في محاضرة هامة لمسؤولة بنوك أوبنهايم المستشرق الألماني الأشهر بمعهد الشرق الألماني بدمشق أعلنت غابرييل عن اتاحة 13 الف صورة عن العالم العربي بالعشرينات من القرن الماضي كوثائق بغاية الأهمية عن العالم العربي وقد حضرت شخصيا المحاضرة والموقع هوuni-koeln.de
محمد زعل السلوم
الشرق بعدسة المصورين العرب:
رحلة استكشافية لعالم الشرق
على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي تلقاها الصور التي تجسد المشرق، إلا أنها تُعرض بشكل متكرر. في مجموعتها على شبكة الإنترنت تعرض المؤسسة العربية للصورة المشرق من زاوية أخرى رحلة استكشافية إلى الأماكن التاريخية والمشرقيات بأزيائهن التقليدية وجوانب أخرى عن واقع الحياة اليومية في المشرق في مطلع القرن التاسع عشر. منى سركيس تستعرض أهم هذه الجوانب.
"أرشيف المؤسسة العربية للصورة ما يزال حتى اليوم يعد أكبر أرشيف صور فوتوغرافية عن المنطقة، موضوع على شبكة الإنترنت"
عرض متحف هامبورغ لعلم الشعوب عام 2009 18 ألف صورة فوتوغرافية، غالبيتها من منطقة الشرق الأوسط، وتم التقاط أغلب هذه الصور بعدسات أوروبيين بدءا بعام 1864. وفي الوقت نفسه عرض المتحف التاريخي اليهودي في أمستردام صوراً عن فلسطين، التقطت في الفترة بين عامي 1898 و1931، وهي مجموعة الصور التي اشتراها الهولندي آري شبيلمان في الماضي من "أمريكان كولوني" في القدس. وتظهر صور المجموعة أماكن تاريخية ونساء شرقيات يرتدين الحجاب، كما تظهر بعضها جوانب وتفاصيل جنسية.
وبشكل خاص تظهر صورة المجموعة الثانية فلسطين كصورة حياتية من صور الكتاب المقدس- انسجاماً مع تصورات الدليل السياحي السابق الصادر عن دار بيديكير البرلينية، الذي يقدم الكتاب المقدس على أنه أفضل مرجع لمن يبحث عن معلومات عن فلسطين. كما لو كان من السهل تجاهل اثني عشر قرناً من الوجود الإسلامي المستمر فيها، وأن الحقيقة الوحيدة تتلخص في العصور اليهودية والمسيحية القديمة. وإن استمرار بقاء هذه الفكرة الدقيقة، يؤكده وصف صور الأمريكان كولوني الموضوع على موقع آمازون لبيع الكتب: "كانت الأرض في فلسطين قاحلة وحجرية، وسكانها يبدون لنا غرباء، قبيل بدء الاستيطان المنطقة بشكل أكثر نشاطاً ودخول عناصر العالم المتحضر".
نظرة استشراقية ضيقة
من دون شك فإن هذه آراء استشراقية من أكثر الأنواع سوءا. لكن حضورها الثابت في الرأي العام يقود إلى خطأ مفاده أن التصوير الفوتوغرافي في المنطقة العربية لا يتكون إلا من هذه المجموعة- وهذا الأمر بحد ذاته استشراق بحت. ويمكن لأي شخص أن يقتنع بهذا، لكنه إذا ألقى نظرة على أرشيف الصور المؤسسة العربية للصورة، التي أسسها مصورو الفيديو والفوتغراف أكرم زعتري وفؤاد الخوري وسامر محداد في بيروت عام 1997، سيفاجئ بأنه هذا أرشيف هذه المؤسسة ما يزال حتى اليوم يعد أكبر أرشيف صور فوتوغرافية عن المنطقة، موضوع على شبكة الإنترنت.
تصوير النجاح كان أيضاً وسيلة محببة للاستيحاء لدى المصورين العرب.
وتظهر الصور عمليات التشريح الموثقة بدقة متناهية في قاعات بعض الكليات الطبية العربية في مطلع القرن العشرين، وصورة أبطال الملاكمة في سوريا في عشرينيات القرن المنصرم. أو صور المصور الأرميني فان ليو، الذي استوحى صوره من القاهرة في خمسينيات القرن العشرين بأزياء دراماتيكية أو بصور شابات بدون أي زي. كما مكن هاشم المدني بعض سكان جنوب لبنان من تقليد ما كان يفعله نجوم السينما أمام الكاميرا: التقبيل. ولأن تبادل القبل هذا بين ذوي الجنس الواحد (وهو ما قد كان أحياناً من الأمور المرغوبة على أي حال) كان لا يسبب حرجاً في المجتمع، نشأت سلسلة كاملة من نساء يقبلن بعضهن أو رجال يقبلون بعضهم بعضا.
عن هذا يقول زعتري، وهو أحد مؤسسي المؤسسة العربية للصورة: "إن الأجيال العربية الجديدة لا تعرف كم كانت الصور متنوعة، الصور التي التقطت لأسلافهم". ويضيف زعتري أن استحضار تقاليد التصوير المغيبة لعب لذلك دوراً حاسماً في جمع مجموعة الصور الفوتوغرافية التي بلغت حتى الآن قرابة 400 ألف صورة من أكثر من 250 مصور أجنبي ومحلي، تعود أقدمها إلى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1839.
تقليد مدرك
آنذاك كان المصور الفرنسي فردريك غوبيل-فيسكيه أول من التقط صورة في المنطقة العربية، فقد صور أحد قصور مدينة الإسكندرية. وقبل ذلك بفترة وجيزة، في آب/ أغسطس قُدمت في باريس طريقة التصوير الضوئي التي عرفت بالداجيروتايب. عن هذا يقول زعتري مؤكداً: "إن تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي مرتبط إذن بإعادة اكتشاف أوروبا لمنطقة الشرق الأوسط بشكل مباشر. وبالعكس احتضنت المجتمعات هذه الواسطة بسرعة". وهذا الأمر كان الاحتكاك المبكر مع أوروبا، الذي ساهم في دخول الجانب العربي إلى عوالم الصورة، الأمر الذي يتطلب تفسيرات جديدة، وفي المقام الأول فيما يتعلق بالاستشراق.
تقليد مدرك: إن التصورات التي تحمل بصمات غربية لم تُقبل بصورة سلبية إذن، وإنما بناء على تعريف جديد للذات في ركب النهضة العربية، كما يرى ستيفن شيهي. ومثال ذلك صور البرجوازيين العرب في الفترة بين 1860 و1920، التي تظهر شخصيات بأزياء غربية أمام البيانو أو السيارة، كما لو كانوا يقلدون التعبير الأوروبي عن الذات آنذاك بحذافيره. هذه النقطة بالذات باتت موضع بحث ستيفن شيهي من جامعة ساوث كارولاينا، ويقول شيهي أن التقليد جرى عن أداراك. ويوضح مؤلف كتاب "أسس الهوية العربية الحديثة" أن ذلك التقليد يعود إلى النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر بسبب تيارين كبيرين، اخترقا الدولة العثمانية، وهما: التدخل الأوروبي الاقتصادي والسياسي، والتنظيمات العثمانية، وهي تلك الإصلاحات التي كان القصد من ورائها تحويل الإمبراطورية الكبيرة المتداعية إلى أمة متحضرة. وكانت "العقلانية" و"العلم" مفاتيح هذا التحول. ويضيف شيهي قائلاً: "من القدس إلى بغداد قدمت البرجوازية العربية نفسها على أنها فردية وعلمانية وقادرة على لعب دور قوي في القيادة".
إن التصورات التي تحمل بصمات أوروبية لم تُقبل بصورة سلبية إذن، وإنما بناء على تعريف جديد للذات، من أجل ضرب الطموحات الصهيونية والبريطانية بسلاحها أخيراً وليس آخراً. وتزامناً مع ذلك ازدهرت بالطبع حركات الاستشراق، كما تثبت المجموعتان المذكورتان سلفاً وكيف أنهما تعنيان بمصورين عرب وأرمن (صابونغي Saboungi في بيروت، ليغيكيان Legekian في القاهرة أو كريكوريان Krikorian ورعد في فلسطين). ومن الطبيعي أن تكون لهاتين المجموعتين قيمة كبيرة نظراً للحاجة التذكارية الناجمة عن حركة السياحة الغربية المزايدة.
الصور كسلاح
كما يفعل نجوم السينما: كان هاشم المدني يهوى تصوير الأشخاص الذين يتبادلون القبل، الأمر الذي لم يكن يشكل حرجاً في المجتمع. لكن ما الذي دفع الزبائن المحليين إلى ارتداء ملابس البدو أمام كواليس استوديوهات التصوير؟ إجابة على هذا التساؤل يرى شيهي أن في ذلك استشراقية للذات، لكنها استشراقية مدركة بالتأكيد. ويضيف شيهي أن النهضة العربية لم تكن عصر "المدنية" فقط، بل والاستعمار أيضاً، الذي كان ينظر إلى السكان المحليين على أنهم أناس مرتبة، يجب فرض الوصاية عليهم. وإزاء تزايد نمو حركة القومية العربية تكون في أوساط البرجوازية الصغيرة مقاومة الحالمة. "اقنعوا أنفسهم بأنهم أهل للشرف والرجولة والروحانية، وكان شعارهم في ذلك: لقد كان ذلك نوعاً من المقاومة".
لكن يبقى السؤال حول عناصر المقاومة المسلحة قائماً، على سبيل المثال حول أولئك الذين كانوا يقصدون أستوديو المدني للتصوير في السبعينيات: رجال جادون، من دون سلاح، لكنهم كانوا يضعون الكوفية الفلسطينية على صدورهم، والبعض منهم كان يضعها على قمصان فلور باور Flower-Power. وهذا التناقض في أسلوب الملبس كان يمنحهم واقعية صامتة من نوع غريب.
تنطوي الصور العربية للمقاومين على تضاد كبير مع الصور الغربية "لقطاع الطرق المتوحشين"، الذين كانوا يقاتلون القوات الاستعمارية.
إن التناقض بين هذه الصور وصور "قطاع الطرق"، الذين قاوموا في القوات الاستعمارية في الثلث الأول من القرن العشرين، لا يمكن أن يكون أكبر من ذلك. فالمجموعة الثانية ساهمت من خلال صحافة الصورة الناشئة حديثاً في قوة تسويق الصحافة المطبوعة، إذ كانت هناك رغبة في رؤيتهم، وقد أُسيئت معاملتهم ومقيدين، وفي دراستهم وهم ما يزالون يتدلون من أعواد المشانق. هل كان في ذلك ثمة اشمئزاز فقط أو افتتان "بخروجهم عن القانون"؟ أو كما يتساءل شيهي: هل كان هناك ثمة حوار خفي بين صور الأشخاص المنبوذين بقسوة وصور المواطنين الجديرين بالاحترام، الذين كانوا يبتسمون لعدسة الكاميرا وهم يرتدون الجلابية ذات المعاني التاريخية واضعين سلاحهم عند أقدامهم؟
على أي حال فإن من الصور اللافتة للانتباه هي تلك التي التقطها المؤرخ جبرائيل جبور (1900-1991)، وهو من الشخصيات المهمة في التربية العربية الحديثة، لزوجته أسماء: ففي عام 1920 أظهرها وهي تضع غطاء رأس رجالي تقليدي، وتلبس بدلة عسكرية، لاح عليها حزام الرصاص. وفي صورة لها التقطت عام 1940 كانت بهيئة بدوية توحي بسلطة أموية كبيرة. وعلى عكس ذلك كانت أسماء تبدو في الحياة اليومية "مسايرة للتقدم" دائماً، فتارة تظهر وهي ممدة على السرير إلى جوار طفلها، وتارة أخرى تجلس بلا تكلف، مرتدية تنورة قصيرة، على صوان، من أجل أن تبدو بمستوى نظر زوجها.
ويبدو أن البرجوازية العربية كانت تعمل منذ البواكير الأولى للتصوير الفوتوغرافي على تكوين سفرتها الخاصة بها. لكنها شفرة غير محددة المعالم، تقرب تارة من وجهات النظر الأوروبية، وتكون ضدها تارة أخرى. لكنها كانت دائماً نشطة.
منى سركيس
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
الحقوق: قنطرة 2010
محمد زعل السلوم
الشرق بعدسة المصورين العرب:
رحلة استكشافية لعالم الشرق
على الرغم من الانتقادات الكثيرة التي تلقاها الصور التي تجسد المشرق، إلا أنها تُعرض بشكل متكرر. في مجموعتها على شبكة الإنترنت تعرض المؤسسة العربية للصورة المشرق من زاوية أخرى رحلة استكشافية إلى الأماكن التاريخية والمشرقيات بأزيائهن التقليدية وجوانب أخرى عن واقع الحياة اليومية في المشرق في مطلع القرن التاسع عشر. منى سركيس تستعرض أهم هذه الجوانب.
"أرشيف المؤسسة العربية للصورة ما يزال حتى اليوم يعد أكبر أرشيف صور فوتوغرافية عن المنطقة، موضوع على شبكة الإنترنت"
عرض متحف هامبورغ لعلم الشعوب عام 2009 18 ألف صورة فوتوغرافية، غالبيتها من منطقة الشرق الأوسط، وتم التقاط أغلب هذه الصور بعدسات أوروبيين بدءا بعام 1864. وفي الوقت نفسه عرض المتحف التاريخي اليهودي في أمستردام صوراً عن فلسطين، التقطت في الفترة بين عامي 1898 و1931، وهي مجموعة الصور التي اشتراها الهولندي آري شبيلمان في الماضي من "أمريكان كولوني" في القدس. وتظهر صور المجموعة أماكن تاريخية ونساء شرقيات يرتدين الحجاب، كما تظهر بعضها جوانب وتفاصيل جنسية.
وبشكل خاص تظهر صورة المجموعة الثانية فلسطين كصورة حياتية من صور الكتاب المقدس- انسجاماً مع تصورات الدليل السياحي السابق الصادر عن دار بيديكير البرلينية، الذي يقدم الكتاب المقدس على أنه أفضل مرجع لمن يبحث عن معلومات عن فلسطين. كما لو كان من السهل تجاهل اثني عشر قرناً من الوجود الإسلامي المستمر فيها، وأن الحقيقة الوحيدة تتلخص في العصور اليهودية والمسيحية القديمة. وإن استمرار بقاء هذه الفكرة الدقيقة، يؤكده وصف صور الأمريكان كولوني الموضوع على موقع آمازون لبيع الكتب: "كانت الأرض في فلسطين قاحلة وحجرية، وسكانها يبدون لنا غرباء، قبيل بدء الاستيطان المنطقة بشكل أكثر نشاطاً ودخول عناصر العالم المتحضر".
نظرة استشراقية ضيقة
من دون شك فإن هذه آراء استشراقية من أكثر الأنواع سوءا. لكن حضورها الثابت في الرأي العام يقود إلى خطأ مفاده أن التصوير الفوتوغرافي في المنطقة العربية لا يتكون إلا من هذه المجموعة- وهذا الأمر بحد ذاته استشراق بحت. ويمكن لأي شخص أن يقتنع بهذا، لكنه إذا ألقى نظرة على أرشيف الصور المؤسسة العربية للصورة، التي أسسها مصورو الفيديو والفوتغراف أكرم زعتري وفؤاد الخوري وسامر محداد في بيروت عام 1997، سيفاجئ بأنه هذا أرشيف هذه المؤسسة ما يزال حتى اليوم يعد أكبر أرشيف صور فوتوغرافية عن المنطقة، موضوع على شبكة الإنترنت.
تصوير النجاح كان أيضاً وسيلة محببة للاستيحاء لدى المصورين العرب.
وتظهر الصور عمليات التشريح الموثقة بدقة متناهية في قاعات بعض الكليات الطبية العربية في مطلع القرن العشرين، وصورة أبطال الملاكمة في سوريا في عشرينيات القرن المنصرم. أو صور المصور الأرميني فان ليو، الذي استوحى صوره من القاهرة في خمسينيات القرن العشرين بأزياء دراماتيكية أو بصور شابات بدون أي زي. كما مكن هاشم المدني بعض سكان جنوب لبنان من تقليد ما كان يفعله نجوم السينما أمام الكاميرا: التقبيل. ولأن تبادل القبل هذا بين ذوي الجنس الواحد (وهو ما قد كان أحياناً من الأمور المرغوبة على أي حال) كان لا يسبب حرجاً في المجتمع، نشأت سلسلة كاملة من نساء يقبلن بعضهن أو رجال يقبلون بعضهم بعضا.
عن هذا يقول زعتري، وهو أحد مؤسسي المؤسسة العربية للصورة: "إن الأجيال العربية الجديدة لا تعرف كم كانت الصور متنوعة، الصور التي التقطت لأسلافهم". ويضيف زعتري أن استحضار تقاليد التصوير المغيبة لعب لذلك دوراً حاسماً في جمع مجموعة الصور الفوتوغرافية التي بلغت حتى الآن قرابة 400 ألف صورة من أكثر من 250 مصور أجنبي ومحلي، تعود أقدمها إلى 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1839.
تقليد مدرك
آنذاك كان المصور الفرنسي فردريك غوبيل-فيسكيه أول من التقط صورة في المنطقة العربية، فقد صور أحد قصور مدينة الإسكندرية. وقبل ذلك بفترة وجيزة، في آب/ أغسطس قُدمت في باريس طريقة التصوير الضوئي التي عرفت بالداجيروتايب. عن هذا يقول زعتري مؤكداً: "إن تاريخ فن التصوير الفوتوغرافي مرتبط إذن بإعادة اكتشاف أوروبا لمنطقة الشرق الأوسط بشكل مباشر. وبالعكس احتضنت المجتمعات هذه الواسطة بسرعة". وهذا الأمر كان الاحتكاك المبكر مع أوروبا، الذي ساهم في دخول الجانب العربي إلى عوالم الصورة، الأمر الذي يتطلب تفسيرات جديدة، وفي المقام الأول فيما يتعلق بالاستشراق.
تقليد مدرك: إن التصورات التي تحمل بصمات غربية لم تُقبل بصورة سلبية إذن، وإنما بناء على تعريف جديد للذات في ركب النهضة العربية، كما يرى ستيفن شيهي. ومثال ذلك صور البرجوازيين العرب في الفترة بين 1860 و1920، التي تظهر شخصيات بأزياء غربية أمام البيانو أو السيارة، كما لو كانوا يقلدون التعبير الأوروبي عن الذات آنذاك بحذافيره. هذه النقطة بالذات باتت موضع بحث ستيفن شيهي من جامعة ساوث كارولاينا، ويقول شيهي أن التقليد جرى عن أداراك. ويوضح مؤلف كتاب "أسس الهوية العربية الحديثة" أن ذلك التقليد يعود إلى النهضة العربية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر بسبب تيارين كبيرين، اخترقا الدولة العثمانية، وهما: التدخل الأوروبي الاقتصادي والسياسي، والتنظيمات العثمانية، وهي تلك الإصلاحات التي كان القصد من ورائها تحويل الإمبراطورية الكبيرة المتداعية إلى أمة متحضرة. وكانت "العقلانية" و"العلم" مفاتيح هذا التحول. ويضيف شيهي قائلاً: "من القدس إلى بغداد قدمت البرجوازية العربية نفسها على أنها فردية وعلمانية وقادرة على لعب دور قوي في القيادة".
إن التصورات التي تحمل بصمات أوروبية لم تُقبل بصورة سلبية إذن، وإنما بناء على تعريف جديد للذات، من أجل ضرب الطموحات الصهيونية والبريطانية بسلاحها أخيراً وليس آخراً. وتزامناً مع ذلك ازدهرت بالطبع حركات الاستشراق، كما تثبت المجموعتان المذكورتان سلفاً وكيف أنهما تعنيان بمصورين عرب وأرمن (صابونغي Saboungi في بيروت، ليغيكيان Legekian في القاهرة أو كريكوريان Krikorian ورعد في فلسطين). ومن الطبيعي أن تكون لهاتين المجموعتين قيمة كبيرة نظراً للحاجة التذكارية الناجمة عن حركة السياحة الغربية المزايدة.
الصور كسلاح
كما يفعل نجوم السينما: كان هاشم المدني يهوى تصوير الأشخاص الذين يتبادلون القبل، الأمر الذي لم يكن يشكل حرجاً في المجتمع. لكن ما الذي دفع الزبائن المحليين إلى ارتداء ملابس البدو أمام كواليس استوديوهات التصوير؟ إجابة على هذا التساؤل يرى شيهي أن في ذلك استشراقية للذات، لكنها استشراقية مدركة بالتأكيد. ويضيف شيهي أن النهضة العربية لم تكن عصر "المدنية" فقط، بل والاستعمار أيضاً، الذي كان ينظر إلى السكان المحليين على أنهم أناس مرتبة، يجب فرض الوصاية عليهم. وإزاء تزايد نمو حركة القومية العربية تكون في أوساط البرجوازية الصغيرة مقاومة الحالمة. "اقنعوا أنفسهم بأنهم أهل للشرف والرجولة والروحانية، وكان شعارهم في ذلك: لقد كان ذلك نوعاً من المقاومة".
لكن يبقى السؤال حول عناصر المقاومة المسلحة قائماً، على سبيل المثال حول أولئك الذين كانوا يقصدون أستوديو المدني للتصوير في السبعينيات: رجال جادون، من دون سلاح، لكنهم كانوا يضعون الكوفية الفلسطينية على صدورهم، والبعض منهم كان يضعها على قمصان فلور باور Flower-Power. وهذا التناقض في أسلوب الملبس كان يمنحهم واقعية صامتة من نوع غريب.
تنطوي الصور العربية للمقاومين على تضاد كبير مع الصور الغربية "لقطاع الطرق المتوحشين"، الذين كانوا يقاتلون القوات الاستعمارية.
إن التناقض بين هذه الصور وصور "قطاع الطرق"، الذين قاوموا في القوات الاستعمارية في الثلث الأول من القرن العشرين، لا يمكن أن يكون أكبر من ذلك. فالمجموعة الثانية ساهمت من خلال صحافة الصورة الناشئة حديثاً في قوة تسويق الصحافة المطبوعة، إذ كانت هناك رغبة في رؤيتهم، وقد أُسيئت معاملتهم ومقيدين، وفي دراستهم وهم ما يزالون يتدلون من أعواد المشانق. هل كان في ذلك ثمة اشمئزاز فقط أو افتتان "بخروجهم عن القانون"؟ أو كما يتساءل شيهي: هل كان هناك ثمة حوار خفي بين صور الأشخاص المنبوذين بقسوة وصور المواطنين الجديرين بالاحترام، الذين كانوا يبتسمون لعدسة الكاميرا وهم يرتدون الجلابية ذات المعاني التاريخية واضعين سلاحهم عند أقدامهم؟
على أي حال فإن من الصور اللافتة للانتباه هي تلك التي التقطها المؤرخ جبرائيل جبور (1900-1991)، وهو من الشخصيات المهمة في التربية العربية الحديثة، لزوجته أسماء: ففي عام 1920 أظهرها وهي تضع غطاء رأس رجالي تقليدي، وتلبس بدلة عسكرية، لاح عليها حزام الرصاص. وفي صورة لها التقطت عام 1940 كانت بهيئة بدوية توحي بسلطة أموية كبيرة. وعلى عكس ذلك كانت أسماء تبدو في الحياة اليومية "مسايرة للتقدم" دائماً، فتارة تظهر وهي ممدة على السرير إلى جوار طفلها، وتارة أخرى تجلس بلا تكلف، مرتدية تنورة قصيرة، على صوان، من أجل أن تبدو بمستوى نظر زوجها.
ويبدو أن البرجوازية العربية كانت تعمل منذ البواكير الأولى للتصوير الفوتوغرافي على تكوين سفرتها الخاصة بها. لكنها شفرة غير محددة المعالم، تقرب تارة من وجهات النظر الأوروبية، وتكون ضدها تارة أخرى. لكنها كانت دائماً نشطة.
منى سركيس
ترجمة: عماد مبارك غانم
مراجعة: هشام العدم
الحقوق: قنطرة 2010