدأ بمأساة! والضحية هنا هو ٳتيين دولي ، الكاتب و المترجم الفرنسي المعروف ، وأحد أقطاب عصر النهضة في فرنسا. تميز ٳتيين دولي أنه لم يكتفي فقط بممارسة الترجمة ، ولكنه انتقل الى دراسة عملية الترجمة و وصفها بشكل علمي وتحديد سماتها الثابتة و المتكررة واضعا بذلك اطار نظري لعلمية الانتقال من لغة الى أخرى. وقد تبلورت هذه الملاحظات العلمية للترجمة في مصنفه: حول الطريقة الصحيحة للترجمة من لغة الى أخرى. الف اتيين هذا المصنف في عام 1540 ويعد أحد أول المؤلفات العلمية الاوروبية التي تتناول القضايا النظرية للترجمة.
فيما يتعلق بالحادثة التي وقعت لٳتيين دولي ، فهي انه اثناء ترجمته لأحد حوارات افلاطون ، قام بإضافة كلمة في الترجمة الفرنسية لا وجود لها في النص الأصلي. الكلمة التي اضافها دولي اصطدمت مع مبدأ كنسي متعلق بخلود الروح ، وهو ما اعتبرته محكمة التفتيش الكنسية ضرب من ضروب الهرطقة ، و استغل أعدائه هذا الأمر ضده وحكم عليه بالإعدام حرقا في عام1546!
الملاحظ في الحادثتين انهما وقعتا في وقت واحد تقريبا و اتهم الشخصان بنفس التهم و اعدما بنفس الطريقة!
اذن كما نرى ، فقد كانت الترجمة عنصرا رئيسيا في النزاعات التي كانت قائمة بين التيارات المختلفة. اذا أردنا أن نصف وضع الترجمة في ذلك الوقت ، فنقول : كانت الترجمة لدى البعض تهمة و وسيلة للاستعداء ثم المحاكمة فالقتل ، كانوا لا يريدون للترجمة أن تخرج عن النهج الذي وضعوه في التعامل مع النصوص الدينية في الدرجة الاولى ، وغير الدينية في الدرجة الثانية. كان الخصم الذي يواجهه المترجمون في ذلك الوقت هي الكنيسة التي كانت تحاربهم بسيف الدين ، ومن يخرج على ما يعتبرونه من المسلمات فان التهمة جاهزة وهي الهرطقة ، و الحكم جاهز و هو الاعدام. ومن جهة أخرى ، فقد كانت الترجمة لدى الفريق الأخر هي وسيلة للتعبير عن بعض الافكار "التصحيحية" لما كانوا يعتقدون انه غير صحيح. ومن أشهر العصور التاريخية التي شهدت صدامات ترجمية عنيفة هو ، كما ذكر انفا ، عصر الاصلاح اللوثري الذي يصفه العالم الفرنسي كاري بأنه كان "معركة بين المترجمين"!
اذن ، فقد كانت الترجمة اداة صراع اديولوجي ، يحاول كل طرف أن يخضعها لتوجهه لكي يحقق من خلالها أهدافه و ينشر بواسطتها أفكاره . من يتتبع تاريخ الترجمة الغارق في القدم لابد أن يصل الى نتيجة واحدة: وهي أن الترجمة كانت و لا تزال مكونا رئيسيا في الحياة الثقافية و الاجتماعية و العلمية في جميع العصور التاريخية و لدى مختلف الحضارات الانسانية.
يا لهذه الترجمة: مالئة الدنيا و شاغلة الناس!
تعليق