جَعلَ الله المُسلينَ أُمّةً وسطاً

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • nizameddin
    نظام الدين إبراهيم أوغلو
    • Sep 2007
    • 135

    جَعلَ الله المُسلينَ أُمّةً وسطاً

    جَعلَ الله المُسلينَ أُمّةً وسطاً
    "لا إفراط ولا تفريط ولا تطرف ولا إرهاب"

    بقلم نظام الدين إبراهيم أوغلو
    محاضر في جامعة هيتيت ـ تركيا
    nizamettin955@hotmail.com

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم وبعد .

    قبل البدء بالحديث عن مفهوم الإفراط والتفريط أريد أن أحيي كل من يحمل في جسده روحاً طيبة وقلباً طاهراً كما نفخه الله تعالى بأمر منه، وأن أحيي كل من يعترف أنّ أجداد البشرية من آدم وحواء (ع)، وأن أحيي أيضاً كل من يعقل ويدرك القضايا بموضوعية واتزان ولايقع كبش الفداء او/ والعوبة في يد الطغاة والدّول الكبيرة الظّالمة والداعية للهيمنة على الآخرين. ولهذا أقول : هنيئاً لمن عمل وجاهد وفرج كرب شعبه المظلوم وهنيئاً لمن وحّد كلمة الله تعالى ونصره ونصر أمته والعالمين أجمع من أي دين ومن أي قومية كانت. وفي هذه المقالة بتوضيح التطرف والإفراط سواء في الأمم والأحزاب والقوميات والطوائف وبكافة أديانها، وأصبحت عنصراً مهدداً لشعوب العالم، وأوضح فيها الحلول السّليمة من أجل الرّجوع إلى الوسطية، وكوننا مسلمين نتكلم عن حال المسلمين لأننا مسؤولين عنهم أسوة بقول الرّسول (ص) (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).

    معنى السلام والإسلام

    لقد استعمل القرآن والسّنة كلمتي السلم والسلام في موارد كثيرة. وتعريف كلمة الإسلام من سَلِمَ سلامةً وسلاماً أي خال من العيب والآفة ونجا وبريء، والسّلام بمعنى الإستسلام للإنقياد والطّاعة، والسلام من أسماء الله الحسنى لسلامته من النقص والعيب والفناء، والسلام للتحية بمعنى الدّعاء وطلب السّلامة والحصانة والنجاةوهي تحية أهل الجنة. ودار السلام من أبواب الجنة معناه دار السّعادة والطمأنينة والرّاحة . لذا فالإسلام يريد السّلم والسّلام الدّائم مع كافة البشرية، ولا يريد الحرب والظلم والقتل والطّغيان أبداً. وخاتم الأنبياء محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو حامل راية السلم والسلام، لأنه يحمل إلى البشرية الهدى والنور، والخير والرشاد، والرحمة والرأفة، يقول تعالى: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعاملين) . إذن كيف يمكن ان يكون الاسلام دين الاستبداد وقرآن المسلمين يقول: (لا إكراه في الدين) . ويقول: (قل يا ايها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ولا انتم عابدون ما اعبد ولا انا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما اعبد لكم دينكم ولي دين) ويقول: (ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي احسن) . وهذا رسول الاسلام كان يجلس دائريا حتى لا يكون لمجلسه صدر او ذيل، وهذا هوالخليفة عمر بن الخطاب رضي الله قال مؤنبا لقوم ظلموا فتيانهم "لماذا تستعبدون الناس وقد ولدتهم امهاتهم احرارا". وهذا علي بن ابي طالب عليه السلام اختصم مع يهودي من يهود الكوفة الى شريح القاضي، وجلس امير المؤمنين الذي كانت امتداد دولته نصف الكرة الارضية آنذاك مع يهودي من رعاياه امام قاضي الكوفة الذي يقضي بامره ، وكان منصوبا من قلبه، كخصمين متساويين في كل الحقوق ورضخ الى الحكم الذي اصدره القاضي ضده برحابة الصدر الخاطر، ولكنه قال لقاضيه معاتبا "لقد أساءني شئ واحد فقط، وهوانك كنت تخاطبني بالكنية وتخاطب اليهودي بالاسم، وليتك كنت تعدل حتى في مناداة المتخاصمين.

    تعريف الإفراط والتفريط

    الدّين الإسلامي كامل لا يحتاج إلى زيادة ولا نقصان وهو صالح لكل زمان ومكان وهو دين العدل والإنصاف والوسطية في كل حال. لذا لا يقبل الإفراط والتفريط كما في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً، لتكونا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً) ، (منهم أمّة مقتصدة) . وقوله (ص): (خير الأمور أوسطها). ويمكن أن نعرف الإفراط والتفريط من الكتب الإسلامية كالأتي:
    الغلو: هو التقدم ومجاوزة الحد في الأمر. ويقال : غلا وأفرط إذا تجاوز الحد في الأمر وإياك والفرط أي: لا تجاوز القدر وهذا هو القياس لأنه إذا جاوز القدر فقد أزال الشيء عن وجهته.
    وقال الجوهري صاحب الصحاح: غلا في الأمر يغلو غلواً وأفرط: أي جاوز فيه الحد .
    وجاء في لسان العرب: الإفراط : الإعجال والتقدم وأفرط في الأمر: أسرف . والإفراط : الزيادة على ما أمرت. والإفراط في الشيء هو الغلو فيه إذ الغلو : مجاوزة الحد. يقال غلا في الأمر يغلو غلوا : أي جاوز فيه الحد .
    قال ابن منظور في لسان العرب: غلوت في الأمر غُلواً وغلانيةً وغلانياً إذا جاوزت في الحد وأفرطت فيه، ويُقال للشيء إذا ارتفع: قد غلا.وغلا: جاوز حده وفي التنزيل.
    وقد ورد لفظ الغلو في موضعين من القرآن الكريم في سورة النساء في قوله تعالى ( ياأهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق) .وفي سورة المائدة في قوله تعالى : (قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق) . والمعنى: (لا تجاوزوا الحد في إتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الألوهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله).
    كما ورد في السنة لفظ ( الغلو ) في عدة أحاديث منها: حدث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غداة العقبة وهو على ناقته : ألقط لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ثم قال : يا أيها الناس إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين. ومنه قـول الرّسول (ص): (أقرؤوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه). ومعنى الغلو فيه : التشدد ومجاوزة الحد .
    أما التفريط : فهو التقصير وإزالة الشيء عن مكانه .
    وجاء في الصحاح : فرط في الأمر فرطاً : أي قصر فيه وضيعه حتى فات وكذلك التفريط .
    وفي لسان العرب : وفرط في الشيء وفرطه : ضيعه وقدم العجز فيه .
    وقد وردت مادة ( فرط ) في القرآن الكريم في ثمانية مواضع منها: قوله تعالى: ( حتى إذا جآءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) . وقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) . وقوله تعالى: (حتى إذا جاء أحدهم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون) . وقوله تعالى: (قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) .
    كما وردت في السنة في عدة أحاديث منها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم (أما إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى).
    والتفريط هنا بمعنى التقصير. وبهذا يتضح أن الإفراط والتفريط أصلهما مأخوذ من مادة " فرط " وهي بالتخفيف الإسراف في العمل وبالتشديد التقصير فيه.

    من هم المفرطون والمتطرفون؟ وكيف يمكن أن نكون وسطية في الأمور؟

    لأجل الجواب على هذا السّؤال، يجب إيضاح مواضيع الإفراط والتفريط والتطرف والوسطية، وسوف أوضّح هنا موضعين مهمين وأراهما أشدّ خطراً على الأفراد والشعوب وما سواهما قد تخص الشّخص نفسه أو قد تقل ضررهما على المجتمع بشكل مفصل. وفي نهاية المقالة يمكن التطرق على البقية الباقية:

    1ـ أولهما الإفراط والوسطية في طلب العلوم:
    ويمكن تقسيمها إلى قسمين:
    القسم الأول: الوسطية في الجهل: يعني لا الجهل وعدم التعلم بتاتاً، فيؤدي إلى الجهل بخالق الكائنات والبشر وبعدها الإفراط في الكفر به وعدم طاعة أوامره، لأنَ الدّين الإسلامي يأمر الإنسان إلى معرفة ضروريّات العلوم الإسلاميّة والتي يفرض على معرفتها لكل مسلم عاقل بالغ ويسمى الضروريات "بفرض العين" من العلوم، ولا يُعذر الجهل بمخالفةِ أوامر الله تعالى، وتدخل في مجموعة علم أصول الدّين، وبالدّرجة الأولى علم العقيدة. ومن مواضيعه الإيمان بالله وما أنزل وأُمر به. وفي الدّرجة الثّانية علم الأخلاق وقسم من علم الفقه، ومن مواضيعه تنفيذ الأعمال الصّالحة والنّهي عن الأعمال القبيحة، هناك أيات كثيرة تثبت ذلك (من آمن باللهِ واليوم الأخرِ وعملَ صالحاً فلهم أجرهُم عند ربهم) . (إلاّ مَن تاب وعملَ صالحاً فأولئكَ يدخلونَ الجنّةَ) .(الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات طوبى لهم وحُسن مآب) . وكما يقول المثل (الإنسان عدو ماجهل) لذا إذا لم يعرف الإنسان من العلوم الدّينية شيئاً فقد يؤديه إلى الكفر والعصيان والنفاق، وآيات وأحاديث كثيرة على هؤلاء. والمنافقون كما نعلم من الكتب الدينية صفاتهم فهؤلاء أشدّ كفراً من الكافرين فيقول الله تعالى (إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النار) .
    والقسم الثاني: الوسطية في التعلم: لا التعلم لعلم واحد أو لعلم تخصصي والأرتقاء فيه دون العلوم الأخرى، ولا التخصص للعلوم المحرمة فقط، ومن العلوم المحرمة مثل علم السّحر والنجوم والطّلاسم وعلم الموسيقى الضّالة منها، وعلم الفلسفة (للفرق الضّالة فقط أي الفلسفة اليونانية القديمة الذي تبحث في جوهرها عن الله و أصل الكون وعلّتهِ وحقيقتهِ ولا يبحث عن ظواهر الكون ونظمهِ ونواميسهِ) وعلم الكلام (المخلوط بعقائد الفلاسفة الضّالة). وعلم المنطق (المخلوط بعقائد الفلاسفة الضّالة) وعلم الجفر والحرف (الذي يطّلع النّاس على الغيبيّات)، فالذي يكسب هذه العلوم دون علم العلوم الإسلامية قد يؤديه إلى الكفر والعصيان والنفاق كما في موضوع الوسطية في الجهل، ومن أقوال الرسول (ص) على هؤلاء (إنّي لاأ تخوّف على أُمتي مؤمناً ولامشركاً فأما المؤمن فيحجزه إيمانه وأما المشرك فيقمه كفره ولكن أتخوّف عليهم منافقاً عالم اللسان يقول ما تعرفون ويعمل ما تنكرون) رواه الطبراني والبزاز. (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان) حديث رواه الدارقطن، (سيكون أمراء فسقة فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولستُ منه ولن يردعلى الحوض) رواه احمد والنسائي والترمذي والبزاز. فهؤلاء جهلة لضرورات العلوم الإسلامية، وقد يهدفون من وراء علومهم كسب دنيوي ورضاء النفس الأمارة بالسوء من شهرة ومقام وأموال ومنكرات ونحو ذلك.
    لذا يجب الإنتباه هنا إلى أن للأموال دور مهم في الوصول إلى الهدف وعامل بارز في تقوية مركز هؤلاء ووصولهم إلى مآربهم الخبيثة الفاسقة ثمّ يؤدي هذا ظلم وطغيان أكثر، فعلينا الحذر واليقظة من مكر هؤلاء، وعلينا أيضاً الأخذ بالتدابير اللاّزمة لتقوية إقتصاد المسلمين وتعزيز حكمهم ضدّ هؤلاء. فالإسلام كما ذكرنا وسطية في ذلك يشوق الإنسان على التعلم والثقيف الذاتي لكافة العلوم سواء العلوم الدّينية والفنية والأدبية والفلسفية وحتى التكنولوجيا ونحو ذلك. وفي موضوع تعليم وفضل العلوم آيات وأحاديث كثيرة ومعروفة لدى المسلمين ولا داعي إلى ذكرهم.

    2ـ وثانيهما الإفراط والوسطية في العبادة:

    لا الإفراط ولا تفريط في التّقوى وفي العبادات الإسلامية. ولأجل توضيح الإفراط في العبادة يمكن تقسيمها إلى قسمين:
    القسم الأول: يظنون أنهم يحسنون صنعاً: فيتجرأون بسبّ الرّسل وحتى النبي محمد (ص) والإفتراء عليه وعلى زوجاته وحتى في سب العشرة المبشرة بالجنة، وعدم قبولهم بعض آيات من القرآن الكريم والأحاديث النبوية وحتى يردّون كله أو يصوغون مبادئ العزلة والتكفير كشعار إسلامي لهم فيكفرون كل من لا يسير على منهجهم، أو يستعملون قانون الغاب وقانون سيادة القويّ على الضّعيف فيظلمون ويطغون.. علماً أنّ فرق الإسلام بدأت بعد الرسّول (ص) بشكل واضح ولأسباب سياسية كما نعلم منهم:
    ـ شيعة علي بن أبي طالب.
    ـ شيعة معاوية بن أبي سفيان.
    ـ شيعة المحكمة التي رفضت التحكيم وهم الخوراج ثمّ تفرقت إلى فرق عديدة منها المرجئة والإباضية وغير ذلك. ثمّ تعددت تحت أسماء مختلفة وجديدة كما نرى في عصرنا.
    لذا نحن لا نريد التطرف إلى أي طائفة من هذه الطوائف، ولا نريد تكفير شيعة علي (رض) ولا شيعة معاوية (ع)، ولا تكفير الكل بالإطلاق كما عند الخوارج. بل نريد إحترام الأنبياء والصحابة ورعاية حقوق الإنسان وأن يرد الأمر إلى الله تعالى وإلى القرآن والسّنة، وأن لا يحكم على كل من يختلف في رأيه أنه عدو وأنه كافر.

    القسم الثاني: يظنون أنهم أفضل من النبي محمد (ص): لقد وقع في عهد رسول الله محمد (ص) وقد ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك قال: "جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبدًا. فجاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني". فهؤلاء غلو في الدين وتبرأ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم رغبوا عن سنته صلى الله عليه وسلم.
    والإسلام يرفض تصرفات القسمين أعلاه ويريد منهم الوسطية والإعتدال في سلوكهم وتصرفاتهم، ففي كل عصر نجد أمثال هؤلاء فيتكرر في مجتمعات العالم الإسلامي فنجدهم مرة هم في داخل الأحزاب والأقوام والطوائف المتطرفة ومرة أخرى مع الحكام والأمراء، وبأعمالهم هذه فقدوا وسيفقدون دائماً عند العلماء والمثقفين وأهل الحل والعقد من الناس وحتى عند الشّعب، كلّ صفات الشهامة والرّجولة والأصالة والغيرة والنخوة والأخلاق الفاضلة، وحتى أنهم يفقدون هويتهم الشّخصية ودينهم وحضارتهم ومرؤتهم، والسّبب بسيط لأنهم إبتعدوا عن المنهج الرّباني وصراطه المستقيم.

    الإسلام دين سماحة

    لقد حث عليها القرآن الكريم بألفاظ شتى تدل عليها: الرحمة، العفو، الصفح، الغفران، كما أن الرسول محمد عندما سئل أي الأديان أحب إلى الله، قال : الحنفية السمحة. وقوله عز وجل : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) . وقد وجه الله تعالى رسوله محمد في التعامل مع أصحابه بالعفو والاستغفار لهم والتشاور معهم, مصداقا لقوله تعالى : (خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين) . وقوله أيضاً: (فبما رحمة من الله نلت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لنفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر) . فقد دعا القرآن الكريم نبيه محمد بأن يقابل السيئة بالحسنة، (ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) . ولم يقتصر هذا التوجيه على النبي (ص) وإنما أمر أن يبلغه للمؤمنين (قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون) . (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) .

    كيف يمكن الإبتعاد عن علة الإفراط

    في الحقيقة أن تفسير موضوع الإفراط والتفريط لا يحتاج إلى ذكاء خارق بل يحتاج إلى تعلم بإنصاف فالخير والشّر والحسنات والسّيئات والحلال والحرام معروف لدى الجميع حتى عند الكتب السماوية ومنطمة الأمم المتحدة وإن إختلفت في بعض مواضيعها.
    ولأجل القضاء على مرض الإفراط والتفريط يجب علينا أن نعرف أسباب وعلة ظهورها فمثلاً سبب ظهور المذاهب الدينية المتعددة والطرق الصوفية المتفرقة والقوميات والأحزاب والجمعيات والمدارس المتطرفة وحتى الغير المتطرفة. وبعد معرفة أسباب الظهور يمكن إعطاء الحل الشّافي والعلاج الكافي فإذ كان سبب إنشاءها من أجل معرفة وتمايز الأشخاص العاملة والسّاعية والمجتهدة والكسولة والخاملة والمتطفلة، وكان الهدف هو السباق الشّريف لتسليم قيادة خلافة الأرض وحماية أمن الأمة والعيش بعادلة وحرية وسلام فهذا شيء طبيعي لأنه من حق كلّ شعب في أن يتسابق في عمل الخيرات ومن أجل إرضاء الله تعالى وحماية وطنه وشعبه وأمته لأنه من مزايا طبيعة الإنسان الفطرية، (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) ، فيجبر هذا الوضع بأن يكون الحاكم والأمير والمقتدر قدوة حسنة ومثلاً أعلى في المجتمع، وأن يكون رافعاً راية الحضارة إلى الشّموخ وهادفاً لنشر العدالة والوحدة والحرية والإستقرار والأمن والمساواة بين المواطنين وهذا مطلب شرعي لكل إنسان شريف وشعب أصيل كما ذكرنا.
    ولكن إذا كانت علة ظهور هذه الفرق المبينة أعلاه إفشاء الفتنة والظلم والعداوة والبغضاء فهذا الموضوع غير شريف وغير طبيعي فيحتاج إلى تداوي وأخذ التدابير اللاّزمة بحقهم، لأنه قد زرع في نفوس الشعوب بذور المنكرات والخلافات والفرق والفتن.
    فكيف يمكن إذن أن نحل مشكلة إفراط وتطرف القسم الثاني؟ فيكون إمّا بالرّجوع إلى أنفسهم وإصلاحها ويكون بالقراءة والتعلم والتّفكر والتعقل لأحكام الله تعالى ثم طاعته في كل صغيرة وكبيرة، وكذلك بإصلاح صنفان من الناس (صنفان من النّاس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء) رواه أبونعيم في الحلية. (أفة الدّين ثلاثة: فقيهٌ فاجرٌ وإمامٌ جائرٌ ومجتهدٌ جاهلٌ) في الجامع الكبير رواه الدّيلمي عن إبن عبّاس. (أشدّ النّاس عذاباً عالم لم ينفعه علمه) رواه إبن ماجة والطّبراني وإبن عُدي.
    وبعد إصلاح النفس وإصلاح العلماء والأمراء ولأجل أن لا يتكرر تاريخ أحداث الظلم والطّغيان، علينا أن نأخذ الدّروس والعبر من الأحداث السّابقة، كما أمرنا الرسول (ص) بقوله (لا يلدغ المرء من جحر مرتين).
    أو أن يكون الحل الثاني لمشكلة الإفراط والتطرف إذا لم يعقلوا فيكون الإصلاح بالعقوبة والجزاء الرّادع وبالقصاص المعروفة في الأحكام والأعراف الإسلامية، وكذلك في الأحكام والأعراف العالمية وإن كانت الأخيرة غير مطمئنة لدى أكثر المسلمين، أمّا موضوع العقوبة إمّا أن تعطي الحكومة للأفراد والجماعات، أو المنظمات الدّولية العادلة للدول الظّالمة.

    ما نظرة الإسلام في التطرف القومي والمذهبي

    آيات وأحديث كثيرة في هذا الموضوع وأذكر قسم منها ففي قوله تعالى (والّذين أمنوا بالله ورسله ولم يُفرّقوا بين أحدٍ منهم) . (ولا تكونوا من المشركين، من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً) . (ما للظالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يُطاع) . (وما للظالمين من نصير) . وقول الرسول (ص) (لاترجعوا بعدي كُفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعضٍ) رواه مسلم. (ليس منا من دعا الى عصبية) متّفق عليه. (إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النّار) رواه الشيخان والترمذي والنسّائي. (لا فضل لعربي على أعجميّ ولا لعجمي على عربي إلاّ بالتقوى) رواه الشّيخان. (حرمت الظّلم على نفسي وجعلته بينكم محرّماً فلا تظالموا) رواه مسلم. (إتركوها فإنّها نتنة). (النّاس سواسية كأسنان المشط).
    وقد يدّعي بعضهم بقولهم البادي في الظلم هو أظلم! فأقول أين ذهب البادون إذن، وكيف يمكن لنا أن نحكمهم بعد مرور 14 عصراً؟ ألم ينتهي الغل والحقد والطّغيان والظلم في نفوسكم؟ ثمّ من الذي سيحكم على صحة أحقية الأقوال؟ كل حزب يؤيد قول حزبه ورئيسيه تأيداً عمياء، فكيف يتم العدالة؟، فقال الله تعالى (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، وسؤال أخر ما ذنب الأجيال من أعمال الأباء والأجداد؟ فأين أنتم من قول الله تعالى (ولا تزروا وازرة وزر أخرى) ، (لا إكراه في الدّين) ، (إنّما المؤمنون إخوة) ، (من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً) ، وأين بقي كلام الأجداد "إذا قدرت على عدوك فأجعل العفو عنه شكر القدرة عليه"
    "العفو عند المقدرة". "العفو يصلح الكريم ويفسد اللئيم."
    والمتطرفون من المتعلمين والمتفقهين لا يسلموا من هذه الآفة فهناك الكثير كذلك يمنون على الله تعالى بمظاهرهم بطول اللحى وتقصير الثياب وطول السواك وكبر العمامة وطول عذبتها فيراؤن للناس ويخدعونهم، وأقول لهم في الله إرجعوا إلى مناهج الإسلام الحقّ كما أمرنا الله تعالى لا كما أمر أنفسنا الأمارة بالسّوء وأن نكون وسطية في كل أعمالنا وأن لا تكونوا ممن ذكرهم الله تعالى (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) ، وقول رسوله (ص) (السّاكت عن الحق شيطان أخرس).
    وأقول لكل قومي وطائفي ومذهبي متطرف: ماذا ستربحون من وراء الحقد والبغض والعداوة؟ ومتى ستفيقون وتعرفون الحق والطريق المستقيم؟ هل عندما يأتي الموت ولا تقبل التوبة عندها، كما قال سبحانه وتعالى (وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا عليهم عذاباً أليماً) . والإسلام كما تعلمون يدعو إلى السّلام وإلى الأخوة، وهو بريء من كافة أقوالكم وأعمالكم.

    ماهي مواضيع الوسطية في الإسلام

    وإليكم مواضيع أخرى عن الإفراط والتفريط والتي حرمها الإسلام لنا: وهنا لا يحتاج إلى إستدلال عن كل موضوع باللآيات والأحاديث لأنها معروفة عند المسلمين عموماً.
    1ـ وسطية في الإقتصاد: عدم الإسراف وعدم البُخل قال تعالى (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً) (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً) . 2ـ وسطية في القصاص: عدم الإفراط في المسامحة واللّين لأنها ضعف وعدم الشّدة أو الغُلظ في الأمر لأنها ظلم بل يتطلب منا الشّجاعة والشّهامة في ذلك الأمر. 3ـ وسطية في طلب الرّزق: عدم الفقر لدرجة الكُفر والذل والتسول بدون عذر وعدم الغِنى لدرجة الطّغيان وعدم إعطاء الزّكاة للفقراء ثم تبذير الأموال في المحرّمات. 4ـ وسطية في الزواج: عدم الرّهبانية وترك الدّنيا وكذلك عدم الغرق في الشّهوات، بل يريد الإسلام زواجاً صالحاً وأسرة صالحة مبنية على الزّواج المحلل. 5ـ وسطية ما بين الصبر والعجلة: لا صبر فيهِ ذل وتأثير على الإيمان ولا عجلة الّذي فيهِ الهوان وخسارة في الإيمان. 6ـ وسطية في السّعي والكسب: لا كسب وسعي يلهي الفرد عن عبادة الله ولا عجز وكسل عن السعي فيؤدي إلى الهلاك. 7ـ وسطية في الملبس والطّهارة: عدم إظهار حساسية في نظافة تامّة كما يفعلهُ المرضى نفسيّاً بحيث لايأخذ البكتريا المفيدة فيؤدّي إلى عدم المناعة والتّهلكة. ولا وساخة كبيرة بحيث يؤدي إلى هجوم الجراثيم والتمرض. 8ـ الوسطية في التعامل مع الناس: لا بطول الكلام المؤذي والممل للسامع، ولا سكوت دائم حتى على الحق والأمر بالمعروف. 9ـ وسطية في الخوف: لا خوف فيهِ ذُل وهوان ولا عدم الخوف يؤدي إلى الإنسان إلى الجبروت والطّغيان لأوامر الله تعالى، بل يطلب منا الإسلام خوف من الله تعالى ومن عقابه أيضاً بإختصار أن يعرف مواضيع الترهيب والتّرغيب في الإسلام، وكذلك يجب أن يخاف من غضب الشّعب والناس عند عدم إحترام حقوقهم، فإذا فعل هكذا يكون عند الله تعالى شجاعاً أميناً عادلاً. 10ـ وسطية في الكذب: لا الكذب الدّائم يؤدي إلى ضرر الناس ولا الصّدق في كلّ زمان ومكان فيؤدي إلى الضرر أيضاً كما أجاز لنا الإسلام الكذب في مواقع ثلاثة كما في قوله (ص) (لا يصلح الكذب إلا في إحدى ثلاث: الرجل يكذب على امرأته ليصلح خلقها، ورجل يكذب ليصلح بين امرأين مسلمين، ورجل كذب في خديعة حرب فإن الحرب خدعة) رواه الإمام حمد في مسنده، كذلك يجوز الكذب في مزاح لطيف لا يؤثر على الإيمان كما فعله الرسول (ص) مع الناس. 11ـ الوسطية في الحرية: لا حريّة مطلقة وإباحية تامة يضر الأخرين ولا دكتاتوريّة مطلقة فيؤدي إلى تجاوز الحقوق. 12ـ وسطية في الإنجاب: لا أولاد كثيرة بدون تربية إسلامية وتأمين العيش السّعيد للأفراد ولا عدم إنجاب الأولاد خوفاً من الفقر أو أنانية الأباء لعدم صبرهم وتحملهم على إيذاء تربية الأطفال وإفساد راحتهم، أو بسبب طاعة لسياسة حُكومة ظالمة. 13ـ وسطية في الإنفاق: لا كنز الأموال بدون فائدة له ولمجتمعه، ولا إسرافها في الهباء بدون فائدة وتؤدي إلى الضّرر له ولأسرته ومجتمعه. 14ـ الوسطية في التعصب: لا التّعصب في القوميّة وجعلها كقاعدة جاهلية "أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، ولا تركها لا يعرف الإنسان نسبهُ وأصالتهُ ولا يباهي في شجاعة وأمجاد حضارة أجداده وعلماءه. 15ـ الوسطية في المشي: لا المشي المتبختر ولا مشي الذل والجبان كقوله تعالى (ولا تمشي في الأرض مرحاً إنّ الله لا يحب كل مختال فخور) (وعباد الرّحمان الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً) . 16ـ الوسطية في التستر: لا حجاب التي تقشعّر العين لبلدٍ لمْ يعتد بهِ الأكثريّة ولا سُفور كاسح ليس فيها حياء. 17ـ الوسطية في التواضع: لا تواضع أكثر من الّلازم يؤدي إلى ضعفٍ ولا كِبر أكثر من الّلازم فيؤدي إلى نار جهنم. 18ـ الوسطية في الحسد: لا حسد فيها أنانية يؤدّي إلى النّزاع والإقتتال، ولا عدم الحسد التي فيها عدم الطلب والغيرة للكسب وحفظ الشّرف والإيمان ويؤدي إلى الهلاك، وبدلاً منهما حلل علينا الله الغبطة في منافسة الدّين والشّرف والإيمان والعِلم وحتى في المال من أجل عمل الخير وفوز الأخرة. 19ـ وسطية في رفع الأصوات عند المحادثة: لاصوت لا يُسمع منها ولا صوت عال يؤذي الناس، كقوله تعالى (وأغضض من صوتك إنّ أنكر الأصوات لصوت الحمير) . 20ـ الوسطية في الشّهادة: لا الشّهادة من أجل النفس والطّواغيت من الأشخاص وإفادته بشهادة الزّور (وإجتنبوا قول الزّور) . ولا ترك الشّهادة على الإطلاق خوفاً من الموت، بل علينا الشّهادة من أجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل ومن أجل حماية دين الله تعالى وكسب رضاه، ومن أجل حماية الوطن والشّرف من الأعداء. 21ـ الوسطية في الأكل: لا أكل كثير ويؤدي إلى الشراهة وفساد المعدة، ولا عدم الأكل فيؤدي إلى الجوع ونقص في الفيتامينات ويؤدي إلى الموت. 22ـ الوسطية في السّكوت: لا السّكوت على الظلم ولاقبول لطم الخد ثم تحويل الخد الأخر، ولا الإنتقام أكثر من مثلها، (أنّ النفس بالنّفس والعين بالعين ..) ، والعفو عند المقدرة محبوب عند الله تعالى. 23ـ الوسطية في الضّحك: لا الضّحك بالقهقهة فيكون فيها خفة، ولا الوجه العبوس، بل يأمرنا بالوجه البشوش المبتسم وحتى الوجه المضحك بضحكة لطيفة لكل أمر جميل لأنّ الرسول (ص) ضحك في مواقف عديدة كما نجد في الأحاديث الشّريفة. 24ـ الوسطية في الغيرة: لا الإفراط في الغيرة فيؤدي إلى الجنون ولا عدم الغيرة فيكون الإنسان ديوثاً أي لا يغار على أهله. ونحو ذلك من مواضيع الوسطية الكثيرة التي يأمرنا الله تعالى في القرآن الكريم. وحتى أنّ أكثرها قبلت في قرارات الأمم المتحدة.

    والله ولي التوفيق.
    (إنّ الله لا يُغير ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفس) صدق الله العظيم
يعمل...