كلام في العلمانية وما أشبه ذلك!
[align=justify]هذا كلام في العلمانية والدنيوية واللائكية .. أتحدث فيه عن بعض مظاهرها في الغرب كما نعايشها فكرا وواقعا ..
لن يكون الحديث هنا مترابطا حول موضوع واحد، بل سيُرسَل حسب ما يستجد من حديث .. وأتمنى من العلمانيين العرب والمهتمين في موضوع العلمانية أن يقرؤوا كلامي هذا ببصيرة الأحرار لا بقوالب إيديولوجية تحول بينهم وبين فهم ما يجري في العالم، إذ أن أحد مقاصد هذا الطرح هو ترجمة الواقع الغربي ـ كما نعايشه ونعرفه في هولندة وبلجيكا وألمانيا وبعض دول الغرب، لهم ..
وأنطلق في كلامي من مقال الأستاذ محمد رندي في "توحيد العلمانية للإسلام والمسيحية" .. وأقول نعم، لقد قرِّبت العلمانية العلمانية ـ في تيارها المتطرف ـ كثيرا من وجهات نظر المسلمين والمسيحيين واليهود الاجتماعية في الغرب، بحيث أصبح ثمة ما يبرر القول إن الإسلام والمسيحية واليهودية ديانات تتحد أحيانا في مواقف اجتماعية معينة مشكلة جبهة ضد العلمانية المتطرفة ـ أي اللائيكية الفرنسية ـ التي تحارب الأديان بهدف اسئصالها .. حصل ذلك في بلجيكا عدة مرات (عند إدخال قانون الإجهاض ومحاولة تقنين الموت الرحيم/الأوتانازيا وبعد تقنين زواج المثليين والسحاقيات). فكان أتباع هذه الديانات يلتقون ويتشاورون وينسقون مواقفهم. وقد سبق لي أن شاركت في لقاءات كهذه ولي فيها مقالات منشورة. ومن الجدير بالذكر أن ملك بلجيكا الأسبق بودوان الذي كان عليه أن يوقع على قانون الإجهاض الذي أقره الليبراليون والاشتراكيون العلمانيون إبان حكمهم في التسعينيات، استقال من الملك يوما واحدا كي لا يضطر إلى التوقيع على القانون "لأن ضميره رفض ذلك" حسب تعليل الاستقالة وقتها. وكان بودوان يشتهر بكاثوليكيته وهو الذي أهدى إلى المسلمين حديقة (جوبل بارك) في قلب بروكسيل مع بناء كبير دائري الشكل حولوه إلى مسجد كبير بإضافة مئذنة إليه، وهو الذي اعترف بالإسلام ديانة رسمية في بلجيكا بحيث كانت بلجيكا أول دولة أوربية تعترف رسميا بالإسلام دينا رسميا على أراضيها (سنة 1974).
إذن التقريب حقيقي، ولكن في اتجاه معاكس للاتجاه الذي يريده الأستاذ محمد رندي. وأحد عناصر التقارب بين الإسلام والمسيحية واليهودية في الغرب، هو إعادة المسلمين في الغرب الهيبة للتدين وإحداث وعي ديني مسؤول في صفوف الشباب .. وقد سبق للفاتيكان أن شكر مسلمي الغرب على إعادتهم الهيبة للتدين، مما زاد في عداء اللائيكيين المتطرفين لهم الذين حاولوا ـ هذا العام ـ منع الحجاب في المدارس البلدية البلجيكية، فثارت ثائرة الناس عليهم، وأوقعوا أنفسهم في حرج كبير وفضيحة أكبر لأن دستور بلجيكا ينص بصريح العبارة على حرية التدين .. وكان من جملة الذين بهدلوا القائمين على المدارس البلدية كل من رئيس التيار البلجيكي العلماني إتيان فيرميرش، ورئيس الحزب الديموقراطي المسيحي الحاكم (أكبر أحزاب بلجيكا)، ورؤساء الجامعات والمدارس العليا .. وقد كان التصدي لأصوليي اللائيكية المتطرفة حديث رؤساء الجامعات هذا العام، فهذا الأستاذ والتر نونمان رئيس جامعة أنتورب يقول "إن محاولة منع الحجاب في المدارس البلدية عدوان فظيع على الدستور لا يمكن السماح به". (1) أما رئيس الحزب المسيحي ورئيس وزراء بلجيكا في عدة حكومات متعاقبة، جاك لوك دهانة، فقد بهدل اللائيكيين مذكرا إياهم بحجاب أمهاتهم وجداتهم! قال قبل أيام "إن حديث الحجاب حديث خاطئ جدا لأن الناس يفسرون الرموز الدينية تفسيرا خاطئا" .. وأضاف "ما كانت أمي وأخواتي يغادرن المنزل في الماضي بدون غطاء رأس .. والراهبات لا يزلن يرتدين الحجاب" (2)!
وكان النقاش في الحجاب احتدم بداية العام الدراسي الحالي عندما أسست مجموعة من الفتيات المسلمات جمعية اسمها (أنا المسؤولة عن رأسي وليس غيري!) (3) أقامت الدنيا ولم تقعدها على رأس من يتدخل في حجابهن! وقد تبنت الحركة النسوية البلجيكية وكذلك رؤساء جامعات بلجيكا بل حتى رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي موقف هؤلاء الفتيات! يقول رئيس جامعة أنتورب بمناسبة افتتاحه العام الجامعي الجديد يوم الاثنين الماضي: "إن فتيات جمعية (أنا المسؤولة عن رأسي!) هن فتيات مسلمات بلجيكات تقدميات بل دنيويات [seculier!] لأنهن يطالبن بحقوقهن النسائية ضمن بيئتهن الإسلامية والمجتمع البلجيكي العلماني" .. وأضاف: "يجب علينا أن نساندهن في مسعاهن بدلا من ممارسة الوصاية عليهن .. إن محاولة منع ارتداء الحجاب من المدارس البلدية محاولة سببها الخوف غير المسؤول من الإسلام وعقلية الوصاية وقلة الحيلة" .. وقال في الخطبة ذاتها: "إن الإسلام أصبح جزءا من مجتمعنا، وإن علينا أن نتأقلم مع واقعة انتخاب مسلم محافظا لمدينة أنتورب على سبيل المثال، وأن نتقبل ذلك مثلما تقبل الهولنديون ذلك في روتردام، حيث انتخبوا المسلم [المغربي الأصل] (أبو طالب) محافظا لمدينتهم"! (4)
فرئيس جامعة أنتورب علماني وليس "مؤمنا" مثل رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي، ولكنه ليس "لائيكيا" متطرفا، ذلك أن كره الأديان لم يعم بصيرته كما عمى بصيرة الشاعر السوري أدونيس الذي سخر موهبته لمهاجمة الحجاب وصاحباته في فرنسا إبان ضجة الحجاب قبل سنوات .. فشتان ما بين رئيس جامعة أنتورب ـ وهو عالم اقتصادي كبير ـ والمنافق أدونيس الذي مسح بمهاجمته الحجاب في فرنسا الجوخ للفرنسيين كسبا لتأييدهم له في ترشيحه لجائزة نوبل، تماما مثلما مسح الجوخ لإسرائيل قبل أسابيع في كردستان العراق، حيث هاجم الثوابت الوطنية للعرب، أيضا كسبا لتأييد إسرائيل له في ترشيحه لجائزة نوبل .. متناسيا أن الغرب لم يكافئ ماسح جوخ قط!
إذن الغرب ليس فرنسا التي تحكمها الإيديولوجية اللائيكية المتطرفة فقط، ذلك أن كثيرا من دول الغرب (الذي يجهله مثقفونا الذين لا يعرفون من لغات الغرب وثقافاته إلا ما تركه المستعمر الإنكليزي والفرنسي في مستعمراته القديمة ..)، لا يقر أصلا مبدأ "فصل الكنيسة عن الدولة" (5)، فهذه بريطانيا لا تقر هذا الفصل لأن ملكتها هي أيضا رئيسة الكنيسة فيها .. وهذه أمريكا لا تزال تكتب على الدولار "توكلنا على الله" (In God We Trust)! وفي الدانمرك "وزير كنيسة"، وفي النرويج الملك هو رئيس الكنيسة، وفي اليونان لا يوجد فصل رسمي بين الكنيسة والدولة، ولا حتى إشارة إلى ذلك في الدستور! وكذلك الأمر في بلجيكا فليس في دستورها أي قانون يدعو إلى "فصل الكنيسة عن الدولة" .. فاللائيكية حالة فرنسية فقط لم يتسنسخها عنها سوى مصطفى كمال أتاتورك في تركيا .. والعالم ليس فرنسا فقط، لذلك يجب على مثقفينا أن ينظروا إلى العالم نظرة شمولية في جميع الاتجاهات، لا في اتجاه واحد مثلما ينظر الحصان!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حواش:
(1) جريدة الستاندارد: http://www.standaard.be/Artikel/Deta...0&subsection=3 عدد الجمعة 25 سبتمبر.
(2) جريدة الستاندارد: http://www.standaard.be/Artikel/Deta...kelId=I02FP5SM عدد السبت 26 سبتمبر.
(3) موقعهن على الإنترنت: http://www.baasovereigenhoofd.be/
(4) انظر خطبة رئيس جامعة أنتورب بمناسبة العام الجامعي الجديد الاثنين الماضي على الرابط التالي: Opening academisch jaar 2009-2010 Toespraak door prof. dr. Walter ...
(5) وليس "فصل الدين عن الدولة" كما يحلو للعلمانيين العرب أن يزعموا ويدلسوا مثلما دلسوا علينا بالترويج للعلمانية بكسر العين ..، ذلك أن أصل هذا المصطلح بالفرنسية (Séparation des Églises et de l'État) والإنكليزية (Separation of church and state) وفي أكثر لغات الغرب هو "فصل الكنيسة عن الدولة" وليس "فصل الدين عن الدولة". وسبب التدليس هو عدم وجود كنيسة في الإسلام، فاحتيج عند ترجمة هذا المصطلح إلى التدليس أيضا!
[/align]
تعليق