الأثر القرآني على اللغة
آخر تحديث:الجمعة ,06/08/2010
أ .د . قصي الحسين
رأى العرب في بلاغة القرآن وروعة أسلوبه ما بهرهم وأثار إعجابهم، فانساقوا إلى تقليده ومحاكاته . وبلغ من افتتان العرب بالقرآن وإعجابهم به أن امتنع بعضهم عن قول الشعر، كما فعل لبيد بن ربيعة أحد أصحاب المعلقات؛ فإنه قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في وفد من قومه، وأسلم وحسن إسلامه . واستغنى بالقرآن وقراءته عن شعره الذي نبغ فيه، حتى إنه لم يصح عنه في أربعين سنة قضاها في الإسلام إلا بيت واحد:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وهو في رواية الأغاني:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالاً
وكان إذا سئل عن شعره تلا سورة من القرآن وقال: أبدلني الله خيراً منه . شاعت ألفاظ القرآن وطرائقه في جميع القبائل العربية، وأصبحت معروفة لديهم فيما ينشئون من خطب وأشعار . فكان لهم بذلك لغة عامة، وحدت مشاربهم وخلقت فيهم خيالاً متجانساً ومثلاً عليا متحدة .
جلال الإعجاز
نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً: فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه وفي أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهرها على بواطن أسرارها . فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراوة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا ينقضي العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب فحسب، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود، لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة عظيمة يقول الأستاذ كرد علي: “والقرآن أبلغ كتاب للعرب، ولولاه لما كان لهم أدب ولا شريعة “كِتَابٌ فُصلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” عجز فصحاء العرب عن الإتيان بمثله مع أنهم خصوا بالتحدي، وكان للفصاحة عندهم المكان الأرفع، فاعترفوا بعد جدال طويل: “إن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه على أساليب الكلام المعتادة” .
الفطرة اللغوية
والقرآن جمع العرب على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن الفطرة اللغوية التي جعلت أهل كل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مرغباً، إذ يرونها كمالاً لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها من دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه . ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء كهذا الكمال البياني في القرآن أن يجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسباب المتباينة، والصفات المتعادية، ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقياداً يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرة والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسع بينه وبينهم الغاية .
ويتحدث محمد حسين هيكل عن توجيه القرآن للناس إلى ما يستطيعون معرفته من أمره: “والقرآن يتحدث عما في الكون من خلق الله حديثاً يوجهنا إلى غاية ما نستطيع معرفته من أمره . فهو يتحدث عن الأهلة، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الأرض وما خلق فيها، والسماء وزينتها كواكبها، وعن البحر يزجى الله الفلك فيه لتبتغي من فضله، وعن الأنعام التي نركبها وزينة، وعن كل ما في الكون من علم وفن” .
ويتحدث القرآن عن هذا كله، ويدعو إلى النظر فيه والى دراسته والى الاستمتاع بآثاره وثمراته شكراً لله على نعمته .
وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس .
وجملة ما عدّوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو مائة لفظة، جميعها إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسد مسدها .
عن الخليج الاماراتية
آخر تحديث:الجمعة ,06/08/2010
أ .د . قصي الحسين
رأى العرب في بلاغة القرآن وروعة أسلوبه ما بهرهم وأثار إعجابهم، فانساقوا إلى تقليده ومحاكاته . وبلغ من افتتان العرب بالقرآن وإعجابهم به أن امتنع بعضهم عن قول الشعر، كما فعل لبيد بن ربيعة أحد أصحاب المعلقات؛ فإنه قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم في وفد من قومه، وأسلم وحسن إسلامه . واستغنى بالقرآن وقراءته عن شعره الذي نبغ فيه، حتى إنه لم يصح عنه في أربعين سنة قضاها في الإسلام إلا بيت واحد:
ما عاتب الحر الكريم كنفسه
والمرء يصلحه الجليس الصالح
وهو في رواية الأغاني:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى لبست من الإسلام سربالاً
وكان إذا سئل عن شعره تلا سورة من القرآن وقال: أبدلني الله خيراً منه . شاعت ألفاظ القرآن وطرائقه في جميع القبائل العربية، وأصبحت معروفة لديهم فيما ينشئون من خطب وأشعار . فكان لهم بذلك لغة عامة، وحدت مشاربهم وخلقت فيهم خيالاً متجانساً ومثلاً عليا متحدة .
جلال الإعجاز
نزل القرآن الكريم بهذه اللغة على نمط يعجز قليله وكثيره معاً: فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه، إذ النور جملة واحدة وإنما يتجزأ باعتبار لا يخرجه من طبيعته، وهو في كل جزء من أجزائه وفي أجزائه جملة لا يعارض بشيء إلا إذا خلقت سماء غير السماء، وبدلت الأرض غير الأرض، وإنما كان ذلك لأنه صفى اللغة من أكدارها، وأجراها في ظاهرها على بواطن أسرارها . فجاء بها في ماء الجمال أملأ من السحاب، وفي طراوة الخلق أجمل من الشباب، ثم هو بما تناول من المعاني الدقيقة التي أبرزها في جلال الإعجاز، وصورها بالحقيقة وأنطقها بالمجاز، وما ركبها به من المطاوعة في تقلب الأساليب، وتحول التراكيب، قد أظهرها مظهراً لا ينقضي العجب منه، لأنه جلاها على التاريخ كله لا على جيل العرب فحسب، ولهذا بهتوا لها حتى لم يتبينوا أكانوا يسمعون بها صوت الحاضر أم صوت المستقبل أم صوت الخلود، لأنها هي لغتهم التي يعرفونها، ولكن في جزالة عظيمة يقول الأستاذ كرد علي: “والقرآن أبلغ كتاب للعرب، ولولاه لما كان لهم أدب ولا شريعة “كِتَابٌ فُصلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” عجز فصحاء العرب عن الإتيان بمثله مع أنهم خصوا بالتحدي، وكان للفصاحة عندهم المكان الأرفع، فاعترفوا بعد جدال طويل: “إن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه على أساليب الكلام المعتادة” .
الفطرة اللغوية
والقرآن جمع العرب على لغة واحدة، بما استجمع فيها من محاسن الفطرة اللغوية التي جعلت أهل كل لسان يأخذون بها ولا يجدون لهم عنها مرغباً، إذ يرونها كمالاً لما في أنفسهم من أصول تلك الفطرة البيانية، مما وقفوا على حد الرغبة فيه من مذاهبها من دون أن يقفوا على سبيل القدرة عليه . ومن شأن الكمال المطلوب إذا هو اتفق في شيء من الأشياء كهذا الكمال البياني في القرآن أن يجمع عليه طالبيه مهما فرقت بينهم الأسباب المتباينة، والصفات المتعادية، ولولا ذلك ما سهل أن تنقاد الجماعات في أصل تكوينها منذ البدء انقياداً يكون عنه هذا الأثر الوراثي في طاعة الأمم لشرائعها؛ ثم لملوكها وأمرائها، مع ما تسام الأمة لذلك في باب من أبواب الإمرة والحكم والتسلط، كما أن من شأن النقص إذا تمثل في شيء أن يزيد في تفريق من يفترقون عنه إذا توهموه، حتى تتسع بينه وبينهم الغاية .
ويتحدث محمد حسين هيكل عن توجيه القرآن للناس إلى ما يستطيعون معرفته من أمره: “والقرآن يتحدث عما في الكون من خلق الله حديثاً يوجهنا إلى غاية ما نستطيع معرفته من أمره . فهو يتحدث عن الأهلة، وعن الشمس والقمر، وعن الليل والنهار، وعن الأرض وما خلق فيها، والسماء وزينتها كواكبها، وعن البحر يزجى الله الفلك فيه لتبتغي من فضله، وعن الأنعام التي نركبها وزينة، وعن كل ما في الكون من علم وفن” .
ويتحدث القرآن عن هذا كله، ويدعو إلى النظر فيه والى دراسته والى الاستمتاع بآثاره وثمراته شكراً لله على نعمته .
وفي القرآن ألفاظ اصطلح العلماء على تسميتها بالغرائب، وليس المراد بغرابتها أنها منكرة أو نافرة أو شاذة، فإن القرآن منزه عن هذا جميعه، وإنما اللفظة الغريبة ههنا هي التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، بحيث لا يتساوى في العلم بها أهلها وسائر الناس .
وجملة ما عدّوه من ذلك في القرآن كله: سبعمائة لفظة أو مائة لفظة، جميعها إلى لغات الفرس والروم والنبط والحبشة والبربر والسريان والعبران والقبط، وهي كلمات أخرجتها العرب على أوزان لغتها وأجرتها في فصيحها فصارت بذلك عربية، وإنما وردت في القرآن لأنه لا يسد مسدها .
عن الخليج الاماراتية