سوريا تُجيد اللّـعب على التناقضات وجنْـي الأربـاح".. ولكن إلى متى؟
"السّوريون رأسماليون مُذهلون وأهل النظام السوري هُـم المفاوضون الأكثر حذاقة في العالم"، هذا ما يراه أندرو تابلر، الباحث في مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في دراسة جديدة له بعنوان "نحو سياسة (أمريكية) إزاء سوريا"، ضمّنها نصائح للمسؤولين الأمريكيين حول كيفية التعاطي مع دمشق.
هذا الإنطباع يتطابق أيضاً مع الرُّؤية التاريخية للمشرقيين العرب حِـيال السوريين، وفي مقدمتهم الدمشقيين، حيث ينعتونهم عادة بـ "الدّهاء الأموي" (نسبة لدهاء الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان) أو بـ "شطارة التاجر الدمشقي".
هذه النعوت قد تكون مفيدة للغاية هذه الأيام، بعد أن نجح القادة السوريون في الخروج من أخطر ورطة تعرّض إليها النظام الذي أسّـسه الرئيس الراحل حافظ الأسد في إنقلاب عام 1970 وكاد يزلزل أسُـس البنيان الوطني السوري برمّـته.
الورطة، كما هو معروف، بدأت عام 2004 حين أبرمت الولايات المتحدة وفرنسا صفقة لإخراج سوريا من لبنان تَـم تتويجها في القرار الدولي رقم 1559، ثم في الخروج الفعلي لهذه القوات بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
في تلك المرحلة، كانت القوات الأمريكية في العراق تهدِّد بالزحف على دمشق في أي لحظة لإسقاط النظام، (كما كان يخطط بالفعل المحافظون الجدد الأمريكيون) وكانت سوريا تعيش في عُـزلة عربية ودولية شاملة.
لكن، وبعد خمس سنوات من هذا الوضع الجيو - إستراتيجي الكابوسي، كانت سوريا تنبعث من تحت الرماد وتتحوّل من دولة صغيرة مُحاصرة ومُهدّدة إلى مركز إقليمي بارز لتحالفات إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، وهذه، شكّلت مكافأة كبرى للرئيس السوري الشاب بشار الأسد في الذكرى العاشرة لجلوسه على عرش دمشق وأيضاً للفريق الأمني والإعلامي والسياسي والإقتصادي المحيط به، والذي يضم وزير الإعلام د. محسن بلال ووزير الخارجية وليد المعلم ووزير الاقتصاد الدردري ووزير السياحة سعد الله أغا. لكن، كيف فعل السوريون ذلك؟
العصا من الوسط
إنه الدّهاء الأموي مجدداً. فقد انتظرت القيادة السورية بصبر نهاية ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش، لعلمها أن شيئاً لن يتغيّر، إقليمياً ودولياً، مع مثل هذه الإدارة أو ما شابهها، ثم أطلقت مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض مبادرة دبلوماسية مُعقّـدة جديرة بالتراث الأموي.
فهي أمسكت العصا الإقليمية من الوسط، فأبقت على تحالفها الإستراتيجي مع إيران، لكنها انفتحت بقوة في الوقت نفسه على الخصم الرئيسي لهذه الأخيرة: السعودية، وهي واصلت تقديم الدعم الكامل لحزب الله في لبنان، فيما تُشرع أبواب دمشق على مصراعيْـها مع منافسه، تيار الحريري، كما أقامت أفضل العلاقات مع العضو في حلف الأطلسي تركيا، من دون أن يؤثّر ذلك على أفضل التحالفات مع إيران. كما أنها تحالفت مع السعودية، لتقاسم النفوذ في العراق عبْـر دعم قائمة إياد علاوي، ولم تقطع في الوقت نفسه علاقاتها مع القوى الشيعية الأخرى الحليفة لطهران وفي مقدمتها التيار الصدري.
أما العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد شهدت قفزة نوعية حين انتقلت هذه الأخيرة من موقع المجابهة معها إلى موقع "الإنخراط الإيجابي"، فباتت زيارات الموفدين الأمريكيين إليها شِـبه دائمة، على رغم أن الرئيس الأسد سخر علـناً من وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون، حين تحدثت عن ضرورة "إعادة تموضُـع سوريا الإستراتيجي إزاء إيران".
والأمر نفسه تكرّر في العلاقة مع إسرائيل. فعلى رغم أن دمشق أوقفت المفاوضات غيْـر المباشرة التي كانت تجري بإشراف تركيا، حين قامت تل أبيب باجتياح قطاع غزة، إلا أنها حرصت على التأكيد آناء الليل وأطراف النهار أنها مستعدّة لإبرام سلام شامل وعادل في المنطقة.
وهكذا، تحوّلت سوريا في غضون سنتيْـن إثنتين إلى نقطة تقاطع إستراتيجية لكل القوى في المنطقة، عَـدا مصر، التي لا تزال العلاقات معها تنتظر تغييراً في توجّـهات السياسة الخارجية المصرية الرّاهنة، وربما تغييراً مُـماثلاً من سوريا حيال حركة حماس.
إلى متى؟
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيكون في مقدور سوريا مواصلة اللّـعب على هذه التناقضات وجنْـي الأرباح الصافية منها إلى أمد طويل؟ الواقع أن هذا السؤال لا يطرحه النظام السوري على نفسه.
فهذه الإستراتيجية التي يعتبرها الكثيرون مؤقّـتة، تعتبر بالنسبة إليه إستراتيجية دائمة، بمعنى أن دمشق لا ترى دورها الإقليمي إلا على هذا النحو الأموي الوَسَطي، الذي أرسى دعائمه حافظ الأسد والذي حقّـق لها طيلة 30 عاماً كل هذا النفوذ في الشرق الأوسط.
وفي اللحظات التي تغيّرت فيها ظروف الإمساك بالعصا من الوسط، على غِـرار ما حدث عام 1991، حين طلب الرئيس بوش الأب من الرئيس الأسد الأب حسْـم موقفه إزاء عِـراق صدام حسين، لم يتردّد الأسد في إرسال وحدات عسكرية للقتال إلى جانب القوات الأمريكية إبّان حرب الكويت، ثم عاد بعد ذلك إلى سياساته "الأموية" المعهودة.
وتكرر الأمر نفسه مع الرئيس الأسد الإبن، ولكن بشكل معكوس. فقد ردّ على التهديدات الأمريكية له بعد غزْو العراق عام 2003، بتصعيد دعمه للمقاومات العراقية على أنواعها. ثم، وبعد أن غيّـرت واشنطن سياستها نحوه، عمد إلى إغلاق الحدود في وجه المقاتلين العراقيين وفتح أبواب دمشق على مصراعيْـها أمام الموفدين الأمريكيين، العسكريين والسياسيين.
التطور الوحيد الذي يمكن أن يُغيّـر هذه الإستراتيجية، هو نشوب حرب إقليمية في المشرق العربي، تعمل خلالها إسرائيل على تمديد حربها ضد حزب الله في لبنان إلى سوريا، إذ حينها سيكون محتماً على دمشق طيّ أوراقها الوسطية والإنغماس في لجج معارك، دفاعاً عن وجودها نفسه، لكن هذا لا يبدو وارداً لا في هذه المرحلة ولا في تلك التي تليها. فالكل في الشرق الاوسط يبدو مسروراً من التوجّـهات السورية الراهنة، والكل ضنين بأن لا تغادر دمشق مواقعها الوسطية الراهنة، على رغم كل الضجيج الراهن حول تغيير التموضع الإستراتيجي السوري الحالي.
سعد محيو – بيروت – swissinfo.ch
"السّوريون رأسماليون مُذهلون وأهل النظام السوري هُـم المفاوضون الأكثر حذاقة في العالم"، هذا ما يراه أندرو تابلر، الباحث في مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في دراسة جديدة له بعنوان "نحو سياسة (أمريكية) إزاء سوريا"، ضمّنها نصائح للمسؤولين الأمريكيين حول كيفية التعاطي مع دمشق.
هذا الإنطباع يتطابق أيضاً مع الرُّؤية التاريخية للمشرقيين العرب حِـيال السوريين، وفي مقدمتهم الدمشقيين، حيث ينعتونهم عادة بـ "الدّهاء الأموي" (نسبة لدهاء الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان) أو بـ "شطارة التاجر الدمشقي".
هذه النعوت قد تكون مفيدة للغاية هذه الأيام، بعد أن نجح القادة السوريون في الخروج من أخطر ورطة تعرّض إليها النظام الذي أسّـسه الرئيس الراحل حافظ الأسد في إنقلاب عام 1970 وكاد يزلزل أسُـس البنيان الوطني السوري برمّـته.
الورطة، كما هو معروف، بدأت عام 2004 حين أبرمت الولايات المتحدة وفرنسا صفقة لإخراج سوريا من لبنان تَـم تتويجها في القرار الدولي رقم 1559، ثم في الخروج الفعلي لهذه القوات بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري.
في تلك المرحلة، كانت القوات الأمريكية في العراق تهدِّد بالزحف على دمشق في أي لحظة لإسقاط النظام، (كما كان يخطط بالفعل المحافظون الجدد الأمريكيون) وكانت سوريا تعيش في عُـزلة عربية ودولية شاملة.
لكن، وبعد خمس سنوات من هذا الوضع الجيو - إستراتيجي الكابوسي، كانت سوريا تنبعث من تحت الرماد وتتحوّل من دولة صغيرة مُحاصرة ومُهدّدة إلى مركز إقليمي بارز لتحالفات إستراتيجية جديدة في الشرق الأوسط، وهذه، شكّلت مكافأة كبرى للرئيس السوري الشاب بشار الأسد في الذكرى العاشرة لجلوسه على عرش دمشق وأيضاً للفريق الأمني والإعلامي والسياسي والإقتصادي المحيط به، والذي يضم وزير الإعلام د. محسن بلال ووزير الخارجية وليد المعلم ووزير الاقتصاد الدردري ووزير السياحة سعد الله أغا. لكن، كيف فعل السوريون ذلك؟
العصا من الوسط
إنه الدّهاء الأموي مجدداً. فقد انتظرت القيادة السورية بصبر نهاية ولاية الرئيس الأمريكي جورج بوش، لعلمها أن شيئاً لن يتغيّر، إقليمياً ودولياً، مع مثل هذه الإدارة أو ما شابهها، ثم أطلقت مع وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض مبادرة دبلوماسية مُعقّـدة جديرة بالتراث الأموي.
فهي أمسكت العصا الإقليمية من الوسط، فأبقت على تحالفها الإستراتيجي مع إيران، لكنها انفتحت بقوة في الوقت نفسه على الخصم الرئيسي لهذه الأخيرة: السعودية، وهي واصلت تقديم الدعم الكامل لحزب الله في لبنان، فيما تُشرع أبواب دمشق على مصراعيْـها مع منافسه، تيار الحريري، كما أقامت أفضل العلاقات مع العضو في حلف الأطلسي تركيا، من دون أن يؤثّر ذلك على أفضل التحالفات مع إيران. كما أنها تحالفت مع السعودية، لتقاسم النفوذ في العراق عبْـر دعم قائمة إياد علاوي، ولم تقطع في الوقت نفسه علاقاتها مع القوى الشيعية الأخرى الحليفة لطهران وفي مقدمتها التيار الصدري.
أما العلاقات مع الولايات المتحدة، فقد شهدت قفزة نوعية حين انتقلت هذه الأخيرة من موقع المجابهة معها إلى موقع "الإنخراط الإيجابي"، فباتت زيارات الموفدين الأمريكيين إليها شِـبه دائمة، على رغم أن الرئيس الأسد سخر علـناً من وزيرة الخارجية الأمريكية كلينتون، حين تحدثت عن ضرورة "إعادة تموضُـع سوريا الإستراتيجي إزاء إيران".
والأمر نفسه تكرّر في العلاقة مع إسرائيل. فعلى رغم أن دمشق أوقفت المفاوضات غيْـر المباشرة التي كانت تجري بإشراف تركيا، حين قامت تل أبيب باجتياح قطاع غزة، إلا أنها حرصت على التأكيد آناء الليل وأطراف النهار أنها مستعدّة لإبرام سلام شامل وعادل في المنطقة.
وهكذا، تحوّلت سوريا في غضون سنتيْـن إثنتين إلى نقطة تقاطع إستراتيجية لكل القوى في المنطقة، عَـدا مصر، التي لا تزال العلاقات معها تنتظر تغييراً في توجّـهات السياسة الخارجية المصرية الرّاهنة، وربما تغييراً مُـماثلاً من سوريا حيال حركة حماس.
إلى متى؟
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل سيكون في مقدور سوريا مواصلة اللّـعب على هذه التناقضات وجنْـي الأرباح الصافية منها إلى أمد طويل؟ الواقع أن هذا السؤال لا يطرحه النظام السوري على نفسه.
فهذه الإستراتيجية التي يعتبرها الكثيرون مؤقّـتة، تعتبر بالنسبة إليه إستراتيجية دائمة، بمعنى أن دمشق لا ترى دورها الإقليمي إلا على هذا النحو الأموي الوَسَطي، الذي أرسى دعائمه حافظ الأسد والذي حقّـق لها طيلة 30 عاماً كل هذا النفوذ في الشرق الأوسط.
وفي اللحظات التي تغيّرت فيها ظروف الإمساك بالعصا من الوسط، على غِـرار ما حدث عام 1991، حين طلب الرئيس بوش الأب من الرئيس الأسد الأب حسْـم موقفه إزاء عِـراق صدام حسين، لم يتردّد الأسد في إرسال وحدات عسكرية للقتال إلى جانب القوات الأمريكية إبّان حرب الكويت، ثم عاد بعد ذلك إلى سياساته "الأموية" المعهودة.
وتكرر الأمر نفسه مع الرئيس الأسد الإبن، ولكن بشكل معكوس. فقد ردّ على التهديدات الأمريكية له بعد غزْو العراق عام 2003، بتصعيد دعمه للمقاومات العراقية على أنواعها. ثم، وبعد أن غيّـرت واشنطن سياستها نحوه، عمد إلى إغلاق الحدود في وجه المقاتلين العراقيين وفتح أبواب دمشق على مصراعيْـها أمام الموفدين الأمريكيين، العسكريين والسياسيين.
التطور الوحيد الذي يمكن أن يُغيّـر هذه الإستراتيجية، هو نشوب حرب إقليمية في المشرق العربي، تعمل خلالها إسرائيل على تمديد حربها ضد حزب الله في لبنان إلى سوريا، إذ حينها سيكون محتماً على دمشق طيّ أوراقها الوسطية والإنغماس في لجج معارك، دفاعاً عن وجودها نفسه، لكن هذا لا يبدو وارداً لا في هذه المرحلة ولا في تلك التي تليها. فالكل في الشرق الاوسط يبدو مسروراً من التوجّـهات السورية الراهنة، والكل ضنين بأن لا تغادر دمشق مواقعها الوسطية الراهنة، على رغم كل الضجيج الراهن حول تغيير التموضع الإستراتيجي السوري الحالي.
سعد محيو – بيروت – swissinfo.ch
تعليق