الناضوري: محمد شكري

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • Demerdasch
    مترجم
    • Nov 2006
    • 2017

    الناضوري: محمد شكري

    دنيا محمد شكري «جوهرية الله ينصرك»

    ثمة مدينتان تحملان اسما واحدا: طنجة الحديثة، البولفار والكورنيش ومباني العشرين طابقا والتوسع العقاري المذهل والتزايد السكاني. وثمة طنجة الأولى، العتيقة مثل حكايات السلاطين، القائمة منذ مقامات الأولياء، والمكتظة بعالمها الذي يتغير أهله ولا تتغير حجارته ولا زنقاته الضيقة مثل عصب متعب، الملتوية مثل الأنهر الحائرة.

    كنت دائما أتساءل لماذا يستخدم المغاربة «زنقة» بدلا من «زقاق» وإذا ضاقت علي الزنقات في «قصبة» طنجة شعرت بضيق في القصبة الهوائية وكدت أعود مدبرا إلى ساحة «9 أفريل» وفنائها الوسيع، لكنني كنت قد قطعت المسافة الأكبر نحو عالم محمد شكري، الذي ارتبطت طنجة القديمة باسمه حتى تلازما، فقره وزنقاتها، نزقه وضيقها، يأسه ومتاهاتها.

    جاء محمد شكري إلى هنا من تطوان، حيث نشأ مشردا في الأزقة ينام الليالي في المقابر وكان يحمل معه حياة من أعقاب السجائر وبيع الدخان المهرب وذكريات الأم البائسة والأب الفظ. ووجد هنا، في «السوق الداخلي» العالم الذي سوف يبقى فيه إلى يوم الرحيل. بدأ العمل نادلا في مقهى «رقاصة» الصغير، ولما تحسنت به الحياة انتقل زبونا دائما إلى مقهى «السنترال» المجاور.

    هنا سوف أعرف أن إخواني في المغرب يسمون محال المجوهرات «جوهرية». وقد توقفت مع لفيف من الإسبان أمام «جوهرية الله ينصرك» من دون تحديد المنصور: هل هو دعاء للشاري أم للبائع؟ في قلب هذه الدنيا أمضى محمد شكري حياته. يتأمل ما هو فيه ويرقب ما حوله ويروح يكتب السيرتين: هو والمدينة أو المدينة وهو. وهي سيرة متلازمة أو متواطئة، مع الكثيرين من جيله ومرحلته. جيل ما بعد الاستعمار وما بعد الاستقلال.

    إذا أردت أن أسمع عن محمد شكري، يقول لي نادل «الكافيه سنترال» باقتضاب جاف، فهذا هو الفنان عمر محفوظي، أجلس إلى جانبه، أتخذ مقعدي فإذا أمامي كل عالم محمد شكري: مواجهتي مقهى فوينش، ومحل «فلافل وكابوتشينو» وإلى اليسار مقهى «رقاصة» ومقهى آخر إلى اليمين. ومثل «الفيشاوي» كل شيء عتيق هنا، إلا الرواد. الكراسي تغيرهم جيلا بعد آخر.
    النمط يقتل الحضارة، والثقافة تتنفس من جدلية الاختلاف.
  • Demerdasch
    مترجم
    • Nov 2006
    • 2017

    #2
    _MD_RE: الناضوري: محمد شكري

    دنيا محمد شكري ملحمة البؤس المنثور (2)

    جاء محمد شكري الى طنجة هاربا من مجاعة الريف. كان طفلا في السادسة أو السابعة، هرب مع الهاربين الذين كانوا يموتون عياء على الطريق. وكان الجميع يظنون ان طنجة هي الفردوس، لكنها لم تكن الفردوس. غير «انها لم تكن الجحيم ايضا». كان فيها «سباسي»، أي اعقاب سجائر وبقايا تبغ محترق، وكان فيها بقايا طعام، وكان فيها ميناء يعّج آنذاك بالجنود الدوليين والمهربين ورجال المافيا. وكان محمد شكري يعيش من مرافقة الجنود الاميركيين الى «المواخير الأوروبية لأن المواخير المغربية لم تكن خاضعة للرقابة».

    من هذا القاع البشري، تحت حزام الفقر، تحت حزام الكرامة الانسانية، صعد محمد شكري الدرب الطويل، لكي يصبح اشهر كتَّاب المغرب وعلم طنجة الممزق. ذهبت الى مكتبة أبحث عن كتابه «السوق الداخلي» فاعتذر البائع. جميع كتب محمد شكري بالعربية قد نفدت. هناك بعض كتبه المترجمة الى الاسبانية. النسخ الفرنسية ايضا نفدت. لقد ترجم بائس طنجة، أو اشهر بؤسائها، أو اشهر بؤساء القرن الماضي، الى عشرين لغة على الأقل، هو الذي لم يدخل المدرسة قبل ان يبلغ العشرين، هو الذي عندما وصل الى طنجة لم يكن يعرف العربية بعد، لذلك اضطهده أولاد الأزقة وأشقياء المقابر والزنقات وعالم «القصبة» الذي لن يغادره محمد شكري الى مكان، الا الى الرقاد الأخير في المقابر التي كان ينام فيها يافعا مع رفاق «السباسي» وبائعي الدخان المهرَّب في الميناء.

    لا تزال طنجة القديمة، الملتفة على نفسها مثل طفل خائف، المحتمية بحجارتها وبواباتها السبع، لا تزال تطل على الميناء القديم الواقع بين مياهي الاطلسي الداكن والمتوسط الازرق مثل القرنفل. لكنه لم يعد عالم محمد شكري. انه ينقل مكانه الى الجانب الآخر ليصبح اكبر موانئ افريقيا. لقد ذهب بؤس كثير عن ظاهر المدينة منذ ان غاب محمد شكري تحت وطأة السعال والكبد المقروحة، التي شكا منها الاخطل الصغير نادما: ولي كبد مقروحة أنى لي كبد غير ذات قروح. أو هذا هو المعنى الباقي في الذاكرة من صاحب «المسلول».

    وربما غاب ايضا ذلك الشكل المرعب للفقر والنظر الى السباسي المرمية على انها لقيا سعيدة، لكن كيف يمكن ان تمحى من ذاكرة طنجة محفورات محمد شكري الذي حمل عوزه على كتفيه وراح ينادي عليه في سوق الأدب العالمي، رافضا ان ينسى فظاظته، رافضا ان ينسى فظاظة والده، رافضا ان ينسى صورته وهو يضرب امه بالحزام العسكري العريض. لقد حول شكري فقره الى فضيحة مدوية، الى حملة استنكار، الى ملحمة نثرية متتالية.
    النمط يقتل الحضارة، والثقافة تتنفس من جدلية الاختلاف.

    تعليق

    • Demerdasch
      مترجم
      • Nov 2006
      • 2017

      #3
      _MD_RE: الناضوري: محمد شكري

      دنيا محمد شكري أن يتساوى البحران (3)

      صعدت من الميناء الى المدينة القديمة مرورا ببابها الرئيسي «باب الفحص»، ثم عبر «زنقة المنصور» نحو «السوق الداخلي». وبرغم كل المشاهد والمقعدين والمشرد الذي لم يستحم منذ ان افرغ سيدنا نوح بعض حمولة سفينته هنا، كان من الصعب ان اتخيل الفقر الذي اضني به محمد شكري: «اضطرت أمي الى بيع الخضار في أسواق المدينة. وأنا كنت اقتات من ازبال النصارى الغنية لأن ازبال المغاربة المسلمين كانت فقيرة».

      تلك كانت الاربعينات، يوم كانت طنجة «مدينة مفتوحة» تحت الوصاية الدولية، وكانت مليئة بالسفن الحربية وجنودها، تقدم لبحارتها ما يرغبون. هل تذكرون عنوان نزار قباني الشهير: «نساء وحشيش وخمر»؟ محمد شكري كان يؤمن نوعين من البضائع المذكورة. ومن هذا القعر خرج لكي يصادق كبار الكتاب الغربيين الذين جاءوا يعيشون في عالم طنجة، ويترجم أعمالهم، ويترجمون أعماله «الملعونة» التي ظل أولها ممنوعا عشرين عاما قبل ان ينشر في العالم العربي. لقد نشره الرجل الأول الذي أرسل إليه محمد شكري من قبل أولى بواكيره: سهيل إدريس صاحب «الآداب».

      المقاهي نصف حياة المغربي, على الأقل. وقد رأيت المقاهي في الطبقات العليا فقط في بيروت ما قبل الحرب وفي طنجة. واذا كان «الكافي سنترال» هو الأقدم والأشهر، فهو ليس سوى واحد في منظومة لا يعرف أحد أولها ولا آخرها. وقد خرجت المقاهي الآن من القصبة الى طنجة الجديدة، والطبقات العليا في مبانيها، وامتلأ شاطئها بصف طويل من القهاوي والمطاعم والمراقص الحديثة التي لم تكن معروفة في أيام محمد شكري و«حي بن بدر».

      المقاهي، بهذه الاعداد، دليل سيئ. نقول الأعداد دون أن نقول ان عدد العاطلين عن العمل لا يزال كبيرا. وطنجة مثال مؤسف على الفارق بين الغرب والشرق. المهاجرون يعبرون البحر في اتجاه اسبانيا خلف أي عمل والسياح يعبرون من اسبانيا في اتجاه متع الاجازات. واتمنى يوما يتساوى فيه البحران. ولا يكون ذلك بأن ننسف قطارات اسبانيا، بل في ان نقلد دأبها.
      النمط يقتل الحضارة، والثقافة تتنفس من جدلية الاختلاف.

      تعليق

      • Demerdasch
        مترجم
        • Nov 2006
        • 2017

        #4
        _MD_RE: الناضوري: محمد شكري

        المصدر:
        جريدة الشرق الأوسط:
        http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=10858&article=483580
        http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=10859&article=483727
        http://www.asharqalawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=10860&article=483850
        النمط يقتل الحضارة، والثقافة تتنفس من جدلية الاختلاف.

        تعليق

        يعمل...