جنّة الجواسيس" آخر تحديث:السبت ,07/08/2010
سعد محيو
في الاقتصاد هناك تعبير “الجنة الضرائبية”، وفي السياحة هناك مصطلح “جنّة على الأرض”، والآن، وبعد الكشوفات المذهلة لشبكات الجواسيس في لبنان، يجب إضافة تعبير “جنّة الجواسيس” إلى قاموس الجنّات هذا .
إذ هل هو أمر بسيط أن يُكتشف 120 جاسوساً ل “إسرائيل” في بلاد الأرز خلال أشهر قليلة (والحبل لايزال على الجرار)؟ وهل معقول أن يكون العميد المتقاعد فايز كرم، الساعد الأيمن للعماد ميشال عون ورئيس فرع مكافحة الإرهاب والتجسس في الجيش اللبناني حتى العام ،1990 على رأس المُتهمين بالتعامل مع “الموساد”؟
لن نتوقف عند التداعيات السياسية لزلزال كرم الذي يشغل منصباً تأسيسياً في التيار الوطني الحر، على رغم أنها ستكون تداعيات كبرى بسبب التحالف الاستراتيجي المكين بين التيار وبين عدو “إسرائيل” الأول في لبنان “حزب الله”، فهذه مسألة ستكون رهناً بالقضاء وبردود الفعل داخل التيار والحزب . سنكتفي هنا بالتساؤل: لماذا لبنان دون غيره من دول العام يُعدّ “جنّة تجسس”؟
الأسباب تبدو عديدة، من ضعف الدولة اللبنانية منذ قيامها العام ،1943 إلى عجز الهوية الوطنية اللبنانية عن الولادة، ومن تهالك المناعة الداخلية اللبنانية بفعل ما يُسميه المفكر العربي د .جورج قرم “سيادة ثقافة القناصل” في السياسة اللبنانية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، إلى كون لبنان ساحة مفتوحة للحروب بالواسطة إقليمياً ودولياً .
كل هذه المبررات قوية ومُقنعة، لكنْ، هناك داعٍ يبدو أهم بكثير: النظام الاقتصادي اللبناني غير الإنتاجي الذي يُهيمن عليه قطاع الخدمات .
هذا النظام الذي يرد البعض جذوره إلى أيام الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف عام، استطاع خلق ثقافة خدماتية امتدّت سريعاً من مجالات الصيرفة والسياحة والسمسرة، إلى ساحات السياسة والإيديولوجيا والأمن، وهذا حدث أساساً لأن مشروع الدولة أجهض في مهده، وحلت مكانه العصبيات الطائفية والمذهبية التي تقاسمت البلد في ما بينها .
وهكذا، حدث التقاطع الجهنمي بين نظام الخدمات الاقتصادي والبنية الاجتماعية الطائفية، فُولد من رحمه ارتباط العديد من اللبنانيين بالقوى الخارجية، سواء طلباً للحماية، أو الاسترزاق، أو مجرد التبعية الدينية و”الحضارية” .
ومنذ ذلك الحين، ساد منطق الخدمات في كل المجالات، وعلى رأسها المجال الأمني، حيث بات مبرر وجود (وتمويل) العديد من القوى السياسية اللبنانية، هو تقديمها الخدمات الأمنية لهذه القوة الإقليمية والدولية أو تلك . وقد سجّل مثل هذا النظام نجاحاً باهراً لأنه تقاطع مع ظاهرة كانت تجتاح المنطقة، وهي تحوّل الأجهزة الأمنية والاستخبارية إلى السلطة الحقيقية في “إسرائيل” ومعظم الدول العربية، ثم تطوّرها إلى شبه طبقة حقيقية (بالمعنى الغرامشي) تمارس هيمنة على السياسة والفكر والثقافة، كما على الأمن والاقتصاد، وبالتالي، كان بديهياً أن تجد هذه الأجهزة، على تنوّعها، في لبنان مرتعاً، وملاذاً، وبيئة ممتازة لتجنيد ما ومن تشاء من العيون والعقول .
المتهم فايز كرم، السياسي والأمني السابق الكبير، هو التجسيد الفاقع لنظام الخدمات الأمنية هذا، لكنه على الأرجح ليس إلا الرأس الظاهر لجبل الجليد المختفي تحت سطح البحر . فطالما أن نظام الخدمات اللاإنتاجي اللبناني قائم ومستمر، فإنه سيكون قادراً في كل حين، على استنساخ عشرات ومئات الطبعات من كرم .
إنها حقاً “جنّة الجواسيس”، وبجدارة .
saad-mehio@hotmail.com
سعد محيو
في الاقتصاد هناك تعبير “الجنة الضرائبية”، وفي السياحة هناك مصطلح “جنّة على الأرض”، والآن، وبعد الكشوفات المذهلة لشبكات الجواسيس في لبنان، يجب إضافة تعبير “جنّة الجواسيس” إلى قاموس الجنّات هذا .
إذ هل هو أمر بسيط أن يُكتشف 120 جاسوساً ل “إسرائيل” في بلاد الأرز خلال أشهر قليلة (والحبل لايزال على الجرار)؟ وهل معقول أن يكون العميد المتقاعد فايز كرم، الساعد الأيمن للعماد ميشال عون ورئيس فرع مكافحة الإرهاب والتجسس في الجيش اللبناني حتى العام ،1990 على رأس المُتهمين بالتعامل مع “الموساد”؟
لن نتوقف عند التداعيات السياسية لزلزال كرم الذي يشغل منصباً تأسيسياً في التيار الوطني الحر، على رغم أنها ستكون تداعيات كبرى بسبب التحالف الاستراتيجي المكين بين التيار وبين عدو “إسرائيل” الأول في لبنان “حزب الله”، فهذه مسألة ستكون رهناً بالقضاء وبردود الفعل داخل التيار والحزب . سنكتفي هنا بالتساؤل: لماذا لبنان دون غيره من دول العام يُعدّ “جنّة تجسس”؟
الأسباب تبدو عديدة، من ضعف الدولة اللبنانية منذ قيامها العام ،1943 إلى عجز الهوية الوطنية اللبنانية عن الولادة، ومن تهالك المناعة الداخلية اللبنانية بفعل ما يُسميه المفكر العربي د .جورج قرم “سيادة ثقافة القناصل” في السياسة اللبنانية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الآن، إلى كون لبنان ساحة مفتوحة للحروب بالواسطة إقليمياً ودولياً .
كل هذه المبررات قوية ومُقنعة، لكنْ، هناك داعٍ يبدو أهم بكثير: النظام الاقتصادي اللبناني غير الإنتاجي الذي يُهيمن عليه قطاع الخدمات .
هذا النظام الذي يرد البعض جذوره إلى أيام الفينيقيين قبل ثلاثة آلاف عام، استطاع خلق ثقافة خدماتية امتدّت سريعاً من مجالات الصيرفة والسياحة والسمسرة، إلى ساحات السياسة والإيديولوجيا والأمن، وهذا حدث أساساً لأن مشروع الدولة أجهض في مهده، وحلت مكانه العصبيات الطائفية والمذهبية التي تقاسمت البلد في ما بينها .
وهكذا، حدث التقاطع الجهنمي بين نظام الخدمات الاقتصادي والبنية الاجتماعية الطائفية، فُولد من رحمه ارتباط العديد من اللبنانيين بالقوى الخارجية، سواء طلباً للحماية، أو الاسترزاق، أو مجرد التبعية الدينية و”الحضارية” .
ومنذ ذلك الحين، ساد منطق الخدمات في كل المجالات، وعلى رأسها المجال الأمني، حيث بات مبرر وجود (وتمويل) العديد من القوى السياسية اللبنانية، هو تقديمها الخدمات الأمنية لهذه القوة الإقليمية والدولية أو تلك . وقد سجّل مثل هذا النظام نجاحاً باهراً لأنه تقاطع مع ظاهرة كانت تجتاح المنطقة، وهي تحوّل الأجهزة الأمنية والاستخبارية إلى السلطة الحقيقية في “إسرائيل” ومعظم الدول العربية، ثم تطوّرها إلى شبه طبقة حقيقية (بالمعنى الغرامشي) تمارس هيمنة على السياسة والفكر والثقافة، كما على الأمن والاقتصاد، وبالتالي، كان بديهياً أن تجد هذه الأجهزة، على تنوّعها، في لبنان مرتعاً، وملاذاً، وبيئة ممتازة لتجنيد ما ومن تشاء من العيون والعقول .
المتهم فايز كرم، السياسي والأمني السابق الكبير، هو التجسيد الفاقع لنظام الخدمات الأمنية هذا، لكنه على الأرجح ليس إلا الرأس الظاهر لجبل الجليد المختفي تحت سطح البحر . فطالما أن نظام الخدمات اللاإنتاجي اللبناني قائم ومستمر، فإنه سيكون قادراً في كل حين، على استنساخ عشرات ومئات الطبعات من كرم .
إنها حقاً “جنّة الجواسيس”، وبجدارة .
saad-mehio@hotmail.com
تعليق