نظرة إلى تاريخ العثمانيين بعين ثانية
عمر كوش
من المواضيع المسكوت عنها، أو المعتّم عليها تاريخياً، موضوع الإبادة التي تعرض لها المسلمون العثمانيون خلال قرن من الزمن، يمتدّ من (1821 ـ 1922) في كل من البلقان والقفقاس وشرق الأناضول. فالتاريخ ـ كما يُقال ـ ملك المنتصرين، إذ لم يكتب التاريخ العثماني مؤرخون مستقلون، بل كتبه مؤرخون أوروبيون، رسميون أو عسكريون، مشاركون في الحرب أو سياسيون، ومستشرقون، وكتّاب سير. لذلك فإن أهمية كتاب "الطرد والإبادة: مصير المسلمين العثمانيين" تأتي من تناوله موضوعاً جرى التعتيم عليه، حيث غالباً ما جرى التركيز على الأعمال التي ارتكبها العثمانيون، سواء في البلقان أم في شرق الأناضول أم في القفقاس، وعلى معاناة وخسائر المسيحيين، مقابل تجاهل معاناة ومصير المسلمين في تلك المناطق.
ويركز مؤلف الكتاب جستن مكارثي على تفاصيل تاريخية دقيقة تبيّن فظاعة وهول ما تعرّض له المسلمون العثمانيون من ضروب عديدة من الطرد والإبادة في تلك المناطق التي كانوا يشكلون أكثرية في معظم مناطقها، ثم تحولوا بفعلها إلى أقلية هامشية. لكنه يؤرخ لمعاناة المسلمين، ليس بوصفهم عانوا وحدهم، إنما تصحيحاً للرؤية السائدة، الأحادية الجانب، وبوصفها قصة تصفيات هائلة، وواحدة من هجرات التاريخ الضخمة، نتجت عن سياسة تطهير عرقي للمسلمين مصمّمة بدقة وعناية.
فقد اختفى مسلمو البلقان على نطاق واسع، موتى أو مجبرين على النزوح، وعاشت البقية في جيوب صغيرة ومعزولة في اليونان وبلغاريا ويوغوسلافيا. وقهر المصير ذاته مسلمي القرم وشمال القفقاس وأرمينيا الروسية. مات ملايين المسلمين، أكثرهم من الاتراك، وفرّت ملايين أخرى الى ما يعرف الآن بتركيا، وأجبر أكثر من خمسة ملايين مسلم على مغادرة أراضيهم بين عامي (1821 ـ 1922)، ومات خمسة ملايين ونصف المليون مسلم، قتل بعضهم في الحرب، وهلك بعضهم الآخر من المجاعة والمرض. وبالرغم من الاهمية التاريخية لخسائر المسلمين، إلا أنها غير مدونة في الكتب التاريخية والمدرسية. وهو أمر يخالف الممارسة الحديثة في مجالات أخرى من التاريخ، إذ أصبح من غير الوارد اليوم الكتابة عن التوسع الاميركي من دون مراعاة الوحشية التي مورست ضد السكان الاميركيين الاصليين. كما لا يستطيع المؤرخون أن يكتبوا عن الاستعمار من دون ذكر قتل الافريقيين في الكونغو أو الصينيين في حروب الافيون. ومع ذلك، لم تجر في الغرب كتابة أو فهم تاريخ معاناة مسلمي البلقان والقفقاس والأناضول قط، بل جرت عملية كتابة تاريخ البلقان والقفقاس والأناضول من دون ذكر أبطاله الرئيسيين، أي المسلمين.
ويرى مكارثي أنه لا يمكن فهم الكثير من تاريخ البلقان والأناضول والقفقاس جيداً من دون أخذ أعداد اللاجئين والقتلى المسلمين في الحسبان، وينطبق هذا الأمر على نحو خاص على تاريخ القومية (العصبية) والاستعمار. ويُظهر المصور المعاصر للبلقان وجنوب القفقاس بلداناً ذات سكان متجانسين الى حد ما، بلداناً استحدثت إبان الحروب وفصلتها الثورات عن الامبراطورية العثمانية. وتحققت وحدة تلك البلدان العرقية والدينية من خلال طرد سكانها المسلمين، بمعنى آخر تأسست الدول الجديدة على معاناة سكانها الراحلين. وعلى نحو مشابه، جلب الاستعمار الروسي، الذي غالباً ما يتمّ تصويره على أنه مسيرة "تمدن" للثقافة الاوروبية، معه مقتل ملايين الجركس والأبخاز واللاز والاتراك، لتبدو القومية والاستعمار في أسوأ مظاهرهما حين تظهر ضحاياهما على المسرح.
ويعزو مكارثي ما تعرض إليه مسلمو أوروبا العثمانية والقرم والقفقاس والأناضول إلى التقاء ثلاثة عوامل رئيسية، تتلخص في: "ضعف الامبراطورية العثمانية العسكري والاقتصادي، والوعي القومي بين الشعوب المسيحية العثمانية، والتوسع الاستعماري الروسي". فلو استطاع العثمانيون أن يدافعوا عن امبراطوريتهم كما ينبغي لما حدثت وفيات المسلمين وهجرتهم بالتأكيد، إذ حين أدرك العثمانيون ضعفهم، كانوا لا يملكون المال الكافي والسلطة الادارية للقيام بتغيير سريع. وكان الضغط العسكري المتواصل من أعدائهم قد جعل التغيير السريع من الامور الملحة، لكن العثمانيين لم يكونوا قادرين على أن يحاكوا في اجيال قليلة ما احتاجت أوروبا خمسمئة سنة لتحقيقه. وبحلول عام 1800 كانت حكومة الامبراطورية العثمانية ضعيفة داخلياً، وغير قادرة على تمويل حتى النظام العسكري العثماني التقليدي والسيطرة عليه من جيش وبحرية قادرين على الوقوف في وجه اعداء الامبراطورية طبعاً. ومع ذلك فقد بنت إصلاحات القرن التاسع عشر القوات المسلحة العثمانية الى مستوى أتاح للعثمانيين ان يخضعوا اعداءهم الداخليين ويوسعوا السيطرة المركزية للامبراطورية، إلا أنهم لم يقدروا على الصمود في وجه أعدائهم الخارجيين. فقد كانت جيوش القوى الاوروبية أكثر تدريباً وأفضل تسليحاً وأكبر عدداً بكثير من القوات العثمانية. ولم يكن للدولة العثمانية "فسحة للتنفس" لترتيب بيتها من الداخل. لقد كانت بحاجة الى الوقت لخلق الاقتصاد الصناعي الذي كان أساس الدولة القوية. ولم يتح أعداء العثمانيين، خصوصاً روسيا، لهم هذا الوقت، حيث خاض الجيش العثماني حروباً عديدة ومتتالية، إلى جانب حروب العصيان والتمرد. وعليه أجبرت الجيوش التي كان يجب أن تكون في مرحلة التدريب على خوض الحرب باستمرار وهي غير مهيأة، فهلك القسم الاعظم منها. وأنفقت الموارد المالية الضرورية للتحديث في حروب تمخضت عن خسارة أرض وما يقابلها من خسارة في دخل الدولة. إنه الضعف العثماني الذي أتاح للعاملين الآخرين، الوعي القومي للاقليات العثمانية والتوسعية الروسية، أن يؤديا دورهما.
وكان لدى الروس خطة استعمارية متكاملة للسيطرة على القفقاس الذي سيفتح لهم أبواب البحر الأسود، حيث كانوا ينشئون القلاع والطرق والمباني العسكرية والتحصينات تمهيداً للدخول إلى عمق القفقاس، خصوصاً وأن القفقاس يمتد من البحر الأسود إلى بحر قزوين، وكان يشكل الحد الفاصل بين الدولة العثمانية وقياصرة روسيا. وينقل جستن مكارثي عن الأديب الروسي الشهير "ليو تولوستوي" وصفه لهجوم الروس على القرى القفقاسية. فيقول: "جرت العادة أن تُهاجم القرى أثناء الليل، وبسبب المباغتة، لا يتسنى الوقت للنساء والأطفال الفرار، وكان الرعب الذي تلا تحت جنح الظلام حين اقتحم الروس البيوت بمجموعات مؤلفة من اثنين وثلاثة شديداً إلى حد لم يجرؤ أي معلق رسمي على وصفه". وعليه يمكن فهم التجربة الروسية الإبادية في القفقاس بشكل أفضل من خلال وصف المؤلف للسياسة الروسية في القفقاس، حيث اعتمد الروس على إخضاع المناطق التي استولوا عليها "من المسلمين واستبدلوا المسيحيين بهم. لم تكن تلك السياسة استثنائية للروس، ففي الوقت الذي كان الروس يقومون بأفعالهم ضد المسلمين على سبيل المثال، كان المستوطنون الأوروبيون في أميركا الشمالية يفرضون سياسة مشابهة على الأميركيين الأصليين". وقد مرّ تاريخ القفقاس بالعديد من المحطات الأساسية، بدأت عندما استولى بطرس الأكبر على دربند وباكو في عامي 1722 و1723. لكن نادر شاه استرجعهما. ثم عاد الروس ثانية إلى المنطقة عام 1812وإلى جورجيا عام 1873، حيث أصبحت دافعة جزية روسية. وفي عام 1836 اندلعت ثورة شامل واتباعه من الشيشان والداغستان، الذي هزم 1859. وفي عام 1864 كانت السيطرة الروسية على القفقاس شبه تامة.
وطبق الروس سياسة التهجير والنزوح القسري عبر تدمير البيوت والحقول فلم يتركوا خياراً سوى الموت جوعاً أو الفرار. وكانت الحرب لا تدور فقط على الأرض، وإنما في العقول والكلمات. وعليه جرى تصوير العدو وفق صورة تخرجه من الحياة الإنسانية، صورة حياة وحشية، غير راقية، وغير متحضرة.
إذاً، في الوقت الذي كانت فيه الامبراطورية العثمانية تكافح لاصلاح ذاتها والحفاظ على وجودها دولة حديثة، اضطرت في البداية إلى أن تستنزف مواردها المحدودة لتحمي شعبها من القتل على يد أعدائها، ثم إلى أن تحاول أن تقدم الرعاية للاجئين الذين تدفقوا الى الامبراطورية عندما انتصر عليهم هؤلاء الاعداء. ومع تقدم القرن التاسع عشر ونمو الوعي "القومي" بين المسيحيين العثمانيين، اتخذت عصبية الاقليات العثمانية الطابع "العنصري" كالقومية الايطالية أو الالمانية، لكن الارتباط القوي بالدين لم يضمحل قط. وتأسس وعي اليونانيين والبلغار والارمن القومي على الهوية الدينية، ولم يكن ذلك غريباً، لأن الكنائس المسيحية ظلت قروناً المستأمن الرئيس للثقافات المختلفة لكل جماعة مسيحية.
وقد بدأت الثورة اليونانية ضد الامبراطورية العثمانية في آذار من عام 1821 بقتل عدد من موظفي الحكومة العثمانية، خصوصاً جامعي الضرائب. تبع ذلك هجوم شامل في شهر نيسان على اتراك المورة في جنوب اليونان حيث قتل القرويون ورجال العصابات اليونانيون كل تركي عثروا عليه. تمت مهاجمة الجنود الاتراك والالبان العثمانيين وقتلهم، واستسلم بعضهم، كمسلمي كالافريتا وكالاماتا لليونانيين بعد حصولهم على وعود بالأمان، ومع ذلك جرى قتلهم ايضاً. وذبح على الطرقات كثير ممّن لاذوا بالفرار، كأتراك قونيا مثلاً. وجرت أحداث مشابهة في رومانيا الارثوذكسية الشرقية في المقام الاول، حيث حاول الثوار اليونانيون بقيادة ألكسندر إبسيلانتس ان يُشعلوا ثورة ضد العثمانيين قد تمتد لتشمل كل البلقان (آذار عام 1821) معتمدين على مساعدة مفترضة من روسيا. وفوجئ الأتراك من كل الطبقات، التجار والبحارة والجنود، وقُتلوا بدم بارد، وتبع ذلك قتل موظفين عثمانيين وجنود وأتراك محليين في المدن والجبال.
ويرى مكارثي إلى أن وفيات الأتراك في اليونان لم تكن وفيات إصابات زمن الحرب، بل جرى قتل كل الأتراك الذين أسرتهم عصابات يونانية، بمن في ذلك النساء والأطفال، باستثناء عدد صغير من النساء والأطفال الذين جرى أسرهم للاستعباد. وبالتالي فإن عمليات القتل كانت اعمالاً سياسية مدروسة، وليس دفقاً من الكراهية فقط، إذ كان يُنظر الى أتراك اليونان على انهم عقبة في طريق يونان مستقلة ويونانية صرفة.
ما يمكن استخلاصه، بقدر كبير من الأسى، هو أن التاريخ الحديث ينهض على الإبادة والاستعباد، ويلخّص العلاقات بين البشر والشعوب إلى علاقة "سيد ـ عبد"، واضعاً الشعوب بين خيارين، إما أن تكون قاتلة أو تصير مقتولة. إما ظالمة أو مظلومة، مع أن التاريخ القديم لم يخلُ من حروب وصراعات، لكن لم تجر إبادات كبرى، أما مع العصر الحديث فقد تحولت الحروب والمجازر إلى طريقة للبقاء.
المصدر: صحيفة المستقبل