لا الإخوان المسلمون، ولا الإخوان اليساريون، ولا الإخوان الليبراليون، كانوا وراء التظاهرات الجماهيرية في مدن مصر، بل مجموعة شبّان عبأهم ما بات يُعرف في أدبيات علم السياسة الحديث ب “الإعلام الاجتماعي” (Social media)، وهذا ماجعل تظاهرات مصر تُشبه إلى حد بعيد انتفاضة تونس التي تجاوزت هي الأخرى كل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية التقليدية، وحوّلت الإنترنت، وفيس بوك، ويوتيوب، وتويتر، والمدونات، إلى أدوات تعبئة وتنظيم للحركة الشعبية العامة .
سنأتي إلى ظاهرة هذا الإعلام الاجتماعي، ومعه المفهوم الجديد ل “السكان المترابطين عبر الشبكة” (network population) بعد قليل . لكن قبل ذلك، وقفة أمام ما بدأت تجارب تونس ومصر والأردن (والحبل على الجرّار على الأرجح) تُفرزه رويداً رويداً للمرة الأولى في التاريخ العربي: الديمقراطية المباشرة .
كما هو معروف، تعبير الديمقراطية المباشرة، أو ما يُسمى أحياناً “الديمقراطية النقيّة”، هي شكل من الديمقراطية حيث السيادة مناطة ليس بنواب أو نخبة محدودة، بل بجمعية تضم كل الشعب أو السكان الذين يختارون الانخراط في العمل السياسي . هذه الجمعية لها صلاحية إقرار القوانين، والبرامج التنفيذية، وانتخاب أو طرد النواب وكبار الموظفين، وإجراء المحاكمات .
أول ديمقراطية مباشرة في التاريخ نشأت في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد، رغم أنها لم تكّ ديمقراطية حقيقية لأنها كانت تستثني النسوة والعبيد . أما في العصور الحديثة، فقد بدأ هذا النوع من الديمقراطية في قرى وبلدات سويسرا في القرن الثالث عشر . وفي العام 1847 أضاف السويسريون “تشريع الاستفتاء” ثم في العام 1891 “مبادرة التعديل الدستوري” على دستورهم الوطني، وكلاهما يسمح للمواطنين السويسريين عبر الاستفتاء والمبادرات، بتعديل القوانين أو رفض برامج الوزارات .
النظام الفيدرالي في الولايات المتحدة يستند إلى الديمقراطية التمثيلية (البرلمانية)، لكن نصف الولايات الأمريكية تُطبّق الديمقراطية المباشرة في أنظمتها الداخلية في مجالي الاستفتاء والمبادرات .
بعد صعود الإنترنت إلى ساحة الفعل الاجتماعي والدولي في التسعينات، برز مفهوم “الديمقراطية المباشرة الإلكترونية”، التي تستخدم أنظمة الاتصال عن بُعد لتسهيل مشاركة الشعب في القرار . حتى الآن، لا تزال ممارسة هذه الديمقراطية الأثيرية محدودة في العالم، وهي تكاد تقتصر على حكومتي السويد وسويسرا .
لكن هذا النوع من الديمقراطية المباشرة الإلكترونية، هو بالتحديد ما يمارسه الآن الشبان العرب في تونس ومصر والأردن وباقي الدول العربية، ليس من أجل المشاركة في السلطة بل من أجل تغييرها أو تطويرها .
وقد أسفرت تجاربهم حتى الآن عن نجاحات باهرة لهذه الديمقراطية، خاصة في مجال بلورة المطالب المشتركة لمجموعات متباينة من السكان، وفي دفعها إلى النزول مباشرة إلى الشارع لوضع هذه المطالب موضع التنفيذ . هذا في حين أن الأحزاب التقليدية، بما في ذلك المنظمات الإسلامية الكبيرة، كانت تصاب بتصلّب الشرايين وتعجز عن تعبئة وتحريك الجمهور .
وعلى سبيل المثال، كتبت “فاينانشال تايمز” عن تظاهرات مصر: “قوة المتظاهرين تكمن في أنهم غير مرتبطين بأي حركة سياسية أو إيديولوجية، بل هم يتحلّقون حول جملة أهداف محددة تتم مناقشتها والاتفاق عليها عبر الإنترنت” .
والإنترنت هنا تعني “الإعلام الاجتماعي” (Social media)، فما هو هذا الإعلام، وما طبيعته؟
تعليق