فرصة السلام وقنبلة إيران النووية !
د. عادل محمد عايش الأسطل
ارتفاع قيمة تكاليف الإقلاع إلى دولة جنوب أفريقيا للمشاركة في تشييع الزعيم الأفريقي "نيلسون مانديلا" كانت سبباً قويّاً وكافياً في نفس الوقت ليتعذّر به رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" لإلغاء مشاركته في مراسم التشييع المقررة في الخامس عشر من الشهر الجاري، وإن كان للحكاية سبباً آخر يقف وراء إلغاء الرحلة، وهو بسبب فتور العلاقة مع الدولة الأفريقية منذ تولي "مانديلا" مقاليد الحكم في البلاد، حيث كان له الفضل في تغيير مواقف الدولة السياسية إزاء تطورات القضية الفلسطينية وممارسات الدولة الصهيونية العنيفة ضد الفلسطينيين بشكلٍ عام، بعدما كانت في عهد حكم البيض – العنصري- من أشد حلفاء إسرائيل باعتبارهما يشتركان في عددٍ من السمات وعلى رأسها انتهاك حقوق الإنسان، وممارسات الأبرتايد ضد سكان البلاد الأصليين إلى جانب التعاونات البارزة في المجالات النووية وغيرها من المجالات العسكرية والأمنية والمخابراتية الأخرى.
وكما يبدو فإن علو التكاليف ذاتها، كانت وراء اقتصاره على إرساله (كاسيت) يتضمن كلمة تحمل في طياتها ثلاث رسائل سياسية مختلفة، تم تشغيلها أمام المنتدى الإسرائيلي (سابان) العاشر، المنعقد في العاصمة الأمريكية واشنطن، وإن كان في الحقيقة من عدم ركوبه إلى هناك، هو تفادى الوقوع في الحرج والانتقاد لسياسته ضد الفلسطينيين وخشية مواجهة أفكار ومقترحات (سابان) بشأن مشاريع الحلول القادمة للقضية الفلسطينية، والتي بالتأكيد ستكون متطابقة أو قريبةً من المقترحات والأفكار الأمريكية، التي لا تتماشى كثيراً مع الرغبات الإسرائيلية وحكومة "نتانياهو" تحديداً، لا سيما وأن المؤتمر يعتبر واحداً من المراكز الأقل تشدداً بالنسبة لإسرائيل والأكثر اهتماماً بشأن تشجيع السلام العربي- الإسرائيلي من خلال الحرص على المساهمة في البحث عن مشاريع مقبولة لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي.
ليس مستعرباً أن يمتنع "نتانياهو" عن المغادرة ولو بمترٍ واحدٍ عن محل إقامته، وليس جديداً أن يتكلّم في كل دقيقة عن استعداده لإنجاز مشروع سلام تاريخي وحقيقي مع الفلسطينيين، ولكن ما كان مفاجئاً وأكثر غرابةً، أن يتحدث – كرسالة أولى- ولأول مرة بشكل علني بين فهمه لفرص السلام مع الفلسطينيين ومشروع إيران النووي، حينما أعلن أمام (سابان) في كلمته المسجلة، بأن لا فرصة لعقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين إذا امتلكت إيران سلاحاً نووياً، وأكّد بالضرورة على وجوب الطلب من إيران بقيامها بتغيير كاملٍ لكافة مخرجات سياساتها وليس فقط تلك المتعلقة بالبرنامج النووي.
"نتنياهو" برر إعلانه هذا، على أساس تخيلاته بأن إيران النووية ستسعى للتآمر ضد أيّة خطوة سياسية، وستقوم بتدمير إمكانية تحقيق السلام، أو ضد السلام الذي تم تحقيقه إلى الآن وبسبب أن امتلاك إيران لأسلحة نووية من شأنه أن يقوّض جهود السلام ومن ثمّ تنفيذ تهديدات سابقة لتدمير دولة إسرائيل. لذلك فقد شدد "نتانياهو" على ضرورة الأخذ أثناء محادثات التسوية في جنيف بالتغيير التام والشامل في السياسة الإيرانية وأن يتضمن كل اتفاق نهائي تدمير قدراتها النووية، حتى يتمكن نتانياهو" من تقديم السلام. لذلك فقد رأى بدايةً، ضرورة الإبقاء على العقوبات المفروضة وعدم إدخال أية تسهيلات عليها حتى تكون سياستها مقبولة لدى إسرائيل والمجتمع الدولي. وشدد على أن الجهود المبذولة لتحقيق السلام مع الفلسطينيين لن تحقق شيئاً إذا حصلت إيران على أسلحة نووية.
وكرسالة ثانية، أراد "نتانياهو" قطع الطريق أمام (سابان) بشأن استمراره في البحث عن مشاريع ملائمة للقضية الفلسطينية، من خلال أن لديه تسوية تاريخية جاهزة للسلام، ومدعياً باستجابته لتعابير الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" ووزير خارجيته "جون كيري" من أن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين أمر ممكن، وأقرب من أي وقت مضى. حيث أعلن بأن الصراع مع الفلسطينيين لا يمثل مصدر وسبب المشاكل في منطقة الشرق الأوسط والصراع لا يتعلق بالحدود أو المستوطنات، بل برفض الفلسطينيين الاعتراف بالدولة اليهودية، مهم يعلمون أن هذا هو الشرط الأساسي للسلام، كما هو شرطاً للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد أبدى استعداده لاتخاذ القرارات الصعبة لأن محاولة التوصل إلى تسوية – كما يزعم- هو خيار استراتيجي بالنسبة لحكومة إسرائيل. ومن ناحيةٍ أخرى - رسالة ثالثة- فقد عكف "نتانياهو" على تحجيم مختلف التوترات الشخصية والتضادات السياسية مع الولايات المتحدة، وجاهد في استدرار عطفها، حينما أشار إلى جملة الاضطرابات الهائلة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، والتي أدّت إلى زيادة العنف وعدم الاستقرار في أنحائها، ولكن في خضم هذه الاضطرابات، دعا إلى تعميق الصداقة بين إسرائيل والولايات المتحدة باعتبارهما أقوى حليفين على المستوى العالمي، وأبدى تفهّمه لرغباتها باعتبارها القوة العظمى في العالم، والرئيس "أوباما" يدرك أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة التي تقف على تلّة المنطقة وهي دائماً محل تهديد.
في الحقيقة لم يكن "نتانياهو" وحده متميزاً في التشدد باعتباره يمينياً متطرّفاً، بشأن القضايا المختلفة وخاصةً القضية الفلسطينية لصالح الدولة الإسرائيلية، فقد ثبت على مدى التاريخ الإسرائيلي أن جميع الحكومات الإسرائيلية منذ رئيسها الأول "دافيد بن غوريون" كانت في كل مرّة تجد نفسها في مأزق، تلجأ وبسرعة أكبر إلى ابتداع ما لا يخطر على البال سواء في المجال السياسي أو الأمني، بدءاً من إسقاط الحكومة أو افتعال الأزمات العسكرية أو المطالبة بمعجزات لا يُعرف لها رأس من ذيل. فكل الحكومات على مدار 66 عاماً، أثبتت بأنها لا تستوفي الحد الأدنى لمعايير السلام المأمولة عربياً ودولياً.
لكن "نتانياهو" في هذه المرّة أوغل بعيداً عن أسلافه، بشأن ربط التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين بالقنبلة النووية الإيرانية، إذ لم يحدث بالإطلاق أن ربط أحدهم مصير القضية الفلسطينية على سبيل المثال بالقنبلة الباكستانية وقد تردد حينها بأنها قنبلة العرب.
إعلان "نتانياهو" ولا شك سيكون له صدىً مزعجاً لدى العرب والفلسطينيين بشكلٍ خاص، لما سيشكله من صدمة للجانب الفلسطيني، باعتباره انحداراً خطراً أمام المفاوضات الجارية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، على عكس الإدارة الأمريكية التي ربما تفهم أن يُراد من ورائه، الضغط على الولايات المتحدة لعدم انجرارها بسهولة أمام قادة إيران بشأن توقيع أيّ اتفاق معهم، لا سيما في ضوء تفوّهات رئاسية أمريكية تدل على أن العمل على وقف برنامج إيران النووي لن يكون واقعياً. ولكن إذا ما كان "نتانياهو" جاداً في ضرورة التمسك بهذا المطلب، فماذا ستفعل الولايات المتحدة وماذا سيفعل العرب والفلسطينيون؟. "نتانياهو" يجب أن يفهم بأنّه حصل من الولايات المتحدة وخاصةً في فترة "أوباما" على الكثير من حريّة العمل ضد الفلسطينيين. وإذا ما أراد التجاوز إلى ما لا يُحتمل بشأن تحريك المسيرة السياسية، وامتنعت الولايات المتحدة عن كفّه عن التمادي في ابتداعاته الخيالية، فعلى المجتمع الدولي إذاً تحمّل مسؤولياته باتجاه تلك التجاوزات.
خانيونس/فلسطين
9/12/2013
د. عادل محمد عايش الأسطل
ارتفاع قيمة تكاليف الإقلاع إلى دولة جنوب أفريقيا للمشاركة في تشييع الزعيم الأفريقي "نيلسون مانديلا" كانت سبباً قويّاً وكافياً في نفس الوقت ليتعذّر به رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" لإلغاء مشاركته في مراسم التشييع المقررة في الخامس عشر من الشهر الجاري، وإن كان للحكاية سبباً آخر يقف وراء إلغاء الرحلة، وهو بسبب فتور العلاقة مع الدولة الأفريقية منذ تولي "مانديلا" مقاليد الحكم في البلاد، حيث كان له الفضل في تغيير مواقف الدولة السياسية إزاء تطورات القضية الفلسطينية وممارسات الدولة الصهيونية العنيفة ضد الفلسطينيين بشكلٍ عام، بعدما كانت في عهد حكم البيض – العنصري- من أشد حلفاء إسرائيل باعتبارهما يشتركان في عددٍ من السمات وعلى رأسها انتهاك حقوق الإنسان، وممارسات الأبرتايد ضد سكان البلاد الأصليين إلى جانب التعاونات البارزة في المجالات النووية وغيرها من المجالات العسكرية والأمنية والمخابراتية الأخرى.
وكما يبدو فإن علو التكاليف ذاتها، كانت وراء اقتصاره على إرساله (كاسيت) يتضمن كلمة تحمل في طياتها ثلاث رسائل سياسية مختلفة، تم تشغيلها أمام المنتدى الإسرائيلي (سابان) العاشر، المنعقد في العاصمة الأمريكية واشنطن، وإن كان في الحقيقة من عدم ركوبه إلى هناك، هو تفادى الوقوع في الحرج والانتقاد لسياسته ضد الفلسطينيين وخشية مواجهة أفكار ومقترحات (سابان) بشأن مشاريع الحلول القادمة للقضية الفلسطينية، والتي بالتأكيد ستكون متطابقة أو قريبةً من المقترحات والأفكار الأمريكية، التي لا تتماشى كثيراً مع الرغبات الإسرائيلية وحكومة "نتانياهو" تحديداً، لا سيما وأن المؤتمر يعتبر واحداً من المراكز الأقل تشدداً بالنسبة لإسرائيل والأكثر اهتماماً بشأن تشجيع السلام العربي- الإسرائيلي من خلال الحرص على المساهمة في البحث عن مشاريع مقبولة لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي.
ليس مستعرباً أن يمتنع "نتانياهو" عن المغادرة ولو بمترٍ واحدٍ عن محل إقامته، وليس جديداً أن يتكلّم في كل دقيقة عن استعداده لإنجاز مشروع سلام تاريخي وحقيقي مع الفلسطينيين، ولكن ما كان مفاجئاً وأكثر غرابةً، أن يتحدث – كرسالة أولى- ولأول مرة بشكل علني بين فهمه لفرص السلام مع الفلسطينيين ومشروع إيران النووي، حينما أعلن أمام (سابان) في كلمته المسجلة، بأن لا فرصة لعقد اتفاق سلام مع الفلسطينيين إذا امتلكت إيران سلاحاً نووياً، وأكّد بالضرورة على وجوب الطلب من إيران بقيامها بتغيير كاملٍ لكافة مخرجات سياساتها وليس فقط تلك المتعلقة بالبرنامج النووي.
"نتنياهو" برر إعلانه هذا، على أساس تخيلاته بأن إيران النووية ستسعى للتآمر ضد أيّة خطوة سياسية، وستقوم بتدمير إمكانية تحقيق السلام، أو ضد السلام الذي تم تحقيقه إلى الآن وبسبب أن امتلاك إيران لأسلحة نووية من شأنه أن يقوّض جهود السلام ومن ثمّ تنفيذ تهديدات سابقة لتدمير دولة إسرائيل. لذلك فقد شدد "نتانياهو" على ضرورة الأخذ أثناء محادثات التسوية في جنيف بالتغيير التام والشامل في السياسة الإيرانية وأن يتضمن كل اتفاق نهائي تدمير قدراتها النووية، حتى يتمكن نتانياهو" من تقديم السلام. لذلك فقد رأى بدايةً، ضرورة الإبقاء على العقوبات المفروضة وعدم إدخال أية تسهيلات عليها حتى تكون سياستها مقبولة لدى إسرائيل والمجتمع الدولي. وشدد على أن الجهود المبذولة لتحقيق السلام مع الفلسطينيين لن تحقق شيئاً إذا حصلت إيران على أسلحة نووية.
وكرسالة ثانية، أراد "نتانياهو" قطع الطريق أمام (سابان) بشأن استمراره في البحث عن مشاريع ملائمة للقضية الفلسطينية، من خلال أن لديه تسوية تاريخية جاهزة للسلام، ومدعياً باستجابته لتعابير الرئيس الأمريكي "باراك أوباما" ووزير خارجيته "جون كيري" من أن السلام بين إسرائيل والفلسطينيين أمر ممكن، وأقرب من أي وقت مضى. حيث أعلن بأن الصراع مع الفلسطينيين لا يمثل مصدر وسبب المشاكل في منطقة الشرق الأوسط والصراع لا يتعلق بالحدود أو المستوطنات، بل برفض الفلسطينيين الاعتراف بالدولة اليهودية، مهم يعلمون أن هذا هو الشرط الأساسي للسلام، كما هو شرطاً للاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد أبدى استعداده لاتخاذ القرارات الصعبة لأن محاولة التوصل إلى تسوية – كما يزعم- هو خيار استراتيجي بالنسبة لحكومة إسرائيل. ومن ناحيةٍ أخرى - رسالة ثالثة- فقد عكف "نتانياهو" على تحجيم مختلف التوترات الشخصية والتضادات السياسية مع الولايات المتحدة، وجاهد في استدرار عطفها، حينما أشار إلى جملة الاضطرابات الهائلة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، والتي أدّت إلى زيادة العنف وعدم الاستقرار في أنحائها، ولكن في خضم هذه الاضطرابات، دعا إلى تعميق الصداقة بين إسرائيل والولايات المتحدة باعتبارهما أقوى حليفين على المستوى العالمي، وأبدى تفهّمه لرغباتها باعتبارها القوة العظمى في العالم، والرئيس "أوباما" يدرك أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة التي تقف على تلّة المنطقة وهي دائماً محل تهديد.
في الحقيقة لم يكن "نتانياهو" وحده متميزاً في التشدد باعتباره يمينياً متطرّفاً، بشأن القضايا المختلفة وخاصةً القضية الفلسطينية لصالح الدولة الإسرائيلية، فقد ثبت على مدى التاريخ الإسرائيلي أن جميع الحكومات الإسرائيلية منذ رئيسها الأول "دافيد بن غوريون" كانت في كل مرّة تجد نفسها في مأزق، تلجأ وبسرعة أكبر إلى ابتداع ما لا يخطر على البال سواء في المجال السياسي أو الأمني، بدءاً من إسقاط الحكومة أو افتعال الأزمات العسكرية أو المطالبة بمعجزات لا يُعرف لها رأس من ذيل. فكل الحكومات على مدار 66 عاماً، أثبتت بأنها لا تستوفي الحد الأدنى لمعايير السلام المأمولة عربياً ودولياً.
لكن "نتانياهو" في هذه المرّة أوغل بعيداً عن أسلافه، بشأن ربط التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين بالقنبلة النووية الإيرانية، إذ لم يحدث بالإطلاق أن ربط أحدهم مصير القضية الفلسطينية على سبيل المثال بالقنبلة الباكستانية وقد تردد حينها بأنها قنبلة العرب.
إعلان "نتانياهو" ولا شك سيكون له صدىً مزعجاً لدى العرب والفلسطينيين بشكلٍ خاص، لما سيشكله من صدمة للجانب الفلسطيني، باعتباره انحداراً خطراً أمام المفاوضات الجارية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، على عكس الإدارة الأمريكية التي ربما تفهم أن يُراد من ورائه، الضغط على الولايات المتحدة لعدم انجرارها بسهولة أمام قادة إيران بشأن توقيع أيّ اتفاق معهم، لا سيما في ضوء تفوّهات رئاسية أمريكية تدل على أن العمل على وقف برنامج إيران النووي لن يكون واقعياً. ولكن إذا ما كان "نتانياهو" جاداً في ضرورة التمسك بهذا المطلب، فماذا ستفعل الولايات المتحدة وماذا سيفعل العرب والفلسطينيون؟. "نتانياهو" يجب أن يفهم بأنّه حصل من الولايات المتحدة وخاصةً في فترة "أوباما" على الكثير من حريّة العمل ضد الفلسطينيين. وإذا ما أراد التجاوز إلى ما لا يُحتمل بشأن تحريك المسيرة السياسية، وامتنعت الولايات المتحدة عن كفّه عن التمادي في ابتداعاته الخيالية، فعلى المجتمع الدولي إذاً تحمّل مسؤولياته باتجاه تلك التجاوزات.
خانيونس/فلسطين
9/12/2013