كنت أدرك من غير شك أو تردد الأهمية الاستثنائية للوثيقة العثمانية رقم Y.PRK.AZJ. 27/39 التي ترجمها ونشرها الأستاذ كمال خوجة، والمحفوظة في أرشيف الوثائق العثمانية لدى رئاسة الوزراء التركية، لكن لم يدر بخلدي، ولم يخطر ببالي قط أن القراءة المتأنية التي نشرتها تحت عنوان (قراءة متأنية في وثيقة الأستاذ كمال خوجة)، ستثير مثل ذلك الاهتمام غير العادي.
لذلك فقد رأيت من المفيد أن أعيد القراءة مرة أخرى، وأن أقوم بتوسيع البحث وأن أتوسع في نقل ونشر المزيد من المعلومات المتعلقة بالوثيقة المذكورة، وبموضوع المحاولات الأولى لنقل الأراضي الفلسطينية من خلال أوائل بائعي الأراضي الفلسطينية إلى أوائل المهاجرين اليهود، خلال العقود الثلاثة الأخيرة المشئومة من القرن التاسع عشر.
أبدأ أولا بالترحم على السلطان عبد الحميد خان الثاني، الخليفة العثماني الذي تنبه للمخططات الصهيونية اليهودية منذ ولادتها، فتصدى لها بحكمة، ورفض بشدة كافة العروض المغرية، وأمر باتخاذ التدابير المشددة من أجل الحيلولة دون تحقيقها. وقد خرجت هذه الوثيقة إلى حيز الوجود لتثبت كيف تم انتهاك تلك التدابير من قبل حفنة من الموظفين الذين أعمتهم الرشوة وأعماهم الطمع وحب المال، فكانوا الجسر الذي عبر المهاجرون اليهود من خلاله خلسة وتحت جنح الظلام إلى أرض فلسطين.
عمليات التمهيد من أجل تأسيس دولة يهودية في فلسطين كانت قد بدأت بشكل رسمي في شهر تموز من عام 1882، وقد ترافقت بداية هذه العمليات مع المحاولات الأولى التي كان يقوم بها أثرياء يهود من أجل شراء أراض من العثمانيين في فلسطين، وقد اكتسبت هذه المحاولات بعدا جديدا بعد المبادرات التي قام بها الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل لدى السلطان العثماني والحكومة العثمانية أثناء زياراته الخمس التي قام بها تباعا إلى اسطنبول خلال الاعوام 1896-1902. لكن رد السلطان العثماني على تلك العروض المغرية ورفضه الشديد لها كان قاطعا، كما أنه لم يكتف بذلك، بل أرسل تهديده إلى ثيودور هرتزل من خلال صديق الأخير نيولنسكي (Newlinski)
"إذا كان السيد هرتزل صديقا لك فبلغه أن لا يقدم على خطوة أخرى في هذا الموضوع. فأنا لن أبيع ولو شبرا واحدا من الأرض. لأن هذا الوطن ليس ملكا لي بل هو ملك أمتي. لقد حصلت أمتي على هذا الوطن بدمائها. وقبل أن يأخذ منا هذا الوطن ويبتعد عنا، سوف نغرقه بدمائنا مرة ثانية. إن جنود كتائب سوريا وفلسطين قد سقطوا شهداء واحدا تلو الآخر في بليفنا (Blevna)، لقد استشهدوا عن آخرهم، وبقوا في ساحة القتال، ولم يعد أي واحد منهم. فالدولة العلية العثمانية ليست ملكا لي، وإنما هي ملك للعثمانيين. وأنا لن أعطي أي جزء منها إلى أي أحد. لندع اليهود يحتفظون بذهبهم، فإذا ما تمزقت إمبراطوريتي يمكنهم عندها الاستيلاء على فلسطين دون مقابل. لكن هذه البلاد يستحيل تقسيمها إلا على أشلائنا. وأنا لن أسمح أبدا بإجراء عملية جراحية على جسد حي."
لكن، وعلى الرغم من ذلك، فقد كان اليهود يكررون عرضهم بتسديد ديون الحكومة العثمانية مقابل فلسطين، بل ومقابل منحهم سنجق عكا ومدينة حيفا على الأقل. لكن المسئولين العثمانيين الذين أبدوا استعدادهم لتقديم بعض الامتيازات الاقتصادية للمستثمرين اليهود، كانوا يرفضون بشدة بيع فلسطين لليهود، وكانوا يقولون بأنهم لن يفعلوا ذلك أبدا.
سفير الدولة العثمانية المعروف بمواقفه الوطنية علي فروح بك (Ali Ferruh Bey – Ali Farrouh)، قام بتاريخ 24 نيسان 1899 بالإدلاء بتصريح إلى إحدى الصحف الأمريكية قال فيه: "ليس في نية حكومتنا أن تبيع أي جزء من البلاد العربية، حتى ولو ملئوا جيوبنا بملايين القطع الذهبية" وأضاف السفير علي فروح في نفس التصريح قائلا بأن قضية فلسطين ليست قضية اقتصادية، بل هي قضية سياسية، لذلك فلا علاقة لوزارة المالية بهذه القضية.
ولم يكتف السلطان عبد الحميد الثاني برفض عروض اليهود، لكنه قام في نفس الوقت باتخاذ التدابير الفعالة ضدهم، من أجل الحيلولة دون استيطانهم في فلسطين. كما أنه قام للسبب نفسه بمبادرات دبلوماسية لدى القوى العظمى، وحاول إعاقة صهينة اليهود، وأمر بوضع أنظمة لدخول البلاد، وبذل الجهود من أجل منع اليهود من الحصول على حماية أجنبية، كما أنه أصدر أوامره بمنع بيع الأراضي الفلسطينية إلى اليهود.
قام السلطان عبد الحميد الثاني بالاتصال مع الإمبراطور الألماني وليم الثاني (Wilhelm II. – William II.)، وبين له أن مشروع هرتزل (الصهيونية) لا يتماشى مع مبدأ "وحدة الأراضي العثمانية والسيادة عليها"، الأمر الذي دفع ألمانيا التي أيدت الصهيونية في السابق، إلى التخلي عن موقفها وتوجهها هذا في السنوات الأولى من القرن العشرين. وعلى الرغم من قيام وزير الداخلية الروسي بليف (Plehve) بتوجيه خطاب إلى هرتزل في شهر آب عام 1903 يقول فيه "إن الحكومة الروسية تؤيد الصهيونية، طالما كان هدفها إقامة دولة مستقلة في فلسطين"، إلا أن الحكومة الروسية أيضا تناست وعدها هذا بعد مدة، وكفت عن تأييد الصهيونية. أما الحكومة الفرنسية فقد كانت منذ البداية ضد الصهيونية، لانها كانت تعتبر فلسطين جزءا من سوريا التي كانت تطمع في احتلالها واستعمارها منذ عقود، أما بريطانيا والولايات المتحدة فقد كانتا تقدمان أكبر دعم إلى الصهيونية.
اللوبي اليهودي كان يملك نفوذا كبيرا في أمريكا، لذلك فقد قام السلطان عبد الحميد الثاني بمحاولة من أجل ثني هذا اللوبي عن توجيه الدعم والتأييد إلى الصهيونية، وبواسطة زعيم المسلمين الأمريكان في ذلك الوقت محمد ويب (Mohammad Webb) تمكن السلطان العثماني في عام 1898 من الوصول إلى إلى ريتشارد غوثيل (Richard Gottheil) زعيم اليهود الأمريكان، ودعاه إلى التخلي عن الآمال في (الاستيطان اليهودي في فلسطين). قامت الحكومة العثمانية بالاتصال مع الجماعات اليهودية الدينية والإصلاحية في أمريكا وروسيا بشكل خاص، محاولة افهامهم بأن إنشاء دولة يهودية مستقلة في فلسطين سوف يؤدي الى حرمانهم من كافة ممتلكاتهم في أمريكا وروسيا حيث يعيشون برفاهية، وسيؤدي إن تحقق ذلك إلى نفيهم إلى فلسطين الخالية تقريبا من الإمكانيات المادية. وقد كان فقدان الاتحاد الصهيوني الأمريكي للكثير من أعضائه بعد هذه المحاولات دليلا على مدى نجاعتها ونجاحها.
وقد قامت الحكومة العثمانية في تلك الفترة، باتخاذ تدابير جادة تمنع بشكل خاص دخول المهاجرين اليهود واستيطانهم في الأراضي العثمانية. في البداية قامت الحكومة العثمانية بتوجيه تعليماتها إلى سفاراتها وممثلياتها في الخارج، وطلبت عدم منح التأشيرات للمشبوهين من اليهود. كانت الحكومة العثمانية تتابع عن قرب كافة الأنشطة الصهيونية في اوروبا، لذلك كانت قوات الأمن العثمانية تقف بالمرصاد للمهاجرين اليهود الذين كانوا يدخلون البلاد سرا عن طريق مينائي حيفا ويافا بشكل خاص، وكانت تقوم بإعادة تسفيرهم إلى الجهات التي فدموا منها. وفي شهر تشرين الأول من عام 1882 قامت الحكومة العثمانية بفرض حظر على دخول اليهود إلى فلسطين باستثناء القادمين لزيارة الأماكن المقدسة، لكن الصهاينة تمكنوا من التخفي بشكل زوار للاماكن المقدسة ونجحوا في التسلل الى فلسطين والبقاء فيها.
لذلك فقد قامت وزارة الداخلية العثمانية عام 1884 بوضع حظر على دخول اليهود إلى فلسطين قبل حصولهم على تأشيرات من السفارات العثمانية، حتى لو كانت زيارتهم بدعوى زيارة الأماكن المقدسة. وفي عام 1887 تم تحديد إقامة زوار الأماكن المقدسة من اليهود بشهر واحد. ومن أجل ضمان مغادرة الزوار اليهود للبلاد، كانت السلطات العثمانية تستوفي منهم عند دخولهم مبلغا كبيرا كتأمين مسترد. وفي هذه المرة حاول اليهود الدخول إلى الأراضي العثمانية استثناء كمواطنين من الدول العظمى. لكن في شهر آب عام 1898 تم إغلاق أبواب فلسطين بشكل كامل أمام كافة اليهود بغض النظر عن الدولة التي ينتمون إليها.
وبموجب "نظام شروط الدخول" المنشور بتاريخ 21 تشرين الثاني 1900 ، تم الشروع في تطبيق نظام "جواز السفر الأحمر" من أجل منع دخول الصهاينة إلى فلسطين. وحينما حاول بعض اليهود الأمريكيين والبريطانيين الذين كانوا يقيمون في البلاد العثمانية الحصول على بعض الحقوق والامتيازات الخاصة بهم، تم إجبارهم على المغادرة ليعيشوا في البلاد التي يحملون جنسياتها.
لم يكن "قانون الأراضي العثمانية" الصادر عام 1867 يمنع قيام اليهود بشراء أراض في فلسطين. وعلى الرغم من أن القانون الجديد الصادر بتاريخ 5 آذار 1883 كان يمنع الصهاينة الأجانب من شراء الأموال غير المنقولة في الدولة العثمانية، إلا أنه لم يأت بأي حكم يمنع اليهود من مواطني الدولة العثمانية من فعل ذلك. لهذا السبب، قامت المنظمات الصهيونية بدفع الأموال إلى اليهود المحليين، وأمنت للصهاينة شراء مساحات كبيرة من أراضي المنطقة.
وهكذا تم إنشاء بعض التجمعات السكنية الصهيونية، كما سوف نرى من خلال بعض الوثائق الهامة لاحقا، كيف قام بعض السكان وبعض المتنفذين المحليين في تلك السنوات بأعمال الوساطة في بيع قسم لا يستهان به من الاراضي الفلسطينية إلى اليهود حرصا وطمعا.
وبناءا على ورود الشكاوى فيما يتعلق بهذا الموضوع، اضطرت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني في خريف عام 1892 إلى اتخاذ سلسلة من التدابير الجديدة. حيث جرى التعميم على دوائر الطابو المحلية وعلى السكان بمنع كافة اليهود المحليين واليهود الأجانب من شراء الأموال غير المنقولة، وفي تلك السنوات أصبح بيع الأراضي العثمانية إلى الأجانب يعتبر "خيانة للوطن وخيانة للدين تستوجب غضب الله وعقابه". لقد أصبح بيع الأراضي للأجانب وقيام الإرساليات التبشيرية ببناء المدارس والمستشفيات أمورا تتطلب موافقة وإرادة خاصة من السلطان العثماني. أما بالنسبة إلى العرب الفلسطينيين المضطرين إلى بيع أراضيهم، فقد أبدى السلطان عبد الحميد الثاني استعداده واستعداد حكومته لشراء تلك الأراضي وضمها الى أموال الخزينة الخاصة.
كان التقرير المشار إليه بأعلاه والمكتوب من قبل ثلاثة مسئولين فلسطينيين والمرسل بتاريخ 15 آب 1893 يشرح الوقائع وأعمال الخيانة التي كانت تجري في فلسطين بدقة متناهية وبتفصيل عجيب. نعم، فهذا التقرير المكون من صفحتين والذي كتبه صبحي بك (المدير السابق لناحية الشعراوية الشرقية في منطقة البلقاء وهو من أهالي بيروت)، وسعيد اسحق محمد (المدير السابق للريجي في سنجق البلقاء وهو من أهالي حيفا)، ومحمد توفيق السيد (المساعد السابق للمدعي العام في عكا وهو من أهالي مدينة نابلس)، دليل إثبات يفضح بالتفصيل العملاء الذين كانوا وراء تأمين قاعدة الانطلاق للغزاة الصهاينة، وكيف كان ذلك.
ويقدم هذا التقرير عرضا موثقا بالأرقام والأسماء عن التصرفات والتحركات والأعمال المشبوهة وغير القانونية التي كان يقوم بها بعض المسئولين في قضاء حيفا، التابع للواء عكا في ذلك الوقت، وعن قيامهم بإدخال المهاجرين اليهود الروس والرومانيين، وتمليكهم الأراضي، وتوطينهم وإسكانهم في الأراضي العثمانية عموما، وفي فلسطين على وجه الخصوص، على الرغم من وجود إرادة سلطانية تمنع هذه الأمر وبشكل قطعي.
ويبدأ التقرير بالإشارة إلى ما حدث قبل ذلك في عام 1306 شرقية (1890 ميلادية)، حين قام اثنان من اليهود الروس هما موسى خانكر وماير زبلون من رجال البارون هيرش (Hirsch) والمقيمان في بلدتي يافا وحيفا، بالترتيب والاتفاق مع متصرف عكا صادق باشا (عندما كان قائم مقام ومتصرفا هناك)، ومع قائم مقام حيفا السابق مصطفى القنواتي، والقائم مقام الحالي (في ذلك الوقت) أحمد شكري، ومفتي عكا علي أفندي، ورئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي، وعضو مجلس الإدارة نجيب أفندي، حيث قام هؤلاء جميعا بترتيب إدخال واستقبال مائة وأربعين عائلة يهودية قادمة من روسيا في قضاء حيفا، وقاموا بترتيب بيع الأراضي الواقعة في الخضيرة ودردارة والنفيعات، والتي كان يملكها والي أضنة السابق شاكر باشا (شقيق المتصرف المشار إليه)، وسليم نصر الله الخوري (من أهالي جبل لبنان)، إلى اليهود المذكورين مقابل ثمانية عشر ألف ليرة ، مع إعطاء الموظفين المذكورين ألفي ليرة مقابل تعاونهم لتحقيق ذلك. وتم بعد ذلك إنزال اليهود المذكورين ليلا من السفينة إلى الساحل، تحت إشراف مأمور البوليس في حيفا عزيز، ومأمور الضابطة اليوزباشي علي آغا، وتم توزيعهم في نواحي القضاء. ثم قام رئيس بلدية حيفا مصطفى أفندي (من دون أن تكون له أية صلاحية، ورغم علمه بأن الأمر يتطلب إرادة سلطانية) بتنظيم رخص مزورة بتاريخ قديم، وإنشاء مائة وأربعين منزل على الأراضي المذكورة، وتحويلها إلى قرية، وإسكان اليهود فيها، وتم تنظيم سجل ضريبي لهؤلاء اليهود قبل أن يكون هناك أي شيء، كما تم إعطاؤهم صفة رعايا الدولة العثمانية، لكي يبدو الأمر وكأنهم كانوا يقيمون في تلك القرية منذ القدم.
ويضيف التقرير بأن التزوير الحاصل لم يتوقف عند ذلك الحد، بل إن الأمر قد وصل بالمسئولين المذكورين إلى حد الادعاء بأن هؤلاء اليهود كانوا من أتباع الدولة العثمانية، وأنهم قد ولدوا في قضائي صفد وطبريا، وأنهم كانوا يقيمون في القرية المعروفة بمزرعة الخضيرة، وأنهم لم يكونوا مسجلين في سجلات النفوس، حيث نظمت بحقهم معاملة المكتومين (المنسيين أو البدون)، مقابل تغريم كل واحد قادر على الدفع منهم مجيدي أبيض واحد ( أي ست مجيديات) كغرامة تأخر في التسجيل، بينما اعفي من هذه الغرامة من ادعوا منهم عدم مقدرتهم على الدفع، وقد أبدى كانبوا الرسالة استغرابهم من اكتمال تلك المعاملة بتلك السرعة وخلال يوم واحد، حيث اكتسب هؤلاء المهاجرون اليهود الجدد صفة قدماء الأهالي بين ليلة وضحاها.
وتعيد الرسالة التأكيد على قيام وكيل شاكر باشا المذكور، ومفتي عكا علي أفندي، وسليم نصر الله الخوري من جبل لبنان بقبض مبلغ ثمانية عشر ألف ليرة قيمة بيع تلك الأراضي، دون أي اعتبار لمصالح الأمة والوطن، ولمجرد تأمين أسباب الراحة لهؤلاء اليهود الذين طردوا وأبعدوا من الدول الأجنبية. وأن عمليات إنزال المهاجرين اليهود كانت تتم كلما مرت سفينة في ميناء حيفا.
وتكشف هذه الرسالة في شهادة فريدة للتاريخ، عن العمليات الملتوية التي واكبت سيطرة المهاجرين اليهود على منطقة قرية زمارين الفلسطينية وما حولها، فتؤكد وقوع القرية في ذلك الوقت تحت سيطرة البارون روتشيلد، وأنه أصبح بطريقة ما مالكا لها، وأن في القرية سبعمائة بيت يعود معظمها لليهود. وتبين الرسالة أن القرية قد تم بيعها لليهود بطريقة مشبوهة، إثر صدور إعلام شرعي بوجوب تسجيل القرية في دفتر الشواغر، بعد أن مات مالكها الأصلي، والذي لم يكن له ورثة شرعيون. كما تذكر الرسالة تفصيلات هامة عن تمليك القرى المحيطة بقرية زمارين وإلحاقها بها وهي: شيفيا وأم التوت وأم الجمال، وتذكر الرسالة أيضا أن صادق باشا قد باع الى اليهود أراض خربة لا تتعدى قيمتها ألفي قرش مقابل ألفي ليرة. كما تذكر الرسالة الوثيقة أن تلاعبا مشبوها آخر رافق عملية بيع الأراضي الهامة على الساحل بين حيفا ويافا والمعروفة بخشم الزرقة، والتي تزيد مساحتها عن ثلاثين ألف دونم، حيث بيعت الى يهود زمارين على اعتبار أنها خمسة آلاف دونم فقط، وبسعر ثلاثة قروش للدونم، مع أن سعر الدونم الواحد في ذلك الوقت كان يبلغ ليرة واحدة ...!
ويكشف كاتبوا هذا التقرير في جانب هام آخر منه الكيفية التي قامت بها بعض الإرساليات التبشيرية باستملاك بعض أراضي المنطقة، ويتحدثون عن عمليات التلاعب والتحايل التي تمت في تمليك معظم أراضي جبل الكرمل، مركزين على أهميته بالنسبة للدولة العثمانية، ويذكرون بأن القسم الأعظم (أكثر من خمسة عشر ألف دونم) من أراضي هذا الجبل الشهير قد تم بيعه (بالحيل وبالطرق الملتوية) إلى رهبان دير الكرمل الفرنسيين من قبل رئيس البلدية مصطفى الخليل، وعضو الإدارة نجيب الياسين، وأن (عشرة آلاف دونم) أخرى قد تم بيعها بطرق مشابهة، وبسعر منخفض أيضا، إلى بعض الرهبان الآخرين من رعايا الدولة الألمانية، وأن القنصل البريطاني في حيفا في ذلك الوقت المدعو مستر سميث قد توسط في تمليك (خمسة آلاف دونم) إلى سيدة بريطانية (The British Lady) مقابل سكوتها على بيع تلك الأراضي إلى الأجانب الآخرين، وأنه قد تم بعد ذلك إنشاء مبان وكنائس ضخمة على تلك الأراضي.
ولم يهمل كاتبوا الرسالة الإشارة إلى القضية العامة التي بادر متصرف عكا زيوار باشا إلى رفعها، في عهد رئيس محكمة البداية في حيفا محي الدين سلهب الطرابلسي، ضد الأجانب المعنيين، مطالبا باستعادة تلك الأراضي، وقد نوه كاتبوا الرسالة بأن تلك القضية كادت أن تحسم للصالح العام، لولا ورود برقية من سلطات أعلى بتعطيل كافة المعاملات المتعلقة بهذه القضية، مع الأمر بنقل المرحوم زيوار باشا إلى القلعة السلطانية (جناق قلعة)، وتعيينه هناك، ويتابع كاتبوا الرسالة قائلين (وبذلك أصبحت شواطئ البحر وجبل الكرمل وتلك الأراضي والمناطق المهمة التي تفتدى كل حفنة من ترابها بالروح بيد الغاصبين الأجانب بدعوى التقادم).
أما الجزء الأخير والهام أيضا من هذا التقرير، فيشير إلى الدور البهائي في هذه اللعبة، وإلى النشاطات التي كان يقوم بها (الإيراني عباس المنفي حاليا في عكا) ويقصد به الزعيم البهائي عباس أفندي (الذي يدعى أيضا بالغصن الأعظم أو عبد البهاء)، ويقول التقرير أن عباس هذا، كان يحقق كل شيء يريده بفضل ثروته ونفوذه، بالتفاهم مع رئيس بلدية حيفا مصطفى، وعضو المحكمة نجيب، وأنه كان يقوم وعملاؤه بسلب واغتصاب أراضي العاجزين والفقراء من الأهالي، بأثمان بخسة، ليقوموا بعد ذلك بتهيئتها، وبيعها بأثمان فاحشة إلى اليهود والأجانب الآخرين، من أجل تحقيق مصالحهم الشخصية.
أما هذا العباس (السمسار الأعظم) الذي أنعم عليه البريطانيون بلقب (سير) نظير خدماته الجلى التي فضحتها الرسالة الوثيقة، فيبدو أنه قد خص نفسه بقطعة كبيرة من الأرض، تمتد من ساحل البحر الأبيض المتوسط وحتى قمة جبل الكرمل في حيفا، حيث تم دفنه هناك بعد وفاته، وبني له ضريح ضخم ذو قبة ذهبية صفراء، أطلقوا عليها اسم (قبة عباس)، كما أن أتباعه البهائيون قاموا ببناء المقر والمعبد الرئيسي للديانة البهائية في نفس الموقع. وتعتبر الحديقة المحيطة بذلك المعبد المشيد على الأراضي المغتصبة من الفلسطينيين، واحدة من أجمل الحدائق في العالم.
ويصف التقرير في ختامه، كيف تمكن المهاجرون اليهود بفضل المال من السيطرة على المتنفذين في ذلك الوقت، وكيف أصبحوا من المحسوبين الذين يحسب لهم ألف حساب، لدرجة أنهم أصبحوا يتحرشون بالنساء ويضايقون الأهالي المسلمين في القرى المجاورة ويتسلطون عليهم، ويدلل التقرير على ذلك بذكر ما تعرض له علي بك الشركسي المدير السابق لناحية قيصاري (قيسارية) من قبل يهود زمارين، حين توجه إلى هناك من أجل التحقيق، بعد ورود إخبارية عن قيام اليهود بسك وتزييف النقود العثمانية المعدنية (الاقجه)، حيث قام اليهود بضرب المدير المذكور واهانته، وبلغ بهم الأمر إلى حد التسبب ومن خلال بعض الوسطاء في عزله عن وظيفته، ويبين التقرير كذلك أن هذا التراخي من قبل بعض المسئولين المحليين مع المهاجرين اليهود، جعل هؤلاء يتجرؤون ويقومون بإرهاب من يعارضهم من العرب وحبسهم وتعذيبهم، ناهيك عن قيامهم في نفس الوقت ببناء المدارس السرية وتخزين مختلف أنواع الأسلحة والذخائر...!
أكد أن مصر لم تمتلك يوما جاسوساً له قيمة في إسرائيل
نواب يطالبون بالتحقيق مع هيكل بسبب تشكيكه في جهاز المخابرات
06/06/2009
القاهرة ـ 'القدس العربي' ـ من حسام أبوطالب: علمت 'القدس العربي' أن عدداً من نواب حزب الأغلبية بصدد التقدم ببلاغ لمجلس الشعب من أجل طلب التحقيق مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فيما صرح به مؤخراً وأثار ضجة واسعه ونجمت عنه صدمة داخل أجهزة سيادية مرموقة.
وكان هيكل قد صرح قبل أيام على فضائية 'الجزيرة' في برنامجه الأسبوعي بأن مصر 'لم يكن لها في يوم من الأيام جاسوس ذو قيمة داخل إسرائيل وأن كل من أعلن عنهم لم يكن لهم شأن يذكر'.
ونفى جملة وتفصيلاً صحة ما كانت قوى النظام تروج له على مدار سنوات طويلة بشأن عمليات بارعة قامت بها مصر داخل العمق الإسرائيلي.
وقد رفض رموز بارزون في الحزب الوطني تلك التصريحات واعتبروها تصب في صالح الكيان الصهيوني وترفع من قدر مؤسساته الأمنية.
وفي تصريحات خاصة لـ'القدس العربي' أكد النائب نبيل لوقا بباوي بأن على هيكل 'قبل أن يتفوه بتلك المعلومات وينشرها على الفضائيات أن يقدم الدليل على صدق ما ذهب إليه'.
اضاف بباوي 'أعتقد أن هناك ثأرا بين هيكل وبين نظام الرئيس مبارك، لذا فهو دائم الهجوم كل فترة على ذلك النظام وإنجازاته التي لاينكرها إلا كل غير حيادي أو جاحد'.
وفي ذات السياق دافع الكاتب محمد علي إبراهيم رئيس تحرير 'الجمهورية' عن نشاط اجهزة المخابرات المصرية وأكد على 'أنها قامت على مدار تاريخها بجهود مشرفة في الدفاع عن مصر والحيلولة دون أي محاولات تسلل أو إختراق إسرائيلية'.
وشدد على 'أن تلك الأجهزة قامت بعمليات شديدة التعقيد واستطاعت أن تخترق العمق الإسرائيلي مرات عديدة وبشهادة الإسرائيليين أنفسهم'.
ودعا إبراهيم الذين 'يسعون للتشكيك في قدراتنا لأن يتقوا الله في أنفسهم وفي شعبهم كي لايعطوا الفرصة للأعداء كي يشمتوا فينا'.
وفي ذات السياق هاجم الجاسوس المصري الشهير جمعة الشوان الذي تحولت حياته لمسلسل هيكل، وأشار في تصريحات خاصة لـ'القدس العربي' الى ان ما قام بالترويج له هيكل من معلومات في هذا الشأن غير صحيح بالمرة، ووجه كلامه للكاتب الكبير قائلاً 'إذا لم تكن قد شاهدت المسلسل فاذهب وشاهده كي تعرف حجم المجهود الذي قمت به أنا وغيري من أسود المخابرات المصرية'.
وشدد الشوان على أن 'مصر كان لها العديد من الأذرع على مدار السنوات الماضية وقد نجحت القاهرة بالفعل في الحصول على معلومات جيدة استثمرتها خير استثمار في صراعها مع إسرائيل'.
أما الدكتور وحيد عبد المجيد بمركز الدراسات الإستراتيجية بـ'الأهرام' فدافع عن هيكل وقال لـ'القدس العربي' إن 'شهادته غير مجروحة بالمرة فهو الشخصية الأقرب من قلب النظام المصري طيلة فترة الستينات وبالتالي ما يصدر عنه من معلومات فهو شديد الدقة'.
وأضاف عبد المجيد 'لقد بنى هيكل قاعدة معلومات شديدة الأهمية والدقة ولايمكن بأي حال من الأحوال هدم تلك القاعدة، بل ينبغي الإستفادة منها. وقال 'إذا لم يكن هيكل هو الأكثر إلماماً بتفاصيل تلك المرحلة فمن هو الذي أكثر منه خبرة في ذلك المجال'.
وشكك عبد المجيد في إمكانية إماطة اللثام عن كافة تفاصيل تلك الفترة فيما له علاقة بالعمل المخابراتي من طرف ثالث. وشدد على أن هناك بعض القضايا لازال الحديث عنها تحاط به الشكوك حول قيمته الحقيقية مثل قضية رأفت الهجان على وجه التحديد فهي تجربة عليها إختلاف حول درجة نجاحها.
وقال عبد المجيد إن 'هيكل شديد الحرص على عمله ولا يعطي الفرصة مطلقاً لطرف كي يكذبه، لذا فإن ما يصدر عنه غالباً هو مصدر يتمتع بالدقة والمصداقية البالغة'.
من جانبه يرى محمد بسيوني سفير إسرائيل السابق في إسرائيل وعضو مجلس الشورى أن المخابرات المصرية قامت على مدار تاريخها بالعديد من البطولات النادرة.
وأكد على أن التاريخ نفسه يشهد بنجاح المصريين في الوصول للعمق وتحقيق نجاحات كبيرة في العمل المخابراتي.
غير أن بسيوني رفض تحليل ما ورد في شهادة هيكل في هذا الشأن.
ومن جانبه اشاد اللواء عبد الفتاح عمر أمين لجنة الأمن القومي بمجلس الشعب بالدور المؤثر والفاعل الذي قام به جهاز الأمن المصري بمختلف فروعه ومن بينها عملياته داخل إسرائيل التي كشف التاريخ عن مدى نجاحه فيها.
وشدد على أن المصريين قاموا بعمليات أدهشت الإسرائيليين في مجال العمل المخابراتي لذا فإن من يروجون لعكس ذلك كلامهم مردود عليه على حد رأيه.
أنا أختلف مع طريقة تشخيصك ولي وجهة نظر أخرى في هذا الموضوع. أنا أرى أن الجميع ساهم في صناعة تاريخ وتثبيت حدود كيانات سايكس بيكو ونشر مصطلحاتها ومفاهيمها داخل عقولنا ولذلك كلهم أخطأ في زاوية .
ما حصل منذ احتلال العراق في عام 2003، نبهني على كثير من الإشكاليات التي وقع بها كل من نظن أنهم عملوا جهدهم في محاولة إيجاد حلول للمشاكل التي نعاني منها، وحاولوا جهدهم في العمل على إيجاد تيارات تعمل من أجل الإصلاح والنهضة والتقدم والاستقلال أو على الأقل هذا ما صرحوا به.
وخطأ هذه التيارات الإصلاحية -التي تأسست بعد اكتمال احتلال المنطقة في بداية القرن الماضي بكل أطيافها الفكرية والسياسية- الذي وقعوا به من وجهة نظري على الأقل، أنهم تعاملوا وفكروا فقط من خلال ما تم توفيره من مفردات ومصطلحات ومفاهيم استحدثتها القوى الاحتلالية لتناسب ما قاموا بتكوينه من كيانات وفق مخطط سايكس بيكو لتقسيم المنطقة ولذلك لم تنجح ولن تنجح جهودهم في عملية الإصلاح للوصول إلى التحرير والاستقلال وهذا الكلام يشمل كل التيارات الفكرية والسياسية الإصلاحية بلا استثناء، بل أظن أنهم أصبحوا أحد اسباب المشاكل التي نعيشها، شاءوا أم أبوا، بسبب تعاملهم وفق ومن خلال نفس مفردات ومصطلحات ومفاهيم سايكس بيكو، فمن المنطقي لا يمكن أن تجد حل وأنت تستخدم نفس اسباب المشكلة، ولكن هذا ما حصل بالضبط من قبل كل التيارات الفكرية والسياسية بجميع أطيافها بحجة التعامل مع الواقع والواقعية وغيرها من التبريرات وأنا أظن كانت الوقوعيّة والتي ساهمت بتثبيت مفردات ومصطلحات ومفاهيم سايكس بيكو، والطامة الكبرى تحت عنوان وشعار وهدف الإصلاح والنهضة والتقدم والاستقلال في المنطقة، فزادوا الطين بلّة كما يقول المثل، وواقعنا الحالي بعد قرن من الزمان أفضل مثال لما وصلت إليه حالنا قارنوا ما حصل في بداية القرن الماضي وما فرضته قوات الإحتلال حينها وما حصل في العراق بعد عام 2003 وما فرضته قوات الاحتلال من عملية سياسية لنتعامل معها وبها ومن خلالها، هل هناك أي فرق؟ وهناك نقطة أخرى أحببت التنبيه عليها، أظن الفكر القومي دخل إلى منطقتنا من خلال المدارس والجامعات التبشيرية والتي هي من وجهة نظري الذراع المتقدمة لقوات الإحتلال ولو تابعنا خلفيات غالبية مُنظّريها وقادتها نجدهم إما هم من خريجيها أو تأثروا بأحد من خريجيها وانتشر هذا الفكر إن كان بين الأتراك أو الأكراد أو الأمازيغ أو العرب أو غيرهم من القوميات في منطقتنا، فما قام به الشريف حسين على الدولة العثمانية كان تحت لواء قومي عربي ضد القوميين الأتراك، أي أن الفكر القومي لم يبدأ بعبدالناصر وبقية الأحزاب القومية الحالية، وأن الصراع كان ما بين الفكر القومي (التركي والعربي والكردي والأمازيغي والأرمني والفارسي وغيرها من القوميات) إن كان في داخل الدولة العثمانية وتم تقسيم كيانات سايكس بيكو بين أصحاب الفكر القومي من كل جهة من الجهات وتحوّل أخيرا إلى فكر الدولة القطرية الحديثة ممثلة بالوطن والوطنية بركيزتيها العلمانية والديمقراطية للوصول إلى المواطنة أنا أظن مشكلتنا في مفهوم الدولة القطرية الحديثة الذي عملوا على غرسه داخل قلوبنا قرن من الزمان، والحمدلله إن كان هناك أي خير في احتلال العراق، فهو هدمهم مفهوم الدولة بها وكل مؤسساتها والتي نشأت عنها، والتي هي من صنعهم منذ بداية القرن الماضي فسبحان الله ربّ ضارة نافعة، فأعطت حجة منطقية ومقبولة للمقاومة إن قامت بنسف كل ما قامت به قوات الاحتلال من مؤسسات وكيانات وأحزاب، بعد تحرير العراق واسأل الله أن يوفقهم ويهديهم إلى أن يصلوا إلى شيء يتوافق مع مكونات شخصيتنا ولا يتعارض معها حينها، حيث الإشكالية من وجهة نظري في مفهوم الدولة القطرية الحديثة بأضلعها أو سلطاتها الثلاث والتي من الواضح فيها التفسير الكاثوليكي لثلاثة في واحد وواحد في ثلاثة، حيث أن فرنسا كاثوليكية والتي بها نشأت هذه الفكرة وتم تسويقها من قبل بريطانيا وأمريكا وغيرها بالإضافة إلى فرنسا، مفهوم الدولة القطرية الحديثة يتعارض لدينا مع مفهوم الله سبحانه وتعالى وهنا هي الإشكالية التي لم ينتبه لها الكثير حتى الآن ما رأيكم دام فضلكم؟
والذي أتمنى أن يكون مترجم بكل لغات العالم، بداية بالأوردو والتركية والفارسية والمالاوية والسواحيلية والصينية والإسبانية والبرتغالية والفرنسية والألمانية وغيرها حسب ترتيب الأولوية والأهمية بالنسبة لنا وما تمثله شخصيتنا
معلومات وجوانب أخرى وردت عن خلفيات الهزيمة النكراء في حرب 5 حزيران/يونيو 1967 ذكرها د. عدنان الباجه جي في الحلقة الخامسة والسادسة من برنامج شاهد على العصر من قناة الجزيرة
عبد العزيز الدوري في ذمة الله بقلم/ د. بشير موسى نافع 2010-11-24
</TD></TR></TBODY></TABLE><TABLE border=0 cellSpacing=0 borderColor=#000000 borderColorLight=#ffffff borderColorDark=#000000 cellPadding=2 width="100%" bgColor=#ffffff><TBODY><TR><TD>تكاد وفاة شيخ المؤرخين العرب، وأول المؤرخين العراقيين المحدثين، عبد العزيز الدوري، تؤشر إلى وفاة العراق كما عرفناه. توفي المؤرخ التسعيني (1919- 2010) في العاصمة الأردنية عمان، لا في مسقط رأسه بقضاء الدور من محافظة صلاح الدين، الذي أعطاه اسم عائلته على الطريقة العربية الإسلامية التقليدية؛ ولا في بغداد، التي كتب تاريخها كما لم يكتبه مؤرخ آخر، والذي ترك بصماته على معاهدها التعليمية الكبرى كما لم يضع أكاديمي آخر.
وسيكون مدهشاً أن تثير وفاته انتباه الكثير من العرب، الذين عملت أنظمة حكم متتالية على إفقادهم الذاكرة وتجهيلهم بتاريخهم، أو فضول كثير من العراقيين، الذين تكاثرت عليهم مصائب الزمن، من غزو واحتلال وطبقة حاكمة قصيرةالنظر وضيقة النوايا والطموح.
ولد عبد العزيز الدوري والعراق يودع حقبته العثمانية، وعاش شاهداً على ولادة الهوية الوطنيةللعراقالحديث، وعلى تقلباته السياسية المتلاحقة، وتوفاه الله والوطن يتحول إلى كيانطائفي، منقسم على ذاته، لا يشبه نفسه بأي حال من الأحوال.
في مقدمة كتابه 'الجذور التاريخية للشعوبية'، الذي نشر في مطلع الستينات، كتب الدوري: 'إن تاريخ الأمة متصل،مترابط، يكون سلسلة متتابعة، أو مجرى متصلاً، يؤدي بعضه إلى بعض. وحاضر الأمة نتاج سيرها التاريخي وبداية طريقها إلى المستقبل. ولذا، فلا انقطاع في التاريخ، ولا ظاهرة تبدو فيه دون جذور وتمهيد.' ويكاد هذا النص يصف حياة الدوري، ويؤسس لمنهج دراسته للتاريخ، ورؤيته لتاريخ العراق والعرب. نشأ الدوري في العراق الملكي، وفيه تلقى تعليمه الأولي، وتشكلت أسس وعيه. ولكن الدوري المؤرخ هو نتاج التعليم البريطاني الجامعي في أربعينات القرن الماضي، الذي تخرج فيه بالدرجة الجامعية الأولى، ثم بالدكتوراة، التي حصل عليها عن رسالته حول 'تاريخ العراقالاقتصادي في القرن الرابع الهجري'.
كان العراق الحديث عروبياً منذ ولادته، سواء بخلفية قادته أو بالمتطلبات الجيوبوليتيكية لموقعه. جاء قادة العراق الملكي من تحالف الضباط العثمانيين السابقين، الذين جمعتهم بفيصل الأول سنوات ما عرف بـ 'الثورة العربية'، التي أعلنها اشراف مكة ضد الحكم العثماني المتأخر في منتصف سنوات الحرب العالمية الأولى؛ ومن بين الإداريين العثمانيين السابقين من أبناء العراق، الذين وفر لهم التعليم العثماني الحديث وبنية الدولة المتأخرة فرصة التدرب في مرافق ولايات السلطنة المختلفة؛ ومن بين الوجهاء المحليين، الذين برزوا بفعل نشاطاتهم في الجمعيات ذات التوجه العروبي أو بدورهم في ثورة العشرين. كان أغلب هؤلاء عروبياً بثقافته وتوجهاته، ولكنهم أدركوا أيضاً أن بنية العراق وموقعه، كدولة حديثة، لا يدعوان إلى الاطمئنان. فمن ناحية، كان الشعب العراقي خليطاً من العرب والأكراد وأقلية إيرانية الأصل، من مسلمين ومسيحيين، ومن سنة وشيعة، في وقت لم يكن لدى المراجع الشيعة من رغبة في تشجيع مقلديهم على الانخراط في جسم الدولة الجديدة. وقد حد العراق دولتانكبيرتان، إيران وتركيا، تفوقانه قوة وترتبطان به بعلاقة بالغةالتعقيد، تجمع بين التهديد والخوف، والأطماع والحاجة. وكان طبيعياً أن تصبح العروبة أيديولوجية الدولةالجديدة وإطارها المرجعي، سياسة وتعليماً وثقافة.
تحول العراق، سيما بعد حصوله على الاستقلال في 1930، إلى مصدر لمشاريع الوحدة العربية جميعها تقريباً (إلى أن احتل عبد الناصر مركز الساحة العربية القومية)، وأصبح العراق موضع آمال تيار عريض من العروبيين الوحدويين، وعمل قادة الدولة الجديدة على أن تكون الفكرة العربية الإطار التوحيدي للشعب وجدار تحصينه من الانقسامات الداخلية وأطماع الخارج.
كان العراق العروبي هو مصدر التأثير الأول على عبد العزيز الدوري؛ أما المصدر الثاني فولد من دراسة التاريخ في بريطانيا في خضم سنوات الحرب العالمية الثانية.
بعد زهاء القرن على مساهمات المؤرخين الألمان منذ ليوبولد فون رانكه في منتصف القرن التاسع عشر، كان التاريخ قد أصبح علماً منهجياً، يخضع لقواعد الاستنباط والاستقراء، والمقارنة والتحليل. وبالرغم من أن بروز مدرسة الحولياتالفرنسية كان قريب العهد، إلا أن صداها تردد سريعاً في كافة زوايا المعاهد الغربية.
وقد أفاد الدوري، الذي أصبح التاريخالإسلامي ميدان بحثه الرئيس، إضافة إلى ذلك، من النضج الملموس الذي حققته مناهج المستشرقين الأوروبيين وتناولهم لمصادر التاريخ الإسلامي. كما اللبناني أسد رستم، والمصري محمد شفيق غربال، من الجيل الأسبق قليلاً من المؤرخين العرب المحدثين، وكما أحمد عزت عبد الكريم وجواد علي وصالح العلي، من أبناء جيله، عرف الدوري التاريخ علماً ذا شروط وقواعد، والتزاماً مهنياً يتطلب تدريباً صارماً وتكريساً لا يقبل المساومة للجهد والعمر. متأثراً بطرق الاستشراق، أدرك الدوري أن لا دراسة تاريخية جادة بدون مصادر أولية وبدون رؤية نقدية للمصادر، وعلى خطى مارك بلوش ولوسيان فيفر، رواد مدرسة الحوليات، أخذ في رؤية التاريخ باعتباره سياقاً متصلاً، تحركه قوى أعمق وأقل عرضة للتغيير والانقطاع من الظواهر السياسية: ان التاريخ أبعد إدراكاً من وعي وإرادة الفاعلين في مجرياته. وربما كانت بداياته في التاريخ الاقتصادي عوناً كبيراً في تعزيز رؤيته الأوسعوالأعمق للتاريخ، التي ستصبغ أعماله المنشورة كافة بعد ذلك.
لم يكترث الدوري، كما المؤرخين الأنجلو ساكسون عموماً، بالنظريات الجامعة الكبرى، ولم ير في الأيديولوجيا جدوى ما لقراءة التاريخ.
عاش الدوري عصر صعودالأيديولوجيات في أوروبا وفي الثقافة العربية، ولكن كتابته التاريخية أفلتت من قيد الأيديولوجيا، حتى وهو يحاول استكشافها. ولكن هذا لا يعني أنه كان مؤرخاً بلاهوية. ففي عراق ما بين الحربين، كان طبيعياً أن يكون الدوري عروبياً؛ وقد ظل وفياً لهويته وإيمانه العروبي طوال حياته المديدة بعد ذلك. ولكن عروبته، كما العديد من أبناء جيله من المؤرخين العرب المحدثين، كانت أقرب إلى عروبة الإصلاحيين العرب الإسلاميين، الذين رأوا العروبة نتاج الميراث الإسلامي، والإطار الطبيعي للعرب بعد انهيار الجامعة العثمانية الإسلامية. ولعل عروبته هذه، واعتداله الليبرالي، ما جعل تعايشه مع نظام البعث بعد انقلاب 1968، القومي العربي هو الآخر، أمراًعسيراً. ما بين عودته إلى العراق في منتصف الأربعينات، وتسلمه مهام عمله الأول محاضراً في دار المعلمين العليا، مروراً بتأسيسه وعمادته لكلية العلوم والآداب، إلى رئاسته لجامعة بغداد في الستينات، أصبح الدوري قوة رئيسة في نشوءوتطور المؤسسة التعليمية في العراق الحديث، وأحد الرواد الأوائل لمدرسةالتاريخ العراقية. وإن لم يقلل انتقاله أستاذاً في الجامعة الأردنية منذ نهاية الستينات من تأثيره على الأجيال التالية من المؤرخين العراقيين، فقد ساعد على انتشار هذا الأثر في المجال العربي.
ليس ثمة من مؤرخ عربي رفد معرفة العرب بتاريخهم الإسلامي المبكر والوسيط كما فعل الدوري.
فمنذ نشر عمله حول التاريخ السياسي والإداري والمالي للعصرالعباسي الأول في منتصف الأربعينات، ليتلوه كتابه في تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري، الذي استند إلى رسالته للدكتوراة، وهو منشغل بقراءة النظم الاقتصادية والإدارية للتاريخ الإسلامي.
وقد انعكست مسيرته العلمية في عدد من الكتب والمقالات الأكاديمية، التي سرعان ما تحولت إلى مقدمات ضرورية للعمل في حقل التاريخ الإسلامي في المعاهد العربية العليا؛ إضافة إلى نشره وتحقيقه لمخطوطتي 'أخبار الدولة العباسية'، والجزء الخاص ببني العباس من 'أنساب الأشراف'. وبالرغم من أنه قدم أكثر من مساهمة للطبعة الثانية من الموسوعة الإسلامية، تظل كتابته لمادة 'بغداد' في الموسوعة، التي تصل إلى عشرات الصفحات المطبوعة، شاهداً على معرفته الحميمة بتاريخ المدينة العربية الإسلامية، وعلى معرفته بمصادر هذا التاريخ.
كنت عرفت أعمال الدوري للمرة الأولى عندما طالعت نصه الشهير حول التكوينالتاريخي للأمة العربية وأنا أدرس للدكتوراة، قبل أن أعرفه مؤرخاً للإسلام. وبالرغم من تجاهله لنظريات دراسة القومية في العقود الأخيرة، فإن النص الذي نشر أكثر من مرة بين بيروت والقاهرة، يحمل إلى حد كبير معالم نهج الدوري في دراسة التاريخ العربي والإسلامي، باعتباره سياقاً متصلاً، وباعتبار حاضره حصيلة تراكماته التاريخية.
ولكن ما أدهشني بعد ذلك كان إدراكي المتزايد لمعرفته الواسعة بمصادر التاريخ العربي الحديث، وهو الذي كرس مسيرته المهنية لدراسة التاريخ الإسلامي المبكر والوسيط. وهذا ربما ما يجب أن يذكر دائماً بحقيقة دوافع الدوري في دراسته التاريخية، حيث الباعث الرئيس ليس التعرف على الماضي وحسب، بل إدراك كنه الحاضر على وجه الخصوص.
وربما كان من الجدير أن يسأل المؤرخ الكبير قبل وفاته عما إن كان للتاريخ أن يقول كلمته في الانقلاب الكارثي الذي يئن تحت وطأته العراق اليوم. شيء ما جعل العرب أقل معرفة بمؤرخيهم الكبار والاحتفاء بهم كما يجب على الأمم الاحتفاء بمؤرخيها؛ وحظ عبد العزيز الدوري في هذا المجال ربما كان أكثر قليلاً من حظوظ آخرين من مؤرخينا الكبار، مثل الراحل إحسان عباس، ومثل عبد الله العروي وهشام جعيط. على أن الأرجح أنه لولا البرنامج اليتيم الذي قدمته قناة 'الجزيرة' حول حياة ومسيرة الدوري قبل سنوات، ما كان هناك من شريط مصور لشيخ المؤرخين العرب الراحل.
ويقدر لمركز دراسات الوحدة العربية تعهده مؤخراً بإعادة نشر مجموعة أعمال عبد العزيز الدوري وتوفيرها للباحثين والدارسين العرب في طبعة جديدة؛ لعل في هذه الخطوة اليوم بعض التعويض عن غيابه الكبير.
وكان قد ناقش هذا الموضوع من جانب آخر في حلقة من برنامج في العمق من قناة الجزيرة بعنوان البدون في دول الخليج http://www.youtube.com/watch?v=ghH16...layer_embedded ولمن يفضّل قراءة النص يكون بالضغط على الرابط التالي
تعليق