من فرج الله الحلو إلى عبد الناصر
في هذه الايام الممضة كسنّ الرمح تعبر ذكرى استشهاد المميز فرج الله الحلو التي مرت بصمت سحيق كعادتها كل عام منذ أواخر حزيران 1959، ولولا اكليل من الزهر وضعته مجموعة شيوعية شابة عند التمثال لما حصل شيء، والمناضلون لا يتساوون بالبرونز. في هذا السياق والمناسبة ما يدهش ان منطقة التمثال التي تضم البيت الذي ولد فيه فرج الله عام 1907 أصبحت عقاريا باسم مجموعة لا علاقة لها ارثيا بالعائلة بسبب خطأ ارتكبه اخوه غالب منذ خمسين عاما، والمطلوب اليوم من الامين خالد حدادة والمقتدرة المخلصة ماري الدبس العمل سريعا لاعادة العقار الى ورثته والعائلة الجاهزة لكل تضحية مالية او غيرها لتحويل المنزل الى متحف. وفرج الله الذي انتسب الى الحزب الشيوعي عام 1930، قبل خالد بكداش، وسار على درب الحلاج قبل تشي غيفارا والمهدي بن بركة، ونشأ يتيما منذ الرابعة من عمره بسبب هجرة والدته الى أميركا التي بكاها كثيرا يوم توفت اوائل الخمسينات قائلا لزوجته: "كنت أعرف انني لن أراها لكنها أمي. لم يعد عندي أم".
هل يتهم انسان كهذا بالانحراف عن الهدف الثوري؟
يوم استشهد المميز فرج الله في 26 حزيران 1959 تحت تعذيب مخابرات عبد الحميد السراج (تحديدا عبد الوهاب الخطيب) كان قد ترك صغارا هم: الطبيبة اليوم بشرى، والطبيبة نجوى، والدكتورة الموهوبة ندى (أم فرج) التي تنشر أبحاثها القيمة في جريدة "النهار"، والامينة المخلصة، ذات الذاكرة المشرقة زوجته فيرجينيا.
يوم التحق فرج الله بالحزب على يد أستاذ اللغة الفرنسية ناصر حدة كان تاريخه الصغير يتضمن دراسة سنتين في مدرسة المعلم الذكي والشاعر بولس اسحق في جدايل، ثم التحاقه لبعض الوقت في مدرسة ميفوق الشهيرة حتى الآن، ثم في مدرسة المربي والمؤلف والمسرحي أديب لحود أي "المدرسة الوطنية" التي نافست يومها "مدرسة الفرير". أتقن العربية بعمق ثم الفرنسية بشكل ناصع، قبل ان ينتقل الى "المدرسة الانجيلية" في حمص حيث نال البكالوريا الفرنسية، وأخذ يعلّم ويتعلم في المدارس السورية. في هذه الفترة من الثلاثينات احتك فرج الله بأهالي منطقة جبيل، وشاركهم أعمالهم التطوعية مثل شق الطرق في قرية غلبون مثلا حيث أصبح صديقا لشاعرها وعضو الرابطة القلمية الشمالية ايام الفطاحل فكتور خوري، والمربي الاديب يوسف أبي رزق، ومدير عام وزارة الدفاع بالوكالة شكيب خوري صانع زهرة من مليون فراشة ما زالت حتى اليوم. حصل هذا في الثلاثينات من القرن العشرين قبل ان يرشح نفسه في الانتخابات في وجه لائحة بشارة الخوري وينال أكثر من ثلاثة عشر الف صوت، فيما نال الناجح يومها عن جبل لبنان ثمانية عشر الف صوت رغم التزوير، وكان خالد بكداش يتهمه: "ماروني بدو يعمل نايب عن جبل لبنان" إلا أن بكداش عاد وترشح عن الانتخابات في دمشق وانتخب نائبا برضى البورجوازية الدمشقية في الخمسينات. أواخر الثلاثينات أخذ يكتب افتتاحيات "صوت الشعب" ثم "الاخبار" بلغة عربية أنيقة وواضحة، مهاجما بعنف الصهيونية، والانتداب الفرنسي حتى اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1939 فقال للقاضي: "نحن الشيوعيين لا نهاب المستعمرين، ولا نخون مبادئنا أيا كان العذاب الذي سنتعرض له". يومها، أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسية حكما بسجنه خمس سنوات قضى منها في السجن سنتين حتى دخول قوات فرنسا الحرة. قال عنه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون (أمضى في لبنان فترة 1940 – 1947): "فرج الله الحلو رجل شريف، ومستقيم، وقد مات في ظروف مرعبة. كان الحلو رجلا هادئا، ومجردا من نزوة التسلط تلك التي تسحرنا لدى خالد بكداش".
يوم أعلنت الوحدة المصرية – السورية كتب فرج الله افتتاحية في جريدة "النور" الدمشقية بعنوان "أهلا وسهلا بعبد الناصر في سورية"، وكان ذلك قبل ان يعلن بكداش البنود الـ13 المطالبة باعادة النظر في أساس الوحدة، ثم يهرب الى براغ، مطالبا باشراف فرج الله على وضع خلية دمشق ميدانيا، رغم أن جميع اعضاء هذه الخلية كانوا اما في السجن او خرجوا متعاونين مع افشاء معلومات يعرفونها عن حياة فرج الله السرية، وكانوا يومها قلة صغيرة من القياديين في بيروت ومنهم طنوس دياب (شيوعي منذ الثلاثينات) الذي سلمه للمخابرات. وقبل ان يصعد فرج الله الى دمشق باسم حركي كان خلفه نضال الثلاثينات، والمؤتمر الوطني عام 1943 مع رجل الاستقلال رياض الصلح (وكان صديقه)، وموقفه الجريء والنادر يومها ضد موقف الاتحاد السوفياتي من تقسيم فلسطين (من يقدم على معارضة ستالين عام 1947؟) وكل ذلك عبر شخصية هادئة، لا تغضب، لا تحتد نرفزة، لا تشتم، ولا تهين احدا. وهذه المميزات الماركسية العلمية، والاخلاق العربية الشهمة حملها معه يوم دخل دمشق 25 حزيران 1959 بلا سيف او عصا. دخلها غير مقتنع، لكنها الاوامر المستهجنة، وكان يقول: "لا كادر في دمشق. لماذا الصعود؟". يوم جبه فرج الله عبد الناصر عبر مخابراته في دمشق (عبدالحميد السراج وعبد الوهاب الخطيب ووجيه الانطاكي قاتل المسكين بيار شدرفيان) كان الفتى العربي مجللا بانجازاته. اول ثورة عربية في العصر الحديث قضت على اسرة محمد علي البوسنية (كان مؤسس الاسرة محمد علي يتكلم العربية بصعوبة)، الاصلاح الزراعي، السماح لاعضاء العائلات الفقيرة بدخول الكلية الحربية، تصحيح المعاشات المتدنية، صفقة السلاح الشهيرة مع الاتحاد السوفياتي التي كانت بداية بناء جيش مصري عصري، قال لي عنه محام سوفياتي: "الجيش الذي حشده ناصر في سيناء كان مؤهلا لدخول تل ابيب في اسبوع لولا هول الخيانة، عدا ذلك تأميم القناة والعدوان الثلاثي". الى هذا، كان عبد الناصر قارئا نهما ومميزا، كما يقول عنه الضابط اليساري خالد محيي الدين، وكان هذا الفتى الاسمر يتمتع بصوت ذي غنّة، دافئ، كاريزمي، يستخدم لغة شعبية واضحة، سلسة تمتد خطاباته الى فترة طويلة يخاطب اثناءها ملايين العرب الذين ما زالوا يحبونه.
اذاً، لماذا وقع الصدام؟
رغم كل هذه الانجازات تحولت الديموقراطية عند عبد الناصر الى اشكالية بررها الزعيم الكبير بالاخطار الاستعمارية الداخلية (لم ينتبه اطلاقا الى ارتباكات المحيطين به) الى التحدي الصهيوني وقد قاتله عام 1948 في الفالوجا بجيش ذي اسلحة فاسدة، الى شتات من القوى المتصارعة، وشعب بائس بملايينه. لقد اقتلعت الثورة الناصرية كل التنظيمات السياسية حتى في سوريا، ايام الوحدة، وطالبت الاحزاب بحل نفسها، وحرمت كافة التنظيمات لمصلحة اتحاد قوى الشعب العامل ثم الاتحاد القومي ثم التنظيم الطليعي، لتعزل بذلك الجماهير سياسيا، والمعروف ان مصر كانت سباقة عربيا في تشكيل حزب شيوعي والاطلاع على الماركسية. في هذه الفترة الوحدوية امتدادا حتى حرب 1967 كانت الحياة الفكرية والثقافية تتحدد بشخصية عبد الناصر الكارزمية، وكتابات الموهوب حتى الآن محمد حسنين هيكل. كان على البطل الملحمي والاسطوري، والعسكري المثقف الا يصطدم دمويا بفرج الله، ويعترف بوجوده لا ان يقول: "ليس لدينا معتقل باسم فرج الله الحلو". واذا لم يكن هناك معتقل باسم فرج الله فمن اعتقل لويس عوض، واحسان عبد القدوس، والمفكر العملاق محمود امين العالم، وعبد العظيم انيس، وشهدي عطيه؟ وفي الاقليم السوري تشريد عشرات الشعراء من بدوي الجبل الى شوقي بغدادي الى محمد الحريري الى عمر ابو ريشة. كان يجب الا يحصل هذا. هذا الاستنتاج يأتي بمنظار اليوم حيث يعاد تقويم انجازات عبد الناصر من كل جوانبها، وضرورة اعادة قراءة تجربة فرج الله الحلو الجماهيرية الناجحة وسط تردي حركة اليسار اللبناني لمصلحة العشيرة، والقبيلة، والطائفة، والدين. المطلوب ليس ثرثرة على الورق كما يفعل بعض المرائين العروبيين، ولا المطلوب الاكثار من الانتقادات السهلة لهذه الجهة او تلك الخاصة وان الايام المعاصرة تحمل تأويلات متطرفة ومرعبة للاسلام والمسيحية في امة متخلفة وبدائية لن يكتب لها اللحاق بالامم الراقية.
كان فرج الله الحلو الماركسي هادئا في مرحلة نظرية ناصرية مساواتية تؤمن بعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، لان المساواة في المسيحية حق (رداء لك ورداء لاخيك)، والمساواة في الاسلام قيمة (اعط العمل اجره قبل ان يجف عرقه). ولا استغلال ولا ربا.
عودوا الى فرج الله ايها الشيوعيون!
بقلم وضاح يوسف الحلو
في هذه الايام الممضة كسنّ الرمح تعبر ذكرى استشهاد المميز فرج الله الحلو التي مرت بصمت سحيق كعادتها كل عام منذ أواخر حزيران 1959، ولولا اكليل من الزهر وضعته مجموعة شيوعية شابة عند التمثال لما حصل شيء، والمناضلون لا يتساوون بالبرونز. في هذا السياق والمناسبة ما يدهش ان منطقة التمثال التي تضم البيت الذي ولد فيه فرج الله عام 1907 أصبحت عقاريا باسم مجموعة لا علاقة لها ارثيا بالعائلة بسبب خطأ ارتكبه اخوه غالب منذ خمسين عاما، والمطلوب اليوم من الامين خالد حدادة والمقتدرة المخلصة ماري الدبس العمل سريعا لاعادة العقار الى ورثته والعائلة الجاهزة لكل تضحية مالية او غيرها لتحويل المنزل الى متحف. وفرج الله الذي انتسب الى الحزب الشيوعي عام 1930، قبل خالد بكداش، وسار على درب الحلاج قبل تشي غيفارا والمهدي بن بركة، ونشأ يتيما منذ الرابعة من عمره بسبب هجرة والدته الى أميركا التي بكاها كثيرا يوم توفت اوائل الخمسينات قائلا لزوجته: "كنت أعرف انني لن أراها لكنها أمي. لم يعد عندي أم".
هل يتهم انسان كهذا بالانحراف عن الهدف الثوري؟
يوم استشهد المميز فرج الله في 26 حزيران 1959 تحت تعذيب مخابرات عبد الحميد السراج (تحديدا عبد الوهاب الخطيب) كان قد ترك صغارا هم: الطبيبة اليوم بشرى، والطبيبة نجوى، والدكتورة الموهوبة ندى (أم فرج) التي تنشر أبحاثها القيمة في جريدة "النهار"، والامينة المخلصة، ذات الذاكرة المشرقة زوجته فيرجينيا.
يوم التحق فرج الله بالحزب على يد أستاذ اللغة الفرنسية ناصر حدة كان تاريخه الصغير يتضمن دراسة سنتين في مدرسة المعلم الذكي والشاعر بولس اسحق في جدايل، ثم التحاقه لبعض الوقت في مدرسة ميفوق الشهيرة حتى الآن، ثم في مدرسة المربي والمؤلف والمسرحي أديب لحود أي "المدرسة الوطنية" التي نافست يومها "مدرسة الفرير". أتقن العربية بعمق ثم الفرنسية بشكل ناصع، قبل ان ينتقل الى "المدرسة الانجيلية" في حمص حيث نال البكالوريا الفرنسية، وأخذ يعلّم ويتعلم في المدارس السورية. في هذه الفترة من الثلاثينات احتك فرج الله بأهالي منطقة جبيل، وشاركهم أعمالهم التطوعية مثل شق الطرق في قرية غلبون مثلا حيث أصبح صديقا لشاعرها وعضو الرابطة القلمية الشمالية ايام الفطاحل فكتور خوري، والمربي الاديب يوسف أبي رزق، ومدير عام وزارة الدفاع بالوكالة شكيب خوري صانع زهرة من مليون فراشة ما زالت حتى اليوم. حصل هذا في الثلاثينات من القرن العشرين قبل ان يرشح نفسه في الانتخابات في وجه لائحة بشارة الخوري وينال أكثر من ثلاثة عشر الف صوت، فيما نال الناجح يومها عن جبل لبنان ثمانية عشر الف صوت رغم التزوير، وكان خالد بكداش يتهمه: "ماروني بدو يعمل نايب عن جبل لبنان" إلا أن بكداش عاد وترشح عن الانتخابات في دمشق وانتخب نائبا برضى البورجوازية الدمشقية في الخمسينات. أواخر الثلاثينات أخذ يكتب افتتاحيات "صوت الشعب" ثم "الاخبار" بلغة عربية أنيقة وواضحة، مهاجما بعنف الصهيونية، والانتداب الفرنسي حتى اعتقلته سلطات الاحتلال عام 1939 فقال للقاضي: "نحن الشيوعيين لا نهاب المستعمرين، ولا نخون مبادئنا أيا كان العذاب الذي سنتعرض له". يومها، أصدرت سلطات الاحتلال الفرنسية حكما بسجنه خمس سنوات قضى منها في السجن سنتين حتى دخول قوات فرنسا الحرة. قال عنه المستشرق الفرنسي مكسيم رودنسون (أمضى في لبنان فترة 1940 – 1947): "فرج الله الحلو رجل شريف، ومستقيم، وقد مات في ظروف مرعبة. كان الحلو رجلا هادئا، ومجردا من نزوة التسلط تلك التي تسحرنا لدى خالد بكداش".
يوم أعلنت الوحدة المصرية – السورية كتب فرج الله افتتاحية في جريدة "النور" الدمشقية بعنوان "أهلا وسهلا بعبد الناصر في سورية"، وكان ذلك قبل ان يعلن بكداش البنود الـ13 المطالبة باعادة النظر في أساس الوحدة، ثم يهرب الى براغ، مطالبا باشراف فرج الله على وضع خلية دمشق ميدانيا، رغم أن جميع اعضاء هذه الخلية كانوا اما في السجن او خرجوا متعاونين مع افشاء معلومات يعرفونها عن حياة فرج الله السرية، وكانوا يومها قلة صغيرة من القياديين في بيروت ومنهم طنوس دياب (شيوعي منذ الثلاثينات) الذي سلمه للمخابرات. وقبل ان يصعد فرج الله الى دمشق باسم حركي كان خلفه نضال الثلاثينات، والمؤتمر الوطني عام 1943 مع رجل الاستقلال رياض الصلح (وكان صديقه)، وموقفه الجريء والنادر يومها ضد موقف الاتحاد السوفياتي من تقسيم فلسطين (من يقدم على معارضة ستالين عام 1947؟) وكل ذلك عبر شخصية هادئة، لا تغضب، لا تحتد نرفزة، لا تشتم، ولا تهين احدا. وهذه المميزات الماركسية العلمية، والاخلاق العربية الشهمة حملها معه يوم دخل دمشق 25 حزيران 1959 بلا سيف او عصا. دخلها غير مقتنع، لكنها الاوامر المستهجنة، وكان يقول: "لا كادر في دمشق. لماذا الصعود؟". يوم جبه فرج الله عبد الناصر عبر مخابراته في دمشق (عبدالحميد السراج وعبد الوهاب الخطيب ووجيه الانطاكي قاتل المسكين بيار شدرفيان) كان الفتى العربي مجللا بانجازاته. اول ثورة عربية في العصر الحديث قضت على اسرة محمد علي البوسنية (كان مؤسس الاسرة محمد علي يتكلم العربية بصعوبة)، الاصلاح الزراعي، السماح لاعضاء العائلات الفقيرة بدخول الكلية الحربية، تصحيح المعاشات المتدنية، صفقة السلاح الشهيرة مع الاتحاد السوفياتي التي كانت بداية بناء جيش مصري عصري، قال لي عنه محام سوفياتي: "الجيش الذي حشده ناصر في سيناء كان مؤهلا لدخول تل ابيب في اسبوع لولا هول الخيانة، عدا ذلك تأميم القناة والعدوان الثلاثي". الى هذا، كان عبد الناصر قارئا نهما ومميزا، كما يقول عنه الضابط اليساري خالد محيي الدين، وكان هذا الفتى الاسمر يتمتع بصوت ذي غنّة، دافئ، كاريزمي، يستخدم لغة شعبية واضحة، سلسة تمتد خطاباته الى فترة طويلة يخاطب اثناءها ملايين العرب الذين ما زالوا يحبونه.
اذاً، لماذا وقع الصدام؟
رغم كل هذه الانجازات تحولت الديموقراطية عند عبد الناصر الى اشكالية بررها الزعيم الكبير بالاخطار الاستعمارية الداخلية (لم ينتبه اطلاقا الى ارتباكات المحيطين به) الى التحدي الصهيوني وقد قاتله عام 1948 في الفالوجا بجيش ذي اسلحة فاسدة، الى شتات من القوى المتصارعة، وشعب بائس بملايينه. لقد اقتلعت الثورة الناصرية كل التنظيمات السياسية حتى في سوريا، ايام الوحدة، وطالبت الاحزاب بحل نفسها، وحرمت كافة التنظيمات لمصلحة اتحاد قوى الشعب العامل ثم الاتحاد القومي ثم التنظيم الطليعي، لتعزل بذلك الجماهير سياسيا، والمعروف ان مصر كانت سباقة عربيا في تشكيل حزب شيوعي والاطلاع على الماركسية. في هذه الفترة الوحدوية امتدادا حتى حرب 1967 كانت الحياة الفكرية والثقافية تتحدد بشخصية عبد الناصر الكارزمية، وكتابات الموهوب حتى الآن محمد حسنين هيكل. كان على البطل الملحمي والاسطوري، والعسكري المثقف الا يصطدم دمويا بفرج الله، ويعترف بوجوده لا ان يقول: "ليس لدينا معتقل باسم فرج الله الحلو". واذا لم يكن هناك معتقل باسم فرج الله فمن اعتقل لويس عوض، واحسان عبد القدوس، والمفكر العملاق محمود امين العالم، وعبد العظيم انيس، وشهدي عطيه؟ وفي الاقليم السوري تشريد عشرات الشعراء من بدوي الجبل الى شوقي بغدادي الى محمد الحريري الى عمر ابو ريشة. كان يجب الا يحصل هذا. هذا الاستنتاج يأتي بمنظار اليوم حيث يعاد تقويم انجازات عبد الناصر من كل جوانبها، وضرورة اعادة قراءة تجربة فرج الله الحلو الجماهيرية الناجحة وسط تردي حركة اليسار اللبناني لمصلحة العشيرة، والقبيلة، والطائفة، والدين. المطلوب ليس ثرثرة على الورق كما يفعل بعض المرائين العروبيين، ولا المطلوب الاكثار من الانتقادات السهلة لهذه الجهة او تلك الخاصة وان الايام المعاصرة تحمل تأويلات متطرفة ومرعبة للاسلام والمسيحية في امة متخلفة وبدائية لن يكتب لها اللحاق بالامم الراقية.
كان فرج الله الحلو الماركسي هادئا في مرحلة نظرية ناصرية مساواتية تؤمن بعدالة التوزيع وتكافؤ الفرص، لان المساواة في المسيحية حق (رداء لك ورداء لاخيك)، والمساواة في الاسلام قيمة (اعط العمل اجره قبل ان يجف عرقه). ولا استغلال ولا ربا.
عودوا الى فرج الله ايها الشيوعيون!
بقلم وضاح يوسف الحلو
تعليق