العنوان: حاوي الثورة المصرية: دراسة أنثروبولوجية لظاهرة توفيق عكاشة المؤلف: والتر أرمبرست المترجم: طارق عثمان دار النشر : مركز نماء للبحوث والدراسات سنة النشر : 2015 عدد الصفحات: 136 أصدر …
تكاد تكون الأنثروبولوجيا (الأناسة أو علم الإنسان) حقلا مهملا في السياق الأكاديمي العربي، بالرغم من أهميتها في تفسير الظواهر الاجتماعية والإنسانية بعامة. يقدم مركز نماء للبحوث والدراسات هذا الكتاب كمشاركة في إعادة الاعتبار لهذا الحقل العلمي. وهو عبارة عن دراسة أنثروبولوجية ميدانية أنجزها المؤلف البروفيسور والتر أرمبرست خلال سنتين قضاهمها في مصر.
اختار أرمبرست توفيق عكاشة كموضوع لدراسته، حيث نظر إلى بزوغه واشتهاره اللافت للنظر في المشهد السياسي المصري بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير كظاهرة تتطلب التفسير.
لقد كان السؤال الذي سعى أرمبرست للجواب عنه هو: لماذا يشتهر شخص مثل عكاشة، حتى يمتلك هذا القدر من التأثير في المجال السياسي، بينما هو لا يملك موضوعيا أية مؤهلات تمكنه من بلوغ هذا القدر؟
يعرض أرمبرست مقاربتين للجواب على هذا السؤال:المقاربة السوسيولوجية والمقاربة السياسية. ولكنه يرى أنهما قاصران ولا يقدمان تفسيرا واضحا لظاهرة عكاشة.
في المقابل يقدم المقاربة الأنثروبولوجية كبديل أكثر نجاعة في تفسير الظاهرة من تينك المقاربتين. تنهض هذه المقاربة على عدد من المفاهيم الأنثروبولوجية مثل: وضعية المجاز، أزمة المجاز، وضعية ضد البنية، والحاوي. وكلها مفاهيم تعتبر غير مطروقة في المجال الثقافي العربي.
لذا فإن هدف نشر هذه الدراسة مزدوج في واقع الأمر: أولا؛ تقديم جواب علمي على سؤال عكاشة، بعيدا عن ركام الأحاديث الساخرة وغير الجادة الذي تراكم حول الرجل. وثانيا؛ فتح أفق معرفي جديد للقارئ العربي، يتجاوز موضوع عكاشة، أفق المعرفة الأنثروبولوجية.
أصدر مركز نماء للبحوث والدراسات ضمن هذا العام دراسة علمية رصينة تدور حول السيد توفيق عكاشة، قام بها البروفيسور “والتر أرمبرست” أثناء فترة إقامته في مصر في الفترة الممتدة من أغسطس 2010 إلى أغسطس 2012، والذي عكف على ترجمتها حتى أُخرجت لنا في شكلها الأكثر أناقة وأكثرها ثراءً الباحث المصري “طارق عثمان”.
سعى أرمبرست خلال هذه الدراسة لتقديم جواب علمي حول بزوغ نجم “توفيق عكاشة” فيما بعد الثورة، لأنه قبل الثورة لم يكن له أثر يُذكر في المجال التداولي، فضلًا عن كونه شخصًا مُتعثرًا تمامًا سواء من الجانب السياسي كمرشح عن الحزب الوطني الديمقراطي، أو في الحقل الإعلامي كإعلامي مغمور يخرج عبر محطته الفضائية مسترسلًا في الحديث عن ذاته ودعم طموحاته المخيبة للرجاء.
لمع فجأة نجم عكاشة واشتهر في فضاء ما بعد الثورة، وصار يلعب دورًا مؤثرًا في هذا الفضاء، بالرغم من كونه لا يتمتع بالإمكانات التي تؤهله للعب هذا الدور المؤثر، لماذا؟ يحاول أرمبرست للجواب عن هذا السؤال تجاوز المقاربات السياسية التي تفي بالقول أن عكاشة مجرد صنيعة للعسكر ودعمهم اللوجيستي له، كما أنه يتمتع بهذه الشهرة بسبب هزله المستمر وظهوره دومًا بوصفه شخصًا مُهرجًا تمامًا، مما جعله يستقطب فئة الفلاحين وغير المتعلمين والطبقة المتوسطة، وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع المصري.
لا يمكن بحال إهمال هذين السببين في بزوغ عكاشة فجأة من شخص مغمور إلى شخص أكثر شهرة، إنه مادة ثرية جدًا للضحك والهزل، لكن بحسب أرمبرست فإن فهم ظاهرة عكاشة لا تقف عندهما، أي لا تقف عند المقاربات السياسية وحدها.
كما أنها، أي ظاهرة بزوغ عكاشة؛ تتجاوز المقاربات السوسيولوجية الواقعة تحت المزاج الوضعي لعلم الاجتماع، باعتمادها الصارم على الحس والتجريب في فهم الظواهر الاجتماعية، والتي تبحث بدورها على قوانين سببية مطردة حتى تبدو الظواهر قابلة للتفسير. يبدو أن الظواهر الإنسانية والاجتماعية ليست خاضعة على الدوام للدقة العلمية والمنهجية!
ما الذي تعامل معه أرمبرست إذن لفهم ظاهرة بزوغ عكاشة فجأة بعيدًا عن المقاربات السياسية والسوسيولوجية الصارمة؟ إنها الأنثروبولوجيا؛ الأناسة أو علم الإنسان.
عمد أرمبرست إذن على مقاربة أنثروبولوجية أكثر انفتاحًا من الأخرى السوسيولوجية المطعونة بالسببية وفكرة الاحتمالية، وذلك لفهم بزوغ عكاشة الذي ما كان أبدًا بميسور أحد معرفة الأسباب القادرة على تنبؤ بزوغه المريع هذا.
ثمة كتابات في الحقل الأنثروبولوجي (على رأسها كتابات تيرنر) استخدمها أرمبرست للجواب على سؤال عكاشة: بزوغه، شهرته، وتأثيره، في بيئة ما بعد الثورة، وذلك بانشغال تلك الكتابات بوضعية الثورة ذاتها، والتي تتشكل على إثرها عدة مفاهيم مستخدمة منها: أزمة المجاز أو وضعية المجاز، وشخصية الحاوي.
الفكرة ببساطة التي رام بها أرمبرست لتفسير ظاهرة عكاشة هي كالآتي: لكي نفهم ظاهرة عكاشة، علينا أن نفهم الثورة المصرية أولا من خلال “وضعية المجاز” التي وُجدت فيها، وكذلك نفهم طبيعة شخصية عكاشة كشخص “حاوٍ” ووجوده في فترة كهذه. ما هي وضعية المجاز إذن؟ وما هي مظاهر شخصية الحاوي؟
هو مصطلح متداول في الحقل الأنثروبولوجي للتعبير عن حالة تتوسط بين وضعيتين مختلفتين تمامًا عن بعضهما، أي أنها عتبة أو حدّ ما بين وضعية قديمة أولى وبين وضعية جديدة تختلف جذريًا عن نظيرتها الأولى.
بداية مَن استخدم هذا المصطلح كان الأنثروبولوجي الفرنسي أرنولد فان جيب (1873 ـ 1975) ضمن تقسيماته المصاحبة لظاهرة “طقس العبور” للتدليل على لحظات التحول المجتمعي الرئيسية في حياة الشخص، حيث ينتقل من وضعية مجتمعية معينة لوضعية مجتمعية أخرى مختلفة عنها كلية.
وتأتي وضعية المجازة/ العتبة بين مرحلتين: الأولى مرحلة الانفصال؛ وفيها ينفصل الشخص من الوضعية المجتمعية الأولى. والثالثة مرحلة إعادة الإدماج؛ وفيها يدخل الشخص في الوضعية المجتمعية الجديدة، بحيث تكون المرحلة الثانية، وهي وضعية المجاز، وضعية عالقة قد انفصل الشخص فيها عن الوضعية المجتمعية الأولى، لكنه لم يدخل بعد إلى وضعية مجتمعية ثالثة جديدة، (مرحلة الخطوبة مثلا، أو مرحلة المراهقة)، وبإنجاز تلك المراحل الثلاث المتتابعة، يكون قد اكتمل الطقس وحُقق أمره.
أخذ الأنثروبولوجي الإنجليزي فيكتور تيرنر (1920 ـ 1983) مصطلح وضعية المجاز الذي صكه فان جينب ليعممه على المجتمع برمته عوضًا عن حبسه ضمن نطاق طقس العبور، ليكون مفهوم وضعية المجاز في السياق المجتمعي يعني كما يعني في طقس العبور: انسلاخ المجتمع برمته من وضعية معينة، لكنه لم تلبسه بعد وضعية جديدة، أي يظل المجتمع عالقًا في مجاز بينهما.
كانت أطروحات تيرنر مادة ثرية جدًا لأرمبرست لإقامة دراسته لفهم الثورة المصرية ومن ثم فهم ظاهرة بزوغ عكاشة كشخصية مؤثرة وفعّالة؛ فاعتمادًا عليها بمقدورنا أن نسوق الثورة المصرية تشكلت من خلالها وضعية المجاز في الفضاء السوسيو-سياسي كمرحلة وسيطة بين “الانفصال” من حقبة مبارك، وبين “الاندماج” في نظام سوسيو-سياسي جديد.
وفي حالة الثورة المصرية، قد طال مقام وضعية المجاز ومكث، أي أن المرحلة الثالثة من العملية التي يسميها فان جينب “الإدماج” ومن بعده تيرنر يسميها “الاندماج”، وهي التي يتم فيها بناء معايير سوسيو-سياسية جديدة، لم تحدث. وعليه، فقد ظل المجتمع المصري في حالة ارتباك تمامًا، لا هو ينتمي إلى الحقبة القديمة “حقبة مبارك” ولا هو ينتمي لحقبة جديدة، حالة من الـ”بين- بين”، أي ظل المجتمع عالقا في مرحلة المجاز.
هذه الحالة قد سماها توماسين ورفاقه (وهم من أحيوا تراث تيرنر الذي ظل لفترة مغمورًا في الحقل الأنثروبولوجي): أزمة مجاز، والتي تعني بوضعية “ضد-البنية “anti-structure، يتحرر الجميع فيها من المعايير والتقاليد التي تحكم المجتمع، فضلًا عن غياب القدرات الإبداعية والخلاقة، بسبب اتسام تلك البيئة بالاضطراب والفوضى، وافتقارها لأي قواعد سياسية واجتماعية مألوفة.
إن وضعية المجاز التي آلت لأزمة بسبب إطالتها، توفر بدرجة كبيرة، بفضل حالة الارتياب والارتباك الشديدة التي يعيشها الجميع، وغياب الإبداع وكل مظاهر الابتكار؛ توفر هذه الوضعية بيئة مواتية تمامًا لشخصية لم يكن لها شيء يُذكر في الحالتين الأخريين، حالتي الانفصال والاندماج، إنها شخصية الحاوي.
(ترجمها طارق بالحاوي وليس المحتال لزيادة مضمونها المفهومي عنها في المحتال، وتلك لفتة إبداعية منه). الحاوي شخصيته ذات طبيعة متناقضة ومزدوجة بشكل مذهل: إنه يبدو سخيفًا وتافهًا في واقع الأمر ولكنه شخصية قوية وخطيرة في نفس الوقت. مُضحك ومهرج ومحط للسخرية، لكنه قادر وباقتدار على خداع الآخرين. شخص غير أخلاقي بالمرة، “إنه لا يأخذ في اعتباره أية قيم أو أخلاق، فكلها تحت رحمة هواه وشهواته، إن أفعاله وأفعاله وحدها هي مَن يحدد القيم”.
ولما كانت وضعية المجاز وضعية مربكة ومزدوجة بامتياز، وضعية بين-بين، “وضعية غموض والتباس ولا حسم بامتياز”، كانت شخصية الحاوي بما هي كذلك، تجد موطنها في تلك البيئة الملتبسة؛ إذ هو قادر بفضل تذبذبه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، على النشاط السريع في تلك البيئة البئيسة، لاجئين إليه أولئك المشوشون تمامًا والمرتبكون على الدوام، ظانين منه أنه سيخلصهم من وضعية المجاز تلك، وما هو بمحقق ذلك، إنه يزيدهم تشويشًا على تشويش، إنه يريد تطويل وضعية المجاز، إنها موطنه الذي يجد فيه مبتغاه.
وجد أرمبرست مفهوم “الحاوي” مطابقًا تمامًا لشخص عكاشة، وبزوغه السريع والمفاجئ في بيئة ما بعد الثورة المصرية، بيئة عالقة في مجاز، الجميع مشوش، والأمور ملتبسة بدرجة فظيعة، وما لهم من خروج من تلك الأزمة والكشف عن المعنى الغامض سوى بشخص “حاوٍ” له المقدرة على تحقيق ذلك، بفضل صفة الازدواج والغموض المدهش اللتين يتمتع بهما، وقد حظي بهما عكاشة بدرجة كبيرة بلا شك.
لقد أخذ أرمبرست السيد عكاشة على محمل الجد، وتتبع بزوغه المفاجئ مع مظاهرات العباسية في ديسمبر 2011، وعرض جانبه الخطير منه (بعدما عرض جانبه الهزلي) من خلال شاشته الفضائية، وتأثيره في دفة ما يُطلق عليه بـ “الرأي العام” دونًا عن رفاقه من الإعلاميين (مما يؤكد أن عكاشة صنع نفسه بنفسه بفضل تمتعه بسمات الشخص “الحاوي” وليس من تدعيم العسكر أو غيره)، كقضية “الفتاة المسحولة” حيث ظل يطعن في مصداقية الصورة، مدعيًا أن الأمر من تدبير “الطرف الثالث” بغرض تشويه سمعة الجيش.
والأمر الأكثر خطورة ويبين مدى خطورة هذا الرجل؛ حينما خرج على الناس بخبر “قانون المضاجعة”، لقد وجد أرمبرست أن عكاشة هو أول من خلق هذا الخبر من خلال فتوى شيخ مغربي مثير للجدل واعتبرها أنها قضية مثارة من مجلس الشعب الذي يغلب عليه السمت “الإسلامي”، وقد سار الخبر كالنار في الهشيم، وظل هو المتداول على نطاق واسع، حتى الصحافة الأجنبية قد التقطته!
“إن الحاوي شخصية فعالة ومنتجة بطبعها، حتى ولو لم تتقصد ذلك. الحاوي يضحكنا ويرهبنا في آن”.
أما بعد، لما تعلمنا مع هايدغر أن أعظم ما يمكن أن يمنحه الفكر هو ضمن ما لم يفكر فيه، وبقدر ما يكون عمل مفكر ما عملًا عظيمًا، يكون ما لم يفكر فيه شأنًا خصبًا غنيًا، فإن هذه الدراسة الرصينة تتيح لنا أفقًا أكثر انفتاحًا لفهم الظواهر السياسية بعامة والثورة بخاصة تتجاوز المقاربات السياسية أو الاجتماعية، والتي تجر معظمنا في أغلب الظروف إلى جدالات عقيمة لا تغني ولا تُسمن في شيء.
وهو ربما ما رامه المترجم طارق عثمان حينما حاول، في تعقيبه الأخير؛ أن يظهر دقة المقاربة الأنثروبولوجية التي انتهجها أرمبرست، وذلك من خلال الإجابة على هذا التساؤل: هل يحظى عكاشة بنفس القدر من التأثير والشهرة في مصر بعد انقلاب 3 يوليو؟ أو ما هو حال عكاشة في تلك الفترة تحديدًا؟ إن حال عكاشة في مصر بعد الانقلاب يوشك أن ينتهي تمامًا رغم ظهوره بشكل شبه يومي على محطته الفضائية. لماذا؟ ببساطة لأن وضعية المجاز التي عُلق فيها المجتمع المصري بعد حقبة مبارك قد انتهت بفضل الانقلاب.
المعادلة هي بالضبط كالآتي: وضعية مجاز + حاوٍ = بزوغ الحاوي واشتهاره. فعندما كان المجتمع المصري غارقًا في أزمة مجاز بعد الانفصال عن حقبة مبارك، صار من اليسير جدًا أن يبزغ الحاوي ويشتهر، ولم يستطع السيد محمد مرسي أن يضع حدًا لوضعية المجاز هذه خلال فترة حكمه، لكن بوصول الجنرال السيسي للحكم تم وضع نهاية حاسمة لوضعية المجاز هذه.
إن الشعب المصري لم يقع في هوى الجنرال بقدر أنهم اعتقدوا فيه أنه وحده القادر على إخراجهم من وضعية المجاز المتسمة بكثير من الارتباك والقلق، فراحوا يسخطون على السيد مرسي لأنهم لم يجدوا فيه ما كانوا يأملون منه، أي أنه لم يكن بقادر على أن يضع حدا حاسمًا لوضعية المجاز البئيسة هذه.
وبعد، إن كان ثمة درس واحد نتعلمه من هذه الدراسة، من بين عدة دروس أخرى تحتويها، فهو حقًا يكون درسًا في “الجدية”، إن العقل المصري يفتقد وبشكل بشع هذه السمة في تعاطيه مع الظواهر والقضايا المختلفة، إنه لا ينتج سوى كم مذهل من السخرية والهزل والجدال العقيم، فبينما كانت البيئة المصرية آخذة في التغير على كل النواحي والتي تجعلها مادة ثرية جدًا للبحث والإبداع الحقيقي، كان الجميع غارقًا في ما هو هزلي وسخيف، مما جعلها بيئة مناسبة تمامًا لشخصية الحاوي آتية من كل فئة حاضرة.
تعليق