بطل السلام "إسحاق رابين" !
د. عادل محمد عايش الأسطل
في الأواخر من كل عام، يحتفل الكثيرون بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حدً سواء، بذكرى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي "إسحق رابين"، باعتباره رجل السلام الرهيب، الذي ذهب - لسوء الجظ - دون إكمال المسيرة السياسية، بسبب اليد الأصولية المتطرفة التي امتدّت إلية وعقرته فجأة ومن دون أوان أو استئذان، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1994.
إذ لو بقي على قيد الحياة - كما يقولون في اليسار على الأقل- لتحقق السلام بحذافيره، ولنعِمت الدولة الإسرائيلية بالأمن والنّماء، ولو أمدّ الله بعمرهِ - كما يقول المؤمنون به من الفلسطينيين، ومن يشهدون معهم من العرب - لكانت فلسطين مستقلة ودولة عظمى.
في إسرائيل، يئسوا من انتظار تكرار جرعة إضافية من صنف "رابين"، باعتباره قاد إسرائيل ذات يوم إلى السلام من خلال صراحته الصارخة، وقيامه بعرض حقائق مؤلمة يجب على الإسرائيليين تحمّلها، بسبب أن خطوة السلام الشجاعة تحتاج إلى ثمن، حتى "بنيامين نتانياهو" رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي عارض (أوسلو)، أعرب عن تقديره له، واعتبره حكيماً جيّدا، واعترف بأنه كان قائداً واقعياً.
لقد منح إسرائيل أمل السلام، منذ لحظة توقيعه اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر عام 1993، برغم الجدل الكبير في الرأي العام الإسرائيلي، وقد استفاد جائزة نوبل للسلام مع وزير الخارجية في عهده "شمعون بيريس"، ورئيس السلطة الفلسطينية الراحل "ياسر عرفات"، بناءً على نواياه الطيبة باتجاه السلام، ومن ناحية أخرى، كان له الفضل الأكبر في تعظيم العلاقة الإسرائيلية مع الغرب والولايات المتحدة تحديداً، حيث وصلت ذروتها بالمقارنة مع العلاقة القاسية والحاصلة الأن، التي جعلها "نتانياهو" في درجات الحضيض.
لا أحد يمكنه الاعتراض على الإسرائيليين المحتفلين من أجله – ولهم الحق- بشأن ما يزعمون به، بسبب نسبة انتمائهم العالية للتيار الذي يقوده، ولِعلّة ثقتهم الكبيرة في شخصه، بأن له القدرة في تحقيق السلام، بدون التفريط بمسألة الأمن الإسرائيلية، إضافة إلى ما جمعوه من محاسن اجتماعية وإنسانية أضافت لسياسته ميزات جليلة القدر وعظيمة الذِكر، باعتباره يحمل بين جوانحه إنساناً آخر أكثر إنسانية، ولذلك كان جديراً لأن يحفروا في ذاكرتهم اسمه الذي أطلقوه على العديد من أمكنة ومؤسسات إسرائيلية، ومنها ميدان "رابين" ومعهد "رابين" للسلام.
كما لا يمكن الاعتراض على الفلسطينيين أيضاً، وخاصةً الذين استسلموا له تماماً- وكأنّ على رؤوسهم الطير- في مسألة إقناعه لهم بأنه رجل سلام، وبأنه ولا أحد غيره يستطيع صنع السلام باتجاههم، حيث أصبحوا بعد موته بلحظة واحدة، أكثر رهبة وأشد رعباً، بسبب شعورهم بفقدان الأمل في جلب الحلول المواتية، وإحساسهم بأن حجر أساس الدولة الفلسطينية قد تفتت، وأصبح رماداً هامداً.
لقد فقدنا رجلاً شجاعاً ومقاتلاً صارماً، ليس هناك قادة مثله اليوم، باعتباره دفع ثمن الاعتراف بالشعب الفلسطيني، رغم أنه لم يكن جزءاً من العائلة الفلسطينية، هذا ما يقوله أشخاص رسميون في السلطة الفلسطينية، على مدار المدّة الفائتة وفي كل مناسبة، وحتى في ذكرى رحيله.
في إسرائيل لا يظهرون سوءات زعيمهم، باعتبارها نادرة، والتي انحصرت في أنه كان سبباً في وصول الدولة إلى هذه المرحلة من الحرج، من خلال اتفاق أوسلو، الذي تسبب في ضعفها وكسوفها، أمام الكل من الحلفاء والأصدقاء، بسبب تعامله المُفرِط بشأن القضية الفلسطينية، أو فيما كان يُكنّه باتجاه منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، حيث كان نقيضاً بارزاً لها.
الفلسطينيون تناسوا بالكامل سوءاته، التي فاقت محاسنه بالنسبة لهم، والتي ظهر عليها، فـحقيقة "رابين" أنه كان أحد عناصر (البالماخ) الجيّدين- قوّة عسكرية مجنّدة من اليهود قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، التي أبلت بلاءً شاسعاً ضد أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم، كما تناسوا كيف جرف عظام عدّة جيوش عربية، عندما خاض حرب الأيام الستة ضدّها عام 1967، حيث كان يشغل منصب رئيس الأركان والقائد الأكبر في صفوف الجيش الإسرائيلي.
كما تركوا وراء ظهورهم أن كان له الفضل الكبير في ضرب - ومن غير رحمة- الانتفاضة الفلسطينية الأولى وكسر عظامها، حيث استطاعت يده الحديدية من احتواءها وفرض اتفاق أوسلو ببساطة، وغاب عنهم أنه لم يكن يقصد بالسلام ما يقصده الفلسطينيين.
فعلى الرغم من إظهاره بأنه رجل سلام، وبأن لديه احترام باتجاه الفلسطينيين، لكنه لم يدعم أبداً إقامة دولة فلسطينية، بسبب أدراكه بأن التحديات الأمنيّة المعقدة التي تواجه الدولة اليهودية، تحول دون قيامه بذلك، سيما وأنه كانت لديه شكوك واسعة بالنوايا الحقيقية للقيادة الفلسطينية.
كما لم يتوقع مطلقاً، إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بكاملها، حيث تجمّدت أيديولوجيته عند نقطة، والتي تنضح بأن تواجد دولة فلسطينية في المنطقة، فستكون بداية النهاية للدولة الإسرائيلية، هذا ما أفصح عنه بجلاء في إحدى خطاباته منذ العام 1974، وفي خطابه أمام الكنيست، قبل شهر واحدٍ من اغتياله، قام بتوضيح مسألة، أنه لا يمكن العودة إلى خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، لأنه لا يمكن الدفاع عنها.
خانيونس/فلسطين
29/10/2015
د. عادل محمد عايش الأسطل
في الأواخر من كل عام، يحتفل الكثيرون بين الإسرائيليين والفلسطينيين على حدً سواء، بذكرى اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي "إسحق رابين"، باعتباره رجل السلام الرهيب، الذي ذهب - لسوء الجظ - دون إكمال المسيرة السياسية، بسبب اليد الأصولية المتطرفة التي امتدّت إلية وعقرته فجأة ومن دون أوان أو استئذان، في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1994.
إذ لو بقي على قيد الحياة - كما يقولون في اليسار على الأقل- لتحقق السلام بحذافيره، ولنعِمت الدولة الإسرائيلية بالأمن والنّماء، ولو أمدّ الله بعمرهِ - كما يقول المؤمنون به من الفلسطينيين، ومن يشهدون معهم من العرب - لكانت فلسطين مستقلة ودولة عظمى.
في إسرائيل، يئسوا من انتظار تكرار جرعة إضافية من صنف "رابين"، باعتباره قاد إسرائيل ذات يوم إلى السلام من خلال صراحته الصارخة، وقيامه بعرض حقائق مؤلمة يجب على الإسرائيليين تحمّلها، بسبب أن خطوة السلام الشجاعة تحتاج إلى ثمن، حتى "بنيامين نتانياهو" رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي عارض (أوسلو)، أعرب عن تقديره له، واعتبره حكيماً جيّدا، واعترف بأنه كان قائداً واقعياً.
لقد منح إسرائيل أمل السلام، منذ لحظة توقيعه اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر عام 1993، برغم الجدل الكبير في الرأي العام الإسرائيلي، وقد استفاد جائزة نوبل للسلام مع وزير الخارجية في عهده "شمعون بيريس"، ورئيس السلطة الفلسطينية الراحل "ياسر عرفات"، بناءً على نواياه الطيبة باتجاه السلام، ومن ناحية أخرى، كان له الفضل الأكبر في تعظيم العلاقة الإسرائيلية مع الغرب والولايات المتحدة تحديداً، حيث وصلت ذروتها بالمقارنة مع العلاقة القاسية والحاصلة الأن، التي جعلها "نتانياهو" في درجات الحضيض.
لا أحد يمكنه الاعتراض على الإسرائيليين المحتفلين من أجله – ولهم الحق- بشأن ما يزعمون به، بسبب نسبة انتمائهم العالية للتيار الذي يقوده، ولِعلّة ثقتهم الكبيرة في شخصه، بأن له القدرة في تحقيق السلام، بدون التفريط بمسألة الأمن الإسرائيلية، إضافة إلى ما جمعوه من محاسن اجتماعية وإنسانية أضافت لسياسته ميزات جليلة القدر وعظيمة الذِكر، باعتباره يحمل بين جوانحه إنساناً آخر أكثر إنسانية، ولذلك كان جديراً لأن يحفروا في ذاكرتهم اسمه الذي أطلقوه على العديد من أمكنة ومؤسسات إسرائيلية، ومنها ميدان "رابين" ومعهد "رابين" للسلام.
كما لا يمكن الاعتراض على الفلسطينيين أيضاً، وخاصةً الذين استسلموا له تماماً- وكأنّ على رؤوسهم الطير- في مسألة إقناعه لهم بأنه رجل سلام، وبأنه ولا أحد غيره يستطيع صنع السلام باتجاههم، حيث أصبحوا بعد موته بلحظة واحدة، أكثر رهبة وأشد رعباً، بسبب شعورهم بفقدان الأمل في جلب الحلول المواتية، وإحساسهم بأن حجر أساس الدولة الفلسطينية قد تفتت، وأصبح رماداً هامداً.
لقد فقدنا رجلاً شجاعاً ومقاتلاً صارماً، ليس هناك قادة مثله اليوم، باعتباره دفع ثمن الاعتراف بالشعب الفلسطيني، رغم أنه لم يكن جزءاً من العائلة الفلسطينية، هذا ما يقوله أشخاص رسميون في السلطة الفلسطينية، على مدار المدّة الفائتة وفي كل مناسبة، وحتى في ذكرى رحيله.
في إسرائيل لا يظهرون سوءات زعيمهم، باعتبارها نادرة، والتي انحصرت في أنه كان سبباً في وصول الدولة إلى هذه المرحلة من الحرج، من خلال اتفاق أوسلو، الذي تسبب في ضعفها وكسوفها، أمام الكل من الحلفاء والأصدقاء، بسبب تعامله المُفرِط بشأن القضية الفلسطينية، أو فيما كان يُكنّه باتجاه منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، حيث كان نقيضاً بارزاً لها.
الفلسطينيون تناسوا بالكامل سوءاته، التي فاقت محاسنه بالنسبة لهم، والتي ظهر عليها، فـحقيقة "رابين" أنه كان أحد عناصر (البالماخ) الجيّدين- قوّة عسكرية مجنّدة من اليهود قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948، التي أبلت بلاءً شاسعاً ضد أرواح الفلسطينيين وممتلكاتهم، كما تناسوا كيف جرف عظام عدّة جيوش عربية، عندما خاض حرب الأيام الستة ضدّها عام 1967، حيث كان يشغل منصب رئيس الأركان والقائد الأكبر في صفوف الجيش الإسرائيلي.
كما تركوا وراء ظهورهم أن كان له الفضل الكبير في ضرب - ومن غير رحمة- الانتفاضة الفلسطينية الأولى وكسر عظامها، حيث استطاعت يده الحديدية من احتواءها وفرض اتفاق أوسلو ببساطة، وغاب عنهم أنه لم يكن يقصد بالسلام ما يقصده الفلسطينيين.
فعلى الرغم من إظهاره بأنه رجل سلام، وبأن لديه احترام باتجاه الفلسطينيين، لكنه لم يدعم أبداً إقامة دولة فلسطينية، بسبب أدراكه بأن التحديات الأمنيّة المعقدة التي تواجه الدولة اليهودية، تحول دون قيامه بذلك، سيما وأنه كانت لديه شكوك واسعة بالنوايا الحقيقية للقيادة الفلسطينية.
كما لم يتوقع مطلقاً، إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية بكاملها، حيث تجمّدت أيديولوجيته عند نقطة، والتي تنضح بأن تواجد دولة فلسطينية في المنطقة، فستكون بداية النهاية للدولة الإسرائيلية، هذا ما أفصح عنه بجلاء في إحدى خطاباته منذ العام 1974، وفي خطابه أمام الكنيست، قبل شهر واحدٍ من اغتياله، قام بتوضيح مسألة، أنه لا يمكن العودة إلى خطوط الرابع من يونيو/حزيران 1967، لأنه لا يمكن الدفاع عنها.
خانيونس/فلسطين
29/10/2015