يا طيور!
جميعنا معرضون للخطأ الصغير. الكهرباء تخطئ أحيانا: تضغط زر النور كعادتك في طلب الضوء فيحترق سلك المصباح ويطلع لك العتم. الأسطوانة تخطئ: تبدأ أم كلثوم بالقول «انت»، وبدلا من أن تكملها بـ«عمري»، يطلع خدش يجعلها تكرر، على غير صداحها الجميل، انت. انت. انت. الطيور لا تخطئ. تغريدة خلف تغريدة، علو وتطويل وهمس. لا تخطئ. فهي ليست كهرباء ولا بشرا، ولا هاتفا جوالا في لبنان، حيث يشارك في مكالمتك عشرة مواطنين آخرين؛ اثنان يتكاذبان حول صفقة القمح. واثنان يتكاذبان حول الصدق. واثنان حول الحب. واثنان حول محبة لبنان. واثنان حول كل ما سبق.
يقول بودلير عن فاغنر: «في كل موسيقى مساحة تملؤها مخيلة السامع». يمر جمع هذه الزاوية، على أربعة: عزيزتي لمى، التي تخوض فك طلاسم خطي، ثم على زميلنا العزيز مسعود، الذي تفوت دقته الشديدة أحيانا ما فات على لمى في «شفرة دافنشي»، ثم على هيئة التصحيح، التي تتعايش معي منذ 23 عاما.
أتمنى أحيانا لو أننا جميعا، بدءا بالمدعو أعلاه، نقلد الطيور. لا خطأ لغويا، ولا في أسماء العلم، ولا طباعيا. فقليلا هنا، بعكس الموسيقى، ما تملأ مخيلة القارئ الفراغ. وكثيرا ما أكتشف خطئي بعد فوات الأوان. وكثيرا ما تتسارع الرسائل على البريد: ماذا حدث لهذا الرجل؟! لم يعد يميز بين محمد التابعي وأحمد التابعي!
كتبت غير مرة أنني، إلا في حالات قصوى، لن أشير إلى رسائل القراء أو أرد عليها. فمثل ذلك خلل في الصحافة أو دلالة جوع وبرهان قلة قراء. وقد ازداد تقديري للأستاذ علي سالم عندما قرر الرد علي في البريد بدل زاويته اللماحة والثاقبة. وحاولت بدوري العثور على رقم هاتفه في القاهرة وجربت كل الأرقام التي أعطيت، بما فيها رقم مكتب «الشرق الأوسط»، وفي كل الحالات كانت ترد علي أسطوانة غير مفهومة، تطلب مني أن أزيد رقما، أو أن أطرح رقمين. وكما يحدث في توأمة المدن لا بد من توأمة جوال بيروت مع جوال أم الدنيا. وفي أي حال، تحية إلى الأستاذ علي سالم، على ما تكرم به علي، وعلى ما يكتب للجميع.
وإنها مناسبة من القلب، ومن أعالي الضمير، لكي أقول للذين يكتبون إلى البريد، إنهم أجمل ما يحدث كل يوم. وإنني أقرأ رسائلهم قبل أن أقرأ زاويتي، مستطلعا الهنات غير الهينات. وقد تناقصت مع العمر محدثات الفرح وأسبابه. وأبهج المشاعر الآن عندما أقبل يد ابنتي، أو عندما يكتب قارئ من جنيف «وإن مر يوم من غير ما أقراك». كم أنا ممتن.
ونحن تعلمنا من الحشرات أيضا!
أهم ما اكتشف دارون العالم الإنجليزي الكبير أن الحيوان قادر على التكيف. وهذه القدرة هي التي جعلته حيا حتى الآن.. والفرق بين الحيوان والإنسان أن الحيوان يكرر نفسه أبدا. أما الإنسان فيبدع ويضيف ويتقدم ويواجه ويقاوم ويتكيف ويتغلب.
والإنسان دائم النظر إلى ما حوله: نبات وحيوان وأرض وماء وهواء وسماء. ويواجه كل قوى الطبيعية من أجل أن يعيش معها أو عليها. أو ضدها أو يتغلب عليها.
انظر إلى السفينة في البحر.. إن الماء هو الذي يحملها وهو الذي يقاومها وهو الذي يدفعها إلى الحركة. ولكن الإنسان هو الذي صنع السفينة لتطفو ولتسرع في الحركة.. وكذلك الطائرة. تطير بالهواء وفى الهواء وضد الهواء. وتقاوم وتمضي وتعلو وتهبط.. ولا شيء يغرق السفينة إلا الماء ولا شيء يسحق الطائرة إلا الهواء..
ومنذ نظر الإنسان إلى الحيوان فهو يتعلم، وكثير مما يؤديه الحيوان بالغريزة ملايين السنين قد سبق الإنسان فيه إلى ذلك. والقرآن الكريم يضرب لنا مثلا: الغراب يدفن أخاه بينما ابن آدم الذي قتل أخاه لم يعرف ما الذي يصنعه بجثة أخيه. وغير ذلك حكايات ونوادر في تاريخ الإنسان والحيوان.
وكنت أطالع كتابا ممتعا اسمه «حروب وسلام عند الحيوانات والحشرات». يقول المؤلف البروفسور رفلهام أرنست إن هناك طائرا اسمه «نقّار الخشب»، هذا الطائر طعامه اللذيذ هو أكثر النمل شراسة. ولكن استطاع هذا النقّار عبر ملايين السنين أن يوقف هذه المعركة. هدنة مؤقتة.. فإذا باض هذا الطائر فإنه يترك بيضه بالقرب من أوكار النمل. أو في داخلها. وهذا معناه أن الطائر يريد من النمل حماية البيض من الطيور الأخرى. ويتزاحم النمل حول البيض يحميه. وفي نفس الوقت يمنع النقار من التهام النمل. فقد انعقدت بينهما هدنة. الهدنة تقول: ما دام النمل يحمي البيض فالطائر لا يتعرض له.
وبعد أن يفقس البيض فإن النمل يتحول عشه إلى مكان آخر ويبدأ في الاستعداد لحماية نفسه من الطائر النقّار. فقد انتهت الهدنة وتبادُل المنافع واستأنف كلٌّ حياته من جديد.. الخوف والهرب من ناحية والعدوان الغاشم من الناحية الأخرى. كيف تعلم النمل وكيف تعلم الطائر: إنها القدرة على التكيف والمرونة في مواجهة كل الظروف!
ولم تعد لي أسماء مستعارة!
ربما كنت أكثر الصحافيين استخداما للأسماء المستعارة في كل المجلات التي رأست تحريرها. وعددها عشر. فلم يكن من المعقول أن أوقع باسمي على ثلاث أو أربع مقالات في عدد واحد. فالضرورة لها أحكام. ومن أحكامها أنني ظللت أكتب أبواب الموضة أربعين عاما. فعندما عملت في جريدة «الأهرام» سنة 1950 كان لـ«الأهرام» مراسلة في باريس تبعث بمقالات عن الموضة. وكانت من نصيبي. وكنت أدور على بيوت الأزياء أسأل عن معاني المفردات وأجمع منها قاموسا.
ولا أظن أن أحدا من الرجال أو من أكثر النساء علما واطلاعا على أسرار الموضات كان يضاهيني في ذلك الوقت..
وقد اخترت الأسماء التالية: شريف شريف.. ومنى جعفر.. وهالة أحمد.. وسيلفانا ماريللي.. وماريا أنطوانيت.. وإلهام فتحي.. وقد حدث في إحدى المقالات أن هاجمت المرأة هجوما عنيفا. لسبب نفسي.. بسبب أنني أكتب بقلم سيدة. وهاجمتني السيدات واتهمنني بأنني سيدة شاذة.. ولو كانت عندي شجاعة لكشفت عن حقيقتي.. ولم تنتظر الصحف حتى أكشف عن حقيقتي.. وإنما سبقتني. وقالوا: مطلقة حاقدة على المتزوجات.. وقالوا: زوجة مخدوعة.. وقلن: إنها إحدى خريجات الملاجئ.. وما أدراك ببنات الملاجئ؟!
وتضايقت. ودافعت عن هذه (الزميلة) وقلت إنني أعرفها وأمها وأباها وأخواتها. وتربطني بها صلة القربى. وكنت أنشر صورا مع هذه المقالات لفتيات من الصحف الإيطالية والألمانية. إلى أن فوجئت يوما برئيس الوزراء يطلبني لأمر هام. وذهبت وانتظرت الأمر الهام. قال: أريد أن أطلب يد الآنسة منى جعفر.. فابني معجب بها جدا. ويقرأ كل ما تكتب وأعجبه عقلها وثقافتها. فما رأيك يا أبا العروس؟!
يرحم الله صديقي ممدوح سالم رئيس وزراء مصر. الذي ظل يضحك وهو يروي هذه القصة حتى تشكك الناس في كل هذه الأسماء المستعارة. فعدلت عنها!
جميعنا معرضون للخطأ الصغير. الكهرباء تخطئ أحيانا: تضغط زر النور كعادتك في طلب الضوء فيحترق سلك المصباح ويطلع لك العتم. الأسطوانة تخطئ: تبدأ أم كلثوم بالقول «انت»، وبدلا من أن تكملها بـ«عمري»، يطلع خدش يجعلها تكرر، على غير صداحها الجميل، انت. انت. انت. الطيور لا تخطئ. تغريدة خلف تغريدة، علو وتطويل وهمس. لا تخطئ. فهي ليست كهرباء ولا بشرا، ولا هاتفا جوالا في لبنان، حيث يشارك في مكالمتك عشرة مواطنين آخرين؛ اثنان يتكاذبان حول صفقة القمح. واثنان يتكاذبان حول الصدق. واثنان حول الحب. واثنان حول محبة لبنان. واثنان حول كل ما سبق.
يقول بودلير عن فاغنر: «في كل موسيقى مساحة تملؤها مخيلة السامع». يمر جمع هذه الزاوية، على أربعة: عزيزتي لمى، التي تخوض فك طلاسم خطي، ثم على زميلنا العزيز مسعود، الذي تفوت دقته الشديدة أحيانا ما فات على لمى في «شفرة دافنشي»، ثم على هيئة التصحيح، التي تتعايش معي منذ 23 عاما.
أتمنى أحيانا لو أننا جميعا، بدءا بالمدعو أعلاه، نقلد الطيور. لا خطأ لغويا، ولا في أسماء العلم، ولا طباعيا. فقليلا هنا، بعكس الموسيقى، ما تملأ مخيلة القارئ الفراغ. وكثيرا ما أكتشف خطئي بعد فوات الأوان. وكثيرا ما تتسارع الرسائل على البريد: ماذا حدث لهذا الرجل؟! لم يعد يميز بين محمد التابعي وأحمد التابعي!
كتبت غير مرة أنني، إلا في حالات قصوى، لن أشير إلى رسائل القراء أو أرد عليها. فمثل ذلك خلل في الصحافة أو دلالة جوع وبرهان قلة قراء. وقد ازداد تقديري للأستاذ علي سالم عندما قرر الرد علي في البريد بدل زاويته اللماحة والثاقبة. وحاولت بدوري العثور على رقم هاتفه في القاهرة وجربت كل الأرقام التي أعطيت، بما فيها رقم مكتب «الشرق الأوسط»، وفي كل الحالات كانت ترد علي أسطوانة غير مفهومة، تطلب مني أن أزيد رقما، أو أن أطرح رقمين. وكما يحدث في توأمة المدن لا بد من توأمة جوال بيروت مع جوال أم الدنيا. وفي أي حال، تحية إلى الأستاذ علي سالم، على ما تكرم به علي، وعلى ما يكتب للجميع.
وإنها مناسبة من القلب، ومن أعالي الضمير، لكي أقول للذين يكتبون إلى البريد، إنهم أجمل ما يحدث كل يوم. وإنني أقرأ رسائلهم قبل أن أقرأ زاويتي، مستطلعا الهنات غير الهينات. وقد تناقصت مع العمر محدثات الفرح وأسبابه. وأبهج المشاعر الآن عندما أقبل يد ابنتي، أو عندما يكتب قارئ من جنيف «وإن مر يوم من غير ما أقراك». كم أنا ممتن.
ونحن تعلمنا من الحشرات أيضا!
أهم ما اكتشف دارون العالم الإنجليزي الكبير أن الحيوان قادر على التكيف. وهذه القدرة هي التي جعلته حيا حتى الآن.. والفرق بين الحيوان والإنسان أن الحيوان يكرر نفسه أبدا. أما الإنسان فيبدع ويضيف ويتقدم ويواجه ويقاوم ويتكيف ويتغلب.
والإنسان دائم النظر إلى ما حوله: نبات وحيوان وأرض وماء وهواء وسماء. ويواجه كل قوى الطبيعية من أجل أن يعيش معها أو عليها. أو ضدها أو يتغلب عليها.
انظر إلى السفينة في البحر.. إن الماء هو الذي يحملها وهو الذي يقاومها وهو الذي يدفعها إلى الحركة. ولكن الإنسان هو الذي صنع السفينة لتطفو ولتسرع في الحركة.. وكذلك الطائرة. تطير بالهواء وفى الهواء وضد الهواء. وتقاوم وتمضي وتعلو وتهبط.. ولا شيء يغرق السفينة إلا الماء ولا شيء يسحق الطائرة إلا الهواء..
ومنذ نظر الإنسان إلى الحيوان فهو يتعلم، وكثير مما يؤديه الحيوان بالغريزة ملايين السنين قد سبق الإنسان فيه إلى ذلك. والقرآن الكريم يضرب لنا مثلا: الغراب يدفن أخاه بينما ابن آدم الذي قتل أخاه لم يعرف ما الذي يصنعه بجثة أخيه. وغير ذلك حكايات ونوادر في تاريخ الإنسان والحيوان.
وكنت أطالع كتابا ممتعا اسمه «حروب وسلام عند الحيوانات والحشرات». يقول المؤلف البروفسور رفلهام أرنست إن هناك طائرا اسمه «نقّار الخشب»، هذا الطائر طعامه اللذيذ هو أكثر النمل شراسة. ولكن استطاع هذا النقّار عبر ملايين السنين أن يوقف هذه المعركة. هدنة مؤقتة.. فإذا باض هذا الطائر فإنه يترك بيضه بالقرب من أوكار النمل. أو في داخلها. وهذا معناه أن الطائر يريد من النمل حماية البيض من الطيور الأخرى. ويتزاحم النمل حول البيض يحميه. وفي نفس الوقت يمنع النقار من التهام النمل. فقد انعقدت بينهما هدنة. الهدنة تقول: ما دام النمل يحمي البيض فالطائر لا يتعرض له.
وبعد أن يفقس البيض فإن النمل يتحول عشه إلى مكان آخر ويبدأ في الاستعداد لحماية نفسه من الطائر النقّار. فقد انتهت الهدنة وتبادُل المنافع واستأنف كلٌّ حياته من جديد.. الخوف والهرب من ناحية والعدوان الغاشم من الناحية الأخرى. كيف تعلم النمل وكيف تعلم الطائر: إنها القدرة على التكيف والمرونة في مواجهة كل الظروف!
ولم تعد لي أسماء مستعارة!
ربما كنت أكثر الصحافيين استخداما للأسماء المستعارة في كل المجلات التي رأست تحريرها. وعددها عشر. فلم يكن من المعقول أن أوقع باسمي على ثلاث أو أربع مقالات في عدد واحد. فالضرورة لها أحكام. ومن أحكامها أنني ظللت أكتب أبواب الموضة أربعين عاما. فعندما عملت في جريدة «الأهرام» سنة 1950 كان لـ«الأهرام» مراسلة في باريس تبعث بمقالات عن الموضة. وكانت من نصيبي. وكنت أدور على بيوت الأزياء أسأل عن معاني المفردات وأجمع منها قاموسا.
ولا أظن أن أحدا من الرجال أو من أكثر النساء علما واطلاعا على أسرار الموضات كان يضاهيني في ذلك الوقت..
وقد اخترت الأسماء التالية: شريف شريف.. ومنى جعفر.. وهالة أحمد.. وسيلفانا ماريللي.. وماريا أنطوانيت.. وإلهام فتحي.. وقد حدث في إحدى المقالات أن هاجمت المرأة هجوما عنيفا. لسبب نفسي.. بسبب أنني أكتب بقلم سيدة. وهاجمتني السيدات واتهمنني بأنني سيدة شاذة.. ولو كانت عندي شجاعة لكشفت عن حقيقتي.. ولم تنتظر الصحف حتى أكشف عن حقيقتي.. وإنما سبقتني. وقالوا: مطلقة حاقدة على المتزوجات.. وقالوا: زوجة مخدوعة.. وقلن: إنها إحدى خريجات الملاجئ.. وما أدراك ببنات الملاجئ؟!
وتضايقت. ودافعت عن هذه (الزميلة) وقلت إنني أعرفها وأمها وأباها وأخواتها. وتربطني بها صلة القربى. وكنت أنشر صورا مع هذه المقالات لفتيات من الصحف الإيطالية والألمانية. إلى أن فوجئت يوما برئيس الوزراء يطلبني لأمر هام. وذهبت وانتظرت الأمر الهام. قال: أريد أن أطلب يد الآنسة منى جعفر.. فابني معجب بها جدا. ويقرأ كل ما تكتب وأعجبه عقلها وثقافتها. فما رأيك يا أبا العروس؟!
يرحم الله صديقي ممدوح سالم رئيس وزراء مصر. الذي ظل يضحك وهو يروي هذه القصة حتى تشكك الناس في كل هذه الأسماء المستعارة. فعدلت عنها!