القبور الضاحكة
بقدر ما أتحاشى دخول المقابر العربية، أستمتع بزيارة المقابر الأجنبية. فكثيرا ما تكون آية من آيات الجمال والفن بما فيها من تماثيل ومجسمات ساحرة. من تجاربي في هذا الخصوص زيارتي لمقبرة جنوة في إيطاليا. إنها تحفة من تحف الفن. قلت لنفسي هذا مكان يطيب لأي إنسان أن يموت فيه. وكدت أحقق هذه الأمنية بالفعل. فعندما نظرت إلى ساعتي أوشكت على سكتة قلبية، فقد أدركت أن الباخرة التي كانت ستنقلني إلى مرسيليا قد غادرت الميناء وأنا غارق في التأمل بكل هذه التماثيل.
بيد أن للقبور في الغرب، جانبها الكوميدي الضاحك والعملي أيضا، كهذا الشاهد الظريف الذي يقول:
«هنا يرقد رفات جيمس أوكونيل. مخرج سينمائي. مات في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1969 تاركا وراءه أرملته الشقراء بصدر 38 وخصر 24 وعجز 36 بعنوان 5 هنلي ستريت. تليفون 5269 243.
وهو ما يذكرني بالأرملة المصرية التي راحت تمشي وراء جنازة زوجها وهي تبكي وتنحب وتقول: «ليه يا حبيبي، ليه؟ تموت وتتركني بالبيت وحيدة كده! «سمع نحيبها رجل من المشيعين فهمس في أذنها:
«الله يساعدك يا وليه. لكن انت فين ساكنة؟»
«امشي! تسألني كدة وأنا أندب على زوجي؟».
واصلت سيرها واستأنفت نحيبها: «ليه يا حبيبي؟ يا سبعي، تموت وتسيبني كدة وحيدة في نمرة 18 شارع قصر النيل».
يظهر أن الشاعر العراقي الأستاذ حسن جبر شاركني بهذا الهوس في المقابر. لاحظ أثناء طوافه بمقبرة ريفية في ويلز قبرا كتبوا عليه «هنا يرقد جون اكسلي. ولد عام 1925 وتوفي عام 1980 عن عمر يناهز عشرة أيام». استغرب من الأمر فتساءل. قالوا له «نحن في هذه القرية نحسب عمر الإنسان بالأيام السعيدة التي عاشها. كل أيامه الأخرى شقاء وضياع». عاد للبيت مساء فقال لزوجته: عيني أم سعد، إذا مت فاكتبوا على قبري، «هنا يرقد حسن جبر من بطن أمه للقبر».
ممن شغفوا بزيارة المقابر أيضا برنارد شو. كان يبحث عن مسكن ريفي له فمر بمقبرة سان لورنس. رأى شاهدا يقول: «هنا يرقد جيمس هولوي. مات مأسوفا على شبابه في الثالثة والثمانين من عمره».
تأمل شو في هذه الكلمات وحكمتها فقال، القرية التي يعتبر سكانها سن الثمانين سن شباب، قرية جديرة بأن يعيش المرء فيها.
ألقى عصا ترحاله واشترى بيتا فيها عاش فيه حتى وفاته بسن 93. ولولا أن كسر رجله لربما بقي معنا حتى الآن. المؤسف أنه لم يذهب لقرية دلهوسي. فلو فعل لوجد فيها شاهد قبر يقول:
«هنا يرقد ازكيال ايلك. العمر 98. إيه أيها الموت! تأخذ دائما الناس الطيبين في شبابهم».
والقبور الباكية
استعرضت في مقالتي السابقة شيئا عن القبور الضاحكة، وهي قبور الغربيين. عندنا في الشرق القبور تبكي كما يبكي الأحياء. ينطبق هذا بصورة خاصة على المقابر العراقية، فهي تمثل خير تمثيل روح الاكتئاب والملانخوليا التي يتسم بها الضمير البابلي، هناك في مقبرة شيخ معروف في جانب الكرخ من مدينة بغداد شاهد قبر يستجدي دموع المشاهد، وكأن الدفين ما زال في حاجة إليها بعد كل الدموع الغزيرة التي ذرفها وشهدها في حياته. يقول الشاهد:
يا قارئا كتابي ابك على شبابي
بالأمس كنت حيا واليوم في التراب
وهذا كله شيء يسير ومعقول بالنسبة للوحة الشاهد التي تتجاهل القارئ، وتخاطب الديدان والبكتيريا فتقول:
يا دود! يا دود!
كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود.
صورة سريالية أصيلة تجاوزت كل نواح غلغامش في تلك الملحمة الشهيرة، يوم راح الملك البابلي يبكي على صديقه أنكيدو. لوحات القبور الفرعونية كلها عز وفرفشة وبنات حلوات. ولكن ليس شواهد القبور البابلية كهذه اللوحة التي عثروا عليها في الهند وتعود للألف الثالث قبل الميلاد:
«هنا يرقد آنور زركال. رجل من مدينة أوروك. هرب مما عاناه من ظلم. جاء حافي القدمين رث الثياب. مات غريبا في هذا المكان».
لا جديد تحت الشمس بالنسبة لمن يعيش في بلاد الرافدين.
قدر لي أن أشاهد قبرا في مقبرة باب المعظم من بغداد. فيما كان الميت قد آوى إلى قبره واستراح من هذه الحياة، انفجر أصحابه وذووه في معركة ضارية بشأن ما هو مكتوب على شاهد القبر: «هنا يرقد الدكتور فلان ابن فلان الحائز على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد، والليسانس من جامعة السوربون، والبكالوريوس من ريجنت بوليتكنك، بلندن.. إلخ». عجبت من أمره وأمر هذا الشاهد. أنا أفهم أن عالمنا العربي عالم من ورق، كل شيء فيه يتوقف على ما بيدك من أوراق وشهادات ودولارات، تتباهى بها عندما تكلم أصحابك في المقهى أو تخطب امرأة للزواج أو تسعى لوظيفة، ولكنني لم أتصور أنك تحتاجها عندما تموت وتكتبها على شاهد قبرك، سألت نفسي، يا ترى هل وضعوا هذه الشهادات معه في التابوت ليبرزها لملك الموت ويطالب بمراعاته بامتياز، ومعاملته معاملة خاصة؟ ربما تأملوا أن تنفعه في الآخرة في الحصول على مكان أفضل في الجنة.. أو النار.
في حين كنت أفكر بكل ذلك، انفجرت معركة بين الحاضرين كما قلت. «عيب عليكم! تقولون عنده دكتوراه من هارفارد! شهادته هذي كانت مزورة. يعني تريدون تكذبون حتى على الله سبحانه وتعالى».
رد عليه أخو الميت: «اسكت! هذا كلام البعثيين. يتهمون الناس بالتزوير لأنهم ما عندهم شهادات».
«لكن إحنا مو خونة مثل أخوك اللي اشتغل لـ(سي آي إيه) وأعطوه شهادة مزورة».
بهذه الكلمات فقد الجميع السيطرة على أعصابهم فهجم بعضهم على بعض، ودارت معركة ضارية تعالى في سمائها تراب القبور، فأخذت طريقي إلى الباب متسائلا، كم من صدق أو زور يا ترى في كل هذه الشواهد التي مررت بها؟
بقدر ما أتحاشى دخول المقابر العربية، أستمتع بزيارة المقابر الأجنبية. فكثيرا ما تكون آية من آيات الجمال والفن بما فيها من تماثيل ومجسمات ساحرة. من تجاربي في هذا الخصوص زيارتي لمقبرة جنوة في إيطاليا. إنها تحفة من تحف الفن. قلت لنفسي هذا مكان يطيب لأي إنسان أن يموت فيه. وكدت أحقق هذه الأمنية بالفعل. فعندما نظرت إلى ساعتي أوشكت على سكتة قلبية، فقد أدركت أن الباخرة التي كانت ستنقلني إلى مرسيليا قد غادرت الميناء وأنا غارق في التأمل بكل هذه التماثيل.
بيد أن للقبور في الغرب، جانبها الكوميدي الضاحك والعملي أيضا، كهذا الشاهد الظريف الذي يقول:
«هنا يرقد رفات جيمس أوكونيل. مخرج سينمائي. مات في 20 أكتوبر (تشرين الأول) 1969 تاركا وراءه أرملته الشقراء بصدر 38 وخصر 24 وعجز 36 بعنوان 5 هنلي ستريت. تليفون 5269 243.
وهو ما يذكرني بالأرملة المصرية التي راحت تمشي وراء جنازة زوجها وهي تبكي وتنحب وتقول: «ليه يا حبيبي، ليه؟ تموت وتتركني بالبيت وحيدة كده! «سمع نحيبها رجل من المشيعين فهمس في أذنها:
«الله يساعدك يا وليه. لكن انت فين ساكنة؟»
«امشي! تسألني كدة وأنا أندب على زوجي؟».
واصلت سيرها واستأنفت نحيبها: «ليه يا حبيبي؟ يا سبعي، تموت وتسيبني كدة وحيدة في نمرة 18 شارع قصر النيل».
يظهر أن الشاعر العراقي الأستاذ حسن جبر شاركني بهذا الهوس في المقابر. لاحظ أثناء طوافه بمقبرة ريفية في ويلز قبرا كتبوا عليه «هنا يرقد جون اكسلي. ولد عام 1925 وتوفي عام 1980 عن عمر يناهز عشرة أيام». استغرب من الأمر فتساءل. قالوا له «نحن في هذه القرية نحسب عمر الإنسان بالأيام السعيدة التي عاشها. كل أيامه الأخرى شقاء وضياع». عاد للبيت مساء فقال لزوجته: عيني أم سعد، إذا مت فاكتبوا على قبري، «هنا يرقد حسن جبر من بطن أمه للقبر».
ممن شغفوا بزيارة المقابر أيضا برنارد شو. كان يبحث عن مسكن ريفي له فمر بمقبرة سان لورنس. رأى شاهدا يقول: «هنا يرقد جيمس هولوي. مات مأسوفا على شبابه في الثالثة والثمانين من عمره».
تأمل شو في هذه الكلمات وحكمتها فقال، القرية التي يعتبر سكانها سن الثمانين سن شباب، قرية جديرة بأن يعيش المرء فيها.
ألقى عصا ترحاله واشترى بيتا فيها عاش فيه حتى وفاته بسن 93. ولولا أن كسر رجله لربما بقي معنا حتى الآن. المؤسف أنه لم يذهب لقرية دلهوسي. فلو فعل لوجد فيها شاهد قبر يقول:
«هنا يرقد ازكيال ايلك. العمر 98. إيه أيها الموت! تأخذ دائما الناس الطيبين في شبابهم».
والقبور الباكية
استعرضت في مقالتي السابقة شيئا عن القبور الضاحكة، وهي قبور الغربيين. عندنا في الشرق القبور تبكي كما يبكي الأحياء. ينطبق هذا بصورة خاصة على المقابر العراقية، فهي تمثل خير تمثيل روح الاكتئاب والملانخوليا التي يتسم بها الضمير البابلي، هناك في مقبرة شيخ معروف في جانب الكرخ من مدينة بغداد شاهد قبر يستجدي دموع المشاهد، وكأن الدفين ما زال في حاجة إليها بعد كل الدموع الغزيرة التي ذرفها وشهدها في حياته. يقول الشاهد:
يا قارئا كتابي ابك على شبابي
بالأمس كنت حيا واليوم في التراب
وهذا كله شيء يسير ومعقول بالنسبة للوحة الشاهد التي تتجاهل القارئ، وتخاطب الديدان والبكتيريا فتقول:
يا دود! يا دود!
كل لحمي وعظمي وخلي عيوني السود.
صورة سريالية أصيلة تجاوزت كل نواح غلغامش في تلك الملحمة الشهيرة، يوم راح الملك البابلي يبكي على صديقه أنكيدو. لوحات القبور الفرعونية كلها عز وفرفشة وبنات حلوات. ولكن ليس شواهد القبور البابلية كهذه اللوحة التي عثروا عليها في الهند وتعود للألف الثالث قبل الميلاد:
«هنا يرقد آنور زركال. رجل من مدينة أوروك. هرب مما عاناه من ظلم. جاء حافي القدمين رث الثياب. مات غريبا في هذا المكان».
لا جديد تحت الشمس بالنسبة لمن يعيش في بلاد الرافدين.
قدر لي أن أشاهد قبرا في مقبرة باب المعظم من بغداد. فيما كان الميت قد آوى إلى قبره واستراح من هذه الحياة، انفجر أصحابه وذووه في معركة ضارية بشأن ما هو مكتوب على شاهد القبر: «هنا يرقد الدكتور فلان ابن فلان الحائز على شهادة الدكتوراه من جامعة هارفارد، والليسانس من جامعة السوربون، والبكالوريوس من ريجنت بوليتكنك، بلندن.. إلخ». عجبت من أمره وأمر هذا الشاهد. أنا أفهم أن عالمنا العربي عالم من ورق، كل شيء فيه يتوقف على ما بيدك من أوراق وشهادات ودولارات، تتباهى بها عندما تكلم أصحابك في المقهى أو تخطب امرأة للزواج أو تسعى لوظيفة، ولكنني لم أتصور أنك تحتاجها عندما تموت وتكتبها على شاهد قبرك، سألت نفسي، يا ترى هل وضعوا هذه الشهادات معه في التابوت ليبرزها لملك الموت ويطالب بمراعاته بامتياز، ومعاملته معاملة خاصة؟ ربما تأملوا أن تنفعه في الآخرة في الحصول على مكان أفضل في الجنة.. أو النار.
في حين كنت أفكر بكل ذلك، انفجرت معركة بين الحاضرين كما قلت. «عيب عليكم! تقولون عنده دكتوراه من هارفارد! شهادته هذي كانت مزورة. يعني تريدون تكذبون حتى على الله سبحانه وتعالى».
رد عليه أخو الميت: «اسكت! هذا كلام البعثيين. يتهمون الناس بالتزوير لأنهم ما عندهم شهادات».
«لكن إحنا مو خونة مثل أخوك اللي اشتغل لـ(سي آي إيه) وأعطوه شهادة مزورة».
بهذه الكلمات فقد الجميع السيطرة على أعصابهم فهجم بعضهم على بعض، ودارت معركة ضارية تعالى في سمائها تراب القبور، فأخذت طريقي إلى الباب متسائلا، كم من صدق أو زور يا ترى في كل هذه الشواهد التي مررت بها؟
تعليق