بسم الله الرحمن الرحيم
الجيوش الوطنية:
ما بين الاحتواء والإلغاء
ظهرت فكرة الجيوش الحديثة (أو "الجيوش الوطنية") بنشوء الدول القومية والقوى العظمى بالعالم في القرن السابع عشر وما تلاه. في حين أن معظم العالم كان يعتمد قبل ذلك على الجيوش الشعبية التي لا تحترف العسكرة ولا تمتهن بها. إلا إن الجيوش الوطنية لم يبرز دورها الحديث والمعاصر إلا أثناء الثورة الفرنسية وما بعدها، حيث ظهر دور القوات العسكرية التي دافعت عن تلك الثورة وعملت على نجاحها وإلغاء الملكية الفرنسية إلى الأبد. وبغض النظر عن دوافع من قام بذلك من العسكر وعلى رأسهم نابليون بونابرت، سواء كان مؤمنا بالثورة وأهدافها أم لا، فإن تأطير أهداف آيديولوجية ومرتكزات ذات مرامي شعوبية ووطنية كان ولا زال هدفا من أهداف الجيوش الحديثة. أي إن هذه الجيوش تقوم على ترسيخ أنظمة تعتبرها أساسية لوجودها، وبهذا تحولت الأداة التي يفترض بها المساعدة باستقرار الدولة إلى عامل مسيطر عليها ويتحكم بمقدراتها تبعا لما تريده وترضاه. ولكن الدول الغربية عموما تخلصت من هذه الإشكالية (ظاهريا) وجعلت من الحكم المدني وآليات الديمقراطية واجهة لها أمام العالم، وادّعت أنها لا تحتكم حسب إرادة عسكرها رغم أن المعطيات والوقائع لا تشير إلى ذلك البتة، وهو موضوع آخر يطول الحديث فيه ويبتعد عن جوهر مقالنا هذا.
وفي السياق المصري والعربي، يبدو أن محمد علي باشا تلقف فكرة حلفائه الفرنسيين (الذين غدروا به لاحقا) وأخذ بتشكيل أول جيش وطني حديث في العالم العربي. ولا شك أنه كان جيشا كاسحا قويا، حيث قضى على الدولة السعودية الأولى ببداية القرن التاسع عشر بعد حملة عسكرية كبرى جاب بها أرض الجزيرة العربية غربا وشرقا، ثم توجه هذا الجيش بعد مدة ليست بالطويلة شمالا لغزو قلب الدولة العثمانية وواقترب من النجاح بذلك عبر قائده الفذ إبراهيم باشا، لولا أن أباه محمد علي باشا تراجع في اللحظات الأخيرة عن فتح الأستانة، بعد أن خذله الفرنسيون وهاجمه البريطانيون والأوروبيون وقضوا على الأسطول المصري الكبير آنذاك. ومن هنا بدأ دور الجيش المصري الحديث في بناء الدولة حيث أخذ جانبا رئيسا فيها. ومع مرور الأيام ومجيء الاستعمار الإنجليزي بعد انكشاف مشروع محمد علي باشا النهضوي وفشله في بناء إمبراطورية تحل محل الدولة العثمانية، تشكّلت قواعد هذا الجيش وأساسيا عقائده العسكرية. وسواء رسم هذا الجيش شكله بيده أم رسمه له الآخرون، فإن معالم هذا الشكل تحدّد مع الزمن حيث شارك الجيش بفعالية في التعاون مع الإنجليز بغزو السودان إبان ثورة المهدي عام 1882: الأولى عام 1883 وهزموا بها في الحملة التي أطلق عليها حملة هيكس، والثانية في معركة كرري عام 1899. أما من يحاول الخروج على ما هو مرسوم فمصيره كمصير أحمد عرابي باشا القائد العسكري الشريف الذي رفض تورط الجيش المصري بغزو السودان. ومن المعلوم أن من قاوم الاحتلال الإنجليزي هم المقاومة الشعبية التي قدمت تضحيات تاريخية كبرى في سبيل جلاء المحتلين، بينما بقى الجيش الرسمي بقياداته الكبرى منزويا عن الرغبة الشعبية العارمة بالتحرير والاستقلال، رغم أن كثيرا من أبناء الجيش يرفضون هذا الدور ولا يعترفون إلا بشرعية الشعب. إلا إن الأمور أخذت منحى لا يقترب من الحسم وتوضيح المواقف. فقد ظلت الملكية وجيشها على وفاق أو توافق مع المحتل حتى بعد اتفاقية الجلاء. ورغم أن ما يسمى "حركة الضباط الأحرار" قامت بثورة (أو انقلاب) عام 1952، إلا إن حالة من الضبابية وعدم الوضوح ظلت سائدة بتوجهات الجيش وعقائده وحقيقة مرتكزاته الاستراتيجية بشكل عام، وما أظهر ذلك هو هزيمة عام 1967، حيث انكشفت ظواهر خفية مريرة، وأكد قادة ومسؤولون كبار أن ما جرى "خيانة" مكتملة الأركان. ولكن في ظل الرغبة "بمحو آثار العدوان" وبعد إجراء محاكمات أو تصفيات لبعض قادة وأفرع الجيش فإن الدور الحقيقي للجيش في الدولة لم يتم تقنينه أو توضيحه بشكل يضمن عدم القفز على أية إرادة شعبية نحو الحرية وحكم القانون، فزادت الاعتقالات وعمليات تكميم الأفواه إلى أن وصلنا لمرحلة الأحكام العرفية أو ما يسمى بـ"قانون الطوارئ"، وهذا أمر طبيعي في ظل تولي ثلاثة من العسكر سدة السلطة في مصر (عبد الناصر - السادات - مبارك) مدة تزيد عن الستين عاما. وهكذا فإن الإرادة الشعبية لم تُحكِم سيادتها على الجيش وقياداته حتى قبيل ثورة 25 يناير وهي التي أججتها حراكات "الربيع العربي".
استمرت هذه الحالة في حقبة حسني مبارك حيث لم يظهر الجيش أية بوادر للقيام بمنع الفساد واللصوصية التي استشرت بذلك العهد، بل ظهرت كثير من المزاعم التي تشير لتورط كبار العسكر بالصفقات التجارية المشبوهة والإثراء غير القانوني الفاحش، وهو ما أدى بالكثير من الناس إلى اليأس من الجيش بتحريك الوضع الراكد والقضاء على الفساد المستشري، إلى أن وصلنا إلى ذروة الغضب الشعبي وثورة 25 يناير. واستمر كذلك وضع الجيش العائم وغير الحاسم تجاه هذه الثورة، إلا إن بعض الظروف أدّت فيما يبدو بقادة العسكر إلى ترجيح الكفة الشعبية، رغم عدم تفضيلهم منحها خيوط اللعبة السياسية كافة مما قد يؤدي إلى فقدان امتيازاتهم الاقتصادية والسلطوية. فأخذت لعبة الشد والجذب بالظهور بشكل كبير عبر الصراع الخفي بين ما يسمى المجلس العسكري والأحزاب المدنية حول السلطة ومقاليدها وأوراقها وهو ما تجلى في الإعلان الدستوري الأول الذي استُفتي عليه، وظهر فيه مدى التوافق بين العسكر وجماعة الإخوان المسلمين، حيث حذر الكثيرون الجماعة وحزبها السياسي من مغبة السير وراء جَزَرات العسكر الوهمية وهو ما حدث لاحقا. ومما لا شك فيه، وحسب تطورات المشهد السياسي في مصر، فإن السلطة الحقيقية طوال فترة ما بعد ثورة 25 يناير لم تخرج عن أيدي العسكر الذين لم يقتنعوا بتسليمها إلى سلطة مدنية منتخبة، رغم تصريحهم الشكلي بهذا الأمر مرارا وتكرارا إلا إن "المية تكذب الغطاس" كما يقال بالمصرية الدارجة. وقد مارس العسكر لعبة السياسة القذرة عبر إرخاء الحبل أحيانا وشدّه أحيانا أخرى، أما أقذر ما مارسوه بعد الثورة فيتجلى في المساومة بالأمن وترك قوات الشرطة وقيادتها الفاسدة تعبث بهذا الملف الخطير وتترك حبل "البلطجية" على غاربه ليشيع الترويع وانعدام الأمن فيأتي الناس مهرولين إليهم راجين منهم إعادة الأمن والأمان، حتى لو كان الثمن إعادة نظام حسني مبارك ورموزه الذين يخضعون لمحاكمات صورية وهزلية طويلة المدى وبطيئة الإجراءات ليتسنى إلغائها في أية لحظة. وبلعبة محبوكة الخيوط، لجأ العسكر إلى فتح المجال للإسلاميين والإخوان تحديدا لدخول اللعبة السياسية على مصراعيها، ورغم أنهم تفاجؤوا باكتساح القوى الإسلامية لمقاعد البرلمان وفوزهم بانتخابات رئاسة الجمهورية، إلا إنهم لجأوا إلى الخطة (ب) المتمثلة بحرمان المنتصرين بالانتخابات من التمكّن من أدوات إدارة الدولة حتى يظهروا أمام الناس بصورة العاجز والفاشل وغير القادر على النهوض بالبلاد من جديد فتحدث النقمة الشعبية عليهم، وللأسف ابتلعت القوى الإسلامية الطعم ووقعت الطامة.
إن ما حدث من إنقلاب على شرعية منتخبة وتعطيل لدستور استفتت عليه الملايين في مصر لهو تعبير واضح عن الفجوة الكبيرة التي تفصل العسكر عن الإرادة الشعبية، ويمثل اعترافا صريحا بعدم إمكانية القبول بمبدأ تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، لأن ذلك من شأنه أن يعيد "السيادة" إلى الشعب (حسب مبادئ الديمقراطية) وترسيخ كلمة القانون الذي يخرج من الدستور (فلا قانون إلا بوجود دستور) ويجعل من كافة المصالح والأموال العامة خاضعة للرقابة والمحاسبة الشعبية الممثلة في البرلمان، وهذا بالتأكيد سيضر بمصالح اللصوص والفاسدين الذين ربما يتستر عليهم العسكر، وربما يكون كثير من قادتهم متورطين بقضايا الفساد والتنفيع بها. وبالتالي لا أمان للعسكر أو اللصوص في ظل الرقابة والمحاسبة والحياة النيابية الشرعية.
لعل المتأمل إلى وضع ما جرى في كل من تونس ومصر وسورية واليمن والعراق والجزائر سيدخل في دائرة التساؤل والحيرة حيال الطريقة المثلى للتعامل مع ظاهرة الجيوش التي جعلت من نفسها فوق القانون ولا تقبل الخضوع لسلطته. ومن الجهة الأخرى، لا يقل وضع الدول الملكية سوءا من حيث الفساد وسرقة المال العام، رغم أنها لا تجري على أيدي العسكر بل من حكامها مباشرة. والدول الملكية قللت من شوكة العسكر حتى تأمن شر انقلاباتها، إلا إن الوضع بالخليج يشوبه المبالغة المريبة، فهي قد استغنت بشكل شبه تام عن ضرورة تكوين جيوش قادرة على حماية حدودها اعتمادا على القوات الغربية التي تعمل لصالح استراتيجيات بلدانها وهذه كارثة أكبر. لكنني أزعم أن تكاليف نيل الحرية والاستقلال والكرامة بهذه الدول أقل من تلك التي يوجد بها جيوش جرارة كمصر وسوريا وذلك للأسباب والظواهر المذكورة أعلاه.
ولذلك فإنني أرى أنه لا وجود لأسلوب أمثل لحل إشكالية الجيوش ودورها إلا بإعادة صياغة أهدافها وآليات عملها ورسم عقيدتها من جديد، فإن كان القبول الذاتي من هذه الجيوش بذلك فحبا وكرامة، وإلا فإنه لا مناص من إلغائها بالكامل، لأن من الواضح أنها لا تعترف بدورها الحصري بحماية الحدود من الأخطار الخارجية والمساهمة ببناء التنمية (وإن فعلت تفشل غالبا)، بل أصبح همها الحكم والسلطة والتخريب على الإرادة الشعبية كما فعلت في السودان عام 1989 والجزائر عام 1991 وفلسطين عام 2006 ومصر 2013. ولا بد على هذه الشعوب من بناء جيوش تحمل عقيدة صحيحة تتبرأ من منظومة سايكس بيكو ومظاهرها وأدواتها، والشعوب التي بنت تلك الجيوش التي حادت عن الطريق قادرة على تكوين الجيوش التي تحميها وتحمي أمنها وسلامها وتنميتها، فلا فائدة من التعايش مع جيوش تقتل شعوبها وتذبحها بدم بارد، فهذه خيانة عظمى لا يطهرها إلا القصاص الشامل لمرتكبيها.
بقلم/ فيصل كريم
العاشر من يوليو 2013
الجيوش الوطنية:
ما بين الاحتواء والإلغاء
ظهرت فكرة الجيوش الحديثة (أو "الجيوش الوطنية") بنشوء الدول القومية والقوى العظمى بالعالم في القرن السابع عشر وما تلاه. في حين أن معظم العالم كان يعتمد قبل ذلك على الجيوش الشعبية التي لا تحترف العسكرة ولا تمتهن بها. إلا إن الجيوش الوطنية لم يبرز دورها الحديث والمعاصر إلا أثناء الثورة الفرنسية وما بعدها، حيث ظهر دور القوات العسكرية التي دافعت عن تلك الثورة وعملت على نجاحها وإلغاء الملكية الفرنسية إلى الأبد. وبغض النظر عن دوافع من قام بذلك من العسكر وعلى رأسهم نابليون بونابرت، سواء كان مؤمنا بالثورة وأهدافها أم لا، فإن تأطير أهداف آيديولوجية ومرتكزات ذات مرامي شعوبية ووطنية كان ولا زال هدفا من أهداف الجيوش الحديثة. أي إن هذه الجيوش تقوم على ترسيخ أنظمة تعتبرها أساسية لوجودها، وبهذا تحولت الأداة التي يفترض بها المساعدة باستقرار الدولة إلى عامل مسيطر عليها ويتحكم بمقدراتها تبعا لما تريده وترضاه. ولكن الدول الغربية عموما تخلصت من هذه الإشكالية (ظاهريا) وجعلت من الحكم المدني وآليات الديمقراطية واجهة لها أمام العالم، وادّعت أنها لا تحتكم حسب إرادة عسكرها رغم أن المعطيات والوقائع لا تشير إلى ذلك البتة، وهو موضوع آخر يطول الحديث فيه ويبتعد عن جوهر مقالنا هذا.
وفي السياق المصري والعربي، يبدو أن محمد علي باشا تلقف فكرة حلفائه الفرنسيين (الذين غدروا به لاحقا) وأخذ بتشكيل أول جيش وطني حديث في العالم العربي. ولا شك أنه كان جيشا كاسحا قويا، حيث قضى على الدولة السعودية الأولى ببداية القرن التاسع عشر بعد حملة عسكرية كبرى جاب بها أرض الجزيرة العربية غربا وشرقا، ثم توجه هذا الجيش بعد مدة ليست بالطويلة شمالا لغزو قلب الدولة العثمانية وواقترب من النجاح بذلك عبر قائده الفذ إبراهيم باشا، لولا أن أباه محمد علي باشا تراجع في اللحظات الأخيرة عن فتح الأستانة، بعد أن خذله الفرنسيون وهاجمه البريطانيون والأوروبيون وقضوا على الأسطول المصري الكبير آنذاك. ومن هنا بدأ دور الجيش المصري الحديث في بناء الدولة حيث أخذ جانبا رئيسا فيها. ومع مرور الأيام ومجيء الاستعمار الإنجليزي بعد انكشاف مشروع محمد علي باشا النهضوي وفشله في بناء إمبراطورية تحل محل الدولة العثمانية، تشكّلت قواعد هذا الجيش وأساسيا عقائده العسكرية. وسواء رسم هذا الجيش شكله بيده أم رسمه له الآخرون، فإن معالم هذا الشكل تحدّد مع الزمن حيث شارك الجيش بفعالية في التعاون مع الإنجليز بغزو السودان إبان ثورة المهدي عام 1882: الأولى عام 1883 وهزموا بها في الحملة التي أطلق عليها حملة هيكس، والثانية في معركة كرري عام 1899. أما من يحاول الخروج على ما هو مرسوم فمصيره كمصير أحمد عرابي باشا القائد العسكري الشريف الذي رفض تورط الجيش المصري بغزو السودان. ومن المعلوم أن من قاوم الاحتلال الإنجليزي هم المقاومة الشعبية التي قدمت تضحيات تاريخية كبرى في سبيل جلاء المحتلين، بينما بقى الجيش الرسمي بقياداته الكبرى منزويا عن الرغبة الشعبية العارمة بالتحرير والاستقلال، رغم أن كثيرا من أبناء الجيش يرفضون هذا الدور ولا يعترفون إلا بشرعية الشعب. إلا إن الأمور أخذت منحى لا يقترب من الحسم وتوضيح المواقف. فقد ظلت الملكية وجيشها على وفاق أو توافق مع المحتل حتى بعد اتفاقية الجلاء. ورغم أن ما يسمى "حركة الضباط الأحرار" قامت بثورة (أو انقلاب) عام 1952، إلا إن حالة من الضبابية وعدم الوضوح ظلت سائدة بتوجهات الجيش وعقائده وحقيقة مرتكزاته الاستراتيجية بشكل عام، وما أظهر ذلك هو هزيمة عام 1967، حيث انكشفت ظواهر خفية مريرة، وأكد قادة ومسؤولون كبار أن ما جرى "خيانة" مكتملة الأركان. ولكن في ظل الرغبة "بمحو آثار العدوان" وبعد إجراء محاكمات أو تصفيات لبعض قادة وأفرع الجيش فإن الدور الحقيقي للجيش في الدولة لم يتم تقنينه أو توضيحه بشكل يضمن عدم القفز على أية إرادة شعبية نحو الحرية وحكم القانون، فزادت الاعتقالات وعمليات تكميم الأفواه إلى أن وصلنا لمرحلة الأحكام العرفية أو ما يسمى بـ"قانون الطوارئ"، وهذا أمر طبيعي في ظل تولي ثلاثة من العسكر سدة السلطة في مصر (عبد الناصر - السادات - مبارك) مدة تزيد عن الستين عاما. وهكذا فإن الإرادة الشعبية لم تُحكِم سيادتها على الجيش وقياداته حتى قبيل ثورة 25 يناير وهي التي أججتها حراكات "الربيع العربي".
استمرت هذه الحالة في حقبة حسني مبارك حيث لم يظهر الجيش أية بوادر للقيام بمنع الفساد واللصوصية التي استشرت بذلك العهد، بل ظهرت كثير من المزاعم التي تشير لتورط كبار العسكر بالصفقات التجارية المشبوهة والإثراء غير القانوني الفاحش، وهو ما أدى بالكثير من الناس إلى اليأس من الجيش بتحريك الوضع الراكد والقضاء على الفساد المستشري، إلى أن وصلنا إلى ذروة الغضب الشعبي وثورة 25 يناير. واستمر كذلك وضع الجيش العائم وغير الحاسم تجاه هذه الثورة، إلا إن بعض الظروف أدّت فيما يبدو بقادة العسكر إلى ترجيح الكفة الشعبية، رغم عدم تفضيلهم منحها خيوط اللعبة السياسية كافة مما قد يؤدي إلى فقدان امتيازاتهم الاقتصادية والسلطوية. فأخذت لعبة الشد والجذب بالظهور بشكل كبير عبر الصراع الخفي بين ما يسمى المجلس العسكري والأحزاب المدنية حول السلطة ومقاليدها وأوراقها وهو ما تجلى في الإعلان الدستوري الأول الذي استُفتي عليه، وظهر فيه مدى التوافق بين العسكر وجماعة الإخوان المسلمين، حيث حذر الكثيرون الجماعة وحزبها السياسي من مغبة السير وراء جَزَرات العسكر الوهمية وهو ما حدث لاحقا. ومما لا شك فيه، وحسب تطورات المشهد السياسي في مصر، فإن السلطة الحقيقية طوال فترة ما بعد ثورة 25 يناير لم تخرج عن أيدي العسكر الذين لم يقتنعوا بتسليمها إلى سلطة مدنية منتخبة، رغم تصريحهم الشكلي بهذا الأمر مرارا وتكرارا إلا إن "المية تكذب الغطاس" كما يقال بالمصرية الدارجة. وقد مارس العسكر لعبة السياسة القذرة عبر إرخاء الحبل أحيانا وشدّه أحيانا أخرى، أما أقذر ما مارسوه بعد الثورة فيتجلى في المساومة بالأمن وترك قوات الشرطة وقيادتها الفاسدة تعبث بهذا الملف الخطير وتترك حبل "البلطجية" على غاربه ليشيع الترويع وانعدام الأمن فيأتي الناس مهرولين إليهم راجين منهم إعادة الأمن والأمان، حتى لو كان الثمن إعادة نظام حسني مبارك ورموزه الذين يخضعون لمحاكمات صورية وهزلية طويلة المدى وبطيئة الإجراءات ليتسنى إلغائها في أية لحظة. وبلعبة محبوكة الخيوط، لجأ العسكر إلى فتح المجال للإسلاميين والإخوان تحديدا لدخول اللعبة السياسية على مصراعيها، ورغم أنهم تفاجؤوا باكتساح القوى الإسلامية لمقاعد البرلمان وفوزهم بانتخابات رئاسة الجمهورية، إلا إنهم لجأوا إلى الخطة (ب) المتمثلة بحرمان المنتصرين بالانتخابات من التمكّن من أدوات إدارة الدولة حتى يظهروا أمام الناس بصورة العاجز والفاشل وغير القادر على النهوض بالبلاد من جديد فتحدث النقمة الشعبية عليهم، وللأسف ابتلعت القوى الإسلامية الطعم ووقعت الطامة.
إن ما حدث من إنقلاب على شرعية منتخبة وتعطيل لدستور استفتت عليه الملايين في مصر لهو تعبير واضح عن الفجوة الكبيرة التي تفصل العسكر عن الإرادة الشعبية، ويمثل اعترافا صريحا بعدم إمكانية القبول بمبدأ تسليم السلطة إلى حكومة منتخبة، لأن ذلك من شأنه أن يعيد "السيادة" إلى الشعب (حسب مبادئ الديمقراطية) وترسيخ كلمة القانون الذي يخرج من الدستور (فلا قانون إلا بوجود دستور) ويجعل من كافة المصالح والأموال العامة خاضعة للرقابة والمحاسبة الشعبية الممثلة في البرلمان، وهذا بالتأكيد سيضر بمصالح اللصوص والفاسدين الذين ربما يتستر عليهم العسكر، وربما يكون كثير من قادتهم متورطين بقضايا الفساد والتنفيع بها. وبالتالي لا أمان للعسكر أو اللصوص في ظل الرقابة والمحاسبة والحياة النيابية الشرعية.
لعل المتأمل إلى وضع ما جرى في كل من تونس ومصر وسورية واليمن والعراق والجزائر سيدخل في دائرة التساؤل والحيرة حيال الطريقة المثلى للتعامل مع ظاهرة الجيوش التي جعلت من نفسها فوق القانون ولا تقبل الخضوع لسلطته. ومن الجهة الأخرى، لا يقل وضع الدول الملكية سوءا من حيث الفساد وسرقة المال العام، رغم أنها لا تجري على أيدي العسكر بل من حكامها مباشرة. والدول الملكية قللت من شوكة العسكر حتى تأمن شر انقلاباتها، إلا إن الوضع بالخليج يشوبه المبالغة المريبة، فهي قد استغنت بشكل شبه تام عن ضرورة تكوين جيوش قادرة على حماية حدودها اعتمادا على القوات الغربية التي تعمل لصالح استراتيجيات بلدانها وهذه كارثة أكبر. لكنني أزعم أن تكاليف نيل الحرية والاستقلال والكرامة بهذه الدول أقل من تلك التي يوجد بها جيوش جرارة كمصر وسوريا وذلك للأسباب والظواهر المذكورة أعلاه.
ولذلك فإنني أرى أنه لا وجود لأسلوب أمثل لحل إشكالية الجيوش ودورها إلا بإعادة صياغة أهدافها وآليات عملها ورسم عقيدتها من جديد، فإن كان القبول الذاتي من هذه الجيوش بذلك فحبا وكرامة، وإلا فإنه لا مناص من إلغائها بالكامل، لأن من الواضح أنها لا تعترف بدورها الحصري بحماية الحدود من الأخطار الخارجية والمساهمة ببناء التنمية (وإن فعلت تفشل غالبا)، بل أصبح همها الحكم والسلطة والتخريب على الإرادة الشعبية كما فعلت في السودان عام 1989 والجزائر عام 1991 وفلسطين عام 2006 ومصر 2013. ولا بد على هذه الشعوب من بناء جيوش تحمل عقيدة صحيحة تتبرأ من منظومة سايكس بيكو ومظاهرها وأدواتها، والشعوب التي بنت تلك الجيوش التي حادت عن الطريق قادرة على تكوين الجيوش التي تحميها وتحمي أمنها وسلامها وتنميتها، فلا فائدة من التعايش مع جيوش تقتل شعوبها وتذبحها بدم بارد، فهذه خيانة عظمى لا يطهرها إلا القصاص الشامل لمرتكبيها.
بقلم/ فيصل كريم
العاشر من يوليو 2013
تعليق