العلماء بعقولهم وقلوبهم و ليس بحقولهم وحلوقهم
تأملت أحوال العلماء قديمهم و معاصرهم مما قرأته عنهم أنهم ثلاثة أصناف:
1- الذين يتميزون بكبر عقولهم و قلوبهم في توازن مثالي بحيث لا تطغى عقولهم على قلوبهم؛
2- الذين تكبر عقولهم على حساب قلوبهم فتطغى عقولهم فيصيرون عبيدا لها؛
3- الذين تكبر فيهم قلوبهم على حساب عقولهم فيصيرون رقيقا لها ؛ و لا رابع لهذه الأصناف الثلاثة البتة حسب تقديري الشخصي طبعا.
و بعد هذا الإيجاز المركز لا بد من بعض التبسيط أو التحليل ليتضح المقصود من حديثنا هنا و نشرع بالتعليل من العنوان أولا ثم نشرح ثانيا ما نستهدفه بهذه المقالة.
§ ما أقصده بالعقول هو ما يدركه العلماء من الفهم لما يبحثون فيه أو لما هم مشتغلون به بالنظر و التأمل والبحث و التنقيب و التلقي عن الثقات ممن سبقوهم إلى العلم في مجالاتهم أو في غيرها من حقول المعرفة بمختلف أصنافها و متنوع ميادينها سواء في "الدينيات" أو "الدنياويات".
§ و أما المقصود بالقلوب فهو كناية عن الإيمان و محله القلب المعنوي كما يعبر عنه أهل السلوك، أو أهل التربية الروحية الصوفية، و ليس المقصود به تلك المضغة من اللحم الصنوبرية الشكل الموجودة في الصدر، القلب المادي فهذا ليس موضوعنا هنا فهو مجال علماء الطب فحسب.
§ و أما الحقول فهي ميادين التخصص التي قد يصل فيها الشخص مستوى عاليا لا يباريه فيه أحد و قد يصير حجة في تخصصه أو سلطة معنوية في ميدانه سواء كانت تلك الميادين، أو الحقول، ميادين علوم الدين، و التي أسميتها "الدينيات"، و هي كثيرة كثرة لا تكاد تحد، أو ميادين علوم الدنيا، و أسميتها "الدنياويات"، و هي من الكثرة بحيث لا تحصى ولا تعد.
§ وأما الحلوق، جمع حلق بما يتضمنه من جهاز التصويت و أدواته، فهي القدرة على الصراخ أو الزعيق لإثبات الحقائق، فالقضية كلها قضية قوة الحجة و ليس حجة القوة و إن بالصراخ أو العويل وهو الزعيق المتحدث عنه هنا.
ثم أما بعد، لم يأت تصنيفي العلماء من فراغ و لا جاء من هوى و إنما هو تأمل لقول الله تعالى في سورة الفاتحة و التي يقرأها المصلي في صلاته المكتوبة سبع عشرة مرة في اليوم و الليلة على أقل تقدير:{إهدنا الصّراط المستقيم، صراط الَّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين} (الفاتحة/ 6 و7)، فهاتان الآيتان تصنفان الناس، العلماء، ثلاثة أصناف لا ثالث لها، و انطلاقا من هاتين الآيتين جاء تصنيفي الثلاثي سالف الذكر والذي أشرع في شرحه كما يلي:
1- العلماء الذين تكبر قلوبهم، إيمانهم، بالتوازي مع كبر عقولهم في توازن مثالي و هم المتحدث عنهم في قوله تعالى:{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر/28)، فكلما ازداد العالم علما ازداد إيمانا و خشية لله تعالى، وهؤلاء هم العلماء الحقيقيون لأن علمهم، حتى وإن كان في "الدنياويات"، يزيدهم معرفة بالله تعالى فيزدادون خشية له سبحانه وتعالى، أما الآخرون، فليسوا علماء و إن بدوا للناس كذلك و هم الذين سنخصص لهم، إن شاء الله تعالى، الفقرتين التاليتين لهذه.
2- "العلماء" الذين تكبر عقولهم على حساب قلوبهم فتطغى عقولهم، فُهومهم، على إيمانهم بالله تعالى، و الإيمان بالله تعالى هو قطب رحى حديثنا و ليس الإيمان بما يعتقدونه صحيحا في تقديرهم الشخصي الذاتي ؛ و نرى هذا في كثير من "العلماء" حتى من المسلمين أنفسهم من الذين يسبِّقون فُهومهم على الحقيقة العلمية التي يدَّعون أنهم يبحثون عنها و من هنا يصيرون عبيدا خاضعين لعقولهم فتوردهم المهالك وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
3- "العلماء" الذين تكبر قلوبهم على حساب عقولهم فيصيرون رقيقا لها، و إن كلمة "رقيق" هنا، و هي بمعنى عبيد سالفة الذكر، لم تأت جزافا بل لها دلالة لطيفة تتوافق مع القلوب الرقيقة نسبيا أو ظاهريا، وهؤلاء "العلماء" إنما يتبعون قولبهم و عواطفهم في "إثبات" الحقائق و هم أجهل الناس بها و أضلهم سبيلا إليها، و هؤلاء "العلماء" أشد الناس استعمالا لحلوقهم، أصواتهم، من غيرهم لأنهم لما تعوزهم الحجة القوية يلجئون إلى الصراخ أو الصياح أو الزعيق و هي حجة الضعفاء دائما و أبدا إلا في محلها.
و لتوضيح مقاصدي من حديثي السالف أسوق مثالا ماديا يفهمه الناس كلهم و بدون استثناء، و هو: تعالوا نتصور إناءَين من زجاج في معمل أو في مخبر، أو في المطبخ، متصلين بأنبوب زجاجي هو كذلك فكلما صببنا الماء، أو أي سائل آخر، في أحدهما امتلأ الآخر وارتفع منسوب الماء، أو السائل، بالتساوي مع الأول، و إذا أنقصنا من أحدهما كمية نقص من الآخر في توازن صارم بسبب اتصال الإناءين بذلكم الأنبوب الذي يربط بينهما، فإن حدث أن هذا الأنبوب فُصل أو انسد حدث الخلل في توزيع كمية الماء بين الإناءين حتما إما بالقلة بحيث لا يرتفع المنسوب كما يجب بسبب الانسداد أو لا يرتفع أصلا بسبب انفصال الأنبوب كلية.
فالعلماء الحقيقيون هم الذين يرتفع "منسوب" إيمانهم - بالله تعالى طبعا - في قلوبهم كلما ارتفع "منسوب" العلم في عقولهم و هنا تأتي الآية الكريمة التي ذكرناها أعلاه لتؤدي دورها في شرح ما نقصد إليه من حديثنا هنا {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر/28) أما الذين انسد عندهم "الأنبوب"، أنبوب الاتصال بين "العقول" و "القلوب" أو انفصل، فإن المنسوب يختل حتما فتتضخم عقولهم على حساب قلوبهم أو العكس: تنتفخ قلوبهم على حساب عقولهم وهما الصنفان اللذان تحدثنا عنهما في "2"ً و "3"ً.
و هذا وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
تعليق