الرحيل.. عن حارة حوش قدم!
نشرت بعض الصحف الأسبوع الماضي أن حي الخليفة هدد الشاعر أحمد فؤاد نجم بهدم حجرة خشبية بناها فوق سطوح البيت الذي يسكن فيه. وهو من بيوت الزلزال في حي المقطم.
في يوم بعيد بعيد..
ذات مساء في ذات شهر يوليو قاهري حار. وكنت علي وشك التخرج من الجامعة سحبني من يدي صديقي الاسمر الذي أصبح فيما بعد المطرب محمد منير إلي حي 'سيدنا الحسين' ومن حارة الي حارة توقفنا امام بيت قديم متهالك في حارة 'حوش قدم' والتي تعني بالفارسية . قدم الخير.. صعدنا الدرجات الضيقة المكسورة.. حيث توقفنا امام باب حجرة بالطابق الثاني. كانت تنبعث من وراء بابها اصوات مرتفعة هي خليط من الغناء والكلام والسباب والدخان.
وقال لي قبل ان يدق الباب: هنا .. يعيش صاحبك
سألته في دهشة: اي صاحب؟
قال : صاحبك الذي دخلت السجن بسببه ياجدع
قبل أن يتلقي المزيد من دهشتي
قال منير وهو يطرق باب الحجرة: هو في غير أحمد فؤاد نجم.. يودي في داهية؟
لم تكن هذه بداية معرفتي بأحمد فؤاد نجم شاعر تكدير الامن العام.. كما يطلق عليه الكاتب الصحفي صلاح عيسي.. بل ولم يكن ذلك هو اليوم الاول الذي سمع فيه نجم عني. اذا اننا ما أن دلفنا الي حجرة نجم والشيخ امام الشهيرة في حوش قدم في ذلك المساء القاهري الحار من شهر يوليو حتي وجدنا انفسنا وسط 'معمعة' عجيبة وحبيبة، فنانين وفنانات مهندسين وميكانيكيين وأحد اطباء مستشفي المجانين.. وشخص مجهول يحتضن عودا ويجلس علي صندوق خشبي قديم.
ورحب بنا نجم الذي كان يجلس في الحجرة علي فراش ضيق في جلباب بلدي احترقت اطرافه في فحم الجوزة ثم سرعان ما انغمس في الغناء بصوت جميل اجش مع المجموعة. وعندما ذكر له محمد منير اسمي في فترة راحة كان نجم قد استغلها في نوبة كحة شديدة توقف في الحال عن السعال واحتضنني بشدة.
وقال للموجودين: يا ولاد الأ بالسة.. الدنيا دي صغيرة.. والواد ده من قبيلة صلاح اللي كبيرهم كان احسن واحد عاملني في السجن.. ولايمكن انساه ابدا.
وفيما بعد وعندما كتب نجم ذكرياته في الفاجومي علي أجزاء . لم ينس وهو ينتقم علي طريقته من نماذج الضباط الذين قابلهم في السجون والمعتقلات التي عاش فيها كثيرا من سنوات عمره.. ان يتعرض بالكلام الحلو لبعض الضابط الذين عاملوه معاملة حسنة. ومنهم اللواء صلاح طه الذي كان ذات يوم مديرا لمصلحة السجون المصرية قبل ان يتوفي.
أما أنا فقد حاولت ان أنسي أن هذا الرجل النحيل الذي يخطو الان نحو الخامسة والسبعين من عمره، كان السبب فعلا في دخولي السجن. وكان ذلك في عهد الرئيس الراحل انور السادات في بداية السبعينيات، الذي كان وقتها قد اطلق الكثير من التعبيرت مثل 'عام الحسم' و 'عام الضباب'.
وكنت مثل كثير من غيري من طلاب الجامعة اتجرع مشاعر الهزيمة واتنفس احاسيس الغضب. كانت الساحة الطلابية ملتهبة. وكان أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام عيسي يجوبان الجامعات المصرية . ويلقيان بقصائد نجم واداء الشيخ امام مزيدا من الوقود علي نار الطلبة. وبهرني الرجل الذي كان نموذجا عبقريا لابن البلد المصري. الذي يعرف حقا كيف يرش الملح علي الجرح.
في ذلك الوقت كان يكفي لطالب متحمس مثلي لكي يدخل السجن. ان يكتب مجلة حائط يعلقها علي جدران الكلية. وان يكتب فيها احدي قصائد نجم. وحبذا لو كانت قصيدة 'ورقة في ملف قضية' والتي تقول:
أنت شيوعي؟
أنا مصراوي
انتو مصايب.. انتو بلاوي
ممكن اعرف مين الاول بيكلمني؟
احنا مباحث امن الدولة
دولة مين؟
دولة مصر
مصر العشة ولا القصر؟
أيوه حانبدي ندور ونلف.. حاجة تنرفز خالص اف.
ممكن اعرف انا هنا ليه؟
ايوه حاتعرف امال ايه.. يوم خمسة وعشرين الماضي. ايه مشاك عند التحرير؟
تحرير ايه ياجناب القاضي؟
انا مش قاضي.
بكره تصير
بطل غلبة وجاوب دوغري.
مين وداك عند الطلبة ضمن المندسين؟
رحت اناقشهم واسمع منهم.
تسمع منهم ايه ياسي طين؟
اسمع ايه مطالبهم
انت حاتستجوبني ياشاطر؟
بس انا باسأل كانوا طالبين كراريس ومساطر.. والا مطالب ميه المية كل الشعب مآمن بيها.
دول طالبين حرب وشعبية.. مين مجنون حايمشيها؟
دي طبيعة ارض يابني ادم
رأيك يعني ضروري انا احنا وحتما يعني نخش الحرب؟.. طيب حاضر فين المخبر.. حاتغير رايك بالضرب.
علي ان الله فيما بعد انتقم لي من أحمد فؤاد نجم لان سبحانه وتعالي يمهل ولا يهمل اذ ان الشاعر المجنون ذهب الي كلية هندسة عين شمس. حيث ألقي قصيدة 'بيان ' بصوت مذيع راديو شقلبان. عاصمة بلد اسمها حلاوة زمان.. المفروض ان يذيعه رئيسها 'شحاتة المعسل' وانفعل نجم وهو يلقي القصيدة وسط هتاف وحماس الطلبة. فاخذ يقلد لهجة الرئيس السادات.. وكانت النتيجة انه قدم الي المحاكمة العسكرية بتهمة 'اهانة الرئيس وحكم عليه بالسجن عاما مع الشغل.. صحيح انه هرب بعد صدور الحكم لكن البوليس القي القبض عليه بعد ثلاث سنوات واقتاده لتنفيذ الحكم. وعاد نجم الي السجن الذي كان بيته الاول قبل بيته في حوض قدم.
* * *
في حجرته الشهيرة بحوش قدم اكتشفت وطنيتي.
وعشقت الرجل الذي وجدت فيه مصرية ابي الاصيلة. وجذبتني اليه نظرة الطفل اليتيم التي لم تختفي من عينيه رغم سنوات عمره الطويلة. وكان نجم الذي ولد عام 1929 في احدي قري محافظة الشرقية، احد اطفال ضابط بوليس مات في عز شبابه.. وترك اسرة كبيرة العدد في رعاية زوجته أم نجم.. والتي كانت فلاحة مصرية رائعة الجمال. وكانت خزانة ادب شعبي تحفط الاغاني والمواويل وتلقيها بصوت ساخر آخاذ.
عن أمه يقول نجم الله يرحمك يا أمه.. هي اللي علمتني اللماضة.. كانت واحدة فلاحة لا تكتب ولا بتفك الخط. انما اجارك الله كانت في الكلام مكلمة.. وكانت لما تبدأ ما تنتهيش.. زي ابريق العسل اللي ميل علي بزبوزه وهاتك يانز.. اشي حواديت علي اشي نوادر علي اشي حكم وامثال علي اشي مواوديل في شكوي الزمان.. ولما كان الوجد يستحكم ويحرك الشجن والمواجع وتغني لي.. آه يا وعدي صوت زي هديل اليمام في عز بؤونه الحجر.. سخن ومفرهد ومشروخ. لكن جواه خيط حرير ناعم ماتعرفلوش اول من اخر.. يشك من شراشيب قلبك. ويفضل يطوحك في الهوا دوخيني يالمونة. وبعد الدوخة ينزلك علي كفوف الراحة. وانت مستحمي ومغسول بدموعك.
* * *
صحيح انه كان دائما يوليني اهتماما خاصا، وانا جالس اسمع اليه يروي مغامراته في بلاد الله خلق الله ثم فجأة يصمت
يقول لي: لو تعرف يا واد بحبك قد ايه؟
لكني كنت رغم كل شيء مجرد 'عيل' من عيال نجم.. وواحد من الاف الشباب الذين تأثروا به. والغريب انه لم تكن لأحمد فؤاد نجم قبل هزيمة 67 أيه صلة بالسياسة.. وان كانت صلته بالسجون قد بدأت مبكرة وكان في بداية حياته موظفا في السكة الحديد واراد ان يتزوج فاشترك مع ساعي في تزوير بعض المستندات لصرف استمارة تمكنه من الحصول علي بعض البضائع لكن الامر اكتشف وحكم علي نجم بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التزوير واختلاس اموال اميرية.
في سجنه الاول اكتشف نجم موهبته الشعرية وكتب ديوانه الاول من الحياة والسجن في سجن قره ميدان التقي ياغرب النماذج البشرية. لكن الاكتشاف الاعظم كان ميلاد نجم الانسان ونجم 'المصري'.
عن هذه الفترة يقول: ثلاث سنين يا ارميدان، م العصر للعصر يقفلوك علي ويناموا.. مفرمة حديد عجنت عضمي علي لحمي علي جلدي.. ورجعت شكلتني من جديد.. بدأت أصحي وأشوف الناس والامور والاشياء بعين تانية. زمان قبل السجن لما قريت ديوان بيرم وسمعت الحان سيد درويش وزكريا أحمد ماكنتش معجب.. كنت مبهور بشوقي وعبدالوهاب وبأي شيء فيه ريحة اوروبا المكرمة.. كانت فيه حاجة ربنا يكفيك شرها اسمها 'جرأة الجاهل' . طوال النهار اتعالم واتفلسف وآسفه عشاق شعر بيرم والحان سيد درويش وزكريا أحمد باعتبارها حاجات بلدي.. وانا راجل أفندي أبا عن جد'.!
* * *
سنوات وسنوات ونحن نزحف في أواخر الليالي إلي 'حوش قدم'. ودائما كانت الحجرة الشهيرة تتسع للكل. نفس الحجرة التي كانت يوما ما سكنا للثنائي الشهير الشيخ امام عيسي واحمد فؤاد نجم. لكن الدنيا مثل البشر الذين يعيشون فيها لا فيها لاتبقي ولايبقون علي حال في البداية هجرها الشيخ امام. ثم رحل عن الحياة كلها حتي جاء الزلزال ليصدع جدرانها ودرجات السلم القديمة. فأصبحت لاتسع شخصا واحد وليس الشعب المصري ممثلا في بعض مثقفيه وفنانيه وشاعر متمرد.
وهكذا رحل نجم من حوش قدم..
وذهب ليعيش في شقة في جبل المقطم. في 'مساكن الزلزال' التي ضمت جدرانها من تهدمت بيوتهم بفعل الزلزال الذي ضرب القاهرة قبل 12 سنة لكن الزلزال غير كثيرا في 'شكل' بيت أحمد فؤاد نجم. بعد الحجرة في حوش قدم أصبح من سكان الشقق حتي لو كانت في 'بيوت الزلزال'. شقة و'انتريه' ومكتب وتليفزيون ملون.
وبعد أن كنت 'أزحف' الي حوش قدم صرت 'أصعد' الي جبل المقطم. أنادي عليه بأعلي صوتي من الشارع.
نجم .. ياأبو النجوم.
يطل من شباك شقته بالطابق الخامس:
ماتطلع ياواد؟
نور السلالم مطفي.
آه ياجبان.. لسه بتخاف من الضلمة والقطط؟ اطلع وأنا واقف لك علي السلم.
واطلع...
يستقبلني بنفس الوجه الحبيب والجلباب البلدي المحروقة أطرافه من آثار فحم 'الجوزة' ومن خلفه كانت تعدو وتتعثر صغري بناته 'زينب' وهي من زوجته الأخيرة. وكان في بداية حياته قد تزوج 'فاطمة' وانجبت له كبري بناته عفاف. وفي بداية السبعينيات تزوج الكاتبة الصحفية صافيناز كاظم وانجب منها 'نوارة' التي ورثت الثورة والتمرد عن ابيها. ثم تزوج عزة بلبع حفيدة الباشوات ولم ينجب منها.
يطول الليل ولاينتهي الحديث.
أحيانا 'يتسلطن' نجم ويغني من القلب بنفس الصوت المجروح.
وعند الفجر يستبد به الشجن.
فيتوقف ويسألني : تفطر فول؟
وأعلم ان الحنين سوف يقودنا بعد دقائق الي الهبوط من فوق جبل المقطم 'لنزحف' من جديد إلي سيدنا الحسين.. ثم ننتهي عند حوش قدم.. التي هي ضد أي زلزال.
الصحفيون في مصر ليسوا كلهم دخلاء علي مهنة الصحافة النبيلة. ليسوا كلهم مرتزقة الكلمة عندهم ثمنها جنيه والسطر بعشرة جنيهات أو عشرة آلاف!
والصحفي المصري ليس بالضرورة أداه يحركها غيره. أو كلب حراسة يهاجم الأبرياء كلما
نشرت بعض الصحف الأسبوع الماضي أن حي الخليفة هدد الشاعر أحمد فؤاد نجم بهدم حجرة خشبية بناها فوق سطوح البيت الذي يسكن فيه. وهو من بيوت الزلزال في حي المقطم.
في يوم بعيد بعيد..
ذات مساء في ذات شهر يوليو قاهري حار. وكنت علي وشك التخرج من الجامعة سحبني من يدي صديقي الاسمر الذي أصبح فيما بعد المطرب محمد منير إلي حي 'سيدنا الحسين' ومن حارة الي حارة توقفنا امام بيت قديم متهالك في حارة 'حوش قدم' والتي تعني بالفارسية . قدم الخير.. صعدنا الدرجات الضيقة المكسورة.. حيث توقفنا امام باب حجرة بالطابق الثاني. كانت تنبعث من وراء بابها اصوات مرتفعة هي خليط من الغناء والكلام والسباب والدخان.
وقال لي قبل ان يدق الباب: هنا .. يعيش صاحبك
سألته في دهشة: اي صاحب؟
قال : صاحبك الذي دخلت السجن بسببه ياجدع
قبل أن يتلقي المزيد من دهشتي
قال منير وهو يطرق باب الحجرة: هو في غير أحمد فؤاد نجم.. يودي في داهية؟
لم تكن هذه بداية معرفتي بأحمد فؤاد نجم شاعر تكدير الامن العام.. كما يطلق عليه الكاتب الصحفي صلاح عيسي.. بل ولم يكن ذلك هو اليوم الاول الذي سمع فيه نجم عني. اذا اننا ما أن دلفنا الي حجرة نجم والشيخ امام الشهيرة في حوش قدم في ذلك المساء القاهري الحار من شهر يوليو حتي وجدنا انفسنا وسط 'معمعة' عجيبة وحبيبة، فنانين وفنانات مهندسين وميكانيكيين وأحد اطباء مستشفي المجانين.. وشخص مجهول يحتضن عودا ويجلس علي صندوق خشبي قديم.
ورحب بنا نجم الذي كان يجلس في الحجرة علي فراش ضيق في جلباب بلدي احترقت اطرافه في فحم الجوزة ثم سرعان ما انغمس في الغناء بصوت جميل اجش مع المجموعة. وعندما ذكر له محمد منير اسمي في فترة راحة كان نجم قد استغلها في نوبة كحة شديدة توقف في الحال عن السعال واحتضنني بشدة.
وقال للموجودين: يا ولاد الأ بالسة.. الدنيا دي صغيرة.. والواد ده من قبيلة صلاح اللي كبيرهم كان احسن واحد عاملني في السجن.. ولايمكن انساه ابدا.
وفيما بعد وعندما كتب نجم ذكرياته في الفاجومي علي أجزاء . لم ينس وهو ينتقم علي طريقته من نماذج الضباط الذين قابلهم في السجون والمعتقلات التي عاش فيها كثيرا من سنوات عمره.. ان يتعرض بالكلام الحلو لبعض الضابط الذين عاملوه معاملة حسنة. ومنهم اللواء صلاح طه الذي كان ذات يوم مديرا لمصلحة السجون المصرية قبل ان يتوفي.
أما أنا فقد حاولت ان أنسي أن هذا الرجل النحيل الذي يخطو الان نحو الخامسة والسبعين من عمره، كان السبب فعلا في دخولي السجن. وكان ذلك في عهد الرئيس الراحل انور السادات في بداية السبعينيات، الذي كان وقتها قد اطلق الكثير من التعبيرت مثل 'عام الحسم' و 'عام الضباب'.
وكنت مثل كثير من غيري من طلاب الجامعة اتجرع مشاعر الهزيمة واتنفس احاسيس الغضب. كانت الساحة الطلابية ملتهبة. وكان أحمد فؤاد نجم والشيخ أمام عيسي يجوبان الجامعات المصرية . ويلقيان بقصائد نجم واداء الشيخ امام مزيدا من الوقود علي نار الطلبة. وبهرني الرجل الذي كان نموذجا عبقريا لابن البلد المصري. الذي يعرف حقا كيف يرش الملح علي الجرح.
في ذلك الوقت كان يكفي لطالب متحمس مثلي لكي يدخل السجن. ان يكتب مجلة حائط يعلقها علي جدران الكلية. وان يكتب فيها احدي قصائد نجم. وحبذا لو كانت قصيدة 'ورقة في ملف قضية' والتي تقول:
أنت شيوعي؟
أنا مصراوي
انتو مصايب.. انتو بلاوي
ممكن اعرف مين الاول بيكلمني؟
احنا مباحث امن الدولة
دولة مين؟
دولة مصر
مصر العشة ولا القصر؟
أيوه حانبدي ندور ونلف.. حاجة تنرفز خالص اف.
ممكن اعرف انا هنا ليه؟
ايوه حاتعرف امال ايه.. يوم خمسة وعشرين الماضي. ايه مشاك عند التحرير؟
تحرير ايه ياجناب القاضي؟
انا مش قاضي.
بكره تصير
بطل غلبة وجاوب دوغري.
مين وداك عند الطلبة ضمن المندسين؟
رحت اناقشهم واسمع منهم.
تسمع منهم ايه ياسي طين؟
اسمع ايه مطالبهم
انت حاتستجوبني ياشاطر؟
بس انا باسأل كانوا طالبين كراريس ومساطر.. والا مطالب ميه المية كل الشعب مآمن بيها.
دول طالبين حرب وشعبية.. مين مجنون حايمشيها؟
دي طبيعة ارض يابني ادم
رأيك يعني ضروري انا احنا وحتما يعني نخش الحرب؟.. طيب حاضر فين المخبر.. حاتغير رايك بالضرب.
علي ان الله فيما بعد انتقم لي من أحمد فؤاد نجم لان سبحانه وتعالي يمهل ولا يهمل اذ ان الشاعر المجنون ذهب الي كلية هندسة عين شمس. حيث ألقي قصيدة 'بيان ' بصوت مذيع راديو شقلبان. عاصمة بلد اسمها حلاوة زمان.. المفروض ان يذيعه رئيسها 'شحاتة المعسل' وانفعل نجم وهو يلقي القصيدة وسط هتاف وحماس الطلبة. فاخذ يقلد لهجة الرئيس السادات.. وكانت النتيجة انه قدم الي المحاكمة العسكرية بتهمة 'اهانة الرئيس وحكم عليه بالسجن عاما مع الشغل.. صحيح انه هرب بعد صدور الحكم لكن البوليس القي القبض عليه بعد ثلاث سنوات واقتاده لتنفيذ الحكم. وعاد نجم الي السجن الذي كان بيته الاول قبل بيته في حوض قدم.
* * *
في حجرته الشهيرة بحوش قدم اكتشفت وطنيتي.
وعشقت الرجل الذي وجدت فيه مصرية ابي الاصيلة. وجذبتني اليه نظرة الطفل اليتيم التي لم تختفي من عينيه رغم سنوات عمره الطويلة. وكان نجم الذي ولد عام 1929 في احدي قري محافظة الشرقية، احد اطفال ضابط بوليس مات في عز شبابه.. وترك اسرة كبيرة العدد في رعاية زوجته أم نجم.. والتي كانت فلاحة مصرية رائعة الجمال. وكانت خزانة ادب شعبي تحفط الاغاني والمواويل وتلقيها بصوت ساخر آخاذ.
عن أمه يقول نجم الله يرحمك يا أمه.. هي اللي علمتني اللماضة.. كانت واحدة فلاحة لا تكتب ولا بتفك الخط. انما اجارك الله كانت في الكلام مكلمة.. وكانت لما تبدأ ما تنتهيش.. زي ابريق العسل اللي ميل علي بزبوزه وهاتك يانز.. اشي حواديت علي اشي نوادر علي اشي حكم وامثال علي اشي مواوديل في شكوي الزمان.. ولما كان الوجد يستحكم ويحرك الشجن والمواجع وتغني لي.. آه يا وعدي صوت زي هديل اليمام في عز بؤونه الحجر.. سخن ومفرهد ومشروخ. لكن جواه خيط حرير ناعم ماتعرفلوش اول من اخر.. يشك من شراشيب قلبك. ويفضل يطوحك في الهوا دوخيني يالمونة. وبعد الدوخة ينزلك علي كفوف الراحة. وانت مستحمي ومغسول بدموعك.
* * *
صحيح انه كان دائما يوليني اهتماما خاصا، وانا جالس اسمع اليه يروي مغامراته في بلاد الله خلق الله ثم فجأة يصمت
يقول لي: لو تعرف يا واد بحبك قد ايه؟
لكني كنت رغم كل شيء مجرد 'عيل' من عيال نجم.. وواحد من الاف الشباب الذين تأثروا به. والغريب انه لم تكن لأحمد فؤاد نجم قبل هزيمة 67 أيه صلة بالسياسة.. وان كانت صلته بالسجون قد بدأت مبكرة وكان في بداية حياته موظفا في السكة الحديد واراد ان يتزوج فاشترك مع ساعي في تزوير بعض المستندات لصرف استمارة تمكنه من الحصول علي بعض البضائع لكن الامر اكتشف وحكم علي نجم بالسجن ثلاث سنوات بتهمة التزوير واختلاس اموال اميرية.
في سجنه الاول اكتشف نجم موهبته الشعرية وكتب ديوانه الاول من الحياة والسجن في سجن قره ميدان التقي ياغرب النماذج البشرية. لكن الاكتشاف الاعظم كان ميلاد نجم الانسان ونجم 'المصري'.
عن هذه الفترة يقول: ثلاث سنين يا ارميدان، م العصر للعصر يقفلوك علي ويناموا.. مفرمة حديد عجنت عضمي علي لحمي علي جلدي.. ورجعت شكلتني من جديد.. بدأت أصحي وأشوف الناس والامور والاشياء بعين تانية. زمان قبل السجن لما قريت ديوان بيرم وسمعت الحان سيد درويش وزكريا أحمد ماكنتش معجب.. كنت مبهور بشوقي وعبدالوهاب وبأي شيء فيه ريحة اوروبا المكرمة.. كانت فيه حاجة ربنا يكفيك شرها اسمها 'جرأة الجاهل' . طوال النهار اتعالم واتفلسف وآسفه عشاق شعر بيرم والحان سيد درويش وزكريا أحمد باعتبارها حاجات بلدي.. وانا راجل أفندي أبا عن جد'.!
* * *
سنوات وسنوات ونحن نزحف في أواخر الليالي إلي 'حوش قدم'. ودائما كانت الحجرة الشهيرة تتسع للكل. نفس الحجرة التي كانت يوما ما سكنا للثنائي الشهير الشيخ امام عيسي واحمد فؤاد نجم. لكن الدنيا مثل البشر الذين يعيشون فيها لا فيها لاتبقي ولايبقون علي حال في البداية هجرها الشيخ امام. ثم رحل عن الحياة كلها حتي جاء الزلزال ليصدع جدرانها ودرجات السلم القديمة. فأصبحت لاتسع شخصا واحد وليس الشعب المصري ممثلا في بعض مثقفيه وفنانيه وشاعر متمرد.
وهكذا رحل نجم من حوش قدم..
وذهب ليعيش في شقة في جبل المقطم. في 'مساكن الزلزال' التي ضمت جدرانها من تهدمت بيوتهم بفعل الزلزال الذي ضرب القاهرة قبل 12 سنة لكن الزلزال غير كثيرا في 'شكل' بيت أحمد فؤاد نجم. بعد الحجرة في حوش قدم أصبح من سكان الشقق حتي لو كانت في 'بيوت الزلزال'. شقة و'انتريه' ومكتب وتليفزيون ملون.
وبعد أن كنت 'أزحف' الي حوش قدم صرت 'أصعد' الي جبل المقطم. أنادي عليه بأعلي صوتي من الشارع.
نجم .. ياأبو النجوم.
يطل من شباك شقته بالطابق الخامس:
ماتطلع ياواد؟
نور السلالم مطفي.
آه ياجبان.. لسه بتخاف من الضلمة والقطط؟ اطلع وأنا واقف لك علي السلم.
واطلع...
يستقبلني بنفس الوجه الحبيب والجلباب البلدي المحروقة أطرافه من آثار فحم 'الجوزة' ومن خلفه كانت تعدو وتتعثر صغري بناته 'زينب' وهي من زوجته الأخيرة. وكان في بداية حياته قد تزوج 'فاطمة' وانجبت له كبري بناته عفاف. وفي بداية السبعينيات تزوج الكاتبة الصحفية صافيناز كاظم وانجب منها 'نوارة' التي ورثت الثورة والتمرد عن ابيها. ثم تزوج عزة بلبع حفيدة الباشوات ولم ينجب منها.
يطول الليل ولاينتهي الحديث.
أحيانا 'يتسلطن' نجم ويغني من القلب بنفس الصوت المجروح.
وعند الفجر يستبد به الشجن.
فيتوقف ويسألني : تفطر فول؟
وأعلم ان الحنين سوف يقودنا بعد دقائق الي الهبوط من فوق جبل المقطم 'لنزحف' من جديد إلي سيدنا الحسين.. ثم ننتهي عند حوش قدم.. التي هي ضد أي زلزال.
الصحفيون في مصر ليسوا كلهم دخلاء علي مهنة الصحافة النبيلة. ليسوا كلهم مرتزقة الكلمة عندهم ثمنها جنيه والسطر بعشرة جنيهات أو عشرة آلاف!
والصحفي المصري ليس بالضرورة أداه يحركها غيره. أو كلب حراسة يهاجم الأبرياء كلما
تعليق