بؤس الأكاديميا العربية2007-09-01
أتذكر أنني عندما توجهت إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراة كنت أكن احتراماً، لا بل تقديساً عظيماً للعمل الأكاديمي والأكاديميين بشكل عام. وكنت أعتقد أن الأكاديميا هي الكهنوت العلمي، والمرجعية المعرفية الأولى. لكنني تفاجأت كثيراً عندما وجدت أن البريطانيين ينظرون شزراً إلى عالم الأكاديميا، رغم أنهم يمتلكون أعرق الجامعات في العالم، فهم يستخدمون مفردة "أكاديمي" أحياناً كشتيمة، أو مسبة، للتهكم، والاستهزاء، على اعتبار أن النقاشات، والطروحات الأكاديمية يمكن أن تكون عقيمة ولا علاقة لها بالحياة العملية في بعض الأحيان، كي لا نعمم. فعندما تدخل مع شخص بريطاني في جدال لا معنى له، يقول لك فوراً:"It is pretty academic" ، أي أنه كلام هلامي.
وبالرغم من أنني استأت كثيراً من النظرة البريطانية العامة للأكاديميا، على اعتبار أنني بالأصل أكاديمي متعصب، إلا أنني بدأت أتفهم تلك النظرة بعد أن مارست العمل الإعلامي، واقتربت أكثر من الناس وقضاياهم، فالأكاديميون، وللأسف الشديد، في أحيان كثيرة، ينظرون إلى العالم من أبراجهم العاجية، والمكتبات المسوّرة، التي لا تمت إلى الواقع بصلة، لهذا تأتي بعض تحليلاتهم واستنتاجاتهم واقتراحاتهم غير صحيحة، إن لم نقل مضحكة أحياناً. وقد لمست ذلك أثناء حضوري بعض المؤتمرات التي شارك فيها أكاديميون لمناقشة واقع الإعلام العربي والعالمي مثلاً، فوجدت أن نظرياتهم وتحليلاتهم وملاحظاتهم غير قادرة على تجاوز حرم الجامعات التي يعملون بها، أي أنها حبيسة عوالمهم الأكاديمية الضيقة.
وليت بعض الأكاديميين العرب والمتثاقفين اكتفوا بتقديم طروحاتهم الهائمة، بل راح بعضهم يشن حملة شعواء على العمل الإعلامي نفسه وطريقة تقديمه، فهم يريدون أن ينقلوا لنا رتابتهم وضجرهم الأكاديمي إلى شاشات التلفزة حتى في تقديم البرامج الحوارية، بحيث تكون عبارة عن محاضرات ومناظرات آلية مضبوطة ومحسوبة ومملة، وبإيقاع منوّم وخافت كوقع أقدام راقصات الباليه التي بالكاد يمكن سماعها، دون أن يدروا أن الطلاب يحاولون عادة التهرب من حضور المحاضرات في الجامعات لشدة بؤسها ومللها وأكاديميتها القاتلة، مع العلم أنه مطلوب منهم متابعتها من أجل النجاح في الامتحانات في آخر العام والتخرج فيما بعد. مع ذلك لا يمانع الكثير منهم في التغيب عنها. فكيف تتوقع إذن من مشاهد يحمل في يده جهاز التحكم عن بعد، ويستطيع متابعة خمسين قناة في دقائق أن يجلس ويشاهد محاضرات وحوارات أكاديمية متلفزة لا تساعد إلا على الشخير!
متى يعي الأكاديميون أن التلفزيون ليس لهم، وأن له شخوصه وأدواته وأسلوبه، وكم من الأكاديميين سقطوا سقوطاً مريعاً أمام الكاميرا لعدم قدرتهم على الاتصال والتواصل مع المشاهدين، ظناً منهم أن العالم عبارة عن قاعة محاضرات. وإذا كانوا يريدون فعلاً إيصال مخزونهم الفكري إلى الجمهور، وهو مخزون عظيم أحياناً، فليس بطريقتهم الأكاديمية المنومة، بل بالخروج من حالة تحنيط الفكر والرأي والمواقف والشخصية والتسليم بأن أعقد القضايا الفكرية يمكن طرحها ببساطة، وحيوية وبعض الإثارة والانفعال وحتى الدراما، دون أبراج عاجية وكلام مقعر منظر وفلهوية "بايخة". فنحن بأمس الحاجة إلى عقول نيرة تنير شاشاتنا المتكاثرة كالفطر، بشرط أن تعرف كيف تتواصل مع الجمهور، لا أن تنفره وتجعله يلعن الساعة التي شاهد فيها برنامجاً حوارياً يستضيف أكاديمياً أو باحثاً أو مفكراً من بتوع "الانطفاش الاعلاماواتي الحنكليشي".
إن المفكرين والأكاديميين الذي يعتقدون أنهم يستطيعون جذب المشاهد وجعله يتمسمر أمام الشاشة للتزود بزادهم الفكري والثقافي مخطئون جداً، إلا إذا خرجوا من قمقمهم الأكاديمي، وتخلصوا من مويائيتهم الهامدة. وكم أضحك وأنا أشاهد مفكراً أو مثقفاً يسترخي على الكرسي أمام الكاميرا ويخاطب المشاهدين بصوت خافت تاركاً بين الكلمة والأخرى مجالاً لأخذ غفوة، وحركات جامدة ورزانة مصطنعة، كما لو كان تمثالاً من الشمع في متحف "مدام توسو"، بحيث ينبغي على المشاهدين أن يرفعوا صوت التلفاز إلى أعلاه كي يسمعوا صوت المفكر المتفكر النائم في سرواله.
إن الأكاديميين الذي يناقشون القضايا المشتعلة على الشاشة بأعصاب باردة ومشاعر متحجرة وحركات روبوطية أقرب إلى الأفاكين منهم إلى المثقفين. فكيف تستطيع أن تناقش ما يجري في العراق مثلاً بدم بارد ولغة منمقة وعبارات مدرسية؟ إن الذين يناقشون الوضع العراقي بأريحية وأعصاب مرتخية وأصوات خافتة إنما يكذبون على المشاهد ويضللونه. فالناس على الأرض تتبادل يومياً الرؤوس المقطوعة والجثث المتفحمة والقنابل والصواريخ والسيارات المفخخة، فلا تتوقع منهم أن يرموا على بعضهم باقات الورود عندما يتحاورون على الشاشات، بل توقع أن ترتفع أصواتهم كثيراً وأن ينفعلوا ويغضبوا ويصرخوا. فلكل مقال مقام، فلا يمكن للملحن أن يلحــّن الموال كما يلحــّن الطقطوقة أو القصيدة أو الموشح. ولا يمكن أن تغني الموال كما تغني النشيد أو الأغنية الرومانسية كما تغني الأغنية الوطنية الحماسية.
بقي أن أبارك لهؤلاء الأكاديميين و"المفكرين" و"المثقفين" الذين يستضيفونهم على شاشاتنا العربية الغراء بهذا الأداء الجنائزي المهيب، وأن أطمأنهم بأنهم خارج لعبة العصر الأولى، وليكتفوا بالتلاقي في مؤتمراتهم وردهاتهم الجامعية حيث يستمعون الى بعض ويستمتعون برطانتهم الاكاديمية البائسة.
By: د. فيصل القاسم
أتذكر أنني عندما توجهت إلى بريطانيا لدراسة الدكتوراة كنت أكن احتراماً، لا بل تقديساً عظيماً للعمل الأكاديمي والأكاديميين بشكل عام. وكنت أعتقد أن الأكاديميا هي الكهنوت العلمي، والمرجعية المعرفية الأولى. لكنني تفاجأت كثيراً عندما وجدت أن البريطانيين ينظرون شزراً إلى عالم الأكاديميا، رغم أنهم يمتلكون أعرق الجامعات في العالم، فهم يستخدمون مفردة "أكاديمي" أحياناً كشتيمة، أو مسبة، للتهكم، والاستهزاء، على اعتبار أن النقاشات، والطروحات الأكاديمية يمكن أن تكون عقيمة ولا علاقة لها بالحياة العملية في بعض الأحيان، كي لا نعمم. فعندما تدخل مع شخص بريطاني في جدال لا معنى له، يقول لك فوراً:"It is pretty academic" ، أي أنه كلام هلامي.
وبالرغم من أنني استأت كثيراً من النظرة البريطانية العامة للأكاديميا، على اعتبار أنني بالأصل أكاديمي متعصب، إلا أنني بدأت أتفهم تلك النظرة بعد أن مارست العمل الإعلامي، واقتربت أكثر من الناس وقضاياهم، فالأكاديميون، وللأسف الشديد، في أحيان كثيرة، ينظرون إلى العالم من أبراجهم العاجية، والمكتبات المسوّرة، التي لا تمت إلى الواقع بصلة، لهذا تأتي بعض تحليلاتهم واستنتاجاتهم واقتراحاتهم غير صحيحة، إن لم نقل مضحكة أحياناً. وقد لمست ذلك أثناء حضوري بعض المؤتمرات التي شارك فيها أكاديميون لمناقشة واقع الإعلام العربي والعالمي مثلاً، فوجدت أن نظرياتهم وتحليلاتهم وملاحظاتهم غير قادرة على تجاوز حرم الجامعات التي يعملون بها، أي أنها حبيسة عوالمهم الأكاديمية الضيقة.
وليت بعض الأكاديميين العرب والمتثاقفين اكتفوا بتقديم طروحاتهم الهائمة، بل راح بعضهم يشن حملة شعواء على العمل الإعلامي نفسه وطريقة تقديمه، فهم يريدون أن ينقلوا لنا رتابتهم وضجرهم الأكاديمي إلى شاشات التلفزة حتى في تقديم البرامج الحوارية، بحيث تكون عبارة عن محاضرات ومناظرات آلية مضبوطة ومحسوبة ومملة، وبإيقاع منوّم وخافت كوقع أقدام راقصات الباليه التي بالكاد يمكن سماعها، دون أن يدروا أن الطلاب يحاولون عادة التهرب من حضور المحاضرات في الجامعات لشدة بؤسها ومللها وأكاديميتها القاتلة، مع العلم أنه مطلوب منهم متابعتها من أجل النجاح في الامتحانات في آخر العام والتخرج فيما بعد. مع ذلك لا يمانع الكثير منهم في التغيب عنها. فكيف تتوقع إذن من مشاهد يحمل في يده جهاز التحكم عن بعد، ويستطيع متابعة خمسين قناة في دقائق أن يجلس ويشاهد محاضرات وحوارات أكاديمية متلفزة لا تساعد إلا على الشخير!
متى يعي الأكاديميون أن التلفزيون ليس لهم، وأن له شخوصه وأدواته وأسلوبه، وكم من الأكاديميين سقطوا سقوطاً مريعاً أمام الكاميرا لعدم قدرتهم على الاتصال والتواصل مع المشاهدين، ظناً منهم أن العالم عبارة عن قاعة محاضرات. وإذا كانوا يريدون فعلاً إيصال مخزونهم الفكري إلى الجمهور، وهو مخزون عظيم أحياناً، فليس بطريقتهم الأكاديمية المنومة، بل بالخروج من حالة تحنيط الفكر والرأي والمواقف والشخصية والتسليم بأن أعقد القضايا الفكرية يمكن طرحها ببساطة، وحيوية وبعض الإثارة والانفعال وحتى الدراما، دون أبراج عاجية وكلام مقعر منظر وفلهوية "بايخة". فنحن بأمس الحاجة إلى عقول نيرة تنير شاشاتنا المتكاثرة كالفطر، بشرط أن تعرف كيف تتواصل مع الجمهور، لا أن تنفره وتجعله يلعن الساعة التي شاهد فيها برنامجاً حوارياً يستضيف أكاديمياً أو باحثاً أو مفكراً من بتوع "الانطفاش الاعلاماواتي الحنكليشي".
إن المفكرين والأكاديميين الذي يعتقدون أنهم يستطيعون جذب المشاهد وجعله يتمسمر أمام الشاشة للتزود بزادهم الفكري والثقافي مخطئون جداً، إلا إذا خرجوا من قمقمهم الأكاديمي، وتخلصوا من مويائيتهم الهامدة. وكم أضحك وأنا أشاهد مفكراً أو مثقفاً يسترخي على الكرسي أمام الكاميرا ويخاطب المشاهدين بصوت خافت تاركاً بين الكلمة والأخرى مجالاً لأخذ غفوة، وحركات جامدة ورزانة مصطنعة، كما لو كان تمثالاً من الشمع في متحف "مدام توسو"، بحيث ينبغي على المشاهدين أن يرفعوا صوت التلفاز إلى أعلاه كي يسمعوا صوت المفكر المتفكر النائم في سرواله.
إن الأكاديميين الذي يناقشون القضايا المشتعلة على الشاشة بأعصاب باردة ومشاعر متحجرة وحركات روبوطية أقرب إلى الأفاكين منهم إلى المثقفين. فكيف تستطيع أن تناقش ما يجري في العراق مثلاً بدم بارد ولغة منمقة وعبارات مدرسية؟ إن الذين يناقشون الوضع العراقي بأريحية وأعصاب مرتخية وأصوات خافتة إنما يكذبون على المشاهد ويضللونه. فالناس على الأرض تتبادل يومياً الرؤوس المقطوعة والجثث المتفحمة والقنابل والصواريخ والسيارات المفخخة، فلا تتوقع منهم أن يرموا على بعضهم باقات الورود عندما يتحاورون على الشاشات، بل توقع أن ترتفع أصواتهم كثيراً وأن ينفعلوا ويغضبوا ويصرخوا. فلكل مقال مقام، فلا يمكن للملحن أن يلحــّن الموال كما يلحــّن الطقطوقة أو القصيدة أو الموشح. ولا يمكن أن تغني الموال كما تغني النشيد أو الأغنية الرومانسية كما تغني الأغنية الوطنية الحماسية.
بقي أن أبارك لهؤلاء الأكاديميين و"المفكرين" و"المثقفين" الذين يستضيفونهم على شاشاتنا العربية الغراء بهذا الأداء الجنائزي المهيب، وأن أطمأنهم بأنهم خارج لعبة العصر الأولى، وليكتفوا بالتلاقي في مؤتمراتهم وردهاتهم الجامعية حيث يستمعون الى بعض ويستمتعون برطانتهم الاكاديمية البائسة.
By: د. فيصل القاسم
تعليق