باسمه سبحانه
وإن من شئ إلا يسبح بحمده
[align=justify]
" أقدم هذا الطرح كوفاء لكل من يدرك أنه إنسان - ليس إنسان بمعنى أن لديه عواطف ومشاعر يتعايش بها مع الآخر على حساب الآخر - بل لديه شعور يدفعه أن يبحث عن سبل التعايش مع هذا الآخر والنهوض به فى مسار الحياة - وكلامى بخصوص للمرأة التى تدرك دورها وكيانها الحضارى كأحد أعمدة البناء الهامة ـ ولاتتنكر لهذا الدور بإستهلاكها لذاتها وذوات الآخرين "
الوعى : الأداة الأولى لحضور الذات – وذات بلاوعى لايمكنها أن تدعى البناء – فالذات اللاواعية – هى ذات مستحمرة ومستهلكة .
نعيش الآن أزمة فكرية أفرزت أزمة حضارية وربما العكس . والاستغلاب والسلطوية قيود تسيطر على العقل لتبعده عن الاقتراب من نافذة الوعى .
فالسلطوية والاستغلاب هما من نتاج الاستحمار و الاستعمار الاجنبى ، فالمستعمر ترك لنا مستحِمر آخر فى بلادنا ، فظلت سطوته على عقولنا ولم تنقضى بمسميات متنوعة يجمعها اللاوعى والاستحمار. مسميات كالمذهبية والطائفية والأحادية والعنصريات القومية والتبعية والتفويض والتقليد والتغريب.
حضور الذات:
لا يتحقق الحضور لأى ذات ؛ إلا بعد شرارة من الوعى – وشرارة الوعى لايمكن أن تكون مستوردة – فالوعى المستورد لايبنى للذات حضارة وإنما يبنى ذات تستهلك إنتاج الحضارة المستوردة.
ففكرة الوعى والعودة للذات نظر وسطر لها من قبل ؛ المصلح الأممى جمال الدين الأفغانى والمفكر الجزائرى مالك بن نبى والشهيد سيد قطب والشهيد على شريعتى ، وغيرهم من منظرى الفكر والإصلاح والتنوير .
سعى هؤلاء إلى البناء الحضارى للأمة من خلال إصلاح الذات ، أو بمعنى أدق إعداد هذه الذات حتى تكون قادرة على تحمل مسئولية الدور الحضارى الموجب عليها تحمله .
ولم يكن الاعتماد فى هذا البناء على الفكر المستورد ؛ لأن هذا الفكر يصنع جدارعـزل بين القديم والحديث ، يتسبب بعد ذلك فى أمراض تصيب العقول والذوات ، وأقرب ذلك ؛ حالة الإزدواج الفكرى التى نعايشها وتعصف بكيان مجتمعاتنا ، وهذا ما نسميه بغليان القاع .
والوعى لايقف على تقليد التراث دون تقديم وإفراز الجديد ، فهذا أشبه بمن يصطاد فى البحر الميت ؛ لن يجد شيئاً لأن البحربالفعل ميت . وهذا يمثل جمود وتحجر فى عقول الواقفين على قراءة قديمة وثابتة ويلبسونها وشاح العصمة وكأن هذه القراءة وقف من الله تعالى وليست وقف عقل بشرى تغيره الأزمنة والمناخات.
و الوعى لاينهض أيضاَ على الاستيراد ؛ لأنه يمثل حالة من التحجر والجمود ، فهو يمثل حالة من الخروج عن الذات والتفويض لتبعية الذات المستوردة .
ويشابه هذا وجهى العملة ، فكلاهما يمثل العملة ؛ فكذلك عندما تقوم الذات بحركة من البعث والإحياء بوجه التقليد أو بوجه الاستيراد ، فى الحالتين تمثل عملة التبعية والجمود والانحطاط والتحجر ، وهذا كله لايحقق أى بناء أو ينهض بحضارة .
الوعى والذات:
الوعى ينهض على التصحيح لكل ما نملك من تراث ؛ لإعداد ذات فاعلة فى هذا التراث ، غير متنكرة أو مسيئة له ، فهو ينهض على الذات الغير مشوهة المصفاة من العلائق.
والمفكر الايرانى على شريعتى نهض ينظر لوصول أبناء أمته لحالة الوعى هذه ؛ دون تنكر لتراثه أو مستورداً لشرارة من الخارج.
فرغم معايشته للذات الغربية والإندماج بها ، لم ينهض ليبعث حضارة أمته بالاستيراد من الذات الغربية ، بل توجه لذاته مباشرة ولم ينكرها أو يتنكر لها ؛ لما أصابها من شوائب وعلائق أكتسبتها على مر الأزمنة وعلى مدار عواصف التاريخ ، وسعى لبناء مايسمى بـ "العودة للذات" ، والعودة هنا لاتعنى التقوقع أو الإنكفاء للمحافظة على للقديم ، وإنما الاعتراف و التواصل مع هذا التراث وإدخاله لحركة من التصحيح والتصفية ، والقضاء على الحواجز التى عزلته عن الإتصال بالجديد مما أصابه بحالة من الموت والركود والتنكر له . وللذات عند شريعتى مكانة ، فهى تعد المرحلة الأولى فى إعداد البناء الحضارى
وكثيراً ما كان يركز على وصف هذه الذات بأنها تتمتع بكونها أولاً ذات انســان. أى تتمتع بصفة يتميز بها هذا الكائن بفرادة ، وهى تميزه بالوعى وبشعور الاستنارة .
حتى أن القرآن الكريم يشير إلى تلك النقطة كثيراً ، فعندما يجد بعض البشر لم يستمعوا أو لم يستجيبوا لكلمات الأنبياء ، كان يصف قلوبهم وعقولهم بأنها اما عقول وقلوب بهائم ، أو عقول وقلوب متحولة كالصخور .
وبذلك يعلن القرآن الكريم ، أننا لكى نكون متمتعين بصفة انسان ، يجب أن يكون لدينا الوعى والشعور بذواتنا.
و يركز شريعتى أيضاً على كون هذه الذات تعمل فى إطار إجتماعى ، فلا سعادة لهذه لها ولا نجاح لمساعيها إلا فى إطار المجتمع التى تعيش فيه ، وغير ذلك تكون هذه هى محتالة ومستهلكة لمجتمعها . وهذه الرؤية تعد هدما لكثير من القراءات المغلقة والمتحجرة الحركة التى تحيط بنا هذه الأيام .
فالذات عند شريعتى يجب أن توصف بأنها فعالة ودائمة الحركة داخل إطارها الإجتماعى، فالاستيراد والانغلاق يعزل الذات عن مجتمعها بحاجز الصراع الفكرى .
والذات الواعية تمر بمراحل تخرجها من الإستهلاك إلى البناء ، كالشمعة تحتاج إلى شرارة تحركها ، حتى تخرج من حالة السكون والموت إلى حالة الحركة والوعى بما لديها من نور يطل من رأسها ، وهذه المراحل تمثل مراحل الوعى الذى يبنى عليه تصحيح وحضور الذات فى معترك البناء الحضارى .
مرحلة اللاوعــى :
وهى المقياس الحقيقى لكون أمة من الأمم تتمتع بدرجة من الوعى بما لديها من معطيات حضارية أم أن هذه الأمة تعيش كالأنعام ، مجرد مستهلك ، وأى أمة يصيبها نوع من الازدواج الفكرى ، فهى تعيش فى هذه الحالة ، لأنه لن يكون لديها القدرة على أى معطى حضارى لترنح جهودها ومعطياتها بين القديم والحديث لأنها تعيش فى حالة فصل وعزل " فعقلين فى جسد واحد ، لايدل هذا على تضاعف ونمو القدرة على التفكير والإبداع ، بل يدل على الصراع وهباء الجهد والتفكير" .
وببسيط العبارة تعبر هذه المرحلة عن الذات التى تعيش فى حالة إظلام ، ليس لديها القدرة على إدراك ما تملك أو حتى ما يحيط بها من أشياء .
حتى أن هذه الذات تعيش فى حالة من الغيبوبة ، فأصحابها لا يكون لديهم أى وعى بمجتمعاتهم وأصولهم ، وعن مدى تقدمهم أو تأخرهم .
وكتطبيق عملي تنطبق هذه المرحلة أيضا على الكثير ممن يتعلمون ، ولكنهم مجرد منتسبين إلى التعلم ، لأنهم يفتقدون إلى الوعى بما يقومون بتعلمه أو إلى ماذا يقودهم ، وكأنهم يعيشون بلا إرادة أو حركة ، والمستغلبون والمستحمرون بالفعل نجحوا فى بناء هذه الذات الغير واعية ، التى جعلوها كحمار فى عربة لايعرف أين نهاية الطريق لأنه ليس له الحق فى أن يفكر ، بل يعيش تحت وطأة فكر سيده .
مرحلة الوعى باللاوعى :
وهى المرحلة التى ترى فيها الذات بصيصا من النور ، أو تصيبها شرارة من الوعى فتصيبها بصدمة عندما تدرك مالديها من "لاوعى " بعدما ساعدتها الشرارة فى إدراك صورتها الحقيقية داخل مرآة المعرفة والتثقيف .
وتمثل هذه المرحلة بدايات ظهور ذات متمتعة بقدر من الثورية على كل ما يفسد وعيها ، ويعتمد ظهور هذه المرحلة من مراحل وعى الذات على كلمات المفكرين الثوريين ، فليسوا مفكرين فقط ؛لأنهم قد يكونوا مفكريين مستوردين للفكر ، وليسوا ثوريين فقط لأنهم قد يكونوا ثوار بفم أجوف ، ليس لديه ما يقوله ، مجرد صراخ فى قاع بحر لرجل يحتضر الموت.
فالشرارة التى تأتى من مقلد للقديم تحرق وتهلك من يقتبس منها ، والشرارة التى تأتى من مستورد ؛ تنير لتهدى السبيل لمستهلكنا ، على حساب إستمرارية ظلمتنا بالتبعية . فهذه المرحلة تعد تسائل لكل ذات ، فى أى مرحلة تقف ؟
وفى هذه المرحلة تخرج الذات من إطار الحيوانية المستهلكة ، إلى اطار الذات الإنسانية ذات الدور المنتج .
وفى مرحلة كهذه ؛ تحتاج الذات إلى نوعية خاصة من القراءة ، حتى تقف لحظة وتسأل نفسها ماذا أملك ؟ وماذا قدمت بدورى كإنسان يعيش داخل إطار المجتمع . ؟
وحينها يتنبه الفرد لمجتمعه ولنفسه ويعى أنه كان فى حالة من الإنغلاق ، ويعيش فى عزلة ، متقاعصا عن دوره المنوط له داخل المجتمع . وأن ذاته لا تملك إلا الانانية ، والفردية ، فهى تعيش لإشباع نفسها فقط بإستهلاك مجتمعها .
وبالنظر للمرأة مثلاً ، نجدها ظهرت فى كثير من الأمم بصورتين متناقضتين ، اما بصورة امرأة تربي وتعد الجيل وتعلمهم كيف يكونوا بنائين لإطارهم الحضارى " وهى المرأة المتمتعة بذات تحمل حالة من الوعى " ، واما بصورة أمرأة لا تعرف إلا الإستهلاك ، لكل شئ لوقتها ، لفكرها ، حتى لرجلها مهمتها أن تستهلك طاقته وماله .
حتى لو فتشنا عن مصادر ثقافتها نجدها لا تقرأ إلا فى مجالات الإستهلاك كمجلات الموضة والعطور وغيرها .
وهنا نجح المستغلبون والمستحمرون فى أن يصنعوا منها متشبهة بالحرية والتحرر صوب شراء واستهلاك منتج حضارتهم ، تحت سقف التحرر والتنوير الخاطئ .
وهذه المرأة البائسة تكون بحاجة فعلا إلى مرحلة شرارة الوعى هذه التى تخرجها من ظلمتها .
مرحلة الوعى :
تعبر هذه المرحلة عن ذات شبه متكاملة ، ويمثل هذه المرحلة " المثقف " ، ولكن ليس أى مثقف ، فليس مجرد التنمق بالتعبيرات والدلالات والمصطلاحات ، دلالة على كون هذه الذات مثقفة ، إنما الأهم هو منتوج هذه الثقافة وهى كلمة " مسؤول " أى مسؤولية هذه الذات عن الدور الحضارى المفروض عليها القيام به .
والدلالة على كون الذات تتمتع بهذه المرحلة ، الطفرة والحالة التى تعتريها من وعى بكل ما حولها ، حتى أنها تكون قادرة على إستيعاب ماضيها وحاضرها .
وفى هذه المرحلة تكون الذات بوعيها قادرة على فهم ماضيها وتراثها بشئ من النباهة ، فتتمكن من إنقاذه من شوائب وعلائق التاريخ ومسخ القراءة والفهم.
لكن لكى تصل الذات إلى هذه الصورة ، فانها تحتاج إلى جهد ووعى كبير ، وعلة هذه الصعوبة تعدد عوامل المسخ والهدم ، ووجود أزمة التقليد والإستيراد .
فعندما تقدم معطيات فكرية جاهزة ، إلى ذات بــ " لاوعى " ، تقوم هذه الذات الغير واعية بعرض إجابتين لعلة أزمتها وتخوفها .
فإن كان المعطى الفكرى يعبر عن قراءة فى الماض : فإن هذا المعطى يتهم بالتخلف والرجعية ، وإن كان يعبر عن قراءة بما سيؤول عليه حالنا فى المستقبل أو حتى فى الحاضر : يتهم بالإنقلابية والهدم .
كل هذا لأن الذات المستقبلة لهذه المعطيات الفكرية ، غير مجهزة وقد تكون أيضا مستحمرة ، فترفض كل حركة استنارة ، أو أى شرارة وعى تصيبها .
والأمة التى تتمتع بهذه المرحلة من الوعى ، فهذا يعبر عن كونها فى إطار البناء وخارجة عن الاستهلاك ، وأنها فى خروج من عباءة الاستحمار والتبعية ، وتمضى فى بناء حضارة الذات والهوية .
مرحلة الوعى بالوعى :
تعبر هذه المرحلة عن قمة وذروة الوعى ، الذى لا يتمتع به إلا صفوة الأمم وهم " المفكرون " ، فهم مشاعل النور ، والمخططين لهيكل البناء الحضارى ، والقادرين على قيادة الأمم فى مسيرة الحضارة الإنسانية.
وفى مرحلة كهذه ، يكون المفكر هو من لديه حالة من الوعى بمجتمعه ، وقد يكون مجتمعه على العكس من ذلك ؛ ليس لديه وعى بهذا المفكر .
وهنا بالفعل يبرز المفكر الحقيقى ، فالمفكر ليس من تكتب عنه الأقلام ، أو تصفه بكذا وكذا ، وإنما من يعيش لإدراك مجتمعه ، ويعمل على القيام بدوره الحضارى داخل المجتمع ، لتتحقق فيه صفة المسؤولية.
وهنا يبرز من ينظر ويسطر التخطيط لهيكل أمته الحضارى، وعلى ضوء هذا التنظير تستنير الذات لتأتى لمرحلة مابعد " الوعى " وهى " الحضور ".
[/align]
وإن من شئ إلا يسبح بحمده
[align=justify]
" أقدم هذا الطرح كوفاء لكل من يدرك أنه إنسان - ليس إنسان بمعنى أن لديه عواطف ومشاعر يتعايش بها مع الآخر على حساب الآخر - بل لديه شعور يدفعه أن يبحث عن سبل التعايش مع هذا الآخر والنهوض به فى مسار الحياة - وكلامى بخصوص للمرأة التى تدرك دورها وكيانها الحضارى كأحد أعمدة البناء الهامة ـ ولاتتنكر لهذا الدور بإستهلاكها لذاتها وذوات الآخرين "
الوعـــى شرارة المشعل الحضارى
الوعى : الأداة الأولى لحضور الذات – وذات بلاوعى لايمكنها أن تدعى البناء – فالذات اللاواعية – هى ذات مستحمرة ومستهلكة .
نعيش الآن أزمة فكرية أفرزت أزمة حضارية وربما العكس . والاستغلاب والسلطوية قيود تسيطر على العقل لتبعده عن الاقتراب من نافذة الوعى .
فالسلطوية والاستغلاب هما من نتاج الاستحمار و الاستعمار الاجنبى ، فالمستعمر ترك لنا مستحِمر آخر فى بلادنا ، فظلت سطوته على عقولنا ولم تنقضى بمسميات متنوعة يجمعها اللاوعى والاستحمار. مسميات كالمذهبية والطائفية والأحادية والعنصريات القومية والتبعية والتفويض والتقليد والتغريب.
حضور الذات:
لا يتحقق الحضور لأى ذات ؛ إلا بعد شرارة من الوعى – وشرارة الوعى لايمكن أن تكون مستوردة – فالوعى المستورد لايبنى للذات حضارة وإنما يبنى ذات تستهلك إنتاج الحضارة المستوردة.
ففكرة الوعى والعودة للذات نظر وسطر لها من قبل ؛ المصلح الأممى جمال الدين الأفغانى والمفكر الجزائرى مالك بن نبى والشهيد سيد قطب والشهيد على شريعتى ، وغيرهم من منظرى الفكر والإصلاح والتنوير .
سعى هؤلاء إلى البناء الحضارى للأمة من خلال إصلاح الذات ، أو بمعنى أدق إعداد هذه الذات حتى تكون قادرة على تحمل مسئولية الدور الحضارى الموجب عليها تحمله .
ولم يكن الاعتماد فى هذا البناء على الفكر المستورد ؛ لأن هذا الفكر يصنع جدارعـزل بين القديم والحديث ، يتسبب بعد ذلك فى أمراض تصيب العقول والذوات ، وأقرب ذلك ؛ حالة الإزدواج الفكرى التى نعايشها وتعصف بكيان مجتمعاتنا ، وهذا ما نسميه بغليان القاع .
والوعى لايقف على تقليد التراث دون تقديم وإفراز الجديد ، فهذا أشبه بمن يصطاد فى البحر الميت ؛ لن يجد شيئاً لأن البحربالفعل ميت . وهذا يمثل جمود وتحجر فى عقول الواقفين على قراءة قديمة وثابتة ويلبسونها وشاح العصمة وكأن هذه القراءة وقف من الله تعالى وليست وقف عقل بشرى تغيره الأزمنة والمناخات.
و الوعى لاينهض أيضاَ على الاستيراد ؛ لأنه يمثل حالة من التحجر والجمود ، فهو يمثل حالة من الخروج عن الذات والتفويض لتبعية الذات المستوردة .
ويشابه هذا وجهى العملة ، فكلاهما يمثل العملة ؛ فكذلك عندما تقوم الذات بحركة من البعث والإحياء بوجه التقليد أو بوجه الاستيراد ، فى الحالتين تمثل عملة التبعية والجمود والانحطاط والتحجر ، وهذا كله لايحقق أى بناء أو ينهض بحضارة .
الوعى والذات:
الوعى ينهض على التصحيح لكل ما نملك من تراث ؛ لإعداد ذات فاعلة فى هذا التراث ، غير متنكرة أو مسيئة له ، فهو ينهض على الذات الغير مشوهة المصفاة من العلائق.
والمفكر الايرانى على شريعتى نهض ينظر لوصول أبناء أمته لحالة الوعى هذه ؛ دون تنكر لتراثه أو مستورداً لشرارة من الخارج.
فرغم معايشته للذات الغربية والإندماج بها ، لم ينهض ليبعث حضارة أمته بالاستيراد من الذات الغربية ، بل توجه لذاته مباشرة ولم ينكرها أو يتنكر لها ؛ لما أصابها من شوائب وعلائق أكتسبتها على مر الأزمنة وعلى مدار عواصف التاريخ ، وسعى لبناء مايسمى بـ "العودة للذات" ، والعودة هنا لاتعنى التقوقع أو الإنكفاء للمحافظة على للقديم ، وإنما الاعتراف و التواصل مع هذا التراث وإدخاله لحركة من التصحيح والتصفية ، والقضاء على الحواجز التى عزلته عن الإتصال بالجديد مما أصابه بحالة من الموت والركود والتنكر له . وللذات عند شريعتى مكانة ، فهى تعد المرحلة الأولى فى إعداد البناء الحضارى
وكثيراً ما كان يركز على وصف هذه الذات بأنها تتمتع بكونها أولاً ذات انســان. أى تتمتع بصفة يتميز بها هذا الكائن بفرادة ، وهى تميزه بالوعى وبشعور الاستنارة .
حتى أن القرآن الكريم يشير إلى تلك النقطة كثيراً ، فعندما يجد بعض البشر لم يستمعوا أو لم يستجيبوا لكلمات الأنبياء ، كان يصف قلوبهم وعقولهم بأنها اما عقول وقلوب بهائم ، أو عقول وقلوب متحولة كالصخور .
وبذلك يعلن القرآن الكريم ، أننا لكى نكون متمتعين بصفة انسان ، يجب أن يكون لدينا الوعى والشعور بذواتنا.
و يركز شريعتى أيضاً على كون هذه الذات تعمل فى إطار إجتماعى ، فلا سعادة لهذه لها ولا نجاح لمساعيها إلا فى إطار المجتمع التى تعيش فيه ، وغير ذلك تكون هذه هى محتالة ومستهلكة لمجتمعها . وهذه الرؤية تعد هدما لكثير من القراءات المغلقة والمتحجرة الحركة التى تحيط بنا هذه الأيام .
فالذات عند شريعتى يجب أن توصف بأنها فعالة ودائمة الحركة داخل إطارها الإجتماعى، فالاستيراد والانغلاق يعزل الذات عن مجتمعها بحاجز الصراع الفكرى .
والذات الواعية تمر بمراحل تخرجها من الإستهلاك إلى البناء ، كالشمعة تحتاج إلى شرارة تحركها ، حتى تخرج من حالة السكون والموت إلى حالة الحركة والوعى بما لديها من نور يطل من رأسها ، وهذه المراحل تمثل مراحل الوعى الذى يبنى عليه تصحيح وحضور الذات فى معترك البناء الحضارى .
مرحلة اللاوعــى :
وهى المقياس الحقيقى لكون أمة من الأمم تتمتع بدرجة من الوعى بما لديها من معطيات حضارية أم أن هذه الأمة تعيش كالأنعام ، مجرد مستهلك ، وأى أمة يصيبها نوع من الازدواج الفكرى ، فهى تعيش فى هذه الحالة ، لأنه لن يكون لديها القدرة على أى معطى حضارى لترنح جهودها ومعطياتها بين القديم والحديث لأنها تعيش فى حالة فصل وعزل " فعقلين فى جسد واحد ، لايدل هذا على تضاعف ونمو القدرة على التفكير والإبداع ، بل يدل على الصراع وهباء الجهد والتفكير" .
وببسيط العبارة تعبر هذه المرحلة عن الذات التى تعيش فى حالة إظلام ، ليس لديها القدرة على إدراك ما تملك أو حتى ما يحيط بها من أشياء .
حتى أن هذه الذات تعيش فى حالة من الغيبوبة ، فأصحابها لا يكون لديهم أى وعى بمجتمعاتهم وأصولهم ، وعن مدى تقدمهم أو تأخرهم .
وكتطبيق عملي تنطبق هذه المرحلة أيضا على الكثير ممن يتعلمون ، ولكنهم مجرد منتسبين إلى التعلم ، لأنهم يفتقدون إلى الوعى بما يقومون بتعلمه أو إلى ماذا يقودهم ، وكأنهم يعيشون بلا إرادة أو حركة ، والمستغلبون والمستحمرون بالفعل نجحوا فى بناء هذه الذات الغير واعية ، التى جعلوها كحمار فى عربة لايعرف أين نهاية الطريق لأنه ليس له الحق فى أن يفكر ، بل يعيش تحت وطأة فكر سيده .
مرحلة الوعى باللاوعى :
وهى المرحلة التى ترى فيها الذات بصيصا من النور ، أو تصيبها شرارة من الوعى فتصيبها بصدمة عندما تدرك مالديها من "لاوعى " بعدما ساعدتها الشرارة فى إدراك صورتها الحقيقية داخل مرآة المعرفة والتثقيف .
وتمثل هذه المرحلة بدايات ظهور ذات متمتعة بقدر من الثورية على كل ما يفسد وعيها ، ويعتمد ظهور هذه المرحلة من مراحل وعى الذات على كلمات المفكرين الثوريين ، فليسوا مفكرين فقط ؛لأنهم قد يكونوا مفكريين مستوردين للفكر ، وليسوا ثوريين فقط لأنهم قد يكونوا ثوار بفم أجوف ، ليس لديه ما يقوله ، مجرد صراخ فى قاع بحر لرجل يحتضر الموت.
فالشرارة التى تأتى من مقلد للقديم تحرق وتهلك من يقتبس منها ، والشرارة التى تأتى من مستورد ؛ تنير لتهدى السبيل لمستهلكنا ، على حساب إستمرارية ظلمتنا بالتبعية . فهذه المرحلة تعد تسائل لكل ذات ، فى أى مرحلة تقف ؟
وفى هذه المرحلة تخرج الذات من إطار الحيوانية المستهلكة ، إلى اطار الذات الإنسانية ذات الدور المنتج .
وفى مرحلة كهذه ؛ تحتاج الذات إلى نوعية خاصة من القراءة ، حتى تقف لحظة وتسأل نفسها ماذا أملك ؟ وماذا قدمت بدورى كإنسان يعيش داخل إطار المجتمع . ؟
وحينها يتنبه الفرد لمجتمعه ولنفسه ويعى أنه كان فى حالة من الإنغلاق ، ويعيش فى عزلة ، متقاعصا عن دوره المنوط له داخل المجتمع . وأن ذاته لا تملك إلا الانانية ، والفردية ، فهى تعيش لإشباع نفسها فقط بإستهلاك مجتمعها .
وبالنظر للمرأة مثلاً ، نجدها ظهرت فى كثير من الأمم بصورتين متناقضتين ، اما بصورة امرأة تربي وتعد الجيل وتعلمهم كيف يكونوا بنائين لإطارهم الحضارى " وهى المرأة المتمتعة بذات تحمل حالة من الوعى " ، واما بصورة أمرأة لا تعرف إلا الإستهلاك ، لكل شئ لوقتها ، لفكرها ، حتى لرجلها مهمتها أن تستهلك طاقته وماله .
حتى لو فتشنا عن مصادر ثقافتها نجدها لا تقرأ إلا فى مجالات الإستهلاك كمجلات الموضة والعطور وغيرها .
وهنا نجح المستغلبون والمستحمرون فى أن يصنعوا منها متشبهة بالحرية والتحرر صوب شراء واستهلاك منتج حضارتهم ، تحت سقف التحرر والتنوير الخاطئ .
وهذه المرأة البائسة تكون بحاجة فعلا إلى مرحلة شرارة الوعى هذه التى تخرجها من ظلمتها .
مرحلة الوعى :
تعبر هذه المرحلة عن ذات شبه متكاملة ، ويمثل هذه المرحلة " المثقف " ، ولكن ليس أى مثقف ، فليس مجرد التنمق بالتعبيرات والدلالات والمصطلاحات ، دلالة على كون هذه الذات مثقفة ، إنما الأهم هو منتوج هذه الثقافة وهى كلمة " مسؤول " أى مسؤولية هذه الذات عن الدور الحضارى المفروض عليها القيام به .
والدلالة على كون الذات تتمتع بهذه المرحلة ، الطفرة والحالة التى تعتريها من وعى بكل ما حولها ، حتى أنها تكون قادرة على إستيعاب ماضيها وحاضرها .
وفى هذه المرحلة تكون الذات بوعيها قادرة على فهم ماضيها وتراثها بشئ من النباهة ، فتتمكن من إنقاذه من شوائب وعلائق التاريخ ومسخ القراءة والفهم.
لكن لكى تصل الذات إلى هذه الصورة ، فانها تحتاج إلى جهد ووعى كبير ، وعلة هذه الصعوبة تعدد عوامل المسخ والهدم ، ووجود أزمة التقليد والإستيراد .
فعندما تقدم معطيات فكرية جاهزة ، إلى ذات بــ " لاوعى " ، تقوم هذه الذات الغير واعية بعرض إجابتين لعلة أزمتها وتخوفها .
فإن كان المعطى الفكرى يعبر عن قراءة فى الماض : فإن هذا المعطى يتهم بالتخلف والرجعية ، وإن كان يعبر عن قراءة بما سيؤول عليه حالنا فى المستقبل أو حتى فى الحاضر : يتهم بالإنقلابية والهدم .
كل هذا لأن الذات المستقبلة لهذه المعطيات الفكرية ، غير مجهزة وقد تكون أيضا مستحمرة ، فترفض كل حركة استنارة ، أو أى شرارة وعى تصيبها .
والأمة التى تتمتع بهذه المرحلة من الوعى ، فهذا يعبر عن كونها فى إطار البناء وخارجة عن الاستهلاك ، وأنها فى خروج من عباءة الاستحمار والتبعية ، وتمضى فى بناء حضارة الذات والهوية .
مرحلة الوعى بالوعى :
تعبر هذه المرحلة عن قمة وذروة الوعى ، الذى لا يتمتع به إلا صفوة الأمم وهم " المفكرون " ، فهم مشاعل النور ، والمخططين لهيكل البناء الحضارى ، والقادرين على قيادة الأمم فى مسيرة الحضارة الإنسانية.
وفى مرحلة كهذه ، يكون المفكر هو من لديه حالة من الوعى بمجتمعه ، وقد يكون مجتمعه على العكس من ذلك ؛ ليس لديه وعى بهذا المفكر .
وهنا بالفعل يبرز المفكر الحقيقى ، فالمفكر ليس من تكتب عنه الأقلام ، أو تصفه بكذا وكذا ، وإنما من يعيش لإدراك مجتمعه ، ويعمل على القيام بدوره الحضارى داخل المجتمع ، لتتحقق فيه صفة المسؤولية.
وهنا يبرز من ينظر ويسطر التخطيط لهيكل أمته الحضارى، وعلى ضوء هذا التنظير تستنير الذات لتأتى لمرحلة مابعد " الوعى " وهى " الحضور ".
[/align]