سحر البلاغة وسر البراعة
للثعالبي
ذكر الله تعالى ورسوله وكتابه
صلى الله عليه وسلم وكتابه
مقدمات
الحمد لله تبارك وتعالى، إن أولى ما فغر به الناطق فمه، وافتتح به كلمه، حمداً لله، واجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بالحمد قبل افتتاحها كما بديء بالنعمة قبل استحقاقها. الحمد لله كما افتتح كتابه الكريم، وفرقانه العظيم. الحمد لله شعار أهل الجنة كما قال الله تعالى: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". حمد الله خير ما افتتح به القول واختتم، وابتدئ به الخطاب وتمم. خير كلمات الشكر ما افتتح به القرآن من الحمد لله رب العالمين.
غرر التحاميد
الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولم يستنجح بأحسن من صنعه مرام. الحمد لله الذي جعل الحمد مستحق الحمد حتى لا انقطاع، وموجب الشكر بأقصى ما يستطاع. الحمد لله مانح الأعلاق، وفاتح الأغلاق. الحمد لله إبداء وإعادة. الحمد لله معز الحق ومديله، ومذل الباطل ومزيله. الحمد لله المبين أيده، المتين كيده. الحمد لله ذي الحجج البوالغ والنعم السوابغ والنقم الدوامغ. الحد لله معز الحق وناصره ومذل الباطل وقاصره. الحمد لله الذي أقل نعمه يستغرق أكثر الشكر والحمد لله الذي لا خير إلا منه ولا فضل إلا من لدنه.
وصف الحمد
حمد لا انقطاع لراتبه ولا إقلاع لسحائبه. حمداً يكون لإنعامه مجازياً ولإحسانه موازياً، وإن كانت آلاؤه لا تجازي، ولا توازي، ولا تباري، ولا تجاري. حمداً يتردد أنفاس الصدور ويتكرر تكرر لحظات العيون. حمداً يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة. حمداً يبلغ الحق ويقتصيه، ويمتري المزيد ويقضيه. حمداً يؤنس وحشي النعم من الزوال، ويحرسها من التغير والانتقال.
عادة الله جل ذكره
عادة الله لا تطلب لها غاية إلا قصرت الأوهام عنها، ولا تنسخ فيها آية إلا أتي بخير منها، لا يزال الله يجرينا على أحسن عادة، ويقسم لنا أفضل سعادة. عادة من الله كريمة لا تخلف، وعدة من تفضله لا تخلف، على أحسن ما اعتيد، من إحسانه العتيد، عادة الله جميلة تفوت الشكر وتسبقه، وتستوعب الحمد وتستغرقه، عادات الله قد فاتت مرام الهمم، وشأت تواريخ الأمم.
صنع الله ولطفه
للدهر نوائب تتخرم وتتطرف، ثم إن غمراتها تتجلى وتتكشف، فلله تعالى في أثنائها الصنع الجزيل والفرج القريب، سبحان من له في كل قضية ألطاف نعرفها ونثبتها في فضله ونعمته، أو نجهلها فنردها إلى عدله وحكمته. أحمد الله الذي لا يخلي عباده من صنع لهم تنطوي عليه أثناء النكبات إذا طرقت، ولطف بهم يلين صعاب الخطوب إذا جمحت. ألطاف الله تسير إلى عباده في طرق خفية المذاهب، رقيقة الجوانب. لله مع كل لمحة صنع حفي ولطف خفي، لله ألطاف سيبلغ الكتاب فيها أجله، ويعمل الإقبال في إتمامها عمله. صنع الله لطيف، وفضله بنا مطيف.
ذكر الله تعالى في أثناء الكلام
علام الغيوب، ومن بيده أزمة القلوب، الخبير بما تجن الظمائر، وتكن السرائر، العالم بما تفضي إليه الأمور، وبخائنة الأعين وما تخفي الصدور، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، سميع لراجيه، قريب ممن يناجيه، حكمه مقبول، وأمره مفعول، الله يعلم وهو أعلم شهيد، وأقرب للضمير من حبل الوريد، وكل خير بيديه، وتتوجه الرغبات إليه، الله الحفي بساؤله، المشفع لوسائله، الذي بيده مقاليد الأمور، ومفاتيح المقدور، الله منجز عداته، وحافظ عاداته، هو النافذ أمره، العزيز نصره، الجلي صنعه، الخفي مكره، أن الله يقضي ما يريد، وإن رغم أنف الشيطان المريد. هو السميع البصير، العالم بما يجن الضمير، من له الخلق والأمر، وسواء عنده السر والجبر، مولى الخلق، وباسط الرزق قد أحلته على ملي، وكتبت له إلى وفي، إن الله منجز وعده، ولا خلف عنده، الأمر له والخلق بيديه، والاستعانة به والتفويض إليه.
ذكر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور. محمد نبي الله وصفوته وخيرته من بريته، مؤكد دعوته بالتأييد. ومفرد شريعته بالتأبيد، خيرة الله من خلقه. وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه. والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده. والآخذ بفرضه، مبارك مولده، سعيد مورده، قاطعة حججه. سامية درجه، ساطع صباحه. متوقد مصباحه، مظفرة حروبه. ميسرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وحتم بأن لا نبي بعده، نفصح بشعاره على المنابر. وبالصلاة عليه في المحاضر، ونعمر بذكره صدور المساجد، وتستوي في الانقياد لأمره حالتا المقر والجاحد، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً. وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً. وأوضحهم حجة وبرهاناً، صدع بالرسالة، وبلغ في الدلالة. ونقل الناس من طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم. أرسله الله للإسلام قمراً منيراً، وقدراً على أهل الضلال مبيراً.
الصلاة عليه مع الافصاح
صلى الله على محمد خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجمت بالصلاة عليه الطلبات، صلى الله على محمد نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث، صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق، محمد رسوله الذي ملكه هوادي الهدى، ودل به على ما هو خير وأبقى، صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، محمد الذي أدى الأمانة مخلصاً، وصدع بالرسالة مبلغاً ملخصاً، صلى الله على أتم بريته خيراً وفضلاً، وأطيبهم فرعاً وأصلاً، وأكرمهم عوداً ونجراً، وأعلاهم منصباً وفخراً.
ذكر الآل
وعلى آله الذين عظمهم توقيرا، وطهرهم تطهيرا، وعلى آله مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومجاديح البركة ومصابيحها، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان، الطيبين الأخيار، والطاهرين الأبرار، الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجراً له على الناس، وعلى آله الذين هم حبل الهدى، وشجرة التقوى، وسفينة النجاة العظمى، وعروة الدين الوثقى، الذين هم زينة الحياة، وسفينة النجاة، وشجر الرضوان، وعشيرة الإيمان، وعلى الشجرة التي أصلها نبوة، وفرعها مروة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل.
ذكر القرآن
حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوضحى، هو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وهوى، فضائل القرآن، لا تستقصى في ألف قران. حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الله الجاهل، ويعمل العاقل. وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي. بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور. من فضائله أنه يقرأ دائباً، ويكتب ويمل فلا يمل. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن إمامه، وتصور الموت أمامه. طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه، ومفتاح لبه. من خلق القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله.
كتاب الأزمنة والأمكنة
وما يتصل بها ويشاكلها
في الربيع وإقباله
قد أقبل الربيع بأسعد فاله، والحسن والطيب في إقباله. أقبل الربيع يتبسم، ويكاد من الحسن يتكلم. تنفس الربيع عن أنفاس الأحباب، وأعار الأرض أثواب الشباب. تنفس فنفس عن المكروب، وأهدى الروح والراحة للقلوب. استخرج من زهر البساتين، ما دفنته يد الكوانين. جاء يجر أذيال العرائس، وينشر أجنحة الطواويس. تبلج عن وجه بهج، وجو غنج، وروض أرج، وطير مزدوج. أقبل برائحة الجنان، وراحة الجنان، أسفر عن ظل سجسج، وماء سلسل وروض مدبج. جاء معيداً للأنس العازب، ومطلعاً للهو الغارب. تبلج عن نوره، وتفتح عن نوره. لاحت منهجه، وراقت مباهجه. مرحباً بالفصل، الجامع لأحكام الفضل، زائر من القلوب قريب، وكله حسن وطيب. زائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير. انكشفت غمة الشتاء الكالح عن غرة الربيع الضاحك، أذال الربيع أذيال الحرير، وعبرت أنفاسه عن العبير. تبدل الشباب من المشيب، وبرز في مطرفه القشيب. عطر السهول والوعور، فعطل المسك والكافور. الزمان معتدل، ووجهه طلق مقتبل. وسحابه ماطر، وترابه عاطر، كأن الجنة قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها، قد تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة، لبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر. حاك الربيع حلل الأزهار، وصاغ حلى الأنوار.
في النسيم ووصف أثره
زائر وجهه وسيم، وفضله جسيم، وريحه نسيم، قد سفر الربيع عن خلق الكريم، ونطق بلسان النسيم. وأفاض ماء النعيم، هب النسيم من الكرى، وهب على الورى، وعطر الثرى. جر على الأرض أزره، وحل عن جيب الطيب زرره. نسيم الريح، نسيب الروح، قد ركضت خيول النسيم في ميادين الرياض. يا لك من منظر جناني، وماء فضي، ونسيم عطري، قد حلت يد المطر إزرار الأنوار، وأذاع لسان النسيم أسرار الأزهار.
في وصف الرياض
وضة رقت حواشيها، وتأنق واشيها، روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة. روضة قد نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الإسكندراني. روضة قد راضتها يد المطر. روضة دبجتها أيدي الندى. أخرجت الأرض أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، واطلعت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتفاوحت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها.
في وصف البساتين
بستان رق نوره النضيد، وراق ورقه النضير. بستان غصنه خضر، وربعه خصب، ونوره نضر، وماؤه خصر. بستان كأنه أنموذج الجنة. بستان لا يحل لأريب أن لا يحل به. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار، أشجار كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر. أشجار كأن الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها.
في ذكر النرجس والورد والشقائق
الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد موموق مرموق، وكأنه من الجنة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الود، إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحباً بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأن عين النرجس عين، وورقه ورق، النرجس نزهة الطرف، وظرف الظرف، وغذاء الروح، ومادة الروح، شقائق كتيجان العقيق على الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات الموردة. شقائق كالزنوج تجارجت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها.
في غناء الأطيار
الأرض زمردة والأشجار وشي، والماء سيوف والطيور قيان. قد غردت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار، إذا صدح الحمام، صدع قلب المستهام، أنظر إلى طرب الأشجار، لغناء الأطيار. ليس للبلابل، كخمر بابل، على غناء البلابل.
في وصف أيام الربيع
يوم سماؤه فاختيه، وأرضه طاوسية. يوم جلابيب غيومه صفاق، وأردية نسيمه رقاق، يوم معصفر السماء، ممسك الهواء، معنبر الرياض مصندل الماء. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر. يوم تبسم عنه الربيع، وتبرج فيه الروض المريع. كأن سماءه مأتم، وأرضه عرس.
مقدمة المطر
لبست السماء جلبابها. سحب السحاب أذياله. احتجبت الشمس في سرادق الغيم، ولبس الجو مطرفه الأدكن. باحت الريح بأسرار الندى. ضربت خيمة الغمام، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، سحابة رعدها يصم الأذن، وبرقها يخطف العين. سحابة ارتجزت رواعدها، وأذهبت بروقها مطاردها. نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق. الرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب. ابتسم البرق عن قهقهة الرعد. زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق. رعدت الغمائم وبرقت، وانحلت عزالى السماء فطبقت. سحابة هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها. كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق.
في السحاب والمطر
انحل عقد السماء، وهي عقد الأنواء. انحل سلك القطر، عن در البحر. أرخت السماء عزاليها، وأغرقت الأرض وسحت نواحيها. هطلت بمثل أفواه القرب، انتثرت كانتثار العقود. استعار السحاب جفون العشاق، وأكف الأجواد. انحل خيط السماء، انقطع شريان الغمام. سحابة تنخل علينا ماء البحر، وتفض لنا عقود الدر. سحاب حكى المحب في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جبالا، وتمد من الأمطار حبالا. سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا. تحللت عقد السماء بالديمة الهطلا. غيث أجش يروي الهضاب والآكام، ويحي النبات والسوام. غيث كغزارة فضلك، وسلاسة طبعك، وصفاء ودك. وبل كالنبل. سحابة يضحك من بكائها الروض، وتخضر من سوادها الأرض. سحابة لا تجف جفونها، ولا يخف أنينها، ديمة روت أديم الثرى، ونبهت عيون النور من الكرى. سحابة ركبت أعناق الرياح. مطر كأفواه القرب، ووحل إلى الركب. أندية قد من الله معها على البيوت، بالثبوت، وعلى السقوف، بالوقوف.
في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد. ماء كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، يسيح في الرضراض، سيح النضناض. ماء إذا مسته يد النسيم حكى سلاسل الفضة. ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدرع كالمسيح. ماء يتصندل ويتسلسل. كأن الغدير بنبات الماء مصندل مطير، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة رداء، كأنها مرآة مجلوة على ديباجة خضراء، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الجنائب. غدير ساكن إلا من نسيم الصبا يحركه بأنفاسه، وينقش وجهه بأرواحه. ماء يبوح بأسراره وصفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده. ماء أرق من دموعي فيك وأعذب من أخلاقك، وأبرد من فعل الزمان حين رماني بفراقك. نهر يتسلسل كالزرافين، ويرضع أولاد الرياحين.
في ذكر الصيف ووصف الحر
قوي سلطان الحر. فرش بساط الجمر. أقبلت أوائل الحر، وغير الهواء طبعه، وبدل مزاجه. حر الصيف، كحد السيف. أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حر يلفح حر الوجه. حر يشبه قلب الصب. ويذيب دماغ الضب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكي نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حر يهرب له الحرباء من الشمس. قد صهرت الهاجرة من الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الصيخود. أيام كأيام الفرقة امتداد، وحر كحر الوجد اشتداد حر لا يطيب معه عيش، ولا ينفع ثلج ولا خيش. حمارة القيظ، تغلي بصدر الغيظ، آب آب يجيش مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، والتنور المسجور. هاجرة كالسعير الجاحم، تجر أذيال السمائم، ظلها يحموم، وماؤها محموم.
ذكر الخريف
انحسر قناع الصيف. خف سلطان الحر. خبت جمرة الهواجر. جاشت جيوش الخريف. فررت رايات المصيف، قد أخذ البرد يجمشنا بلواحظه، ويقرصنا بأنامله. أخذت عواصفه تهب، وأقبلت عقاربه تدب. قد حلت الشمس الميزان، وعدل الزمان الميزان، لفح المصيف قد كف، ووقع الشمس قد خف، خفت الرياح، وجفت الأعواد.
في الشتاء ووصف البرد والثلج والجمر
ألقى الشتاء كلكله، وأحل بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أرواقه، وحل نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، أناخ بنوازله، وأرسى بكلاكله، وكلح بوجهه، وكشر عن أنيابه. في الشتاء كلب، وفي الهواء غلظ، قد عادت هامات الجبال شيبا، ولبست من الثلج ملاء قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج. ألم المشيب بهامات بيضت لممها، قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا، برد يعبس له الوجه الطلق. برد يزوي الوجوه، ويعمش العيون، ويسيل الأنوف. برد يغير الألوان، ويقشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد أجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق. حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره، نحن بين لثق ودمق وزلق.
في الاستظهار على البرد
ليس للبرد كالبرد والجمر، إذا كلب الشتا، فدرياق سمومه الصلا.
في نعت الأيام الشتوية
يوم كأن الأرض شابت لهوله. يوم فضي الجلباب، مسكي النقاب. يوم عبوس قمطرير، كشر عن ناب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشمال زمامه، وكساه الصر ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة. والأرض قارورة، والسماء بلورة. يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهوآؤه كالزنانير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وأعالي الزجاج. يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر.
أبواب ذكر الليل والنهار
ووصف أوقاتهما واختلاف أحوالهما، وما يتصل بهما
في ذكر اقبال الليل وانتشار الظلمة وطلوع الكواكب
أقبلت عساكر الليل، خفقت رايات الظلام، خلع الليل علينا فروته، وألبسنا الظلام بردته. تفقد الشفق، في ثوب الغسق، قيد الظلام الحاظ العيون. وستره الظلام بذيله. أقبلت وفود النجوم. جاءت مواكب الكواكب. تفتحت أزاهير النجوم. نورت حدائق الجو. أذكى الفلك مصابيحه، طفت النجوم في بحر الدجى.
ذكر الليالي المظلمة
لبس الليل جلباباً من القار، ليلة كجناح الغراب، وشعر الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها في لباس بني العباس، كأنها في لباس الثكالى، كأنها من الغبش، موكب الحبش. ليلة يضل بها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط. ليلة قد حلك إهابها، وكأن الفجر يهابها. ليلة استعارت لون الخيل الدهم، كأن الأرض مصبوغة فيها بالمداد.
في ذكر الليالي الطلقة الطيبة المشكورة
ليلة سحر كلها. ليلة كأنها نهار. ليلة من حسنات الدهر. ليلة هواؤها صحيح ونسيمها عليل. ليلة كبرد الشباب. ليلة فضية الأديم، مسكية النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرة الدهر. ليلة مسكية الأديم، كافورية النجوم. ليلة رقد الدهر عنها، وطلعت سعودها، وغاب عذالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. هي ليلة باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة يلتقي طرفاها. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار. ليلة كما شاء المحب. ليلة مسروقة من الدهر، ليلة مريضة النسيم، صحيحة الهواء، موشية بالنجوم، مطرزة بالقمر.
في ضد ذلك وذكر طول الليل
ليلة من غصص الصدر، ونقم الدهر. ليلة كلها غيوم وغموم. ليلة كما شاء الحسود، وسآء الودود. ليلة كأن أول يوم الحشر آخرها. ليلة قص جناحها، وضل صباحها. ليلة كليل الأعمى. ليل ثابت الأطناب طامي الغوارب، طامح الأمواج وافي الذوائب. ليل كأن نجومه نجوم الشيب. ليل كأن نجومه عقلت فلا تسير، ولا تدور ولا تغور. ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار.
فيما يذكر من السهر لاعتراض الهموم والفكر
بات فلان بليلة نابغية، بات بليل السقيم، بات بليل السليم، بات في الصيف بليلة شتوية، سامرته الهموم، وعانقته الغموم، قد توسد ذراع الهم، وافترش مهاد الغم، قد اكتحل السهاد، وافترش القتاد، اكتحل بمراود الأرق، وتقلب على مراقد القلق، جفا أجفانه الكرى، كأنما خلقت عيناه للسهر، النجوم شهود سهاده، كأن النوم قد غضب على مآقيه، اكتحل بملمول السهر، وتململ على فراش الفكر، أقض مهاده، وقلق وساده، هموم تفرق بين الجنب والمهاد، وتجمع بين العين والسهاد، سهر يفتق الجفن، ويقذي العين، ويؤذي القلب، ويوحش النفس. طرف برعي النجوم مطروف، وفراش بشعار الهم محفوف، كأنه على النجوم ريب، وللظلام نقيب.
ذكر النعاس والنوم
شرب كأس النعاس، انتشى من خمر الكرى، خاط النعاس جفونه، أخذ الكرى يجشمه، بل ثقل رأس، وتقاضي نعاس، عسكر النعاس بطرفه، وخيم بين عينيه وجفنه. خاض ضحضاح الكرى، ملأ النعاس جفنه، وشغل عينه. مال مع النعاس. مس النوم مقلته. غلبته عيناه. كأن النعاس يطالبه بدين. غشيه نعاس الوحدة، ضرب على أذنه وقد ملأ عينه، غرق في لجة الكرى. تمايل من سكرة النوم. غفوة كحسوة الطآئر، نومه كلا ولا قلة، وكتصفيفة الطآئر خفة، كحل الليل الورى بالرقاد، وشامت الأجفان أعينها في الأغماد، عبث الكرى بهم، وأرخى مفاصلهم، وأمال أعناقهم.
انتصاف الليل
قد تنصفنا عمر الليل، واستغرقنا شبابه. مضى من الليل صدره، وانقضى شطره. اكتهل الظلام. شاب رأس الليل. كاد ينم النسيم بالسحر، الصبح حمل بين أحشآء الدجى.
تناهي الليل وتصرمه
انكشف غطاء الليل. انهتك ستر الدجى. رفع سجف الظلام، رق ثوب الدجى، نعى الديل الظلام، هرم الليل، وشمطت ذوائبه، وتقوس ظهره، وتصرم عمره، قوضت خيام الظلام، خلع الأفق ثوب الدجى، استرد الليل خلعته، انتقب الليل بالصبح، أعرض الظلام وتولى، وتدلى عنقود الثريا، طرز الصبح قميص الليل، باح الصباح بسره، خلع الليل ثيابه، وحدر الصبح نقابه.
إقبال الصبح وانتشار النور
لاحت تباشير الصبح، افتر الفجر عن نواجذه. ضرب الصبح في الدجى بعموده. تبسم عن نوره. فتك الصبح بالليل، بشر الديل الصبح، سل سيف الصبح في قفا الظلام. بث الصبح طلائعه. نشر ثياب النور. تبرقع وجه الليل بغرة الصبح أطار بازي النهار غراب الليل. عزلت نوافج المسك بشمامات الكافور، وانهزم جند الظلام من عسكر النور. خلعنا خلعة الظلام ولبسنا ردآء الصبح، ملأ الأذان الآذان، برق الصباح، وسطع الضوء، وطلع النور، وأشرقت الدنيا، وأضاءت الآفاق.
أفول النجوم
مالت الجوزآء للغروب، ولت مواكب الكواكب، تناثرت عقود النجوم تعطل الأفق من حلي الكواكب، تفرقت أسراب النجوم، فرت من حدق الأنام، وهي نطاق الجوزآء، وانطفأت قناديل الثريا.
طلوع الشمس وانبساط الضوء
بدا حاجب الشمس. ذر قرن الشمس. ارتفع الحجاب عن حاجبها. لمعت الشمس في أجنحة الطير. كشفت قناعها، ونشرت شعاعها. ارتفع سرادقها، وأضاءت مشارقها. انتشر جناح الضو، في أفق الجو. طنب شعاع الشمس في الآفاق، وذهب أطراف الجدران. افتضضنا عذرة الصباح.
منوع النهار
أيفع النهار وارتفع. ترجلت الشمس. استوى شباب النهار. علا روق الضحى.
انتصاف النهار
بلغت الشمس كبد السمآء، انتعل كل شيء ظله، قام قائم الهاجرة، رمت الشمس بجمرات الهجير.
اصفرار الشمس وغروبها
اصفرت غلالة الشمس، صارت كأنها الدينار، يلمع في قرار المآء، نفضت تبراً على الأصيل، وشدت رحلها للرحيل، بقل وجه النهار، وطر شاربه، تصوبت الشمس للمغيب، وتضيفت للغروب، وآذن جنبها بالوجوب، شاب النهار، وأقبل شباب الليل. وقعت الشمس للغيار، وشافه الليل لسان النهار. شرقت الشمس بروحها، جنحت للغروب، وشارفت درح الوجوب، الغزالة مصوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب. والجو في أطمار مبهجة من أصائله، وشفوف مورسة من غلائله. استتر وجه الشمس بالنقاب، وتوارت بالحجاب.
ذكر ابتداء الليل إلى انتهائه
كان ذلك من مفتتح النهار إلى مختتمه، ومن قرنه إلى قدمه، من مطلع الفلق، إلى مجمع الغسق، فلان يركب في مقدمة الصبح، ويرجع في ساقة الشمس، من حين تفتح الشمس جفنها إلى أن تغض طرفها. من حين تسكن الطير في أوكارها، إلى أن تنزل السراة من أكوارها.
أبواب الأمكنة والأبنية في وصف البلاد
بلدة كأنها صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض. بلدة كأن محاسن الدنيا مجموعة فيها ومحصورة في نواحيها، بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق، وهواؤها نسيم وماؤها رحيق. بلدة معشوقة السكنى، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان، وجوها عريان وحصاها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة وليلها سحر، فطعامها هني، وشرابها مري. بلدة واسعة الرقعة، طيبة البقعة. كأن محاسن الدنيا فيها مفروشة، وصورة الجنة بها منقوشة، واسطة البلاد وسرتها، ووجهها وغرتها.
في ضد ذلك
بلد متضايق الحدود والأفنية، متراكب المنازل والأبنية. بلدة حرها موذي، وماؤها موبي. بلدة وسخة السماء، ومدة الهواء. جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزور، وتشرينها تموز، فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق. بلدة ضيقة الديار، سيئة الجوار، حيطانها أخصاص، وبيوتها أقفاص، وحشوشها مسابل، وطرقها مزابل.
في ذكر الوطن
بلدة هي عشه، وبها منزله وعيشه. بلد لا يؤثر عليه أبداً، ولا يصبر عنه أبداً، عشه الذي فيه درج، ومنه خرج. مقطع سرته، ومجمع أسرته، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه.
في الحصون والقلاع
حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم. حصن يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر. يكاد من علاه يغرف من حوض الغمام، كأنه فوق السحاب سحاب. حصن انتطق بالجوزاء، وناجت بروجه أبراج السماء. قلعة قد حلقت في الجو كأنها سحابة، كأن الغمامة لها عمامة، كأنها تناجي السماء بأسرارها. قلعة بعد في السماء مرتقاها، حتى تساوى ثراها مع ثرياها. قلعة تتوشح بالغيوم، وتتحلى بالنجوم. أصلها في التخوم، وفرعها في النجوم. قد حلق جناحها إلى عنان النجم. شماء عن المرتقي، صماء عن الراقي. قد جاوزت الجوزاء سمتاً، وعزلت السماك الأعزل سمكا. هي في الحصانة متناهية، وبالوثقة موصوفة، ممتنعة على الطلب والطالب. منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب. لم تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطراف، قد مل الولاة حصارها ففارقوها عن طماح منها وشماس، وسئمت الجيوش ظلها فغادرتها بعد قنوط ويأس، فهي حمى لا يراع، ومعقل لا يستطاع. تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي قد عاهدتها على التسليم من القوارع. قلعة تحوي من الرفعة قدراً لا يستهان مواقعه، وتلوي في المنعة جيداً لا تستلان أخادعه، ليس للوهم قبل القدم إليها مسرى، ولا للفكر قبل الخطو نحوها مجرى.
في القصور
قصر كأن شرفاته بين النسر والعيوق، كأنها تسامي الفرقد. قصر يرتقى من سطحه إلى الشعريين. اكتست له الشعرى العبور، ثوب الغيور. قصر طال مبناه، وطاب مغناه، كأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع مريع شرفات كالعذارى شددن مناطقهن، وتوجن بالأكاليل مفارقهن. قصر أقرت له القصور بالقصور عنه، كأنه سحاب، في نحر السحاب
في الدور السرية
دار قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة، كأن بانيها استسلف الجنة فعجلت له، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصر، إن مات صاحبها مغفوراً له فقد انتقل من جنة إلى جنة. دار قد اقترن اليمن بيمناها، واليسر بيسراها، الجسوم منها في حضر، والعيون منها على سفر. دار هي دائرة الميامن، ودارة المحاسن، دار دار بالسعد نجمها، وفاز بالحسن سهمها. دار قد أخذت أداة الجنان، وضحكت عن العبقري الحسان. دار يخدمها الدهر، ويأويها البدر، ويكنفها النصر. دار هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر. دار كأنها خان، يدخلها من وفى ومن خان. صحن تسافر فيه العيون، بهو بهي، ورواق رائق، بيت فضي الحيطان، رخامي الأركان.
في الدور المتداعية الخالية
دار لبست البلى، وتعطلت من الحلى، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا. دار قد صارت منهم خالي، بعد ما كانت بهم حالية. دار قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد حيطانها، شاهد اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وخرابها ينشر، أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركع وسجود، سقفها أرض، وأرضها تل.
كتاب أحوال الإنسان
من لدن صغره نمائه، إلى كبره وانتهائه
في ذكر الصبية الصغار
صبية كالفراخ العشوش، وأولاد الخفافيش. صبية يسعهم قفيز. أولاد جلهم صبيان، أكابرهم أصاغر، كأنهم أفرخ زغب. صبيان كأنهم صئبان، وولدان كأنهم كيزان، قد أرضعته بلبانها، وحملته على لبانها. طفل قريب العهد، بالمهد.
في حسن مخايل المولود
شهدت له الفراسة رضيعا، أن لا يكون وضيعا. والمخايل فطيما، أن يكون سمحاً كريما، والشواهد صبيا، أن ينزل مكاناً عليا. والشمائل غلاما أن يكون قرماً هماما.
في ذكر الغلام الأمرد ووصف محاسنه
زاد جماله، وأقمر هلاله. ترقرق في وجهه ماء الحسن. شادن فاتن، طرفه فاتر، ونظره ساحر. غلام تأخذه العين، ويقبله القلب فترتاح له الروح. تكاد العيون تأكله، والقلوب تشربه. جرى ماء الشباب في عوده فتمايل كالغصن، واستوفى أقسام الحسن. لبس ديباجة الملاحة. كأن البدر ركب على أزراره. لا يشبع منه الناظر، ولا يروى منه الخاطر. كاد النجم يحكيه والشمس تشبهه. صورة تجلو الأبصار، وتخجل الأقمار. شادن منتقب بالبدر، مكتحل بالسحر. ما هو إلا نزهة الأبصار، وبدعة الأمصار. غمزات طرفه، تخبر عن ظرفه، ومنطقته تنطق بوصفه. وجهه قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار. تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته. الحسن ما فوق أزراره، والطيب ما تحت إزاره، شادن يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الريحان، كأن قده سكران من خمر طرفه، وبغداد مسروقة من حسنه وظرفه، قد أعجمت يد الجمال، نون صدغه بخال. له عينان حشو أجفانهما السحر. كأنه أعار الظبي جيده والغصن قده. والراح ريحه والورد خده، الشكل في حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته. قد ملك أزمة القلوب، كأنما سمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصغه من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد حدوده قد صبغ الحياء غلالة وجهه، ونثر لؤلؤ العرق على ورد دهن تكاد الالحاظ تسفك عن خده دم الخجل. طرة كالغسق، على غرة كالفلق، جاءنا في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره. وجه بماء الحسن مغسول، وطرف بمرود السحر مكحول. ثغر حمي حماي الثغور، وجعل ضرة لقلائد النحور. السحر في ألحاظه، والشهد من ألفاظه. كأنه خاصم الولدان، ففارق الجنان. وهرب من رضوان. اختلس قامة الغصن، وتوشح بمطارف الحسن، وحكى الروض غب المزن، الأرض مشرقة بنور وجهه، وليل ألسرار في عيال شعره، والجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق في خده، ومحاسن الربيع بين سحره ونحره، والقمر فضلة من حسنه، والشمس من حملة عرشه، ما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على الحسن، ووردة في غصن الدهر ونقش على خاتم الملك، وشمس في فلك اللطف.
في الصدغ والشارب والعذار
زرافين أصداغه معاليق القلوب، كأن صدغه قرط من المسك على عارض البدر. وجهه عرس وصدغه مأتم، ووصل جنة وهجره جهنم. أصداغه قد أخذت شكل العقارب، وظلمت ظلم الأقارب. إن كانت عقرب صدغه تلسع، مترياق ريقه ينفع، كأن شاربه زئبر الخز الأخضر، وعذاره طراز المسك الأذفر، على الورد الأحمر، إذا تكلم تكشف حجاب الزمرد والعقيق، عن سمط الدر الأنيق، قد هم أرقم الشعر على شاربه، قد كادت يد الحسن تغلفه، كاد العذار ينقش فص وجهه، ويحرق فضة خده. طرز الجمال ديباجة وجهه، وأبان عذاره العذر في حبه. لعب الربيع بخده، وأنبت البنفسج في ورده. لما أحرقت بالشعر فضة خده، احترق سواد القلوب من حبه، كيف لا يخضر عارضه ومياه الحسن تسقيه.
وصف خروج اللحية وذمها
نسخ الشعر آية حسنه، ومحا محاسن وجهه. كسف الشعر هلاله، وأكسف باله، وأحال خياله، ومسح جماله، وانتقب بالديجور، بعد النور. دولة حسنه أعرضت، وأيامه قد انقضت استحال نور خده دجى، وزمرد خطه سبجا. أخمدت نار حسنه بعد الاتقاد. ولبس عارضاه ثوب الحداد. قد ذبل ورد خده، وتشوك زعفران خطه. فارقنا خشفا، ووافانا جلفا، فارقنا هلالاً وغزالا، وعاودنا نكالا.
نعت محاسن الجواري
هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض. هي من معاريض الفتن، وحبائل الشيطان. هي من وجهها في صباح شامس، ومن شعرها في مساء دامس، كأنها فلقة قمر، على برج فضة. كأنما لبست قشور الدر بدر التم، شمس الضحى تضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، ثغرها يجمع الضريب والضرب. قد أنبت صدرها ثمر كذا قد أثمر خدها التفاح، وصدرها الرمان، خرطت لها يد الشباب حقين من عاج، كأنها البدر قد قرط بالثريا ونيط بها عقد من الجوزاء، أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال. لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج، نطاقها مجدب، وإزارها مخصب. مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدر في فمها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادي الليل في شعرها، ومغرس الغصن من قدها، ومهيل الرمل في ردفها، سرية سرية، قينة كتصحيفها. الحسن في خلقها، والطيب في خلقها.
ذكر الشاب الغض الشباب
هو في اقتبال شبابه، وحداثة أترابه، وريعان عمره، وعنفوان أمره. هو في ريان شبابه واعتداله، وريعان إقباله واقتباله، شبابه طري، وذكاؤه قوي. غصن شبابه رطيب، وبرد حداثته قشيب، بعثه على ذلك أشر الصبى، ومرح الشبيبة، وسكر الحداثة. هو بعذرة الشباب، وفراغ البال، حدث بكر الآمال، بض الجمال، حسن الاقتبال، فتي السن، رطيب الغصن. عمره في إقباله، ونشاطه في استقباله، وشبابه في اقتباله، وماؤه بحاله. فلان في حكم الأطفال، الذين لم يعضوا على نواجذ الرجال.
خلاعة الشاب وتصابيه
أطاع الشباب وغرته، وأجاب الصبى وشرته. هو في عنفوان شبيبة تخاف سقطاتها وهفواتها، ولا تؤمن جمحاتها ونزواتها، جر أزر الصبى، وأذال ذيول الهوى. هو في سكري الشباب والشراب. هو بين نزقات الشبان، ونزغات الشيطان. شبابه أعمى عن الرشد، أصم عن العذل، قد لبى داعي هواه، وانغمس في لجة صباه. قد هجم بسكر الحداثة على سكرات الحوادث، جرى إلى الصبى، جري الصبا. ركض في ميدان التصابي، وجنى ثمرات الملاهي. أنفق صباه على الفحشاء، وشبابه على الأحشاء، وأصبح بين الزق والعود، وأمسى بين موجبات الحدود. فلان غفل من سمة التجربة، صعب الرأس على لجام العظة، جامح في عذار الغفلة. هو في سلطان الصبى، وفي نوبة الأولى، قد خلع عذاره ومقوده، وألقى إلى البطالة باعه ويده. هو بين خمار الغداة وسكر العشي. فلان لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللهو. هو بين غرر الشباب، وغرر الأحباب. فلان لا يفيق، ولا يدركه التوفيق.
في ذكر الشاب الرشيد وترشحه للمعالي
جمع نضارة الشبان إلى أبهة الشيب. هو على حدوث ميلاده، وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سن وشيبه. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتهل. قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه مواعد. أرى له في ضمان الأيام، ودائع الحظوظ والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح، قد استكمل قوة الفضل، ولم يتكامل له سن الكهل. ما زالت مخايله وليداً وناشئاً، وشمائله صغيراً ويافعا. نواطق بالحسنى عنه، وضوامن للنجح فيه. قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال، حمدت عزائمه، قبل أن حلت تمائمه. وشهدت مكرماته، قبل أن درج لداته.
وخط الشيب وانتشاره
شعر الشيب بشعره. عرض البياض بعارضه. نور غصن شبابه. ضحك المشيب برأسه. لاحت حلية الشيب في عذاره. لمعت نجوم الشيب في ليل شبابه. لاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرج وتبيض. بدت في رأسه طلائع المشيب وطوالع القتير. أخذ الشيب بعنان شبابه. ذرت يد الزمان كافوراً على مسكه. مد المشيب طرازاً على وجهه، وكتب أسطراً في عارضه. طرز الشيب برد شبابه. حط المشيب بربعه، وخط القتير على فوده. لاح أقحوان الشيب في بنفسج شبابه، ألم وفد الشيب بفوده. غزاه الشيب بجيوشه، كتبت يد الشيب في فوديه، مواعظ يقرأها الأنام عليه، أقمر ليل شبابه. صاح النهار بجانب ليله. افتر له الشيب عن ناب الأسود، وأشار إليه بمخلب الأسد. قد فضض الزمان آبنوسه. اشتمل الشيب على عارضه، ألجمه الشيب بلجامه، وقاده بزمامه. سال وادي الشيب في مفرقه. اعتم بالمشيب وتلثم به. لاح نور الهموم في عارضيه. قنعه الشيب خماره، وأحل به أثقاله. علاه غبار وقائع الدهر وحكايات الزمن. أخذت الأيام من شبابه. بينما هو راقد في ليل شبابه إذ أيقظه صبح المشيب.
في الاكتهال والاحتناك والارعواء عن مجاهل الشباب
قضى باكورة الشباب، وانفق نضارة الزمان. طوى مراحل الشباب، وأنفق من عمره بغير حساب. أخلق بردة الصبي، ونهته النهى عن الهوى. جاوز الشباب مراحل، وورد من المشيب مناهل. التفت إلى الأربعين، وشارف طلاع الخمسين. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغداف العقعق. فل الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. انتهى إلى أشد الكهل، واستعاض من حلك الغراب قادمة النسر، افتر عن ناب القارح، وارتفع عن مقال القادح. قرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدهر، أدرك عصر الحنكة، وأوان المسكة. جمع قوة الشباب، إلى وقار الشيب. أسفر له صبح المشيب، وعلته أبهة الكبير. خرج عن حد الحداثة، وارتفع عن عذر الغرارة. نفض غبرة الصبى، ولبى داهية الحجى. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب. سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب. لما قام الشيب له مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح.
استحكام الشيب وبلوغ الشيخوخة
الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة. الشيب مقدمة الهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد إلى الموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. الشيب ساحل الحياة. الشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر. صفا التبر على مثقب الجمر. من عرف الستين أنكر نفسه. فلان قد تناهت به الأيام تحليماً وتهذيباً، وتناهت به السن تحكيماً وتجريبا. قد وعظه المشيب بوخطه وخبطه، وألسن بابنه وسبطه، قد تضاعفت وفود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مس الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، ساء عليه أثر علو السن، واعتراض الوهن. فلان من ذوي الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية.
في الهرم ومشارفة الفناء
هم هرم قد أخذ الزمان من عقله، كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء، تركه كذي الغارب المنكوب. حنا قوسه الكبر، هريق ماء شبابه، استشن أديمه، كسر الزمان جناحه. نفض الدهر مرته. طوي ما نشر منه، قيده الكبر، رسف رسفان المقيد، مجتث الجثة، كأنه عثة، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنية. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدته قد تناهت. هل بعد الغاية منزلة? أم بعد الشيب سوى الموت مرحلة، ما الذي يرجى ممن كان مثله في تقاصر الخطى، وتخاذل القوى، وتداني المدى، والتوجه إلى الدار الأخرى? أبعد دقة العظم، ورقة الجلد وضعف الجسم، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال? إن الذي بقي منه ذماء ترقبه المنون بمرصد، وشلشة هي هامة اليوم أو غد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وأشرف على دار المقام.
كتاب الطعام والشراب
وما ينضاف إليهما، ويقترن بهما
في الفواكه والثمار
كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمهات الراح. عنقود كالثريا. عنب كأنه مخازن البلور، وظرف النور، وأوعية السرور، وأمهات الرحيق، في مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب كأنه شهدة بالعقيق مقنعة، وبالعقيان مقمعة. رمان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيباً ومنظراً حسناً، كأنه زئبر الخز الأغبر، على الديباج الأصفر. تفاح نفاح، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العنبر، وطعم السكر. ورسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على العسل. مشمش كأنه الشهد في بنادق الذهب.
ذكر الجوع
لا هجوع، مع الجوع، سلطان الجوع يسيء الملكة، هو أجوع من ذئب معشش بين أعاريب، قد أثر الجوع في الأخلاط. العيون قد انقلبت، والأكباد قد التهبت. تحلبت الأفواه، توقدت الأكباد. امتدت إلى الخوان الأعناق، وأحدت نحوه الأحداق، وتحلبت له الأشداق.
وصف القدور
قد قامت خطباء القدور. فاحت القدور بأطيت من المسك الأصهب، بالعنبر الأشهب، قدور أبكار، بخواتيم النار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها، دهماء تهدر كالفنيق، وتفوح بالمسك الفتيق.
مقدمة الطعام
أفرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. كل من الطعام ما حدث. لا يطيب حضور الخوان، إلا مع الإخوان. الأكل منا للحاجة، ومنك للمساعدة. البخل بالطعام، من أخلاق الطغام، الكريم لا يحظر تقديم ما يحضر،
وصف الموائد
مائدة كدارة البدر. مائدة تباعد بين أنفاس الجلاس، مائدة مثل عروس. مائدة نظيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيبات. مائدة كالعروس مجلوة، من الطيبات مملوءة. مائدة قد زخرفت رياضها، وملئت حياضها، فمن قانئ بإزائه فاقع، ومن حالك في تلقائه ناصع. مائدة كأنما عملها صناع صنعاء. مائدة تجمع بين أنوار الربيع، وأثمار الخريف.
وصف الألوان من الأطعمة
رغفان كالبدور المنطقة بالنجوم. أحسن ما يكون وجه الخوان، إذا اخضرت شوارب الرغفان. ترى البقل على وجه الخوان، كما بقلت أوجه الغلمان الحسان. جدي كأنما ندف على جنبه القز. حمل ذهبي الدثار، فضي الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلت الشمس الحمل، حمل خلف شهرين، على الخلفين، ثم رعى شهرين، فهو شبران في شبرين، زير باجة، هي للمائدة ديباجه، تشفي السقام، ولونها السقيم. سكباجة تفيق الشهوة، وأسفيذ باجة تغذين وطباهجة يتفكه بها، وخبيص يختم بخير. مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة. في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف. طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك. قلية كالعود المطرى، مغمومة تفرج غم الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط خز مشتبكة. كأنها قمر بالشمس ملتحف. كأن المري عليها عصارة المسك، على سبيكة الفضة. شواء يتقطر عرقا، ويتسايل جردابه مرقا. أرزة ملبونة، في السكر مدفونه. دجاجة مشوية لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشر. دجاجة دينارية، ثمناً ولوناً. شواء وشراس وفالوذج رجراج. طباهجة تغذي، وفالوذجة تغذي. أسفيذباجة تصفح قفا الجوع.
في وصف ألوان من الحلواء
فالوذج بلباب البر، ولعاب النحل. كأن اللوز فيه كواكب في سماء عقيق. قطائف، فيها لطائف. عصيدة تجمع بين جنى النحل والنحل. ما الخبيص إلا نعمة مجموعة، ولذة معجونة. تؤدي طعم العافية، وتختم بحسن العاقبة. لوزينج ليلي العمر، يومي النشر، رقيق القشر، كثيف الحشو. لولبي الدهن، كوكبي اللون.
ذكر النهم الأكول
شيطان معدته رجيم، وسلطانه ظلوم، هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. كأن في أمعائه معاوية، يأكل أكل الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، الليث الهاصر، والعقاب الكاسر. لو أكل الفيل لما كفاه، ولو شرب النيل لما رواه. يجوب جوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يقول بالقصاع، لا بالمصاع، يرى ركوب البريد، في حضور الثريد. أصابعه ألزم للشواء من سفود. أنامله كالشبكة، في صيد السمك. يستكثر من الجوارشات المنقدة للسدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبل الانهضام. إذ هو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه. تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وترعى أرض الجيران. لما عكفنا على الخوان، أسرع في الرغفان، وكرع في الجفان، وفقأ أعين الألوان.
في وصف مجالس الأنس وآلات اللهو
مجلس نوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك سرق. ونارنج ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهي ناطقة. مجلس قد فرش بساطه وبسط أنماطه، ومد سماطه، بين آس مخضود، وورد منضود، وناي وعود. نحن بين بدور، وكاسات تدور، قد نشأت غمامة الند، على بساط الورد. مجلس قد تفتحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، ونطقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. مجلس من رآه حسب الجنان قد اصطفيت عيونها فجمعت في قدر من الأرض، وتخيرت فصوصها فنقلت إلى مطلع الأنس واللهو. قد فض اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه. قد هبت للأنس ريح سحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار. قد فرغنا للهو والدهر عنا في شغل. قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو. عمدنا لقداح اللهو فأجلناها، ولمراكب السرور فامتطيناها. قد امتطينا غوارب الأفراح، وقد حنا نار السرور بالأقداح.
فيما يتصل به من الألفاظ في الاستزارة
نحن في مجلس قد أبت راحته أن تصفو إلا أن تصافحها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت خجلاً لإبطائك وعيون نرجسه فقد حدقت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك إلا تعجلت، وما تمهلت. نحن بغيبتك كعقد قد غيبت واستطه، وشباب قد أخذت جدته. إذا غابت شمس السماء عنا، فلا بد من أن تدنو شمس الأرض منا. وأنت من ينظم به شمل الطرب، وبلقياه يبلغ إلى كل أرب. طر إلينا طيران السهم، واطلع علينا طلوع النجم. ثب إلينا وثبة الغزال، واطلع علينا طلوع الهلال، في غرة شوال. كن إلينا من السهم إلى ممره، والماء إلى مقره. جشم إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك. إن رأيت أن تحضرنا لتتصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنة الخلد. إن رأيت أن تسهم لنا في قربك الذي هو قوت ألنفس، ومادة الأنس.
في الكناية عن الشراب
قد نشط لتناول ما يستمد البشر، ويشرح الصدر. قد استمطر سحاب الأنس، واستدر حلوبة السرور، وقد زند اللهو.
وصف الشراب
شراب أصفى من مودتي لك، وأحسن من نعمة الله فيك، وأطيب من إسعاف الزمان بلقائك. أصفى من البلور، ودمع الجمهور. أصفى من ماء السماء، ودمع العاشقة المر هاء. أحسن من الدنيا المقبلة، والنعم المكملة. أحسن من العافية في البدن، وأطيب من الحياة في السرور. أرق من نسيم الصبا، وعهد الصبى. أرق من دمع محب، وشكوى صب. أرق من دموع العشاق، مرتها لوعة الفراق.
في تأثيره في القوم
دبت الكأس فيهم دبيب النار في الفحم، والبرء في السقم. سارت فيهم سورة الكؤوس، ونالت منهم نشوة الخندريس. شربت الراح عقولهم، وملكت قلوبهم. تمشت الصهباء في عظامهم، وترقت إلى هامهم، وماست في أعطافهم، ومالت بأطرافهم. بلغ حداً، يوجب الحد.
فقر وغرر تليق بهذا الباب
الصاحي بين السكرى، كالحي بين الموتى، يضحك من عقلهم، ويأكل من نقلهم.
ذكر الغناء والمغني
غناؤه كالغنى بعد الفقر. غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس. غناء يحرك النفوس، ويرقص الرؤوس. قد سمعنا غناء، يعيد الأموات أحياء، إذا غنى ودت أعضاء السامعين أن تكون آذانا. فلان طبيب القلوب والأسماع، محيي موات الخواطر والطباع. يطعم الآذان سرورا، ويقدح في القلوب نورا. القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب. كأنه خلق من كل نفس فهو يغني كلا بما يشتهيه. كل ما يغنيه مفتوح. لغنائه في القلب، موقع القطر في الجدب. نعمه نغمته تطرب، وضروب ضربه لا تضطرب.
في ذم المغني
يترنم فيتعب ولا يطرب، وليتنا وجدنا الكفاف ولكن يكرب. فلان إذا غنى عني، وإذا أدى آذى، يميت الطري، ويحي الكرب. ضربة يوجب ضربه، وسماعه يوجب الإسماع به. من عجائب غنائه أن يورد الشتاء في الضيف. بيت وسى كذا بارد النغمة مختل اليدين. ما رآه أحد في دار قوم مرتين.
في استهداء الشراب
قد تألف لي شمل إخوان كاد أن يفترق لعوز المشروب، فاعتمدنا فضلك المعهود، ووردنا بحرك المورود. أنا ومن سامحني الدهر بزيارته من إخواني وأوليائك وقوف بحيث يقف بنا اختيارك من النشاط أو الفتور، ويرتضيه لنا إيثارك من الهم أو السرور، لأن الأمر في ذلك إليك، والاعتماد في جمع شمل المسرة عليك، فإن رأيت أن تكلني إلى أولى الظنين بك فعلت. ألطف المنن موقعا، وأجلها في النفوس موضعا. ما عمر أوطان المسرة، وطرد عوارض الهم والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة. قد انتظمت مع رفقة لي في سمط الثريا، فإن لم يحفظ علينا النظام، بإهداء المرام، عدنا كبنات نعش والسلام. فرأيك في إرواء غلتنا بما ينقعها، والتطول على جماعتنا بما يجمعها.
كتاب وصف النظم والنثر
وأصحابهما وآلاتهما وأدواتهما
وصف حسن الخط
خط يجري مجرى السحر، ويرتفع حسنه عن النعت. رأيت من خطه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور ظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ. خط كأنه صبح منقش بظلام، كأنه ليل على صفحات نور، كأنه حديقة الأحداق. خط كالروض الممطور، والوشي المنشور، والدر المنثور. خط كما يفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي، في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أخذ من الطواويس ظهورها، ومن البزاة صدورها. خط كالتبر المسبوك، والوشي المحوك. خط أملح من صولجان المسك، في ميدان الورد، أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر، فلان يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. كأن يده تنشر وشيا، أو تنظم درا. كأنه مطرز بالظلام رداء الصباح. خط كأن القلب يشعر منه نورا، والعين تجني نورا. خط يبهر الطرف، ويفوت الوصف. خط كالرياض، والمقل المراض، والإقبال بعد الإعراض. أمتعت طرفي ما شئت بمحاسن خطه ولفظه، وأخذت منهما بأوفر قسط المستفيد وحظه. تحيرت بين ظلام وصباح، وعقد ووشاح. خطه خطة الحسن.
في سرعة الكتابة
يده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري. يده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل. كأن يده على القرطاس جناح طائر في سراب مائر. فلان أنامله الرياح، وخواطره البحار. فلان سريع البنان، بديع البيان. لا يحبس عنان قلمه، أو ينثر الدر في كلمه. قلمه يهيم على وجهه، غادراً رأسه في درجه. أخف من حسوة طائر، ولمعة بارق، وخلسة سارق.
وصف النثر بما يشتمل عليه من الألفاظ والمعاني
ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فك عان. ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار. ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب، بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق، يوم الفراق. حسبت ألفاظه در السحاب، أو أصفى قطراً وديمة، ومعانيه در السحاب، بل أوفى قدراً وقيمة. كلام قريب شاسع، ومطمع مانع. كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء، وكالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام يصعب على التعاطي، ويسهل على الفطنة. كلام لا تمجه الآذان، ولا يبليه الزمان. ألفاظ كالبشرى مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالريحان والراح. كلام مستهل متسلسل كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام. ملح كنوافذ السحر، وفقر كالغنى بعد الفقر. كلام كبرد الشرراب، على أكباد الحرار، وبرد الشباب، في خلع العذار. كلام كثير العيون، سلس المتون رقيق الحواشي، سلس النواحي. كلام هو السحر الحلال، والماء الزلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب الناضر. نظرت منه إلى صورة الظرف بحتا، وسورة البلاغة سبكاً نحتا. ألفاظ هي خدع الدهر وعقد السحر. ألفاظ تسر المخزون، وتسهل الحزون، وتعطل الدر المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقي من الكلف. كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه. ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها. ألفاظ حسبتها في رقتها منسوخة من صحيفة الصبى، وظننتها لسلامتها مكتوبة عن إملاء الهوى. كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع بها سمع الشيخ العقيم. كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، ودنا حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم سما حتى صار بالمنظر الأعلى. كلام حسن الديباجة، صافي الزجاجة، رقيق المزاج، حلو المساغ، نقي السمك، مقبول اللفظ، قرأت جليا، حوى معنى خفيا، وكلاماً قريباً، رمى غرضاً بعيداً. لو أن كلاماً أذيب به صخر، أو أطفئ به جمر، أو عوفي به مريض، أو جبر به مهيض، لكان هذا. كلامه يقود سامعيه إلى السجود، ويجري في القلوب كجري الماء في العود. فلان ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلام تسعى إليه الفور، وينتفض إليه العصفور. كلام يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان. كلام منه يجتنى الدر، وبه يعقد السحر، وعنده يعتب الدهر، وله يشرح الصدر. كلام يقرب جناه، ويبعد مداه، ويؤنس مسمعه، ويؤنس مصنعه.
ذكر البلاغة والبلغاء
ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، ويبسط رهان القول أو ميدانه، بل هو أن يبلغ أمد المراد، بألفاظ أعيان ومعان أفراد، من حيث لا مزيد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان. فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأن الألفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره، والمعاني تتغاير في الانثيال على أنامله. فلان مشرفي المشرق، وصيرفي المنطق، البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنه أوحي بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره. فلان يحز مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذناباً لا رؤوساً، وأجساداً لا نفوساً. فلان لا يبلغ المعنى ويرضى بعفو الطبع، ويقنع بما يخف على السمع. يوجز فلا يخل، ويطنب فلا يمل. لله فلان أخذ بأزمة القول يقودها كيف أراد ويجذبها أنى شاء، فلا يعصيه بين الصعب والذلول، ولا يسلمه عند الحزون والسهول. كلام يشتد مرة حتى تقول الصخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس. يقول، فيصول، ويجيب، فيصيب، ويكتب فيطبق المفصل؛ وينسق الدر المفصل. يرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامة لم ترنق.
في سرعة الخاطر ونفاذ الطبع
خاطرة البرق أو أسرع لمعا، والسيف أو أحد قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا. هو من يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعاني على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعي، ويستنبط المشروع العميق بيسير جري. كلامه عفو اللسان، وفيض اليد، ومساوقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الجدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع.
زلاقة اللسان والفصاحة
لسانه يغيض البحور. ويفلق الصخور. ويسمع الصم، ويستنزل العصم. خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشى في خطابه رتة، ولا تتسلط على حواره فترة، ولا يتحيف بيانة عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة. فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة. لو وضع لسانه على الشعر حلقه، أو على الصخر فلقه، أو على الجمر أحرقه، أو على الصفا خرقه. أما ترى فلاناً ولسنه? وكيف يجر في الفصاحة رسنه. كأن لسانه ثعبان ينساب بين رمال، أو ماء يتغلغل بين جبال. كأن لسانه مخراق لاعب، أو غرار سيف قاضب. قد أحسن السفارة، واستوفى العبارة، وأدى الألفاظ واستغرق الاغراض، وأصاب شواكل المراد، وطبق مفاصل السداد. لسانه كلسان ابن الحمرة، أو سنان عنترة.
ذكر الاطناب
بسط عنان الخطاب، ومد أطناب الإطناب، وطلب الأمد في الإسهاب. قال حتى قال الكلام لو أعفيت، وكتب حتى قالت الأقلام قد أحفيت. قد أتسع به مشرع الإطناب، وانفرج مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى من عنانه. نفض ما في رأسه، وفرغ جعبة وسواسه. تصرفت في كذا فأطلت وأطبت، وقلت فأطنبت. قال فأطال، وجال في بسط المقال كل مجال. إذا اسحنفر في الكلام طفح آذيه، وسال أتيه، انثال عليه الكلام، انثيال الغمام، واستجاب له الخطاب، ولا صوب الرباب.
وصف النثر والنظم معاً
نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد. نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق. رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفاً، وقصيدة تمزج بها الراح لطفاً. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجنان. نثر كما تفتح الزهر، ونظم كما تنفس السحر. نثر ترق نواحيه وحواشيه، ونظم تسحر ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة توردت أشجار نهدها. رسالة تضحك عن زهر وغرر، وقصيدة تنطوي على حبر ودرر، لم ترض في برك بأخوات النثرة من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشعرى من شعرك. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر، ولذ طعم الكرى بعد برح السهر، وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر. كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، شعر من حلة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق.
وصف لشعر
قصيدة في فنها فريدة. قصيدة أخلصت على قصد، وفريدة أتت من فرد. هي صوب العقول، تغبر في نواصي الفحول. عروس كستها القوافي، وحلتها المعاني. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع. شعر ملكني العجب به، وبهرني التعجب منه. شعر لا مزية الإيجاز أخطأته، ولا فضيلة الإعجاز تخطته. شعر رويته، لما رأيته، وحفظته، لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعة على الزمان لتحلى بها مكاثراً، أو تجلى فيها مفاخراً. راقني الشعر حتى شاقني، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام. قوي الأسر، صافي النحر. قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشى من الحضارة سجاحتها، فإن شئت قلت عبيد ولبيد، وإن شئت قلت حبيب ووليد. شعر يختلط بأجزاء النفس لنفاسته، ويكاد يعين كاتبه من سلاسته. قصيدته تجتنى بالأفكار، ونقل يتناول بالأسماع والأبصار، ونقل العلم والأدب، ألذ من نقل المأكل والمشرب. وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض الجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرقاد. لم أر غيرها بكراً استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدربه، فعليها رونق الشباب، ولها قوة المذكيات الصلاب. روح الشعر، وتاج الدهر. مقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر، خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتبريز، ويشبه في صفاء سبكه بالذهب الإبريز. شعر تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان لها أصدافا.
وصف الشعراء
لله دره ما أحلى شعره، وأنقى دره، وأصفى قطره، وأعجب أمره. قد أخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني. فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. أجمع أهل جلدته، على أنه معجز بلدته. فلان يغرب، بما يجلب، ويدع بما يبضع. حسن السبك، محكم الرصف، بديع الوصف. مرغوب في شعره، متنافس في سحره. فلان ضارب في قول الشعر بأعلى السهام، آخذ من عيون الفضل بأوفى الأقسام. ماء أشعار وطيتها، وكنز القوافي ومدينتها. شعاره، أشعاره، ودابه، آدابه. فلان ممن يبتده فيبتدع. فلان يجمع بين الإسراع، والإبداع. طبعه يمل عليه، ما لا يمل الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع، وخيم غير وخيم. لبيد عنده بليد، وعبيد وأقرانه له عبيد. الفرزدق عنده أقل من فرزدقة خمير، وجرير، يقاد إليه بجرير. قد نسج حللاً لا يلي جدتها الجديدان، ولا تزداد حسناً إلا على مرور الزمان.
في نعت الشعر السائر
نظمه قد نظم حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. أشعاره قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال. سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعار سارت مسير الشمس وهبت هبوب الريح، فطبقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالي تحفظها والجن تدرسها، والطير تتغنى بها.
في ذكر شعر الأكابر والملوك
قرأت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد فعلمت كيف يتكسر الزهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدر في رياض المهارق. شعر قد احتبس جريه على فكره، ووقف كيف شاء عند أمره. شعر يعلق في كعبة المجد، ويتوج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها غرة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرة الدهر، ويشدخ في جبهتي الشمس والبدر.
وصف الكتب البليغة الغزيرة وحسن موقعها
كتاب كتب لي أماناً من الدهر، وهناني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد، أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد، سواد الفؤاد. كتاب الظفر به نعيم، والنظر فيه فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من كتب الميامين، التي تأتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتددته من فرص العيش وغرره. كتاب آنس مسموعاً وملحوظاً، وكاد مودعه يكون مدروساً ومحفوظاً. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع. كتاب لو قرئ على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طياً ونشرا، وقبلته ألفاً ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كتاب قد أملته مزية المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل على لسانك، أما النقط على كل حرف نذيرة أناملك بحقه، وآخذ من كل سطر تتجشم تخطيطه نزهة. كذا إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبي خفا، وإذا تأملت من كلامك لفظا، ازددت من أنسي حظا.
تشبيهات هذه الكتب
كتاب كتب لي أماناً من الزمان، وتوقيع وقع عندي موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود، وكلت طرفي من سطوره بوشي مهلل، وتاج مكلل، وأودعت سمعي من بدائعه ما أنساني سماع الأغاني، من مطربات الغواني. نشأت سحابة من روضك غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة. سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست مما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطاً إلي من السماء اهتزازاً لمطلعه، وابتهاجاً بحسن موقعه. تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفض الرحيق المختوم. كتاب كالمشرق شرق به المسير وقميص يوسف جاء به البشير. هو في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وقد أهديت إلي محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شم الولد. ورد منه المسك ذكيا، والزهر جنيا، والماء مريا، والعيش هنيا، والسحر بابليا. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد.
وصف قصر الكتب
كتاب وجدته قصير العمر، كليالي الوصل بعد الهجر. لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر الأول. كتاب منتقص الأطراف، متقطع الأكناف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح. كأنه تعريض متحرز، أو توقيع مبرز. كتاب يلتقي طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب اتفق طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا، ما أظنني ابتدأته، حتى ختمته، ولا افتتحته حتى استتمته، ولا لمحته، حتى استوفيته، ولا نشرته، حتى طويته، وأحسبني لو لم أجود ضبطه ولم ألزم يدي حفظه لطار حتى يختلط بالجو فلا أرى منه إلا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدي لخفته، ويلطف عن حسي لقلته. عجبت كيف لم تحتمله الرياح قبل وصوله إلي، وكيف لم يختلط بالهواء عند حصوله لدي. كتاب قص الاقتصار أجنحته فلم يدع قوادم ولا خوافي، وأخذ الاختصار جدته فلم يبق ألفاظاً ولا معاني، كتابك كإيماء بطرف، أو وحي بكف، لم أفتتحه حتى استوفيته ولا نشرته حتى طويته.
في ذم الخط والقلم
خطه مضطرب الحروف، متضاعف الضعف والتحريف. خط ممجمج، ولفظ ملجلج. خط سقيم، وخاطر عقيم. خط مجنون، لا يدري ألف أم نون، وسطور، فيها شطور. خط يقذي العين، ويشجي الصدر. خط منحط، كأرجل البط، على الشط، وأنامل السرطان، على الحيطان، قلمه لا يستجيب بريه، والمداد لا يساعد جريه. قلم كالولد العاق والأخ المشاق إذا أدرته استطال، وإذا قومه مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف. قلم أحدل الشق، مضطرب الشق. متفاوت البري، معدوم الجري. محرف القط، مثبج الخط. قلم لم يقلم ظفره فهو يخدش القرطاس، وينفش الأنفاس، ويأخذ بالأنفاس. فلم لا ينبعث إذا بعثته، ولا يقف إن وقفته. قد وقف اضطراب بريه، دون استمرار جريه، واقتطع تفاوت قطه، عن تجويد خطه.
في ذم الكلام
كلام تنبو عن قبوله الطباع، وتتجافى عن استماعه الأسماع. ألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجها، وتنكرها الطباع فتزجها. كلام لا يرفع السمع له حجاباً، ولا يفتح القلب لوفده باباً. كلام يصدي الريان، ويصدئ الأذهان. كلام قد تعمل فيه حتى تبدل، وتكلف، حتى تعسف. طبع جاسي، ولفظ قاسي. لا مساغ له في سمع، ولا وصول له مع خلو ذرع. كلام لا الروية فيه ضربت بسهم، ولا الفكرة أجالت فيه بقدح، كلام تتعثر الأسماع من حزونته، وتتحير الأفهام في وعورته. كلمات ضعيفة الاتفاق، قليلة الأعيان، مضمحلة على الأمتحان. ألفاظ تستعار من الرباجي، ومعان تقد من الأثافي. كلام كأنه ثمر قطف قبل أوانه، وشراب نزل دنه قبل إبانه. كلام بمثله يتسلى الأخرس عن بكمه، ويفرح الأصم بصممه. بمثل ذلك الكلام رزق الصمت المحبة، وأعطي الإنصات الفضيلة. كلام أملس المتون. قليل العيون. أثقل من الجندل، وأمر من الحنظل. لفظ أخلاط، فلا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط. لفظه هذيان المحموم، وسوداء المهموم. كلام رث ومعنى غث. لا طائل فيهما، ولا حلاوة عليهما.
في ذم الكاتب
الخرس أحسن من كلامه، والعي أبلغ من بيانه. خاطره ينبو، وقلمه يكبو، يسهو ويغلط، ويخطي ويسقط. هو في الأدب، دعي النسب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب. قصير باع الكتابة، قاصر سعي البلاغة. كتبه مضطربة الألفاظ، متفاوتة الأبعاض، منتشرة الأوضاع، متباينة الاغراض. الجلم، أولى بكفه من القلم، والطاس، أليق بها من القرطاس.
في الشاعر والشعر
أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه، ولا من أحرار الكلام وغرره. شعر لا حلاوة فيه ولا طلاوة. شعر ضعيف الصنعه، رديء الصيغة، بغيض الصبغة. قد جمع بين إقواء وإبطاء، وإخطاء وإبطاء. ما قطع شعرة، ولا سقى قطرة. لو شعر بالنقيض ما شعر. فلان لا يميز بين خبيث القول وطيبه، ولا يفرق بين بكره وثيبه. فلان منقاد لساذج الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله. شاعر بارد العبارة، ثقيل الاستعارة، بغيض الإشارة. هو من بين الشعراء، منبوذ بالعراء. لم يلبس شعره حلة الحلاوة. شعر لا يطيب درسه، ولا يخف سرده.
?أوصاف أدوات الكتاب وآلات الكتاب الدواة من أنفع الأدوات. هي للكتابة عتاد، وللخاطر زناد. غدير لا يرده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام. أنيقة الصبغة. رشيقة الصيغة. مسكية الجلدة، كافورية الحلية. غدير تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره. دواة تداوي مرض عفاتك، وتدوي قلوب عداتك، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك، وارتفاع النوائب عن ساحتك.
في نعت المداد
مداد كسواد العين، وسويداء القلب. مداد كجناح الغداف ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. مداد ناسب خافية الغراب، واستعار لونه شعر الشباب. مداد هو أبهى لدي من ألف فرس بهيم، وأشهى إلي من ملك الأقاليم.
في نعت القلم
أقلام جمة المحاسن، بعيدة عن المطاعن. تعاصي الكاسر المعاصر، فتمانع الغامز القاصر. صلبة المعاجم، لدنة المقاطع. أنابيب ناسبت رماح الخط في أجناسها، وساكنت أسود الغيل في أخياسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء. بطية الحفى، قوية القوى. لا يشظيها القط، ولا يتشعت بها الخط. أقلام ثجرية موشية الليط، رائقة التخطيط، كل معتدل الكعوب، قوي الأنبوب. باسق الفروع، روي الينبوع. هو أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان. هو للأنامل مطية، وعلى الكتابة معونة مرضية. نعم النجدة القلم. يقلم أظافير الدهر، فيملك الأقاليم بالنهي والأمر. إن أردت كان مسجوناً لا يمل الإسار، وإن شئت كان جواداً لا يعرف العثار. لا ينبو إذا نبت الصفاح، ولا يحجم إذا أحجمت اللقاح. القلم مطية تمشي براكبها رهوا، وتكسو الأنامل زهوا.
في نعت السكين
سكين كأن القدر سائقها، والأجل سابقها. مرهفة الصدر، مخطفة الخصر. يجول عليها فرند العتق، ويترقرق فيها ماء الجوهر. كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع في متنها. ركبت على نصاب أبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغها، وحب القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج. فكأنها ليل من تحت نهار، أو فحم أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر بازي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، إن أرضيت ولت متناً كالدهان، وإن أسخطت اتقت بناب الأفعوان. سكين أحسن من التلاق، وأقطع من الفراق. تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، فتملكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر، إلى إمهاء الحجر.
كتاب الممادح والأثنية
وما يجري مجراها، ويأخذ مأخذها
المدح بشرف الأصل وكرم النسب
فلان من سر العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، وحسب شادخ. طيب العنصر والمركب، كريم المنصب والمنتسب. فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين. قد ركب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محل الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم. المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفي شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة، ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابراً عن كابر، وأخذ الفخر بين أسرة ومنابر، واكتسب الشرف على الأصاغر والأكابر.
ما يختص من ذلك بأبناء النبوة
استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقأت بيضته عن سلالة الطهارة. قد جذب القرآن بضبعه، وشق الوحي عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب. منتخب من أشرف العناصر. مرتضى من أعلى المحاتد. مؤثر من أعظم العشائر. قد ورث جامعاً عن جامع، وشهد له نداء الصوامع. هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزها.
في المدح يجمع بين شرفي الأصل والنفس وفضلي الإنتساب والإكتساب
فلان ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق، يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نجره وطبعه. هو الطيب أصله وفرعه، الزكي بذره وزرعة يجمع إلى عز النصاب، مزية الآداب. لا غرو أن يجري الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النحيب فرعاً مشيداً لأصله، له مع نباهة شرفه نزاهة ظلفه، ومع كرم أرومته وجذمه، مزية أدبه وعلمه. لن تخلف ثمرة غرس ارتيد له من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها، عصبة خيرة فضلها زاهر وشرفها على شرف النماء. وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. قد جمع شرف الأخلاق، إلى شرف الأعراق، وكرم الآداب، إلى كرم الأنساب. له في المجد أول وآخر، وفي الفضل قديم وحديث، وفي الكرم تليد وطريف. ليس كل من شرف عرقه، شرف خلقه. ولا كل عود طاب منجمه، طاب معجمه. ولا غرو أن يغمر فضله وهو نجل الصيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم. دوحة ضرب عرقها وسمق فرعها، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيأت ظلالها، وتهدلت ثمارها، وتفرعت أغصانها، وبرد مقيلها.
المجد والشرف والعلى
مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجوم كل مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه أفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق، ولسان الثناء بفضله نطوق. مجد يشير إليه النجم الثاقب، وشرف تحفظ طرفيه المناقب. فلك المجد عليه يدور، ويد العلى إليه تشير، يأنس ربع المجد إذا استوحش من استيلاء النقص، ويسكن إليه جأش الفضل. سما من المجد إلى رواسي الأعلام، حين رضي بمواطئ الأقدام، محله سامق، ومجده باسق، وشرفه نجم طارق.
الجود والكرم
فلان رفيق الجود وخليله، وزميل الكرم ونزيله، غرة الدهر وتحجيله، مواهبه الأنواء، وصدره الدهناء. بحر لا يظمأ وارده، ولا يمنع بارده. غوثه موقوف على اللهيف، وعونه مبذول للضعيف. يطغى جوده على وجوده، وهمته على قدرته. يوجب الصلات، كوجوب الصلاة. بابه غير مرتج، لكل مرتج. ينابيع الجود تتفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله. هو أوحد في الكرم، وغرة في وجه العالم. هو الكرم أنشيء نفسا، والفضل تمثل شخصا. لو أن البحر مدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. إن طلبت كريماً في جوده، مت قبل وجوده، أو ماجداً في أخلاقه. مت ولم ألاقه، صدره بحر ووعده نذر، قد حكم الآمال في أمواله، واستعبد الأحرار بفعاله. يهتز عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالركن. يد حاتم كبنانه من شماله. لا يبلغ كعب في الجود كعبه. له في كل مكرمة غرة الأوضاح، وقادمة الجناح. كريم ملء لباسه، موفق مر أنفاسه. صدره تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء. لا مكارم إلا ما صدر عن خلائقه، ولا مناجح إلا ما شيم من بوارقه. غمائم كرمه تفيض، ومآثر جوده تستفيض. يرى تحمل المغارم، من أعظم المغانم. مخلوق من طينة كريمة، ومجبول على أحسن شيمة. خوار العنان في ميدان المكارم.
الجمال وحسن الصورة
قمري التصوير، شمسي التأثير. خلقة سوية صحيحة، وصورة مقبولة صبيحة. منظر يملأ العين، ويملك النفوس. منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله. طلعة يطلع منها النيران، ويسجد لها الثقلان. مبرقع الغرة بالجمال، مسفر الطلعة بتباشير الإقبال. للعيون في محاسن وجهه مرتع، وللأرواح بها مستمتع. خلق وضي وخلق رضي، وفضل مضي.
البشر والبشاشة
طلعة عليها للبشاشة ديباجة خسروانية، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. غرة يجول فيها ماء الكرم، وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم. وجه كأن بشرته قشر البشر، ومواجهته أمان من الدهر. فلان يصل ببشره، قبل أن يصل ببره، ويحيي القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه. شمت من وجهه بارقة المجد، ورأيت في بشره تباشير النجح. قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه الأنواء. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرته، في روضة وغدير، بل في جنة وحرير.
العلم والأدب
هو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه في الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، هو شخص الأدب ماثلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف. تسقيها سماء الحرية، وتغذيها أرض المروة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، ومعرض الأنام إذا احتشدت. هم جمال الأيام، وخواص الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعة نضير، وليس له بحمد الله نظير. قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوي القويم. ما يؤنسه عن الوحشة إلا الدفاتر، ولا تصحبه في الوحدة إلا المحابر. همه مهرة فكرة يستفيدها، وشرود من الكلم يصيدها، فلان يحل دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال.
حسن الخلق
خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وصفى كدورته. خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. خلق كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الهواء المتفرقة على محبته، وتؤلف الآراء المتشتتة في مودته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النحل، وأطيب من زمن الورد. أخلاق أحسن من الدر والعقيان في نحور الحسان، أزكى من حركات الريح بين الورد والريحان.
الظرف واللباقة وحسن العشرة
فلان يستحط العصم بظرفه، ويستنزل النجم بلطفه. ما هو إلا غذاء الحبرة، ونسيم العيش، وقوت النفس، ومادة الأنس، وشمامة الظرفاء، وريحانة الندماء. فلان حلو المذاق، عذب المساغ، أعلى الناس في جد وأحلاهم في هزل. يتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب من الجنوب. ذو جد كعلو الجد، وهزل كحديقة الورد. قد طابت عشرته إذا عاشرته، ولانت قشرته، وواصلته فاستحسنت وصاله، وأحمدت خصاله. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من الغضارة يمطر. هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من ريح نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إن أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفاحة فائك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو تحية شارب.
طيب الخبر
فلان أخباره ذكية، وآثاره زكية. أخباره تأتينا كما وشت بالمسك رياه، ونم على الصبح محياه. قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزهر الأنيق. مناقب تشدخ في جبينها غرة الصباح، ويتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره. قد حصل له من حميد الذكر، وجميل النشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأني خرجت المسك فتيقا، وصبحت الروض أنيقا. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف، قبل الكشف. أخباره متضوعة كتضوع المسك الأذفر، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أخباره أرجة، وصفحاته بهجة.
حسن العهد وكرم الود
هو من يثقل ميزان وده، ويحصف ميثاق عهده. فلان كريم العهد، صحيح العقد. سليم الصدر في الود، حميد الصدر فيه والورد. هو لإخوانه عدة يشدهم ويقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ثابت ركن الإخاء، صافي شرب الوفاء. حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو من لا تدور المداهنة في عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. فلان يسري إلى كرم العهد، في ضياء من الرشد. عهده نقش على صخر، ووده نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصفو. في وده غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصحب، وزاد للركب. هو في حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب.
إصابة الرأي
النجح معقود بنواصي آرائه، واليمن معتاد في مذاهب أنحائه. له الرأي الثاقب الذي تخفى مكائده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذي تنجح مباديه، وتبهج تواليه. رأي كالسهم أصاب غرة الهدف، ودهاء كالبحر في بعد الغور وقرب المغترف. لا يضع رأيه إلا مواضع الإصابة، ولا يصرف تدبيره إلا إلى مواقع السداد والأصالة. له فكر عميق، ورأي وثيق. يعرف من مبادئ الأفعال، خواتم الأعمال، ومن صدور الأمور، أعجاز ما في الصدور. رويته رأي طبيب، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح. له رأي لا يخطيء شاكلة الصواب، ولا يخشى عليه بادرة العثار. فلا يخمر الرأي ويجيله، ويجيد الفكر ويطيله، حتى يحصل على لب الصواب ومحض الرأي. إذا أذكى سراج الفكر أضاء الظلام. هو قطب الصواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يرد إليه التدبير، يرى العواقب في مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. رأي يرد السيف مثلما، والرمح مقلما. آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب. له رأي لا تغيب كواكبه. رأي طبيب داء المملكة. رأي منير، وللأعداء مبير. كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين الإلهام والتوفيق. فلان يرى بأول رأيه آخر الأمر، وأصاب شاكلة الصواب في رأي محضه، وتدبير مخضه. عجباً لرأيه الذي يستنبط دفائن القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قد سرينا من مشورته في ضياء ساطع، ومن رأيه الصواب في حكم قاطع.
التجربة والحنكة
قد وضعت كثرة التجارب في يده مرآة العواقب. قد نجدته مصارف الدهور، وحنكته مصائر الأمور. قد أرضعته الحنكة بابانها، وأدبته الدربة في إبانها. فلان بازل، التجارب حنكته، والأيام عركته. لا تكاد الأيام تريه من أفعاله عجيبا، أو تسمعه من أحواله غريبا. فلان عارف بتدبير الزمان، عالم بتصاريف الأيام. آخذ ببرهان التبريز، نافذ في مجا التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولى النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعوداً على الغمز صليبا. قد أدبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. قد ارتضع أفاويق الزمان وحلب أخلاف الليالي والأيام. قد ركب ظهري البر والبحر. ولقي وفدي الخير والشر، وصافح صفحتي النفع والضر، وبلا طعمي الحلو والمر، ورضع ضرعي العرف والنكر، وضرب إبطي العسر واليسر.
في الهمة العالية
له همة على هامة النجم. فلان رفيع مناط الهمة. فسيح مجال الفضل. له همة تعزل السماك الأعزل سموا، وتجر ذيلها على المجرة علوا. همة حلق جناحها إلى عنان النجم، وامتد صباحها من شرق إلى غرب. لا يتعاظمه انتزاف البحر إذا أخطره بفكره، ولا انتساف الصخر إذا ألقاه في وهمه. همته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء، وأوسع من الأرضن، ذات العرض.
الشهامة والنفاذ والجد والجلادة
فلان حي القلب، منشرح الصدر. ذكي الذهن، سجاح الطبع. ليس بالنؤوم، ولا السؤوم. فذ فرد، وأسد ورد. كأن له في كل جارحة قلبا، كأن قلبه عين، وكأن حسه سمع. شهاب مقدم، وقدح مقوم مشدود النطاق، قائم على ساق. لا يجف لبده، ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته. قد جد واجتهد، وحشر وحشد. شمر عن ساق الجد ما أطاق، وشد له النطاق. قد ركب الصعب والذلول، وتجشم الحزون والسهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدهم والشهب.
التقى والزهد
فلان عذب المشرب، عف المطلب. نقي الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم. إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق. يتبع أفضل الطرق، وأرشد الخلق. يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة من الشر، مدلولة على سبل البر. أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الأخرى ومتعها. كف عن زخرف الدنيا ونضرتها، وغض طرفه عن متاعها وزهرتها، وأعرض عنها وقد عرضت له بزينتها، وصد عنها وقد تصدت له في حليتها. فلان ليس ممن يقف في ظل الطمع، فيسف إلى حضيض التضع. نقي جيبه، وسلم غيبه، ولم يدنس ذيله، واستوى في النزاهة نهاره وليله. فلان جلي الصفحة، نقي الصحيفة، عف الإزار، طاهر من الأوزار. قد عاد لإصلاح المعاد، بإعداد الزاد. اعتزل الدنيا وأفرج عن كل ما زاد على الزاد المبلغ، والقوت المقنع.
الكمال والانفراد عن النظراء
فلان مولود في طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين الكمال، وصبح المحافل، وزين المحاضر والمجالس. فريد دهره، وشمس عصره، وزينة مصره. فلان علم الفضل، وواسطة قلادة الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت فيه الشورى إلى النص. كيف يذم زمان هو عينه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة.
التفضيل والترجيع
فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القصر. هو رائش نبلهم، وبقية فضلهم. وجمة وردهم، وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم.
للثعالبي
ذكر الله تعالى ورسوله وكتابه
صلى الله عليه وسلم وكتابه
مقدمات
الحمد لله تبارك وتعالى، إن أولى ما فغر به الناطق فمه، وافتتح به كلمه، حمداً لله، واجب على كل ذي مقالة أن يبدأ بالحمد قبل افتتاحها كما بديء بالنعمة قبل استحقاقها. الحمد لله كما افتتح كتابه الكريم، وفرقانه العظيم. الحمد لله شعار أهل الجنة كما قال الله تعالى: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ". حمد الله خير ما افتتح به القول واختتم، وابتدئ به الخطاب وتمم. خير كلمات الشكر ما افتتح به القرآن من الحمد لله رب العالمين.
غرر التحاميد
الحمد لله الذي لم يستفتح بأفضل من اسمه كلام، ولم يستنجح بأحسن من صنعه مرام. الحمد لله الذي جعل الحمد مستحق الحمد حتى لا انقطاع، وموجب الشكر بأقصى ما يستطاع. الحمد لله مانح الأعلاق، وفاتح الأغلاق. الحمد لله إبداء وإعادة. الحمد لله معز الحق ومديله، ومذل الباطل ومزيله. الحمد لله المبين أيده، المتين كيده. الحمد لله ذي الحجج البوالغ والنعم السوابغ والنقم الدوامغ. الحد لله معز الحق وناصره ومذل الباطل وقاصره. الحمد لله الذي أقل نعمه يستغرق أكثر الشكر والحمد لله الذي لا خير إلا منه ولا فضل إلا من لدنه.
وصف الحمد
حمد لا انقطاع لراتبه ولا إقلاع لسحائبه. حمداً يكون لإنعامه مجازياً ولإحسانه موازياً، وإن كانت آلاؤه لا تجازي، ولا توازي، ولا تباري، ولا تجاري. حمداً يتردد أنفاس الصدور ويتكرر تكرر لحظات العيون. حمداً يستنزل الرحمة ويستكشف الغمة. حمداً يبلغ الحق ويقتصيه، ويمتري المزيد ويقضيه. حمداً يؤنس وحشي النعم من الزوال، ويحرسها من التغير والانتقال.
عادة الله جل ذكره
عادة الله لا تطلب لها غاية إلا قصرت الأوهام عنها، ولا تنسخ فيها آية إلا أتي بخير منها، لا يزال الله يجرينا على أحسن عادة، ويقسم لنا أفضل سعادة. عادة من الله كريمة لا تخلف، وعدة من تفضله لا تخلف، على أحسن ما اعتيد، من إحسانه العتيد، عادة الله جميلة تفوت الشكر وتسبقه، وتستوعب الحمد وتستغرقه، عادات الله قد فاتت مرام الهمم، وشأت تواريخ الأمم.
صنع الله ولطفه
للدهر نوائب تتخرم وتتطرف، ثم إن غمراتها تتجلى وتتكشف، فلله تعالى في أثنائها الصنع الجزيل والفرج القريب، سبحان من له في كل قضية ألطاف نعرفها ونثبتها في فضله ونعمته، أو نجهلها فنردها إلى عدله وحكمته. أحمد الله الذي لا يخلي عباده من صنع لهم تنطوي عليه أثناء النكبات إذا طرقت، ولطف بهم يلين صعاب الخطوب إذا جمحت. ألطاف الله تسير إلى عباده في طرق خفية المذاهب، رقيقة الجوانب. لله مع كل لمحة صنع حفي ولطف خفي، لله ألطاف سيبلغ الكتاب فيها أجله، ويعمل الإقبال في إتمامها عمله. صنع الله لطيف، وفضله بنا مطيف.
ذكر الله تعالى في أثناء الكلام
علام الغيوب، ومن بيده أزمة القلوب، الخبير بما تجن الظمائر، وتكن السرائر، العالم بما تفضي إليه الأمور، وبخائنة الأعين وما تخفي الصدور، أكرم مسؤول، وأعظم مأمول، سميع لراجيه، قريب ممن يناجيه، حكمه مقبول، وأمره مفعول، الله يعلم وهو أعلم شهيد، وأقرب للضمير من حبل الوريد، وكل خير بيديه، وتتوجه الرغبات إليه، الله الحفي بساؤله، المشفع لوسائله، الذي بيده مقاليد الأمور، ومفاتيح المقدور، الله منجز عداته، وحافظ عاداته، هو النافذ أمره، العزيز نصره، الجلي صنعه، الخفي مكره، أن الله يقضي ما يريد، وإن رغم أنف الشيطان المريد. هو السميع البصير، العالم بما يجن الضمير، من له الخلق والأمر، وسواء عنده السر والجبر، مولى الخلق، وباسط الرزق قد أحلته على ملي، وكتبت له إلى وفي، إن الله منجز وعده، ولا خلف عنده، الأمر له والخلق بيديه، والاستعانة به والتفويض إليه.
ذكر النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
سليل أكرم نبعة، وقريع أشرف بقعة. جاء بأمته من الظلمات إلى النور، وأفاء عليهم الظل بعد الحرور. محمد نبي الله وصفوته وخيرته من بريته، مؤكد دعوته بالتأييد. ومفرد شريعته بالتأبيد، خيرة الله من خلقه. وحجته في أرضه، والهادي إلى حقه. والمنبه على حكمه، والداعي إلى رشده. والآخذ بفرضه، مبارك مولده، سعيد مورده، قاطعة حججه. سامية درجه، ساطع صباحه. متوقد مصباحه، مظفرة حروبه. ميسرة خطوبه، قد أفرد بالزعامة وحده، وحتم بأن لا نبي بعده، نفصح بشعاره على المنابر. وبالصلاة عليه في المحاضر، ونعمر بذكره صدور المساجد، وتستوي في الانقياد لأمره حالتا المقر والجاحد، آخر الأنبياء في الدنيا عصراً. وأولهم يوم الدين ذكراً، وأرجحهم عند الله ميزاناً. وأوضحهم حجة وبرهاناً، صدع بالرسالة، وبلغ في الدلالة. ونقل الناس من طاعة الشيطان الرجيم، إلى طاعة الرحمن الرحيم. أرسله الله للإسلام قمراً منيراً، وقدراً على أهل الضلال مبيراً.
الصلاة عليه مع الافصاح
صلى الله على محمد خير من افتتحت بذكره الدعوات، واستنجمت بالصلاة عليه الطلبات، صلى الله على محمد نبي مبعوث، وأفضل وارث وموروث، صلى الله على كاشف الغمة عن الأمة، الناطق فيهم بالحكمة، الصادع بالحق، الداعي إلى الصدق، محمد رسوله الذي ملكه هوادي الهدى، ودل به على ما هو خير وأبقى، صلى الله على بشير الرحمة والثواب، ونذير السطوة والعقاب، محمد الذي أدى الأمانة مخلصاً، وصدع بالرسالة مبلغاً ملخصاً، صلى الله على أتم بريته خيراً وفضلاً، وأطيبهم فرعاً وأصلاً، وأكرمهم عوداً ونجراً، وأعلاهم منصباً وفخراً.
ذكر الآل
وعلى آله الذين عظمهم توقيرا، وطهرهم تطهيرا، وعلى آله مقاليد السعادة ومفاتيحها، ومجاديح البركة ومصابيحها، أعلام الإسلام، وأمان الإيمان، الطيبين الأخيار، والطاهرين الأبرار، الذين أذهب عنهم الأرجاس، وطهرهم من الأدناس، وجعل مودتهم أجراً له على الناس، وعلى آله الذين هم حبل الهدى، وشجرة التقوى، وسفينة النجاة العظمى، وعروة الدين الوثقى، الذين هم زينة الحياة، وسفينة النجاة، وشجر الرضوان، وعشيرة الإيمان، وعلى الشجرة التي أصلها نبوة، وفرعها مروة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل.
ذكر القرآن
حبل الله الممدود، وعهده المعهود، وظله العميم، وصراطه المستقيم، وحجته الكبرى، ومحجته الوضحى، هو الواضح سبيله، الراشد دليله، الذي من استضاء بمصابيحه أبصر ونجا، ومن أعرض عنها زل وهوى، فضائل القرآن، لا تستقصى في ألف قران. حجة الله وعهده، ووعيده ووعده، به يعلم الله الجاهل، ويعمل العاقل. وينتبه الساهي، ويتذكر اللاهي. بشير الثواب، ونذير العقاب، وشفاء الصدور، وجلاء الأمور. من فضائله أنه يقرأ دائباً، ويكتب ويمل فلا يمل. ما أهون الدنيا على من جعل القرآن إمامه، وتصور الموت أمامه. طوبى لمن جعل القرآن مصباح قلبه، ومفتاح لبه. من خلق القرآن حفظ ترتيبه، وحسن ترتيله.
كتاب الأزمنة والأمكنة
وما يتصل بها ويشاكلها
في الربيع وإقباله
قد أقبل الربيع بأسعد فاله، والحسن والطيب في إقباله. أقبل الربيع يتبسم، ويكاد من الحسن يتكلم. تنفس الربيع عن أنفاس الأحباب، وأعار الأرض أثواب الشباب. تنفس فنفس عن المكروب، وأهدى الروح والراحة للقلوب. استخرج من زهر البساتين، ما دفنته يد الكوانين. جاء يجر أذيال العرائس، وينشر أجنحة الطواويس. تبلج عن وجه بهج، وجو غنج، وروض أرج، وطير مزدوج. أقبل برائحة الجنان، وراحة الجنان، أسفر عن ظل سجسج، وماء سلسل وروض مدبج. جاء معيداً للأنس العازب، ومطلعاً للهو الغارب. تبلج عن نوره، وتفتح عن نوره. لاحت منهجه، وراقت مباهجه. مرحباً بالفصل، الجامع لأحكام الفضل، زائر من القلوب قريب، وكله حسن وطيب. زائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير. انكشفت غمة الشتاء الكالح عن غرة الربيع الضاحك، أذال الربيع أذيال الحرير، وعبرت أنفاسه عن العبير. تبدل الشباب من المشيب، وبرز في مطرفه القشيب. عطر السهول والوعور، فعطل المسك والكافور. الزمان معتدل، ووجهه طلق مقتبل. وسحابه ماطر، وترابه عاطر، كأن الجنة قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها، قد تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة، لبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر. حاك الربيع حلل الأزهار، وصاغ حلى الأنوار.
في النسيم ووصف أثره
زائر وجهه وسيم، وفضله جسيم، وريحه نسيم، قد سفر الربيع عن خلق الكريم، ونطق بلسان النسيم. وأفاض ماء النعيم، هب النسيم من الكرى، وهب على الورى، وعطر الثرى. جر على الأرض أزره، وحل عن جيب الطيب زرره. نسيم الريح، نسيب الروح، قد ركضت خيول النسيم في ميادين الرياض. يا لك من منظر جناني، وماء فضي، ونسيم عطري، قد حلت يد المطر إزرار الأنوار، وأذاع لسان النسيم أسرار الأزهار.
في وصف الرياض
وضة رقت حواشيها، وتأنق واشيها، روضة كالعقود المنظمة، على البرود المنمنمة. روضة قد نشرت طرائف مطارفها، ولطائف زخارفها، فطوي لها الديباج الخسرواني، ونفي معها الوشي الإسكندراني. روضة قد راضتها يد المطر. روضة دبجتها أيدي الندى. أخرجت الأرض أسرارها، وأظهرت يد الغيث آثارها، واطلعت الرياض أزهارها. الرياض كالعرائس في حليها وزخارفها، والقيان في وشيها ومطارفها، باسطة زرابيها وأنماطها، ناشرة حبرها ورياطها، زاهية بحمرائها وصفرائها، تائهة بعوانها وعذرائها، كأنما احتفلت لوفد، أو هي من حبيب على وعد. روضة قد تضوعت بالأرج الطيب أرجاؤها، وتبرجت في ظلل الغمام صحراؤها، وتفاوحت بنوافج المسك أنوارها، وتعارضت بغرائب النطق أطيارها.
في وصف البساتين
بستان رق نوره النضيد، وراق ورقه النضير. بستان غصنه خضر، وربعه خصب، ونوره نضر، وماؤه خصر. بستان كأنه أنموذج الجنة. بستان لا يحل لأريب أن لا يحل به. بستان أرضه للبقل والريحان، وسماؤه للنخل والرمان. بستان أنهاره مفروزة بالأزهار، وأشجاره موقرة بالثمار، أشجار كالعذارى يسرحن الضفائر، وينشرن الغدائر. أشجار كأن الحور أعارتها قدودها، وكستها برودها، وحلتها عقودها.
في ذكر النرجس والورد والشقائق
الربيع شباب الزمان، ومقدمة الورد والريحان. زمن الورد موموق مرموق، وكأنه من الجنة مسروق. قد ورد كتاب الورد، بإقباله إلى أهل الود، إذا ورد الورد، صدر البرد، مرحباً بأشرف الزهر، في أظرف الدهر، كأن عين النرجس عين، وورقه ورق، النرجس نزهة الطرف، وظرف الظرف، وغذاء الروح، ومادة الروح، شقائق كتيجان العقيق على الزنوج، كأنها أصداغ المسك على الوجنات الموردة. شقائق كالزنوج تجارجت فسالت دماؤها، وضعفت فبقي ذماؤها.
في غناء الأطيار
الأرض زمردة والأشجار وشي، والماء سيوف والطيور قيان. قد غردت خطباء الأطيار، على منابر الأنوار والأزهار، إذا صدح الحمام، صدع قلب المستهام، أنظر إلى طرب الأشجار، لغناء الأطيار. ليس للبلابل، كخمر بابل، على غناء البلابل.
في وصف أيام الربيع
يوم سماؤه فاختيه، وأرضه طاوسية. يوم جلابيب غيومه صفاق، وأردية نسيمه رقاق، يوم معصفر السماء، ممسك الهواء، معنبر الرياض مصندل الماء. يوم سماؤه كالخز الأدكن، وأرضه كالديباج الأخضر. يوم تبسم عنه الربيع، وتبرج فيه الروض المريع. كأن سماءه مأتم، وأرضه عرس.
مقدمة المطر
لبست السماء جلبابها. سحب السحاب أذياله. احتجبت الشمس في سرادق الغيم، ولبس الجو مطرفه الأدكن. باحت الريح بأسرار الندى. ضربت خيمة الغمام، وقام خطيب الرعد، ونبض عرق البرق، سحابة رعدها يصم الأذن، وبرقها يخطف العين. سحابة ارتجزت رواعدها، وأذهبت بروقها مطاردها. نطق لسان الرعد، وخفق قلب البرق. الرعد ذو صخب، والبرق ذو لهب. ابتسم البرق عن قهقهة الرعد. زأرت أسد الرعد، ولمعت سيوف البرق. رعدت الغمائم وبرقت، وانحلت عزالى السماء فطبقت. سحابة هدرت رواعدها، وقربت أباعدها، وصدقت مواعدها. كأن البرق قلب مشوق، بين التهاب وخفوق.
في السحاب والمطر
انحل عقد السماء، وهي عقد الأنواء. انحل سلك القطر، عن در البحر. أرخت السماء عزاليها، وأغرقت الأرض وسحت نواحيها. هطلت بمثل أفواه القرب، انتثرت كانتثار العقود. استعار السحاب جفون العشاق، وأكف الأجواد. انحل خيط السماء، انقطع شريان الغمام. سحابة تنخل علينا ماء البحر، وتفض لنا عقود الدر. سحاب حكى المحب في انسكاب دموعه، والتهاب النار بين ضلوعه، سحابة تحدو من الغيوم جبالا، وتمد من الأمطار حبالا. سحابة ترسل الأمطار أمواجا، والأمواج أفواجا. تحللت عقد السماء بالديمة الهطلا. غيث أجش يروي الهضاب والآكام، ويحي النبات والسوام. غيث كغزارة فضلك، وسلاسة طبعك، وصفاء ودك. وبل كالنبل. سحابة يضحك من بكائها الروض، وتخضر من سوادها الأرض. سحابة لا تجف جفونها، ولا يخف أنينها، ديمة روت أديم الثرى، ونبهت عيون النور من الكرى. سحابة ركبت أعناق الرياح. مطر كأفواه القرب، ووحل إلى الركب. أندية قد من الله معها على البيوت، بالثبوت، وعلى السقوف، بالوقوف.
في وصف الماء وما يتصل به
ماء كالزجاج الأزرق، غدير كعين الشمس، موارد كالمبارد. ماء كلسان الشمعة، أصفى من الدمعة، يسيح في الرضراض، سيح النضناض. ماء إذا مسته يد النسيم حكى سلاسل الفضة. ماء إذا صافحته راحة الريح، لبس الدرع كالمسيح. ماء يتصندل ويتسلسل. كأن الغدير بنبات الماء مصندل مطير، بركة كأنها مرآة السماء، بركة مفروزة بالخضرة رداء، كأنها مرآة مجلوة على ديباجة خضراء، غدير ترقرقت فيه دموع السحائب، وتواترت عليه أنفاس الرياح الجنائب. غدير ساكن إلا من نسيم الصبا يحركه بأنفاسه، وينقش وجهه بأرواحه. ماء يبوح بأسراره وصفاؤه، ويلوح في قراره حصباؤه، ماء كأنما يفقده من يشهده. ماء أرق من دموعي فيك وأعذب من أخلاقك، وأبرد من فعل الزمان حين رماني بفراقك. نهر يتسلسل كالزرافين، ويرضع أولاد الرياحين.
في ذكر الصيف ووصف الحر
قوي سلطان الحر. فرش بساط الجمر. أقبلت أوائل الحر، وغير الهواء طبعه، وبدل مزاجه. حر الصيف، كحد السيف. أوقدت الشمس نارها، وأذكت أوارها. حر يلفح حر الوجه. حر يشبه قلب الصب. ويذيب دماغ الضب. هاجرة كأنها من قلوب العشاق، إذا اشتعلت فيها نار الفراق. هاجرة تحكي نار الهجر، وتذيب قلب الصخر. كأن البسيطة من وقدة الحر، بساط من الجمر. حر يهرب له الحرباء من الشمس. قد صهرت الهاجرة من الأبدان، وركبت الجنادب العيدان. حر ينضج الجلود، ويذيب الصيخود. أيام كأيام الفرقة امتداد، وحر كحر الوجد اشتداد حر لا يطيب معه عيش، ولا ينفع ثلج ولا خيش. حمارة القيظ، تغلي بصدر الغيظ، آب آب يجيش مرجله، ويثور قسطله. هاجرة كقلب المهجور، والتنور المسجور. هاجرة كالسعير الجاحم، تجر أذيال السمائم، ظلها يحموم، وماؤها محموم.
ذكر الخريف
انحسر قناع الصيف. خف سلطان الحر. خبت جمرة الهواجر. جاشت جيوش الخريف. فررت رايات المصيف، قد أخذ البرد يجمشنا بلواحظه، ويقرصنا بأنامله. أخذت عواصفه تهب، وأقبلت عقاربه تدب. قد حلت الشمس الميزان، وعدل الزمان الميزان، لفح المصيف قد كف، ووقع الشمس قد خف، خفت الرياح، وجفت الأعواد.
في الشتاء ووصف البرد والثلج والجمر
ألقى الشتاء كلكله، وأحل بنا أثقاله. مد الشتاء رواقه، وألقى أرواقه، وحل نطاقه. ضرب الشتاء بجرانه، واستقل بأركانه، أناخ بنوازله، وأرسى بكلاكله، وكلح بوجهه، وكشر عن أنيابه. في الشتاء كلب، وفي الهواء غلظ، قد عادت هامات الجبال شيبا، ولبست من الثلج ملاء قشيبا. شابت مفارق البروج، لتراكم الثلوج. ألم المشيب بهامات بيضت لممها، قد صار البرد حجابا، والثلج حجازا، برد يعبس له الوجه الطلق. برد يزوي الوجوه، ويعمش العيون، ويسيل الأنوف. برد يغير الألوان، ويقشف الأبدان. برد يقضقض الأعضاء، وينفض الأحشاء. برد أجمد الريق في الأشداق، والدمع في الآماق. حال بين الكلب وهريره، والأسد وزئيره، والطير وصفيره، والماء وخريره، نحن بين لثق ودمق وزلق.
في الاستظهار على البرد
ليس للبرد كالبرد والجمر، إذا كلب الشتا، فدرياق سمومه الصلا.
في نعت الأيام الشتوية
يوم كأن الأرض شابت لهوله. يوم فضي الجلباب، مسكي النقاب. يوم عبوس قمطرير، كشر عن ناب الزمهرير، وفرش الأرض بالقوارير. يوم أخذت الشمال زمامه، وكساه الصر ثيابه. يوم كأن الدنيا فيه كافورة. والأرض قارورة، والسماء بلورة. يوم أرضه كالقوارير اللامعة، وهوآؤه كالزنانير اللاسعة. يوم أرضه كالزجاج، وأعالي الزجاج. يوم يثقل فيه الخفيف إذا هجم، ويخف الثقيل إذا هجر.
أبواب ذكر الليل والنهار
ووصف أوقاتهما واختلاف أحوالهما، وما يتصل بهما
في ذكر اقبال الليل وانتشار الظلمة وطلوع الكواكب
أقبلت عساكر الليل، خفقت رايات الظلام، خلع الليل علينا فروته، وألبسنا الظلام بردته. تفقد الشفق، في ثوب الغسق، قيد الظلام الحاظ العيون. وستره الظلام بذيله. أقبلت وفود النجوم. جاءت مواكب الكواكب. تفتحت أزاهير النجوم. نورت حدائق الجو. أذكى الفلك مصابيحه، طفت النجوم في بحر الدجى.
ذكر الليالي المظلمة
لبس الليل جلباباً من القار، ليلة كجناح الغراب، وشعر الشباب، وحدق الحسان، وذوائب العذارى. ليلة كأنها في لباس بني العباس، كأنها في لباس الثكالى، كأنها من الغبش، موكب الحبش. ليلة يضل بها الغطاط، ولا يبصر فيها الوطواط. ليلة قد حلك إهابها، وكأن الفجر يهابها. ليلة استعارت لون الخيل الدهم، كأن الأرض مصبوغة فيها بالمداد.
في ذكر الليالي الطلقة الطيبة المشكورة
ليلة سحر كلها. ليلة كأنها نهار. ليلة من حسنات الدهر. ليلة هواؤها صحيح ونسيمها عليل. ليلة كبرد الشباب. ليلة فضية الأديم، مسكية النسيم. ليلة هي لمعة العمر، وغرة الدهر. ليلة مسكية الأديم، كافورية النجوم. ليلة رقد الدهر عنها، وطلعت سعودها، وغاب عذالها. ليلة كالمسك منظرها ومخبرها. هي ليلة باكورة العمر، وبكر الدهر. ليلة يلتقي طرفاها. ليلة ظلماتها أنوار، وطوال أوقاتها قصار. ليلة كما شاء المحب. ليلة مسروقة من الدهر، ليلة مريضة النسيم، صحيحة الهواء، موشية بالنجوم، مطرزة بالقمر.
في ضد ذلك وذكر طول الليل
ليلة من غصص الصدر، ونقم الدهر. ليلة كلها غيوم وغموم. ليلة كما شاء الحسود، وسآء الودود. ليلة كأن أول يوم الحشر آخرها. ليلة قص جناحها، وضل صباحها. ليلة كليل الأعمى. ليل ثابت الأطناب طامي الغوارب، طامح الأمواج وافي الذوائب. ليل كأن نجومه نجوم الشيب. ليل كأن نجومه عقلت فلا تسير، ولا تدور ولا تغور. ليال ليست لها أسحار، وظلمات لا تتخللها أنوار.
فيما يذكر من السهر لاعتراض الهموم والفكر
بات فلان بليلة نابغية، بات بليل السقيم، بات بليل السليم، بات في الصيف بليلة شتوية، سامرته الهموم، وعانقته الغموم، قد توسد ذراع الهم، وافترش مهاد الغم، قد اكتحل السهاد، وافترش القتاد، اكتحل بمراود الأرق، وتقلب على مراقد القلق، جفا أجفانه الكرى، كأنما خلقت عيناه للسهر، النجوم شهود سهاده، كأن النوم قد غضب على مآقيه، اكتحل بملمول السهر، وتململ على فراش الفكر، أقض مهاده، وقلق وساده، هموم تفرق بين الجنب والمهاد، وتجمع بين العين والسهاد، سهر يفتق الجفن، ويقذي العين، ويؤذي القلب، ويوحش النفس. طرف برعي النجوم مطروف، وفراش بشعار الهم محفوف، كأنه على النجوم ريب، وللظلام نقيب.
ذكر النعاس والنوم
شرب كأس النعاس، انتشى من خمر الكرى، خاط النعاس جفونه، أخذ الكرى يجشمه، بل ثقل رأس، وتقاضي نعاس، عسكر النعاس بطرفه، وخيم بين عينيه وجفنه. خاض ضحضاح الكرى، ملأ النعاس جفنه، وشغل عينه. مال مع النعاس. مس النوم مقلته. غلبته عيناه. كأن النعاس يطالبه بدين. غشيه نعاس الوحدة، ضرب على أذنه وقد ملأ عينه، غرق في لجة الكرى. تمايل من سكرة النوم. غفوة كحسوة الطآئر، نومه كلا ولا قلة، وكتصفيفة الطآئر خفة، كحل الليل الورى بالرقاد، وشامت الأجفان أعينها في الأغماد، عبث الكرى بهم، وأرخى مفاصلهم، وأمال أعناقهم.
انتصاف الليل
قد تنصفنا عمر الليل، واستغرقنا شبابه. مضى من الليل صدره، وانقضى شطره. اكتهل الظلام. شاب رأس الليل. كاد ينم النسيم بالسحر، الصبح حمل بين أحشآء الدجى.
تناهي الليل وتصرمه
انكشف غطاء الليل. انهتك ستر الدجى. رفع سجف الظلام، رق ثوب الدجى، نعى الديل الظلام، هرم الليل، وشمطت ذوائبه، وتقوس ظهره، وتصرم عمره، قوضت خيام الظلام، خلع الأفق ثوب الدجى، استرد الليل خلعته، انتقب الليل بالصبح، أعرض الظلام وتولى، وتدلى عنقود الثريا، طرز الصبح قميص الليل، باح الصباح بسره، خلع الليل ثيابه، وحدر الصبح نقابه.
إقبال الصبح وانتشار النور
لاحت تباشير الصبح، افتر الفجر عن نواجذه. ضرب الصبح في الدجى بعموده. تبسم عن نوره. فتك الصبح بالليل، بشر الديل الصبح، سل سيف الصبح في قفا الظلام. بث الصبح طلائعه. نشر ثياب النور. تبرقع وجه الليل بغرة الصبح أطار بازي النهار غراب الليل. عزلت نوافج المسك بشمامات الكافور، وانهزم جند الظلام من عسكر النور. خلعنا خلعة الظلام ولبسنا ردآء الصبح، ملأ الأذان الآذان، برق الصباح، وسطع الضوء، وطلع النور، وأشرقت الدنيا، وأضاءت الآفاق.
أفول النجوم
مالت الجوزآء للغروب، ولت مواكب الكواكب، تناثرت عقود النجوم تعطل الأفق من حلي الكواكب، تفرقت أسراب النجوم، فرت من حدق الأنام، وهي نطاق الجوزآء، وانطفأت قناديل الثريا.
طلوع الشمس وانبساط الضوء
بدا حاجب الشمس. ذر قرن الشمس. ارتفع الحجاب عن حاجبها. لمعت الشمس في أجنحة الطير. كشفت قناعها، ونشرت شعاعها. ارتفع سرادقها، وأضاءت مشارقها. انتشر جناح الضو، في أفق الجو. طنب شعاع الشمس في الآفاق، وذهب أطراف الجدران. افتضضنا عذرة الصباح.
منوع النهار
أيفع النهار وارتفع. ترجلت الشمس. استوى شباب النهار. علا روق الضحى.
انتصاف النهار
بلغت الشمس كبد السمآء، انتعل كل شيء ظله، قام قائم الهاجرة، رمت الشمس بجمرات الهجير.
اصفرار الشمس وغروبها
اصفرت غلالة الشمس، صارت كأنها الدينار، يلمع في قرار المآء، نفضت تبراً على الأصيل، وشدت رحلها للرحيل، بقل وجه النهار، وطر شاربه، تصوبت الشمس للمغيب، وتضيفت للغروب، وآذن جنبها بالوجوب، شاب النهار، وأقبل شباب الليل. وقعت الشمس للغيار، وشافه الليل لسان النهار. شرقت الشمس بروحها، جنحت للغروب، وشارفت درح الوجوب، الغزالة مصوبة للغروب، مؤذنة بالمغيب. والجو في أطمار مبهجة من أصائله، وشفوف مورسة من غلائله. استتر وجه الشمس بالنقاب، وتوارت بالحجاب.
ذكر ابتداء الليل إلى انتهائه
كان ذلك من مفتتح النهار إلى مختتمه، ومن قرنه إلى قدمه، من مطلع الفلق، إلى مجمع الغسق، فلان يركب في مقدمة الصبح، ويرجع في ساقة الشمس، من حين تفتح الشمس جفنها إلى أن تغض طرفها. من حين تسكن الطير في أوكارها، إلى أن تنزل السراة من أكوارها.
أبواب الأمكنة والأبنية في وصف البلاد
بلدة كأنها صورة جنة الخلد، منقوشة في عرض الأرض. بلدة كأن محاسن الدنيا مجموعة فيها ومحصورة في نواحيها، بلدة ترابها عبير وحصباؤها عقيق، وهواؤها نسيم وماؤها رحيق. بلدة معشوقة السكنى، رحيبة المثوى. كوكبها يقظان، وجوها عريان وحصاها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة وليلها سحر، فطعامها هني، وشرابها مري. بلدة واسعة الرقعة، طيبة البقعة. كأن محاسن الدنيا فيها مفروشة، وصورة الجنة بها منقوشة، واسطة البلاد وسرتها، ووجهها وغرتها.
في ضد ذلك
بلد متضايق الحدود والأفنية، متراكب المنازل والأبنية. بلدة حرها موذي، وماؤها موبي. بلدة وسخة السماء، ومدة الهواء. جوها غبار، وأرضها خبار، وماؤها طين، وترابها سرجين، وحيطانها نزور، وتشرينها تموز، فكم في شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق. بلدة ضيقة الديار، سيئة الجوار، حيطانها أخصاص، وبيوتها أقفاص، وحشوشها مسابل، وطرقها مزابل.
في ذكر الوطن
بلدة هي عشه، وبها منزله وعيشه. بلد لا يؤثر عليه أبداً، ولا يصبر عنه أبداً، عشه الذي فيه درج، ومنه خرج. مقطع سرته، ومجمع أسرته، بلد أنشأته تربته، وغذاه هواؤه ورباه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه.
في الحصون والقلاع
حصن كأنه على مرقب النجم، ومجير من القدر الحتم. حصن يحسر دونه الناظر، ويقصر عنه العقاب الكاسر. يكاد من علاه يغرف من حوض الغمام، كأنه فوق السحاب سحاب. حصن انتطق بالجوزاء، وناجت بروجه أبراج السماء. قلعة قد حلقت في الجو كأنها سحابة، كأن الغمامة لها عمامة، كأنها تناجي السماء بأسرارها. قلعة بعد في السماء مرتقاها، حتى تساوى ثراها مع ثرياها. قلعة تتوشح بالغيوم، وتتحلى بالنجوم. أصلها في التخوم، وفرعها في النجوم. قد حلق جناحها إلى عنان النجم. شماء عن المرتقي، صماء عن الراقي. قد جاوزت الجوزاء سمتاً، وعزلت السماك الأعزل سمكا. هي في الحصانة متناهية، وبالوثقة موصوفة، ممتنعة على الطلب والطالب. منصوبة على أضيق المسالك وأوعر المناصب. لم تزدها الأيام إلا نبو أعطاف، واستصعاب جوانب وأطراف، قد مل الولاة حصارها ففارقوها عن طماح منها وشماس، وسئمت الجيوش ظلها فغادرتها بعد قنوط ويأس، فهي حمى لا يراع، ومعقل لا يستطاع. تعطس بأنف شامخ من المنعة، وتنبو بعطف جامح على الخطبة، كأن الأيام صافحتها على الإعفاء من الحوادث، والليالي قد عاهدتها على التسليم من القوارع. قلعة تحوي من الرفعة قدراً لا يستهان مواقعه، وتلوي في المنعة جيداً لا تستلان أخادعه، ليس للوهم قبل القدم إليها مسرى، ولا للفكر قبل الخطو نحوها مجرى.
في القصور
قصر كأن شرفاته بين النسر والعيوق، كأنها تسامي الفرقد. قصر يرتقى من سطحه إلى الشعريين. اكتست له الشعرى العبور، ثوب الغيور. قصر طال مبناه، وطاب مغناه، كأنه في الحصانة جبل منيع، وفي الحسن ربيع مريع شرفات كالعذارى شددن مناطقهن، وتوجن بالأكاليل مفارقهن. قصر أقرت له القصور بالقصور عنه، كأنه سحاب، في نحر السحاب
في الدور السرية
دار قوراء توسع العين قرة، والنفس مسرة، كأن بانيها استسلف الجنة فعجلت له، دار تخجل منها الدور، وتتقاصر لها القصر، إن مات صاحبها مغفوراً له فقد انتقل من جنة إلى جنة. دار قد اقترن اليمن بيمناها، واليسر بيسراها، الجسوم منها في حضر، والعيون منها على سفر. دار هي دائرة الميامن، ودارة المحاسن، دار دار بالسعد نجمها، وفاز بالحسن سهمها. دار قد أخذت أداة الجنان، وضحكت عن العبقري الحسان. دار يخدمها الدهر، ويأويها البدر، ويكنفها النصر. دار هي مرتع النواظر، ومتنفس الخواطر. دار كأنها خان، يدخلها من وفى ومن خان. صحن تسافر فيه العيون، بهو بهي، ورواق رائق، بيت فضي الحيطان، رخامي الأركان.
في الدور المتداعية الخالية
دار لبست البلى، وتعطلت من الحلى، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا. دار قد صارت منهم خالي، بعد ما كانت بهم حالية. دار قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد حيطانها، شاهد اليأس منها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وخرابها ينشر، أركانها قيام وقعود، وحيطانها ركع وسجود، سقفها أرض، وأرضها تل.
كتاب أحوال الإنسان
من لدن صغره نمائه، إلى كبره وانتهائه
في ذكر الصبية الصغار
صبية كالفراخ العشوش، وأولاد الخفافيش. صبية يسعهم قفيز. أولاد جلهم صبيان، أكابرهم أصاغر، كأنهم أفرخ زغب. صبيان كأنهم صئبان، وولدان كأنهم كيزان، قد أرضعته بلبانها، وحملته على لبانها. طفل قريب العهد، بالمهد.
في حسن مخايل المولود
شهدت له الفراسة رضيعا، أن لا يكون وضيعا. والمخايل فطيما، أن يكون سمحاً كريما، والشواهد صبيا، أن ينزل مكاناً عليا. والشمائل غلاما أن يكون قرماً هماما.
في ذكر الغلام الأمرد ووصف محاسنه
زاد جماله، وأقمر هلاله. ترقرق في وجهه ماء الحسن. شادن فاتن، طرفه فاتر، ونظره ساحر. غلام تأخذه العين، ويقبله القلب فترتاح له الروح. تكاد العيون تأكله، والقلوب تشربه. جرى ماء الشباب في عوده فتمايل كالغصن، واستوفى أقسام الحسن. لبس ديباجة الملاحة. كأن البدر ركب على أزراره. لا يشبع منه الناظر، ولا يروى منه الخاطر. كاد النجم يحكيه والشمس تشبهه. صورة تجلو الأبصار، وتخجل الأقمار. شادن منتقب بالبدر، مكتحل بالسحر. ما هو إلا نزهة الأبصار، وبدعة الأمصار. غمزات طرفه، تخبر عن ظرفه، ومنطقته تنطق بوصفه. وجهه قيد الأبصار، وأمد الأفكار، ونهاية الاعتبار. تخال الشمس برقعت غرته، والليل ناسب أصداغه وطرته. الحسن ما فوق أزراره، والطيب ما تحت إزاره، شادن يضحك عن الأقحوان، ويتنفس عن الريحان، كأن قده سكران من خمر طرفه، وبغداد مسروقة من حسنه وظرفه، قد أعجمت يد الجمال، نون صدغه بخال. له عينان حشو أجفانهما السحر. كأنه أعار الظبي جيده والغصن قده. والراح ريحه والورد خده، الشكل في حركاته، وجميع الحسن بعض صفاته. قد ملك أزمة القلوب، كأنما سمه الجمال بنهايته، ولحظه الفلك بعنايته، فصغه من ليله ونهاره، وحلاه بنجومه وأقماره، ونقشه ببدائع آثاره، ورمقه بنواظر سعوده، وجعله بالكمال أحد حدوده قد صبغ الحياء غلالة وجهه، ونثر لؤلؤ العرق على ورد دهن تكاد الالحاظ تسفك عن خده دم الخجل. طرة كالغسق، على غرة كالفلق، جاءنا في غلالة تنم على ما تستره، وتجفو مع رقتها عما تظهره. وجه بماء الحسن مغسول، وطرف بمرود السحر مكحول. ثغر حمي حماي الثغور، وجعل ضرة لقلائد النحور. السحر في ألحاظه، والشهد من ألفاظه. كأنه خاصم الولدان، ففارق الجنان. وهرب من رضوان. اختلس قامة الغصن، وتوشح بمطارف الحسن، وحكى الروض غب المزن، الأرض مشرقة بنور وجهه، وليل ألسرار في عيال شعره، والجنة مجتناة من قربه، وماء الجمال يترقرق في خده، ومحاسن الربيع بين سحره ونحره، والقمر فضلة من حسنه، والشمس من حملة عرشه، ما هو إلا خال في خد الظرف، وطراز على الحسن، ووردة في غصن الدهر ونقش على خاتم الملك، وشمس في فلك اللطف.
في الصدغ والشارب والعذار
زرافين أصداغه معاليق القلوب، كأن صدغه قرط من المسك على عارض البدر. وجهه عرس وصدغه مأتم، ووصل جنة وهجره جهنم. أصداغه قد أخذت شكل العقارب، وظلمت ظلم الأقارب. إن كانت عقرب صدغه تلسع، مترياق ريقه ينفع، كأن شاربه زئبر الخز الأخضر، وعذاره طراز المسك الأذفر، على الورد الأحمر، إذا تكلم تكشف حجاب الزمرد والعقيق، عن سمط الدر الأنيق، قد هم أرقم الشعر على شاربه، قد كادت يد الحسن تغلفه، كاد العذار ينقش فص وجهه، ويحرق فضة خده. طرز الجمال ديباجة وجهه، وأبان عذاره العذر في حبه. لعب الربيع بخده، وأنبت البنفسج في ورده. لما أحرقت بالشعر فضة خده، احترق سواد القلوب من حبه، كيف لا يخضر عارضه ومياه الحسن تسقيه.
وصف خروج اللحية وذمها
نسخ الشعر آية حسنه، ومحا محاسن وجهه. كسف الشعر هلاله، وأكسف باله، وأحال خياله، ومسح جماله، وانتقب بالديجور، بعد النور. دولة حسنه أعرضت، وأيامه قد انقضت استحال نور خده دجى، وزمرد خطه سبجا. أخمدت نار حسنه بعد الاتقاد. ولبس عارضاه ثوب الحداد. قد ذبل ورد خده، وتشوك زعفران خطه. فارقنا خشفا، ووافانا جلفا، فارقنا هلالاً وغزالا، وعاودنا نكالا.
نعت محاسن الجواري
هي روضة الحسن، وضرة الشمس، وبدر الأرض. هي من معاريض الفتن، وحبائل الشيطان. هي من وجهها في صباح شامس، ومن شعرها في مساء دامس، كأنها فلقة قمر، على برج فضة. كأنما لبست قشور الدر بدر التم، شمس الضحى تضيء تحت نقابها، وغصن البان يهتز تحت ثيابها، ثغرها يجمع الضريب والضرب. قد أنبت صدرها ثمر كذا قد أثمر خدها التفاح، وصدرها الرمان، خرطت لها يد الشباب حقين من عاج، كأنها البدر قد قرط بالثريا ونيط بها عقد من الجوزاء، أعلاها كالغصن ميال، وأسفلها كالدعص منهال. لها عنق كإبريق اللجين، وسرة كمدهن العاج، نطاقها مجدب، وإزارها مخصب. مطلع الشمس من وجهها، ومنبت الدر في فمها، وملقط الورد من خدها، ومنبع السحر من طرفها، ومبادي الليل في شعرها، ومغرس الغصن من قدها، ومهيل الرمل في ردفها، سرية سرية، قينة كتصحيفها. الحسن في خلقها، والطيب في خلقها.
ذكر الشاب الغض الشباب
هو في اقتبال شبابه، وحداثة أترابه، وريعان عمره، وعنفوان أمره. هو في ريان شبابه واعتداله، وريعان إقباله واقتباله، شبابه طري، وذكاؤه قوي. غصن شبابه رطيب، وبرد حداثته قشيب، بعثه على ذلك أشر الصبى، ومرح الشبيبة، وسكر الحداثة. هو بعذرة الشباب، وفراغ البال، حدث بكر الآمال، بض الجمال، حسن الاقتبال، فتي السن، رطيب الغصن. عمره في إقباله، ونشاطه في استقباله، وشبابه في اقتباله، وماؤه بحاله. فلان في حكم الأطفال، الذين لم يعضوا على نواجذ الرجال.
خلاعة الشاب وتصابيه
أطاع الشباب وغرته، وأجاب الصبى وشرته. هو في عنفوان شبيبة تخاف سقطاتها وهفواتها، ولا تؤمن جمحاتها ونزواتها، جر أزر الصبى، وأذال ذيول الهوى. هو في سكري الشباب والشراب. هو بين نزقات الشبان، ونزغات الشيطان. شبابه أعمى عن الرشد، أصم عن العذل، قد لبى داعي هواه، وانغمس في لجة صباه. قد هجم بسكر الحداثة على سكرات الحوادث، جرى إلى الصبى، جري الصبا. ركض في ميدان التصابي، وجنى ثمرات الملاهي. أنفق صباه على الفحشاء، وشبابه على الأحشاء، وأصبح بين الزق والعود، وأمسى بين موجبات الحدود. فلان غفل من سمة التجربة، صعب الرأس على لجام العظة، جامح في عذار الغفلة. هو في سلطان الصبى، وفي نوبة الأولى، قد خلع عذاره ومقوده، وألقى إلى البطالة باعه ويده. هو بين خمار الغداة وسكر العشي. فلان لا يعرف الصحو، ولا يفارق اللهو. هو بين غرر الشباب، وغرر الأحباب. فلان لا يفيق، ولا يدركه التوفيق.
في ذكر الشاب الرشيد وترشحه للمعالي
جمع نضارة الشبان إلى أبهة الشيب. هو على حدوث ميلاده، وقرب إسناده شيخ قدر وهيبة، وإن لم يكن شيخ سن وشيبه. هو بين شباب مقتبل، وعقل مكتهل. قد لبس برد شبابه على عقل كهل، ورأي جزل، ومنطق فصل. للدهر فيه مقاصد، وللأيام فيه مواعد. أرى له في ضمان الأيام، ودائع الحظوظ والأقسام، تباشير نجح، ومخايل نصر وفتح، قد استكمل قوة الفضل، ولم يتكامل له سن الكهل. ما زالت مخايله وليداً وناشئاً، وشمائله صغيراً ويافعا. نواطق بالحسنى عنه، وضوامن للنجح فيه. قد سما إلى مراتب أعيان الرجال، التي لا تدرك إلا مع الكمال والاكتهال، حمدت عزائمه، قبل أن حلت تمائمه. وشهدت مكرماته، قبل أن درج لداته.
وخط الشيب وانتشاره
شعر الشيب بشعره. عرض البياض بعارضه. نور غصن شبابه. ضحك المشيب برأسه. لاحت حلية الشيب في عذاره. لمعت نجوم الشيب في ليل شبابه. لاحت الشعرات البيض، وجعلت تفرج وتبيض. بدت في رأسه طلائع المشيب وطوالع القتير. أخذ الشيب بعنان شبابه. ذرت يد الزمان كافوراً على مسكه. مد المشيب طرازاً على وجهه، وكتب أسطراً في عارضه. طرز الشيب برد شبابه. حط المشيب بربعه، وخط القتير على فوده. لاح أقحوان الشيب في بنفسج شبابه، ألم وفد الشيب بفوده. غزاه الشيب بجيوشه، كتبت يد الشيب في فوديه، مواعظ يقرأها الأنام عليه، أقمر ليل شبابه. صاح النهار بجانب ليله. افتر له الشيب عن ناب الأسود، وأشار إليه بمخلب الأسد. قد فضض الزمان آبنوسه. اشتمل الشيب على عارضه، ألجمه الشيب بلجامه، وقاده بزمامه. سال وادي الشيب في مفرقه. اعتم بالمشيب وتلثم به. لاح نور الهموم في عارضيه. قنعه الشيب خماره، وأحل به أثقاله. علاه غبار وقائع الدهر وحكايات الزمن. أخذت الأيام من شبابه. بينما هو راقد في ليل شبابه إذ أيقظه صبح المشيب.
في الاكتهال والاحتناك والارعواء عن مجاهل الشباب
قضى باكورة الشباب، وانفق نضارة الزمان. طوى مراحل الشباب، وأنفق من عمره بغير حساب. أخلق بردة الصبي، ونهته النهى عن الهوى. جاوز الشباب مراحل، وورد من المشيب مناهل. التفت إلى الأربعين، وشارف طلاع الخمسين. طار غراب شبابه. انتهى شبابه، وشاب أترابه. استبدل بالأدهم الأبلق، وبالغداف العقعق. فل الدهر شبا شبابه، ومحا محاسن روائه. انتهى إلى أشد الكهل، واستعاض من حلك الغراب قادمة النسر، افتر عن ناب القارح، وارتفع عن مقال القادح. قرع ناجذ الحلم، وارتاض بلجام الدهر، أدرك عصر الحنكة، وأوان المسكة. جمع قوة الشباب، إلى وقار الشيب. أسفر له صبح المشيب، وعلته أبهة الكبير. خرج عن حد الحداثة، وارتفع عن عذر الغرارة. نفض غبرة الصبى، ولبى داهية الحجى. عصى شياطين الشباب، وأطاع ملائكة الشيب. سرى في طريق الرشد بمصباح الشيب. لما قام الشيب له مقام النصيح، عدل عن علائق الحداثة بتوبة نصوح.
استحكام الشيب وبلوغ الشيخوخة
الشيب زبدة مخضتها الأيام، وفضة سبكتها التجارب. في الشيب استحكام الوقار، وتناهي الجلال، وميسم التجربة، وشاهد الحنكة. الشيب مقدمة الهرم، والمؤذن بالخرف، والقائد إلى الموت. الشيب رسول المنية. الشيب عنوان الفساد. الشيب ساحل الحياة. الشيب سفينة تقرب من الساحل. صفا فلان على طول العمر. صفا التبر على مثقب الجمر. من عرف الستين أنكر نفسه. فلان قد تناهت به الأيام تحليماً وتهذيباً، وتناهت به السن تحكيماً وتجريبا. قد وعظه المشيب بوخطه وخبطه، وألسن بابنه وسبطه، قد تضاعفت وفود عمره، وأخذت الأيام من جسمه. وجد مس الكبر، ولحقه ضعف الشيخوخة، ساء عليه أثر علو السن، واعتراض الوهن. فلان من ذوي الأسنان العالية، والصحبة للأيام الخالية.
في الهرم ومشارفة الفناء
هم هرم قد أخذ الزمان من عقله، كما أخذ من عمره. ثلمه الدهر ثلم الإناء، تركه كذي الغارب المنكوب. حنا قوسه الكبر، هريق ماء شبابه، استشن أديمه، كسر الزمان جناحه. نفض الدهر مرته. طوي ما نشر منه، قيده الكبر، رسف رسفان المقيد، مجتث الجثة، كأنه عثة، ثقلت عليه الحركة، واختلفت إليه رسل المنية. ما هو إلا شمس العصر، على القصر. أركانه قد وهت، ومدته قد تناهت. هل بعد الغاية منزلة? أم بعد الشيب سوى الموت مرحلة، ما الذي يرجى ممن كان مثله في تقاصر الخطى، وتخاذل القوى، وتداني المدى، والتوجه إلى الدار الأخرى? أبعد دقة العظم، ورقة الجلد وضعف الجسم، وتخاذل الأعضاء، وتفاوت الاعتدال، والقرب من الزوال? إن الذي بقي منه ذماء ترقبه المنون بمرصد، وشلشة هي هامة اليوم أو غد. قد خلق عمره، وانطوى عيشه، وبلغ ساحل الحياة، ووقف على ثنية الوداع، وأشرف على دار المقام.
كتاب الطعام والشراب
وما ينضاف إليهما، ويقترن بهما
في الفواكه والثمار
كرم نسلفه الماء القراح، ويقضينا أمهات الراح. عنقود كالثريا. عنب كأنه مخازن البلور، وظرف النور، وأوعية السرور، وأمهات الرحيق، في مخازن العقيق. نخل نسلفه الماء، ويقضينا العسل. رطب كأنه شهدة بالعقيق مقنعة، وبالعقيان مقمعة. رمان كأنه صرر الياقوت الأحمر. سفرجل يجمع طيباً ومنظراً حسناً، كأنه زئبر الخز الأغبر، على الديباج الأصفر. تفاح نفاح، يجمع وصف العاشق الوجل، والمعشوق الخجل، له نسيم العنبر، وطعم السكر. ورسول المحب، وشبيه الحبيب. تين كأنه سفر مضمومة على العسل. مشمش كأنه الشهد في بنادق الذهب.
ذكر الجوع
لا هجوع، مع الجوع، سلطان الجوع يسيء الملكة، هو أجوع من ذئب معشش بين أعاريب، قد أثر الجوع في الأخلاط. العيون قد انقلبت، والأكباد قد التهبت. تحلبت الأفواه، توقدت الأكباد. امتدت إلى الخوان الأعناق، وأحدت نحوه الأحداق، وتحلبت له الأشداق.
وصف القدور
قد قامت خطباء القدور. فاحت القدور بأطيت من المسك الأصهب، بالعنبر الأشهب، قدور أبكار، بخواتيم النار. قدر طار عرفها، وطاب غرفها، دهماء تهدر كالفنيق، وتفوح بالمسك الفتيق.
مقدمة الطعام
أفرش طعامك اسم الله، وألحفه حمد الله. كل من الطعام ما حدث. لا يطيب حضور الخوان، إلا مع الإخوان. الأكل منا للحاجة، ومنك للمساعدة. البخل بالطعام، من أخلاق الطغام، الكريم لا يحظر تقديم ما يحضر،
وصف الموائد
مائدة كدارة البدر. مائدة تباعد بين أنفاس الجلاس، مائدة مثل عروس. مائدة نظيفة، محفوفة بكل طريفة. مائدة تشتمل على بدائع المأكولات، وغرائب الطيبات. مائدة كالعروس مجلوة، من الطيبات مملوءة. مائدة قد زخرفت رياضها، وملئت حياضها، فمن قانئ بإزائه فاقع، ومن حالك في تلقائه ناصع. مائدة كأنما عملها صناع صنعاء. مائدة تجمع بين أنوار الربيع، وأثمار الخريف.
وصف الألوان من الأطعمة
رغفان كالبدور المنطقة بالنجوم. أحسن ما يكون وجه الخوان، إذا اخضرت شوارب الرغفان. ترى البقل على وجه الخوان، كما بقلت أوجه الغلمان الحسان. جدي كأنما ندف على جنبه القز. حمل ذهبي الدثار، فضي الشعار. أطيب ما يكون الحمل، إذا حلت الشمس الحمل، حمل خلف شهرين، على الخلفين، ثم رعى شهرين، فهو شبران في شبرين، زير باجة، هي للمائدة ديباجه، تشفي السقام، ولونها السقيم. سكباجة تفيق الشهوة، وأسفيذ باجة تغذين وطباهجة يتفكه بها، وخبيص يختم بخير. مضيرة تثني على الحضارة، وتترجرج في الغضارة، وتؤذن بالسلامة، وتشهد لمعاوية بالإمامة. في قصعة يزل عنها الطرف، ويموج فيها الظرف. طباهجة من شرط الملوك، كأعراف الديوك. قلية كالعود المطرى، مغمومة تفرج غم الجائع. هريسة نفيسة، كأنها خيوط خز مشتبكة. كأنها قمر بالشمس ملتحف. كأن المري عليها عصارة المسك، على سبيكة الفضة. شواء يتقطر عرقا، ويتسايل جردابه مرقا. أرزة ملبونة، في السكر مدفونه. دجاجة مشوية لها من الفضة جسم، ومن الذهب قشر. دجاجة دينارية، ثمناً ولوناً. شواء وشراس وفالوذج رجراج. طباهجة تغذي، وفالوذجة تغذي. أسفيذباجة تصفح قفا الجوع.
في وصف ألوان من الحلواء
فالوذج بلباب البر، ولعاب النحل. كأن اللوز فيه كواكب في سماء عقيق. قطائف، فيها لطائف. عصيدة تجمع بين جنى النحل والنحل. ما الخبيص إلا نعمة مجموعة، ولذة معجونة. تؤدي طعم العافية، وتختم بحسن العاقبة. لوزينج ليلي العمر، يومي النشر، رقيق القشر، كثيف الحشو. لولبي الدهن، كوكبي اللون.
ذكر النهم الأكول
شيطان معدته رجيم، وسلطانه ظلوم، هو آكل من النار، وأشرب من الرمل. كأن في أمعائه معاوية، يأكل أكل الحوت الملتقم، والثعبان الملتهم، الليث الهاصر، والعقاب الكاسر. لو أكل الفيل لما كفاه، ولو شرب النيل لما رواه. يجوب جوب البلاد، حتى يقع على جفنة جواد. يقول بالقصاع، لا بالمصاع، يرى ركوب البريد، في حضور الثريد. أصابعه ألزم للشواء من سفود. أنامله كالشبكة، في صيد السمك. يستكثر من الجوارشات المنقدة للسدد، المقوية للمعد، المشهية للطعام، المسهلة لسبل الانهضام. إذ هو في تناولها كالكاتب الذي يقط أقلامه، والجندي الذي يصقل حسامه. تسافر يده على الخوان، وتسفر بين الألوان، وتأخذ وجوه الرغفان، وترعى أرض الجيران. لما عكفنا على الخوان، أسرع في الرغفان، وكرع في الجفان، وفقأ أعين الألوان.
في وصف مجالس الأنس وآلات اللهو
مجلس نوره در، ونارنجه ذهب، ونرجسه دينار ودرهم، ويحملها زبرجد. عندنا أترج كأنه من خلقك خلق، ومن شمائلك سرق. ونارنج ككرات من سفن ذهبت، أو ثدي أبكار خلقت. مجلس أخذت فيه الأوتار تتجاوب، والأقداح تتناوب. أعلام الأنس خافقة، وألسن الملاهي ناطقة. مجلس قد فرش بساطه وبسط أنماطه، ومد سماطه، بين آس مخضود، وورد منضود، وناي وعود. نحن بين بدور، وكاسات تدور، قد نشأت غمامة الند، على بساط الورد. مجلس قد تفتحت فيه عيون النرجس، وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارات النارنج، ونطقت ألسن العيدان، وقامت خطباء الأوتار، وهبت رياح الأقداح، وطلعت كواكب الندمان، وامتدت سماء الند. مجلس من رآه حسب الجنان قد اصطفيت عيونها فجمعت في قدر من الأرض، وتخيرت فصوصها فنقلت إلى مطلع الأنس واللهو. قد فض اللهو ختامه، ونشر الأنس أعلامه. قد هبت للأنس ريح سحابها الأقداح، ورعودها الأوتار، ورياضها الأقمار. قد فرغنا للهو والدهر عنا في شغل. قد اقتعدنا غارب الأنس، وجرينا في ميدان اللهو. عمدنا لقداح اللهو فأجلناها، ولمراكب السرور فامتطيناها. قد امتطينا غوارب الأفراح، وقد حنا نار السرور بالأقداح.
فيما يتصل به من الألفاظ في الاستزارة
نحن في مجلس قد أبت راحته أن تصفو إلا أن تصافحها يمناك، وأقسم غناؤه لا طاب أو تعيه أذناك، فأما خدود نارنجه فقد احمرت خجلاً لإبطائك وعيون نرجسه فقد حدقت تأميلاً للقائك، فبحياتي عليك إلا تعجلت، وما تمهلت. نحن بغيبتك كعقد قد غيبت واستطه، وشباب قد أخذت جدته. إذا غابت شمس السماء عنا، فلا بد من أن تدنو شمس الأرض منا. وأنت من ينظم به شمل الطرب، وبلقياه يبلغ إلى كل أرب. طر إلينا طيران السهم، واطلع علينا طلوع النجم. ثب إلينا وثبة الغزال، واطلع علينا طلوع الهلال، في غرة شوال. كن إلينا من السهم إلى ممره، والماء إلى مقره. جشم إلينا قدمك، واخلع علينا كرمك. إن رأيت أن تحضرنا لتتصل الواسطة بالعقد، ونحصل بقربك في جنة الخلد. إن رأيت أن تسهم لنا في قربك الذي هو قوت ألنفس، ومادة الأنس.
في الكناية عن الشراب
قد نشط لتناول ما يستمد البشر، ويشرح الصدر. قد استمطر سحاب الأنس، واستدر حلوبة السرور، وقد زند اللهو.
وصف الشراب
شراب أصفى من مودتي لك، وأحسن من نعمة الله فيك، وأطيب من إسعاف الزمان بلقائك. أصفى من البلور، ودمع الجمهور. أصفى من ماء السماء، ودمع العاشقة المر هاء. أحسن من الدنيا المقبلة، والنعم المكملة. أحسن من العافية في البدن، وأطيب من الحياة في السرور. أرق من نسيم الصبا، وعهد الصبى. أرق من دمع محب، وشكوى صب. أرق من دموع العشاق، مرتها لوعة الفراق.
في تأثيره في القوم
دبت الكأس فيهم دبيب النار في الفحم، والبرء في السقم. سارت فيهم سورة الكؤوس، ونالت منهم نشوة الخندريس. شربت الراح عقولهم، وملكت قلوبهم. تمشت الصهباء في عظامهم، وترقت إلى هامهم، وماست في أعطافهم، ومالت بأطرافهم. بلغ حداً، يوجب الحد.
فقر وغرر تليق بهذا الباب
الصاحي بين السكرى، كالحي بين الموتى، يضحك من عقلهم، ويأكل من نقلهم.
ذكر الغناء والمغني
غناؤه كالغنى بعد الفقر. غناء يبسط أسرة الوجه، ويرفع حجاب الأذن، ويأخذ بمجامع القلب، ويمتزج بأجزاء النفس. غناء يحرك النفوس، ويرقص الرؤوس. قد سمعنا غناء، يعيد الأموات أحياء، إذا غنى ودت أعضاء السامعين أن تكون آذانا. فلان طبيب القلوب والأسماع، محيي موات الخواطر والطباع. يطعم الآذان سرورا، ويقدح في القلوب نورا. القلوب من غنائه على خطر، فكيف الجيوب. كأنه خلق من كل نفس فهو يغني كلا بما يشتهيه. كل ما يغنيه مفتوح. لغنائه في القلب، موقع القطر في الجدب. نعمه نغمته تطرب، وضروب ضربه لا تضطرب.
في ذم المغني
يترنم فيتعب ولا يطرب، وليتنا وجدنا الكفاف ولكن يكرب. فلان إذا غنى عني، وإذا أدى آذى، يميت الطري، ويحي الكرب. ضربة يوجب ضربه، وسماعه يوجب الإسماع به. من عجائب غنائه أن يورد الشتاء في الضيف. بيت وسى كذا بارد النغمة مختل اليدين. ما رآه أحد في دار قوم مرتين.
في استهداء الشراب
قد تألف لي شمل إخوان كاد أن يفترق لعوز المشروب، فاعتمدنا فضلك المعهود، ووردنا بحرك المورود. أنا ومن سامحني الدهر بزيارته من إخواني وأوليائك وقوف بحيث يقف بنا اختيارك من النشاط أو الفتور، ويرتضيه لنا إيثارك من الهم أو السرور، لأن الأمر في ذلك إليك، والاعتماد في جمع شمل المسرة عليك، فإن رأيت أن تكلني إلى أولى الظنين بك فعلت. ألطف المنن موقعا، وأجلها في النفوس موضعا. ما عمر أوطان المسرة، وطرد عوارض الهم والفكرة، وجمع شمل المودة والألفة. قد انتظمت مع رفقة لي في سمط الثريا، فإن لم يحفظ علينا النظام، بإهداء المرام، عدنا كبنات نعش والسلام. فرأيك في إرواء غلتنا بما ينقعها، والتطول على جماعتنا بما يجمعها.
كتاب وصف النظم والنثر
وأصحابهما وآلاتهما وأدواتهما
وصف حسن الخط
خط يجري مجرى السحر، ويرتفع حسنه عن النعت. رأيت من خطه يواقيت في نظام، وصفحات نور عليها سطور ظلام. خط أحسن من عطفة الأصداغ، وبلاغة كالأمل آذن بالبلاغ. خط كأنه صبح منقش بظلام، كأنه ليل على صفحات نور، كأنه حديقة الأحداق. خط كالروض الممطور، والوشي المنشور، والدر المنثور. خط كما يفتح الزهر غب المطر، كأنه خطوط الغوالي، في خدود الغواني. خط أملح من بنفسج الخط، وأحسن من الدر في السمط. خط أخذ من الطواويس ظهورها، ومن البزاة صدورها. خط كالتبر المسبوك، والوشي المحوك. خط أملح من صولجان المسك، في ميدان الورد، أحسن من بدور الغرر، في ليالي الطرر، فلان يغرس الدر في أرض القراطيس، وينشر عليها أجنحة الطواويس. كأن يده تنشر وشيا، أو تنظم درا. كأنه مطرز بالظلام رداء الصباح. خط كأن القلب يشعر منه نورا، والعين تجني نورا. خط يبهر الطرف، ويفوت الوصف. خط كالرياض، والمقل المراض، والإقبال بعد الإعراض. أمتعت طرفي ما شئت بمحاسن خطه ولفظه، وأخذت منهما بأوفر قسط المستفيد وحظه. تحيرت بين ظلام وصباح، وعقد ووشاح. خطه خطة الحسن.
في سرعة الكتابة
يده ضرة البرق، وقلمه فلكي الجري. يده ظئر البلاغة، وأم الكتابة، وضرة الريح، وينبوع الفضل. كأن يده على القرطاس جناح طائر في سراب مائر. فلان أنامله الرياح، وخواطره البحار. فلان سريع البنان، بديع البيان. لا يحبس عنان قلمه، أو ينثر الدر في كلمه. قلمه يهيم على وجهه، غادراً رأسه في درجه. أخف من حسوة طائر، ولمعة بارق، وخلسة سارق.
وصف النثر بما يشتمل عليه من الألفاظ والمعاني
ألفاظ كغمزات الألحاظ، ومعان كأنها فك عان. ألفاظ كما نورت الأشجار، ومعان كما تنفست الأسحار. ألفاظ قد استعارت حلاوة العتاب، بين الأحباب، واسترقت تشاكي العشاق، يوم الفراق. حسبت ألفاظه در السحاب، أو أصفى قطراً وديمة، ومعانيه در السحاب، بل أوفى قدراً وقيمة. كلام قريب شاسع، ومطمع مانع. كالشمس تقرب ضياء، وتبعد علاء، وكالماء يرخص موجودا، ويغلو مفقودا. كلام يصعب على التعاطي، ويسهل على الفطنة. كلام لا تمجه الآذان، ولا يبليه الزمان. ألفاظ كالبشرى مسموعة، وأزاهير الرياض مجموعة، ومعان كأنفاس الرياح، تعبق بالريحان والراح. كلام مستهل متسلسل كالمدام بماء الغمام، يقرب إذنه على الأفهام. ملح كنوافذ السحر، وفقر كالغنى بعد الفقر. كلام كبرد الشرراب، على أكباد الحرار، وبرد الشباب، في خلع العذار. كلام كثير العيون، سلس المتون رقيق الحواشي، سلس النواحي. كلام هو السحر الحلال، والماء الزلال، والبرود والحبر، والأمثال والعبر، والنعيم الحاضر، والشباب الناضر. نظرت منه إلى صورة الظرف بحتا، وسورة البلاغة سبكاً نحتا. ألفاظ هي خدع الدهر وعقد السحر. ألفاظ تسر المخزون، وتسهل الحزون، وتعطل الدر المخزون. كلام بعيد من الكلف، نقي من الكلف. كلام كما تنفس السحر عن نسيمه، وتبسم الدر عن نظيمه. ألفاظ تأنق الخاطر في تذهيبها، ومعان عني الطبع بتهذيبها. ألفاظ حسبتها في رقتها منسوخة من صحيفة الصبى، وظننتها لسلامتها مكتوبة عن إملاء الهوى. كلام كالبشرى بالولد الكريم، قرع بها سمع الشيخ العقيم. كلام قرب حتى أطمع، وبعد حتى امتنع، ودنا حتى صار قاب قوسين أو أدنى، ثم سما حتى صار بالمنظر الأعلى. كلام حسن الديباجة، صافي الزجاجة، رقيق المزاج، حلو المساغ، نقي السمك، مقبول اللفظ، قرأت جليا، حوى معنى خفيا، وكلاماً قريباً، رمى غرضاً بعيداً. لو أن كلاماً أذيب به صخر، أو أطفئ به جمر، أو عوفي به مريض، أو جبر به مهيض، لكان هذا. كلامه يقود سامعيه إلى السجود، ويجري في القلوب كجري الماء في العود. فلان ألفاظه أنوار، ومعانيه ثمار. كلامه أنس المقيم الحاضر، وزاد الراحل المسافر. كلام تسعى إليه الفور، وينتفض إليه العصفور. كلام يقضي حق البيان، ويملك رق الحسن والإحسان. كلام منه يجتنى الدر، وبه يعقد السحر، وعنده يعتب الدهر، وله يشرح الصدر. كلام يقرب جناه، ويبعد مداه، ويؤنس مسمعه، ويؤنس مصنعه.
ذكر البلاغة والبلغاء
ليست البلاغة أن يطال عنان القلم أو سنانه، ويبسط رهان القول أو ميدانه، بل هو أن يبلغ أمد المراد، بألفاظ أعيان ومعان أفراد، من حيث لا مزيد على الحاجة، ولا إخلال يفضي إلى الفاقة. البلاغة ميدان لا يقطع إلا بسوابق الأذهان، ولا يسلك إلا ببصائر البيان. فلان يعبث بالكلام، ويقوده بألين زمام، حتى كأن الألفاظ تتحاسد في التسابق إلى خواطره، والمعاني تتغاير في الانثيال على أنامله. فلان مشرفي المشرق، وصيرفي المنطق، البيان أصغر صفاته، والبلاغة عفو خطراته. كأنه أوحي بالتوفيق إلى صدره، وحبس الصواب بين طبعه وفكره. فلان يحز مفاصل الكلام، ويسبق فيها إلى درك المرام، كأنما جمع الكلام حوله حتى انتقى منه وانتخب، وتناول منه ما طلب، وترك بعد ذلك أذناباً لا رؤوساً، وأجساداً لا نفوساً. فلان لا يبلغ المعنى ويرضى بعفو الطبع، ويقنع بما يخف على السمع. يوجز فلا يخل، ويطنب فلا يمل. لله فلان أخذ بأزمة القول يقودها كيف أراد ويجذبها أنى شاء، فلا يعصيه بين الصعب والذلول، ولا يسلمه عند الحزون والسهول. كلام يشتد مرة حتى تقول الصخر الأملس، ويلين تارة حتى تقول الماء أو أسلس. يقول، فيصول، ويجيب، فيصيب، ويكتب فيطبق المفصل؛ وينسق الدر المفصل. يرد مشارع الكلام وهي صافية لم تطرق، وجامة لم ترنق.
في سرعة الخاطر ونفاذ الطبع
خاطرة البرق أو أسرع لمعا، والسيف أو أحد قطعا، والماء أو أسلس جريا، والفلك أو أقوم هديا. هو من يسهل الكلام على لفظه، وتتزاحم المعاني على طبعه، فيتناول المرمى البعيد بقريب سعي، ويستنبط المشروع العميق بيسير جري. كلامه عفو اللسان، وفيض اليد، ومساوقة القلم، ومسابقة اليد للفم، وجمرات الجدة، وثمرات المدة، ومجاراة الخاطر للناظر، ومباراة الطبع للسمع.
زلاقة اللسان والفصاحة
لسانه يغيض البحور. ويفلق الصخور. ويسمع الصم، ويستنزل العصم. خطيب لا تناله حبسة، ولا ترتهنه لكنة، ولا تتمشى في خطابه رتة، ولا تتسلط على حواره فترة، ولا يتحيف بيانة عجمة، ولا تعترض لسانه عقدة. فلان رقيق الأسلة، عذب العذبة. لو وضع لسانه على الشعر حلقه، أو على الصخر فلقه، أو على الجمر أحرقه، أو على الصفا خرقه. أما ترى فلاناً ولسنه? وكيف يجر في الفصاحة رسنه. كأن لسانه ثعبان ينساب بين رمال، أو ماء يتغلغل بين جبال. كأن لسانه مخراق لاعب، أو غرار سيف قاضب. قد أحسن السفارة، واستوفى العبارة، وأدى الألفاظ واستغرق الاغراض، وأصاب شواكل المراد، وطبق مفاصل السداد. لسانه كلسان ابن الحمرة، أو سنان عنترة.
ذكر الاطناب
بسط عنان الخطاب، ومد أطناب الإطناب، وطلب الأمد في الإسهاب. قال حتى قال الكلام لو أعفيت، وكتب حتى قالت الأقلام قد أحفيت. قد أتسع به مشرع الإطناب، وانفرج مسلك الإسهاب، أرسل لسانه في ميدانه، وأرخى من عنانه. نفض ما في رأسه، وفرغ جعبة وسواسه. تصرفت في كذا فأطلت وأطبت، وقلت فأطنبت. قال فأطال، وجال في بسط المقال كل مجال. إذا اسحنفر في الكلام طفح آذيه، وسال أتيه، انثال عليه الكلام، انثيال الغمام، واستجاب له الخطاب، ولا صوب الرباب.
وصف النثر والنظم معاً
نثر كنثر الورد، ونظم كنظم العقد. نثر كالسحر أو أدق، ونظم كالماء أو أرق. رسالة كالروضة الأنيقة، وقصيدة كالمخدرة الرشيقة. رسالة تقطر ظرفاً، وقصيدة تمزج بها الراح لطفاً. نثره سحر البيان، ونظمه قطع الجنان. نثر كما تفتح الزهر، ونظم كما تنفس السحر. نثر ترق نواحيه وحواشيه، ونظم تسحر ألفاظه ومعانيه. نثر كالحديقة تفتحت أحداق وردها، ونظم كالخريدة توردت أشجار نهدها. رسالة تضحك عن زهر وغرر، وقصيدة تنطوي على حبر ودرر، لم ترض في برك بأخوات النثرة من نثرك، حتى وصلتها ببنات الشعرى من شعرك. كلام كما هب نسيم السحر على صفحات الزهر، ولذ طعم الكرى بعد برح السهر، وشعر في نفسه شاعر، توسم به المواسم والمشاعر. كلام أنسى حلاوة الأولاد بحلاوته، وطلاوة الربيع بطلاوته، شعر من حلة الشباب مسروق، ومن طينة الوصال مخلوق.
وصف لشعر
قصيدة في فنها فريدة. قصيدة أخلصت على قصد، وفريدة أتت من فرد. هي صوب العقول، تغبر في نواصي الفحول. عروس كستها القوافي، وحلتها المعاني. شعر يترقرق فيه ماء الطبع، ويرتفع له حجاب القلب والسمع. شعر ملكني العجب به، وبهرني التعجب منه. شعر لا مزية الإيجاز أخطأته، ولا فضيلة الإعجاز تخطته. شعر رويته، لما رأيته، وحفظته، لما لحظته. أبيات لو جعلت خلعة على الزمان لتحلى بها مكاثراً، أو تجلى فيها مفاخراً. راقني الشعر حتى شاقني، فإنه مع قرب لفظه بعيد المرام، مستمر النظام. قوي الأسر، صافي النحر. قد ألبس من البداوة فصاحتها، وغشى من الحضارة سجاحتها، فإن شئت قلت عبيد ولبيد، وإن شئت قلت حبيب ووليد. شعر يختلط بأجزاء النفس لنفاسته، ويكاد يعين كاتبه من سلاسته. قصيدته تجتنى بالأفكار، ونقل يتناول بالأسماع والأبصار، ونقل العلم والأدب، ألذ من نقل المأكل والمشرب. وفاكهة الكلام، أطيب من فاكهة الطعام. نظم كنظم الجمان، وروض الجنان، وأمن الفؤاد، وطيب الرقاد. لم أر غيرها بكراً استوفت أقسام الحنكة، واستكملت أحكام الدربه، فعليها رونق الشباب، ولها قوة المذكيات الصلاب. روح الشعر، وتاج الدهر. مقدمة عساكر السحر. كل بيت شعر، خير من بيت تبر. شعر يحكم له بالإعجاز والتبريز، ويشبه في صفاء سبكه بالذهب الإبريز. شعر تأتلف القلوب على درره ائتلافا، وتصير الآذان لها أصدافا.
وصف الشعراء
لله دره ما أحلى شعره، وأنقى دره، وأصفى قطره، وأعجب أمره. قد أخذ برقاب القوافي، وملك رق المعاني. فضله برهان حق، وشعره لسان صدق. أجمع أهل جلدته، على أنه معجز بلدته. فلان يغرب، بما يجلب، ويدع بما يبضع. حسن السبك، محكم الرصف، بديع الوصف. مرغوب في شعره، متنافس في سحره. فلان ضارب في قول الشعر بأعلى السهام، آخذ من عيون الفضل بأوفى الأقسام. ماء أشعار وطيتها، وكنز القوافي ومدينتها. شعاره، أشعاره، ودابه، آدابه. فلان ممن يبتده فيبتدع. فلان يجمع بين الإسراع، والإبداع. طبعه يمل عليه، ما لا يمل الاستماع إليه. قريحة غير قريحة، وطبع غير طبع، وخيم غير وخيم. لبيد عنده بليد، وعبيد وأقرانه له عبيد. الفرزدق عنده أقل من فرزدقة خمير، وجرير، يقاد إليه بجرير. قد نسج حللاً لا يلي جدتها الجديدان، ولا تزداد حسناً إلا على مرور الزمان.
في نعت الشعر السائر
نظمه قد نظم حاشيتي البر والبحر، وناحيتي الشرق والغرب. أشعاره قد وردت المياه، وركبت الأفواه، وسارت في البلاد، ولم تسر بزاد، وطارت في الآفاق، ولم تمش على ساق. شعره أسير من الأمثال، وأسرى من الخيال. سار مسير الرياح، وطار بغير جناح. أشعار سارت مسير الشمس وهبت هبوب الريح، فطبقت تخوم الأرض، وانتظمت الشرق إلى الغرب. قد كادت الأيام تنشدها، والليالي تحفظها والجن تدرسها، والطير تتغنى بها.
في ذكر شعر الأكابر والملوك
قرأت الأبيات التي أسفر عنها طبع المجد فعلمت كيف يتكسر الزهر على صفحات الحدائق، وكيف يغرس الدر في رياض المهارق. شعر قد احتبس جريه على فكره، ووقف كيف شاء عند أمره. شعر يعلق في كعبة المجد، ويتوج به مفرق الدهر. جاءت القصيدة ومعها غرة الملك، وعليها رواء الصدق، وفيها سيما العلم، وعندها لسان المجد، ولها صيال الحق، لا غرو إذا فاض بحر العلم على لسان الشعر أن ينتج ما لا عين وقعت على مثله، ولا أذن سمعت بشبهه. شعر يكتب في غرة الدهر، ويشدخ في جبهتي الشمس والبدر.
وصف الكتب البليغة الغزيرة وحسن موقعها
كتاب كتب لي أماناً من الدهر، وهناني أيام العمر. كتاب أوجب من الاعتداد، أوفر الأعداد، وأودع بياض الوداد، سواد الفؤاد. كتاب الظفر به نعيم، والنظر فيه فتح عظيم. كتاب ارتحت لعيانه، واهتززت لعنوانه. كتاب هو من كتب الميامين، التي تأتي من قبل اليمين. كتاب عددته من حجول العمر وغرره، واعتددته من فرص العيش وغرره. كتاب آنس مسموعاً وملحوظاً، وكاد مودعه يكون مدروساً ومحفوظاً. كتاب هو أنفس طالع، وأكرم متطلع، وأحسن واقع. كتاب لو قرئ على الحجارة لانفجرت، أو على الكواكب لانتثرت. كتاب كدت أبليه طياً ونشرا، وقبلته ألفاً ويد حامله عشرا. كتاب نسيت لحسنه الروض والزهر، وغفرت للزمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر. كتاب قد أملته مزية المجد على بنانك، ونطق به لسان الفضل على لسانك، أما النقط على كل حرف نذيرة أناملك بحقه، وآخذ من كل سطر تتجشم تخطيطه نزهة. كذا إذا قرأت من خطك حرفا، وجدت على قلبي خفا، وإذا تأملت من كلامك لفظا، ازددت من أنسي حظا.
تشبيهات هذه الكتب
كتاب كتب لي أماناً من الزمان، وتوقيع وقع عندي موقع الماء من العطشان. كتاب هو تعلة المسافر، وأنسة المستوحش، وزبدة الوصال، وعقلة المستوفز. كتاب هو رقية القلب السليم، وغرة العيش البهيم. كتاب هو سمر بلا سهر، وصفو بلا كدر. كتاب تمتعت منه بالنعيم الأبيض، والعيش الأخضر، واستلمته استلام الحجر الأسود، وكلت طرفي من سطوره بوشي مهلل، وتاج مكلل، وأودعت سمعي من بدائعه ما أنساني سماع الأغاني، من مطربات الغواني. نشأت سحابة من روضك غيمها نعمة سابغة، وغيثها حكمة بالغة. سقت روضة القلب، وقد جهدتها يد الجدب، فاهتزت وربت، واكتست مما اكتسبت. كتاب حسبته ساقطاً إلي من السماء اهتزازاً لمطلعه، وابتهاجاً بحسن موقعه. تناولته كما يتناول الكتاب المرقوم، وفضضته كما يفض الرحيق المختوم. كتاب كالمشرق شرق به المسير وقميص يوسف جاء به البشير. هو في الحسن روضة حزن، بل جنة عدن، وفي شرح النفس، وبسط الأنس، برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب. وقد أهديت إلي محاسن الدنيا مجموعة في ورقه، ومباهج الحلل والحلي محصورة في طبقه. كتاب ألصقته بالقلب والكبد، وشممته شم الولد. ورد منه المسك ذكيا، والزهر جنيا، والماء مريا، والعيش هنيا، والسحر بابليا. كتاب مطلعه مطلع أهلة الأعياد، وموقعه موقع نيل المراد.
وصف قصر الكتب
كتاب وجدته قصير العمر، كليالي الوصل بعد الهجر. لم أبدأ به حتى استكمل، وقارب الآخر الأول. كتاب منتقص الأطراف، متقطع الأكناف، أبتر الجوارح، مضطرب الجوانح. كأنه تعريض متحرز، أو توقيع مبرز. كتاب يلتقي طرفاه، ويتقارب مفتتحه ومنتهاه. كتاب اتفق طرفاه صغرا، واجتمعت حاشيتاه قصرا، ما أظنني ابتدأته، حتى ختمته، ولا افتتحته حتى استتمته، ولا لمحته، حتى استوفيته، ولا نشرته، حتى طويته، وأحسبني لو لم أجود ضبطه ولم ألزم يدي حفظه لطار حتى يختلط بالجو فلا أرى منه إلا هباء منثورا، وهواء منشورا. كتاب حسبته يطير من يدي لخفته، ويلطف عن حسي لقلته. عجبت كيف لم تحتمله الرياح قبل وصوله إلي، وكيف لم يختلط بالهواء عند حصوله لدي. كتاب قص الاقتصار أجنحته فلم يدع قوادم ولا خوافي، وأخذ الاختصار جدته فلم يبق ألفاظاً ولا معاني، كتابك كإيماء بطرف، أو وحي بكف، لم أفتتحه حتى استوفيته ولا نشرته حتى طويته.
في ذم الخط والقلم
خطه مضطرب الحروف، متضاعف الضعف والتحريف. خط ممجمج، ولفظ ملجلج. خط سقيم، وخاطر عقيم. خط مجنون، لا يدري ألف أم نون، وسطور، فيها شطور. خط يقذي العين، ويشجي الصدر. خط منحط، كأرجل البط، على الشط، وأنامل السرطان، على الحيطان، قلمه لا يستجيب بريه، والمداد لا يساعد جريه. قلم كالولد العاق والأخ المشاق إذا أدرته استطال، وإذا قومه مال، وإذا بعثته وقف، وإذا وقفته انحرف. قلم أحدل الشق، مضطرب الشق. متفاوت البري، معدوم الجري. محرف القط، مثبج الخط. قلم لم يقلم ظفره فهو يخدش القرطاس، وينفش الأنفاس، ويأخذ بالأنفاس. فلم لا ينبعث إذا بعثته، ولا يقف إن وقفته. قد وقف اضطراب بريه، دون استمرار جريه، واقتطع تفاوت قطه، عن تجويد خطه.
في ذم الكلام
كلام تنبو عن قبوله الطباع، وتتجافى عن استماعه الأسماع. ألفاظ تنبو عنها الآذان فتمجها، وتنكرها الطباع فتزجها. كلام لا يرفع السمع له حجاباً، ولا يفتح القلب لوفده باباً. كلام يصدي الريان، ويصدئ الأذهان. كلام قد تعمل فيه حتى تبدل، وتكلف، حتى تعسف. طبع جاسي، ولفظ قاسي. لا مساغ له في سمع، ولا وصول له مع خلو ذرع. كلام لا الروية فيه ضربت بسهم، ولا الفكرة أجالت فيه بقدح، كلام تتعثر الأسماع من حزونته، وتتحير الأفهام في وعورته. كلمات ضعيفة الاتفاق، قليلة الأعيان، مضمحلة على الأمتحان. ألفاظ تستعار من الرباجي، ومعان تقد من الأثافي. كلام كأنه ثمر قطف قبل أوانه، وشراب نزل دنه قبل إبانه. كلام بمثله يتسلى الأخرس عن بكمه، ويفرح الأصم بصممه. بمثل ذلك الكلام رزق الصمت المحبة، وأعطي الإنصات الفضيلة. كلام أملس المتون. قليل العيون. أثقل من الجندل، وأمر من الحنظل. لفظ أخلاط، فلا يدركه استنباط، ولا يفسره بقراط. لفظه هذيان المحموم، وسوداء المهموم. كلام رث ومعنى غث. لا طائل فيهما، ولا حلاوة عليهما.
في ذم الكاتب
الخرس أحسن من كلامه، والعي أبلغ من بيانه. خاطره ينبو، وقلمه يكبو، يسهو ويغلط، ويخطي ويسقط. هو في الأدب، دعي النسب، ضيق المضطرب، سيء المنقلب. قصير باع الكتابة، قاصر سعي البلاغة. كتبه مضطربة الألفاظ، متفاوتة الأبعاض، منتشرة الأوضاع، متباينة الاغراض. الجلم، أولى بكفه من القلم، والطاس، أليق بها من القرطاس.
في الشاعر والشعر
أبيات ليست من محكم الشعر وحكمه، ولا من أحرار الكلام وغرره. شعر لا حلاوة فيه ولا طلاوة. شعر ضعيف الصنعه، رديء الصيغة، بغيض الصبغة. قد جمع بين إقواء وإبطاء، وإخطاء وإبطاء. ما قطع شعرة، ولا سقى قطرة. لو شعر بالنقيض ما شعر. فلان لا يميز بين خبيث القول وطيبه، ولا يفرق بين بكره وثيبه. فلان منقاد لساذج الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله. شاعر بارد العبارة، ثقيل الاستعارة، بغيض الإشارة. هو من بين الشعراء، منبوذ بالعراء. لم يلبس شعره حلة الحلاوة. شعر لا يطيب درسه، ولا يخف سرده.
?أوصاف أدوات الكتاب وآلات الكتاب الدواة من أنفع الأدوات. هي للكتابة عتاد، وللخاطر زناد. غدير لا يرده غير الأفهام، ولا يمتح بغير أرشية الأقلام. أنيقة الصبغة. رشيقة الصيغة. مسكية الجلدة، كافورية الحلية. غدير تفيض ينابيع الحكمة من أقطاره، وتنشأ سحب البلاغة من قراره. دواة تداوي مرض عفاتك، وتدوي قلوب عداتك، على مرفع يؤذن بدوام رفعتك، وارتفاع النوائب عن ساحتك.
في نعت المداد
مداد كسواد العين، وسويداء القلب. مداد كجناح الغداف ولعاب الليل، وألوان دهم الخيل. مداد ناسب خافية الغراب، واستعار لونه شعر الشباب. مداد هو أبهى لدي من ألف فرس بهيم، وأشهى إلي من ملك الأقاليم.
في نعت القلم
أقلام جمة المحاسن، بعيدة عن المطاعن. تعاصي الكاسر المعاصر، فتمانع الغامز القاصر. صلبة المعاجم، لدنة المقاطع. أنابيب ناسبت رماح الخط في أجناسها، وساكنت أسود الغيل في أخياسها، وشاكلت الذهب في ألوانها، وضاهت الحرير في لمعانها، كأنها الأميال استواء، والآجال مضاء. بطية الحفى، قوية القوى. لا يشظيها القط، ولا يتشعت بها الخط. أقلام ثجرية موشية الليط، رائقة التخطيط، كل معتدل الكعوب، قوي الأنبوب. باسق الفروع، روي الينبوع. هو أولى باليد من البنان، وآنس بخفي السر من اللسان. هو للأنامل مطية، وعلى الكتابة معونة مرضية. نعم النجدة القلم. يقلم أظافير الدهر، فيملك الأقاليم بالنهي والأمر. إن أردت كان مسجوناً لا يمل الإسار، وإن شئت كان جواداً لا يعرف العثار. لا ينبو إذا نبت الصفاح، ولا يحجم إذا أحجمت اللقاح. القلم مطية تمشي براكبها رهوا، وتكسو الأنامل زهوا.
في نعت السكين
سكين كأن القدر سائقها، والأجل سابقها. مرهفة الصدر، مخطفة الخصر. يجول عليها فرند العتق، ويترقرق فيها ماء الجوهر. كأن المنية تبرق من حدها، والأجل يلمع في متنها. ركبت على نصاب أبنوس، كأن الحدق نفضت عليه صبغها، وحب القلوب كسته لباسها. أخذ لها حديدها الناصع بحظ من الروم، وضرب لها نصابها الحالك بسهم من الزنج. فكأنها ليل من تحت نهار، أو فحم أبدى سنا نار، ذات غرار ماض، وذباب قاض، ومنسر بازي، وجوهر هوائي، ونصاب زنجي، إن أرضيت ولت متناً كالدهان، وإن أسخطت اتقت بناب الأفعوان. سكين أحسن من التلاق، وأقطع من الفراق. تفعل فعل الأعداء، وتنفع نفع الأصدقاء. هي أمضى من القضاء المبرم، وأنفذ من القدر المتاح، وأقطع من ظبة الحسام، وألمع من البرق في الغمام. جمعت حسن المنظر، وكرم المخبر، فتملكت عنان القلب والبصر، ولم يحوجها عتق الجوهر، إلى إمهاء الحجر.
كتاب الممادح والأثنية
وما يجري مجراها، ويأخذ مأخذها
المدح بشرف الأصل وكرم النسب
فلان من سر العنصر الكريم، ومعدن الشرف الصميم. أصل راسخ، وفرع شامخ، ومجد باذخ، وحسب شادخ. طيب العنصر والمركب، كريم المنصب والمنتسب. فلان كريم الطرفين، شريف الجانبين. قد ركب الله دوحته في قرارة المجد، وغرس نبعته في محل الفضل. أصل شريف، وعرق كريم، ومغرس عظيم، ومغرز صميم. المجد لسان أوصافه، والشرف نسب أسلافه. نسب فخم، وشرف ضخم. يستوفي شرف الأرومة، بكرم الأبوة والأمومة. ما أتته المحاسن عن كلالة، ولا ظفر بالهدى عن ضلالة، بل تناول المجد كابراً عن كابر، وأخذ الفخر بين أسرة ومنابر، واكتسب الشرف على الأصاغر والأكابر.
ما يختص من ذلك بأبناء النبوة
استقى عرقه من منبع النبوة، ورضعت شجرته من ثدي الرسالة، وتهدلت أغصانه عن نبعة الإمامة، وتبحبحت أطرافه في عرصة الشرف والسيادة، وتفقأت بيضته عن سلالة الطهارة. قد جذب القرآن بضبعه، وشق الوحي عن بصره وسمعه، مختار من أكرم المناسب. منتخب من أشرف العناصر. مرتضى من أعلى المحاتد. مؤثر من أعظم العشائر. قد ورث جامعاً عن جامع، وشهد له نداء الصوامع. هو من مضر في سويداء قلبها، ومن هاشم في سواد طرفها، ومن الرسالة في مهبط وحيها، ومن الإمامة في موقف عزها.
في المدح يجمع بين شرفي الأصل والنفس وفضلي الإنتساب والإكتساب
فلان ينزع إلى المحامد بنفس وعرق، ويحن إلى المكارم بوراثة وخلق، يتناسب أصله وفرعه، ويتناصف نجره وطبعه. هو الطيب أصله وفرعه، الزكي بذره وزرعة يجمع إلى عز النصاب، مزية الآداب. لا غرو أن يجري الجواد على عرقه، وتلوح مخايل الليث في شبله، ويكون النحيب فرعاً مشيداً لأصله، له مع نباهة شرفه نزاهة ظلفه، ومع كرم أرومته وجذمه، مزية أدبه وعلمه. لن تخلف ثمرة غرس ارتيد له من المنابت أزكاها، ومن المغارس أطيبها وأغذاها، عصبة خيرة فضلها زاهر وشرفها على شرف النماء. وشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. قد جمع شرف الأخلاق، إلى شرف الأعراق، وكرم الآداب، إلى كرم الأنساب. له في المجد أول وآخر، وفي الفضل قديم وحديث، وفي الكرم تليد وطريف. ليس كل من شرف عرقه، شرف خلقه. ولا كل عود طاب منجمه، طاب معجمه. ولا غرو أن يغمر فضله وهو نجل الصيد الأكارم، أو يغزر علمه وهو فيض البحور الخضارم. دوحة ضرب عرقها وسمق فرعها، وطاب عودها، واعتدل عمودها، وتفيأت ظلالها، وتهدلت ثمارها، وتفرعت أغصانها، وبرد مقيلها.
المجد والشرف والعلى
مجد يلحظ الجوزاء من عال، ويطول النجوم كل مطال. شرف تضع له الأفلاك خدودها وجباهها، وتلثم النجوم أرضه أفواهها وشفاهها. نسب المجد به عريق، وروض الشرف به أنيق، ولسان الثناء بفضله نطوق. مجد يشير إليه النجم الثاقب، وشرف تحفظ طرفيه المناقب. فلك المجد عليه يدور، ويد العلى إليه تشير، يأنس ربع المجد إذا استوحش من استيلاء النقص، ويسكن إليه جأش الفضل. سما من المجد إلى رواسي الأعلام، حين رضي بمواطئ الأقدام، محله سامق، ومجده باسق، وشرفه نجم طارق.
الجود والكرم
فلان رفيق الجود وخليله، وزميل الكرم ونزيله، غرة الدهر وتحجيله، مواهبه الأنواء، وصدره الدهناء. بحر لا يظمأ وارده، ولا يمنع بارده. غوثه موقوف على اللهيف، وعونه مبذول للضعيف. يطغى جوده على وجوده، وهمته على قدرته. يوجب الصلات، كوجوب الصلاة. بابه غير مرتج، لكل مرتج. ينابيع الجود تتفجر من أنامله، وربيع السماح يضحك عن فواضله. هو أوحد في الكرم، وغرة في وجه العالم. هو الكرم أنشيء نفسا، والفضل تمثل شخصا. لو أن البحر مدده، والسحاب يده، والجبال ذهبه، لقصرت عما يهبه. إن طلبت كريماً في جوده، مت قبل وجوده، أو ماجداً في أخلاقه. مت ولم ألاقه، صدره بحر ووعده نذر، قد حكم الآمال في أمواله، واستعبد الأحرار بفعاله. يهتز عند المكارم كالغصن، ويثبت عند الشدائد كالركن. يد حاتم كبنانه من شماله. لا يبلغ كعب في الجود كعبه. له في كل مكرمة غرة الأوضاح، وقادمة الجناح. كريم ملء لباسه، موفق مر أنفاسه. صدره تضيق عنه الدهناء، وتفزع إليه الدهماء. لا مكارم إلا ما صدر عن خلائقه، ولا مناجح إلا ما شيم من بوارقه. غمائم كرمه تفيض، ومآثر جوده تستفيض. يرى تحمل المغارم، من أعظم المغانم. مخلوق من طينة كريمة، ومجبول على أحسن شيمة. خوار العنان في ميدان المكارم.
الجمال وحسن الصورة
قمري التصوير، شمسي التأثير. خلقة سوية صحيحة، وصورة مقبولة صبيحة. منظر يملأ العين، ويملك النفوس. منظر ما أحوجه إلى عيب يصرف عين كماله، عن جماله. طلعة يطلع منها النيران، ويسجد لها الثقلان. مبرقع الغرة بالجمال، مسفر الطلعة بتباشير الإقبال. للعيون في محاسن وجهه مرتع، وللأرواح بها مستمتع. خلق وضي وخلق رضي، وفضل مضي.
البشر والبشاشة
طلعة عليها للبشاشة ديباجة خسروانية، وفيها للطلاقة روضة ربيعية. غرة يجول فيها ماء الكرم، وتقرأ منها صحيفة حسن الشيم. وجه كأن بشرته قشر البشر، ومواجهته أمان من الدهر. فلان يصل ببشره، قبل أن يصل ببره، ويحيي القلوب بلقائه، قبل أن يميت الفقر بعطائه. شمت من وجهه بارقة المجد، ورأيت في بشره تباشير النجح. قد لحظت من وجهه الأنوار، ومن بنانه الأنواء. أنا من كرم عشرته، وطلاقة أسرته، في روضة وغدير، بل في جنة وحرير.
العلم والأدب
هو بحر من العلم ممدود بسبعة أبحر، ويومه في الأدب كعمر سبعة أنسر. العلم حشو ثيابه، والأدب ملء إهابه، هو شخص الأدب ماثلا، ولسان العلم قائلا. شجرة فضل عودها أدب، وأغصانها علم، وثمرتها عقل، وعروقها شرف. تسقيها سماء الحرية، وتغذيها أرض المروة. هم ملح الأرض إذا فسدت، وعمارة الدنيا إذا خربت، ومعرض الأنام إذا احتشدت. هم جمال الأيام، وخواص الأنام، وفرسان الكلام، وفلاسفة الإسلام. فلان غصن طبعة نضير، وليس له بحمد الله نظير. قد جمع الحفظ الغزير، والفهم الصحيح، والأدب القوي القويم. ما يؤنسه عن الوحشة إلا الدفاتر، ولا تصحبه في الوحدة إلا المحابر. همه مهرة فكرة يستفيدها، وشرود من الكلم يصيدها، فلان يحل دقائق الأشكال، ويزيل معترض الإشكال.
حسن الخلق
خلق لو مزج به البحر لنفى ملوحته، وصفى كدورته. خلق كنسيم الأسحار، على صفحات الأنوار. خلق كالماء صفاء، والمسك ذكاء. أخلاق قد جمعت المروءة أطرافها، وحرست الحرية أكنافها. أخلاق تجمع الهواء المتفرقة على محبته، وتؤلف الآراء المتشتتة في مودته. أخلاق أعذب من ماء الغمام، وأحلى من ريق النحل، وأطيب من زمن الورد. أخلاق أحسن من الدر والعقيان في نحور الحسان، أزكى من حركات الريح بين الورد والريحان.
الظرف واللباقة وحسن العشرة
فلان يستحط العصم بظرفه، ويستنزل النجم بلطفه. ما هو إلا غذاء الحبرة، ونسيم العيش، وقوت النفس، ومادة الأنس، وشمامة الظرفاء، وريحانة الندماء. فلان حلو المذاق، عذب المساغ، أعلى الناس في جد وأحلاهم في هزل. يتصرف مع القلوب، كتصرف السحاب من الجنوب. ذو جد كعلو الجد، وهزل كحديقة الورد. قد طابت عشرته إذا عاشرته، ولانت قشرته، وواصلته فاستحسنت وصاله، وأحمدت خصاله. له عشرة ماؤها يقطر، وصحوها من الغضارة يمطر. هو ريحانة على القدح، وذريعة إلى الفرح. عشرته ألطف من ريح نسيم الشمال، على أديم الماء الزلال، وألصق بالقلب، من علائق الحب. إن أردت فهو سبحة ناسك، أو أحببت فهو تفاحة فائك، أو اقترحت فهو مدرعة راهب، أو آثرت فهو تحية شارب.
طيب الخبر
فلان أخباره ذكية، وآثاره زكية. أخباره تأتينا كما وشت بالمسك رياه، ونم على الصبح محياه. قد انتشر من طيب أخباره ما زاد على المسك الفتيق، وأوفى على الزهر الأنيق. مناقب تشدخ في جبينها غرة الصباح، ويتهادى أنباءها وفود الرياح. فلان أخباره آثاره، وعينه فراره. قد حصل له من حميد الذكر، وجميل النشر، ما لا تزال الرواة تدرسه، والتواريخ تحرسه. سألت عن أخباره فكأني خرجت المسك فتيقا، وصبحت الروض أنيقا. أحببته بالخبر، قبل الأثر، وبالوصف، قبل الكشف. أخباره متضوعة كتضوع المسك الأذفر، ومشرقة إشراق الفجر الأنور. أخباره أرجة، وصفحاته بهجة.
حسن العهد وكرم الود
هو من يثقل ميزان وده، ويحصف ميثاق عهده. فلان كريم العهد، صحيح العقد. سليم الصدر في الود، حميد الصدر فيه والورد. هو لإخوانه عدة يشدهم ويقويهم، ونور يسعى بين أيديهم. هو ثابت ركن الإخاء، صافي شرب الوفاء. حافظ على الغيب ما يحفظه على اللقاء. هو من لا تدور المداهنة في عرصات قلبه، ولا تحوم المواربة على جنبات صدره. فلان يسري إلى كرم العهد، في ضياء من الرشد. عهده نقش على صخر، ووده نسب ملآن من فخر. يقبل من إخوانه العفو، كما يوليهم من إحسانه الصفو. في وده غنى للطالب، وكفاية للراغب، ومراد للصحب، وزاد للركب. هو في حبل الوفاء حاطب، وعلى فرض الإخاء مواظب.
إصابة الرأي
النجح معقود بنواصي آرائه، واليمن معتاد في مذاهب أنحائه. له الرأي الثاقب الذي تخفى مكائده، وتظهر عوائده، والتدبير النافذ الذي تنجح مباديه، وتبهج تواليه. رأي كالسهم أصاب غرة الهدف، ودهاء كالبحر في بعد الغور وقرب المغترف. لا يضع رأيه إلا مواضع الإصابة، ولا يصرف تدبيره إلا إلى مواقع السداد والأصالة. له فكر عميق، ورأي وثيق. يعرف من مبادئ الأفعال، خواتم الأعمال، ومن صدور الأمور، أعجاز ما في الصدور. رويته رأي طبيب، وبديهته قدر مصيب. يسافر رأيه وهو دان لم ينزح، ويسير تدبيره وهو ثاو لم يبرح. له رأي لا يخطيء شاكلة الصواب، ولا يخشى عليه بادرة العثار. فلا يخمر الرأي ويجيله، ويجيد الفكر ويطيله، حتى يحصل على لب الصواب ومحض الرأي. إذا أذكى سراج الفكر أضاء الظلام. هو قطب الصواب تدور به الأمور، ومستنبط صلاح يرد إليه التدبير، يرى العواقب في مرآة عقله، وبصيرة ذكائه وفضله. رأي يرد السيف مثلما، والرمح مقلما. آراؤه سكاكين في مفاصل الخطوب. له رأي لا تغيب كواكبه. رأي طبيب داء المملكة. رأي منير، وللأعداء مبير. كأنه ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق، ويطالعه بعين الإلهام والتوفيق. فلان يرى بأول رأيه آخر الأمر، وأصاب شاكلة الصواب في رأي محضه، وتدبير مخضه. عجباً لرأيه الذي يستنبط دفائن القلوب، ويستخرج ودائع الغيوب. قد سرينا من مشورته في ضياء ساطع، ومن رأيه الصواب في حكم قاطع.
التجربة والحنكة
قد وضعت كثرة التجارب في يده مرآة العواقب. قد نجدته مصارف الدهور، وحنكته مصائر الأمور. قد أرضعته الحنكة بابانها، وأدبته الدربة في إبانها. فلان بازل، التجارب حنكته، والأيام عركته. لا تكاد الأيام تريه من أفعاله عجيبا، أو تسمعه من أحواله غريبا. فلان عارف بتدبير الزمان، عالم بتصاريف الأيام. آخذ ببرهان التبريز، نافذ في مجا التحصيل والتمييز. قد صحب الأيام، وتولى النقض والإبرام. هو ابن الدهر حنكة وتجريبا، وعوداً على الغمز صليبا. قد أدبه الليل والنهار، ودارت على رأسه الأدوار، واختلفت به الأطوار. قد ارتضع أفاويق الزمان وحلب أخلاف الليالي والأيام. قد ركب ظهري البر والبحر. ولقي وفدي الخير والشر، وصافح صفحتي النفع والضر، وبلا طعمي الحلو والمر، ورضع ضرعي العرف والنكر، وضرب إبطي العسر واليسر.
في الهمة العالية
له همة على هامة النجم. فلان رفيع مناط الهمة. فسيح مجال الفضل. له همة تعزل السماك الأعزل سموا، وتجر ذيلها على المجرة علوا. همة حلق جناحها إلى عنان النجم، وامتد صباحها من شرق إلى غرب. لا يتعاظمه انتزاف البحر إذا أخطره بفكره، ولا انتساف الصخر إذا ألقاه في وهمه. همته أبعد من مناط الفرقد، وأعلى من منكب الجوزاء، وأوسع من الأرضن، ذات العرض.
الشهامة والنفاذ والجد والجلادة
فلان حي القلب، منشرح الصدر. ذكي الذهن، سجاح الطبع. ليس بالنؤوم، ولا السؤوم. فذ فرد، وأسد ورد. كأن له في كل جارحة قلبا، كأن قلبه عين، وكأن حسه سمع. شهاب مقدم، وقدح مقوم مشدود النطاق، قائم على ساق. لا يجف لبده، ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته. قد جد واجتهد، وحشر وحشد. شمر عن ساق الجد ما أطاق، وشد له النطاق. قد ركب الصعب والذلول، وتجشم الحزون والسهول، وقطع البر والبحر، وأعمل السيف والرمح، وأسرج الدهم والشهب.
التقى والزهد
فلان عذب المشرب، عف المطلب. نقي الساحة من المآثم، بريء الذمة من الجرائم. إذا رضي لم يقل غير الصدق، وإذا سخط لم يتجاوز جانب الحق. يتبع أفضل الطرق، وأرشد الخلق. يرجع إلى نفس أمارة بالخير، بعيدة من الشر، مدلولة على سبل البر. أعرض عن زبرج الدنيا وخدعها، وأقبل على اكتساب نعم الأخرى ومتعها. كف عن زخرف الدنيا ونضرتها، وغض طرفه عن متاعها وزهرتها، وأعرض عنها وقد عرضت له بزينتها، وصد عنها وقد تصدت له في حليتها. فلان ليس ممن يقف في ظل الطمع، فيسف إلى حضيض التضع. نقي جيبه، وسلم غيبه، ولم يدنس ذيله، واستوى في النزاهة نهاره وليله. فلان جلي الصفحة، نقي الصحيفة، عف الإزار، طاهر من الأوزار. قد عاد لإصلاح المعاد، بإعداد الزاد. اعتزل الدنيا وأفرج عن كل ما زاد على الزاد المبلغ، والقوت المقنع.
الكمال والانفراد عن النظراء
فلان مولود في طالع الكمال، وهو جملة الجمال. قد أصبح عين الكمال، وصبح المحافل، وزين المحاضر والمجالس. فريد دهره، وشمس عصره، وزينة مصره. فلان علم الفضل، وواسطة قلادة الدهر، ونادرة الفلك، ونكتة الدنيا، وغرة العصر. قد بايعته يد المجد، ومالت فيه الشورى إلى النص. كيف يذم زمان هو عينه البصيرة، ولمعته الثاقبة المنيرة.
التفضيل والترجيع
فلان يزيد عليهم زيادة الشمس على البدر، والبحر على القصر. هو رائش نبلهم، وبقية فضلهم. وجمة وردهم، وواسطة عقدهم. هو صدرهم وبدرهم، ومن عليه يدور أمرهم.